تفسير أبي السّعود - ج ٩

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٩

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٠

(كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١٩)

____________________________________

الشرط الواحد زبنية كعفرية من الزبن وهو الدفع وقيل زبنى وكأنه نسب إلى الزبن ثم غير كأمسى وأصلها زبانى فقيل زبانية بتعويض التاء عن الياء والمراد ملائكة العذاب وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا (كَلَّا) ردع بعد ردع وزجر إثر زجر (لا تُطِعْهُ) أى دم على ما أنت عليه من معاصاته (وَاسْجُدْ) وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث به (وَاقْتَرِبْ) * وتقرب بذلك إلى ربك وفى الحديث أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة العلق أعطى من الأجر كأنما قرأ المفصل كله.

١٨١

٩٧ ـ سورة القدر

(مكية وهى خمس آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣)

____________________________________

(سورة القدر مكية مختلف فيها وآيها خمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) تنويه بشأن القرآن الكريم وإجلال لمحله بإضماره المؤذن بغاية نباهته المغنية عن التصريح به كأنه حاضر فى جميع الأذهان وبإسناد إنزاله إلى نون العظمة المنبىء عن كمال العناية به وتفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) لما فيه من الدلالة على أن علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يدريها ولا يدريها إلا علام الغيوب كما يشعر به قوله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فإنه بيان إجمالى لشأنها إثر تشويقه عليه‌السلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفى إظهار ليلة القدر فى الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى والمراد بإنزاله فيها إما إنزال كله إلى السماء الدنيا كما روى أنه أنزل جملة واحدة فى ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأملاه جبريل عليه‌السلام على السفرة ثم كان ينزله على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما فى ثلاث وعشرين سنة وإما ابتداء إنزاله فيها كانقل عن الشعبى وقيل المعنى أنزلناه فى شأن ليلة القدر وفضلها كما فى قول عمر رضى الله عنه خشيت أن ينزل فى قرآن وقول عائشة رضى الله عنها لأنا أحقر فى نفسى من أن ينزل فى قرآن فالأنسب أن يجعل الضمير حينئذ للسورة التى هى جزء من القرآن لا للكل واختلفوا فى وقتها فأكثرهم على أنها فى شهر رمضان فى العشر الأواخر فى أوتارها وأكثر الأقوال أنها السابعة منها ولعل السر فى إخفائها تعريض من يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالى الكثيرة رجاء لموافقتها وتسميتها بذلك إما لتقدير الأمور وقضائها فيها لقوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أو لخطرها وشرفها على سائر الليالى وتخصيص الألف بالذكر إما للتكثير أو لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر رجلا من بنى إسرائيل لبس السلاح فى سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون منه وتقاصرت إليهم أعمالهم فأعطوا ليلة هى خير من مدة ذلك الغازى وقيل إن رجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا

١٨٢

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

____________________________________

ليلة أن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقيل أرى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمنه فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم فى طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر وملك ذى القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل فى هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما وقوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المتطاولة وقد سبق فى سورة النبأ ما قيل فى شأن الروح على التفصيل وقيل هم خلق من الملائكة لا يراهم الملائكة إلا تلك الليلة أى تتنزل الملائكة والروح فى تلك الليلة من كل سماء إلى الأرض أو إلى السماء الدنيا (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) * متعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال من فاعله أى ملتبسين بإذن ربهم أى بأمره (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أى من* أجل كل أمر قضاه الله عزوجل لتلك السنة إلى قابل كقوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقرىء من كل امرىء أى من أجل كل إنسان قيل لا يلقون فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه (سَلامٌ هِيَ) أى ما هى إلا سلامة أى لا يقدر الله تعالى فيها إلا السلامة والخير وأما فى غيرها فيقضى سلامة وبلاء أو ما هى إلا سلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أى وقت طلوعه* وقرىء بالكسر على أنه مصدر كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق وحتى متعلقة بتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أى لمكثهم فى محل تنزلهم أو لنفس تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر وقيل متعلقة بسلام بناء على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر فى الجار عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر.

١٨٣

٩٨ ـ سورة البينة

(مدنية وهى ثمان آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) (٢)

____________________________________

(سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أى اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم* له فى كتابهم وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم (وَالْمُشْرِكِينَ) أى عبدة الأصنام* وقرىء والمشركون عطفا على الموصول (مُنْفَكِّينَ) أى عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث فى آخر الزمان والعزم على إنجازه وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبى المبعوث فى آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وأما من المشركين فلعله قد وقع من متأخريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم كما يشهد به أنهم كانوا يسألونهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو المذكور فى كتابهم وكانوا يغرونهم بتغيير نعوته عليه‌السلام وانفكاك الشىء عن الشىء أن يزايله بعد التحامه كالعظم إذا انفك من مفصله وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم أى لم يكونوا مفارقين للوعد المذكور* بل كانوا مجمعين عليه عازمين على إنجازه (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) التى كانوا قد جعلوا إتيانها ميقاتا لاجتماع الكلمة والاتفاق على الحق فجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق وإخلاف الوعد والتعبير عن إتيانها بصيغة المضارع باعتبار حال المحكى لا باعتبار حال الحكاية كما فى قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أى تلت وقوله تعالى (رَسُولٌ) بدل من البينة عبر عنه عليه‌السلام بالبينة للإيذان بغاية ظهور أمره* وكونه ذلك الموعود فى الكتابين وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) متعلق بمضمر هو صفة لرسول مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى رسول وأى رسول كائن منه تعالى وقوله* تعالى (يَتْلُوا) صفة أخرى له أو حال من الضمير فى متعلق الجار (صُحُفاً مُطَهَّرَةً) أى منزهة عن الباطل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أو من أن يمسه غير المطهرين ونسبة تلاوتها إليه عليه

١٨٤

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥)

____________________________________

السلام من حيث إن تلاوة ما فيها بمنزلة تلاوتها وقوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) صفة لصحفا أو حال من ضميرها فى مطهرة ويجوز أن يكون الصفة أو الحال الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا به على الفاعلية ومعنى قيمة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب وقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الخ كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة وتغليظ جناياتهم ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه ما فى الأمر بل كان بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السرفى وصفهم بإيتاء الكتاب المنبىء عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما فى تضاعيفه من الأحكام والأخبار التى من جملتها نعوت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأى المذكور فى حكم فريق واحد عبر عما صدر عنهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقى أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأى المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأى آخر بل بطريق الاختلاف القديم وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) استثناء* مفرغ من أعم الأوقات أى وما تفرقوا فى وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الموعود فى كتابهم دلالة جلية لا ريب فيها كقوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا أى والحال أنهم ما أمروا فى كتابهم إلا لأجل أن يعبدوا الله وقيل اللام بمعنى أن أى إلا بأن يعبدوا الله ويعضده قراءة إلا أن يعبدوا الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أى جاعلين* دينهم خالصا له تعالى أو جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى فى الدين (حُنَفاءَ) مائلين عن جميع العقائد* الزائغة إلى الإسلام (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) إن أريد بهما ما فى شريعتهم من الصلاة والزكاة* فالأمر ظاهر وإن أريد ما فى شريعتنا فمعنى أمرهم بهما فى الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التى هما من جملتها (وَذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى وبالإخلاص وإقامة* الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أى دين الملة* القيمة وقرىء الدين القيمة على تأويل الدين بالملة هذا وقد قيل قوله تعالى (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ إلى

١٨٥

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٧)

____________________________________

قوله ـ كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) حكاية لما كانوا يقولونه قبل مبعثه عليه‌السلام من أنهم لا ينفكون عن دينهم إلى مبعثه ويعدون أن ينفكوا عنه حينئذ ويتفقوا على الحق وقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الخ بيان لإخلافهم الوعد وتعكيسهم الأمر بجعلهم ما هو سبب لانفكاكهم عن دينهم الباطل حسبما وعدوه سببا لثباتهم عليه وعدم انفكاكهم عنه ومثل ذلك بأن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لا أنفك عما أنا فيه حتى أستغنى فيستغنى فيزداد فسقا فيقول له واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما عكفت على الفسق إلا بعد اليسار وأنت خبير بأن هذا إنما يتسنى بعد اللتيا والتى على تقدير أن يراد بالتفرق تفرقهم عن الحق بأن يقال التفرق عن الحق مستلزم للثبات على الباطل فكأنه قيل وما أجمعوا على دينهم إلا من بعد ما جاءتهم البينة وأما على تقدير أن يراد به تفرقهم فرقا فمنهم من آمن ومنهم من أنكر ومنهم من عرف وعاند كما جوزه القائل فلا فتأمل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ) بيان لحال الفريقين فى الآخرة بعد بيان حالهم فى الدنيا وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة فى الكتاب بهم ومعنى كونهم فيها أنهم يصيرون إليها يوم القيامة وإيراد الجملة الاسمية للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة أو أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم لما يوجبها منزلة ملابستهم لها وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصى عين النار إلا أنها ظهرت فى هذه النشأة بصور عرضية وستخلعها فى النشأة الآخرة* وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر فى قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) فى سورة الأعراف (خالِدِينَ فِيها) حال من المستكن فى الخبر واشتراك الفريقين فى دخول دار العذاب بطريق الخلود لا ينافى* تفاوت عذابهم فى الكيفية فإن جهنم دركات وعذابها ألوان (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد للإشعار بغاية بعد منزلتهم فى الشر أى أولئك* البعداء المذكورون (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) شر الخليقة أى أعمالا وهو الموافق لما سيأتى فى حق المؤمنين فيكون فى حيز التعليل لخلودهم فى النار أو شرهم مقاما ومصيرا فيكون تأكيدا لفظاعة حالهم وقرىء بالهمزة على الأصل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان لمحاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء* حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب (أُولئِكَ) المنعوتون بما هو فى* القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وقرىء خيار البرية وهو جمع خير نحو جيد وجياد.

١٨٦

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

____________________________________

(جَزاؤُهُمْ) بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة الأغصان كما هو الظاهر فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض وما عليها فهو باعتبار الجزء الظاهر وأيا ما كان فالمراد جريانها بغير أخدود (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) متنعمين بفنون النعم الجسمانية والروحانية وفى تقديم مدحهم بخيرية وذكر الجزاء المؤذن بكون ما منحوه فى مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) استئناف مبين لما يتفضل* عليهم زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) حيث بلغوا من المطالب قاصيتها وملكوا* من المآرب ناصيتها وأتيح لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (ذلِكَ) أى* ما ذكر من الجزاء والرضوان (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فإن الخشية التى هى من خصائص العلماء بشؤن الله عز* وجل مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة البينة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا.

١٨٧

٩٩ ـ سورة الزلزلة

(مدنية وهى ثمان آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤)

____________________________________

(سورة الزلزلة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) أى حركت تحريكا عنيفا متكررا متداركا أى الزلزال المخصوص بها على مقتضى المشيئة المبنية على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذى لا غاية وراءه أو زلزالها العجيب الذى لا يقادر قدره أو زلزالها الداخل فى حيز الإمكان وقرىء بفتح الزاء وهو اسم وليس فى الأبنية فعلال بالفتح إلا فى المضاعف وقولهم ناقة خزعال نادر وقد قيل الزلزال بالقتح أيضا مصدر كالوسواس والجرجار والقلقال وذلك عند النفخة الثانية لقوله عز وجل (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أى ما فى جوفها من الأموات والدفائن جمع ثقل وهو متاع البيت وإظهار الأرض فى موقع الإضمار لزيادة التقرير أو للإيماء إلى تبدل الأرض غير الأرض أو لأن إخراج الأثقال حال بعض أجزائها (وَقالَ الْإِنْسانُ) أى كل فرد من أفراده لما يدهمهم من الطامة* التامة ويبهرهم من الداهية العامة (ما لَها) زلزلت هذه المرتبة الشديدة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال فى الجو وصيرت هباء وقيل هو قول الكافر إذا لم يكن مؤمنا بالبعث والأظهر هو الأول على أن المؤمن يقوله بطريق الاستعظام والكافر بطريق التعجب (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا وقوله تعالى (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) عامل فيهما ويجوز أن يكون إذا منتصبا بمضمر أى يوم إذ زلزلت الأرض تحدث الخلق أخبارها إما بلسان الحال حيث تدل دلالة ظاهرة على ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها وإما بلسان المقال حيث ينطقها الله تعالى فتخبر بما عمل عليها من خير وشر وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها تشهد على كل أحد بما عمل على

١٨٨

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)

____________________________________

ظهرها وقرىء تنبىء أخبارها وقرىء من الأنباء (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أى تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها وأمره إياها بالتحديث على أحد الوجهين ويجوز أن يكون بدلا من أخبارها كأنه قيل تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لأن التحديث يستعمل بالباء وبدونها وأوحى لها بمعنى أوحى إليها (يَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ يقع ما ذكر (يَصْدُرُ النَّاسُ) من قبورهم إلى موقف الحساب (أَشْتاتاً) متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين كما مر فى قوله تعالى (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) وقيل يصدرون عن الموقف أشتاتا ذات اليمين إلى الجنة وذات الشمال إلى النار (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أى أجزية* أعمالهم خيرا كان أو شرا وقرىء ليروا بالفتح وقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) تفصيل ليروا وقرىء يره والذرة النملة الصغيرة وقيل ما يرى فى شعاع الشمس من الهباء وأيا ما كان فمعنى رؤية ما يعادلها من خير وشر إما مشاهدة جزائه فمن الأولى مختصة بالسعداء والثانية بالأشقياء كيف لا وحسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن المجتنب عن الكبائر معفوة وما قيل من أن حسنة الكافر تؤثر فى نقص العقاب يرده قوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) وأما مشاهدة نفسه من غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتنب عن الكبائر وإثابته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه فالمعنى ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله تعالى إياه أما المؤمن فيغفر له سيئآته ويثيبه بحسناته وأما الكافر فيرد حسناته تحسرا ويعاقبه بسيئآته. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الزلزلة أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله والله أعلم.

١٨٩

١٠٠ ـ سورة العاديات

(مكية وهى إحدى عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥)

____________________________________

(سورة العاديات مكية مختلف فيها وآيها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَالْعادِياتِ) أقسم سبحانه بخيل الغزاة التى تعدو نحو العدو وقوله تعالى* (ضَبْحاً) مصدر منصوب إما بفعله المحذوف الواقع حالا منها أى تضبح ضبحا وهو صوت أنفسها عند عدوها أو بالعاديات فإن العدو مستلزم للضبح كأنه قيل والضابحات أو حال على أنه مصدر بمعنى الفاعل أى ضابحات (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) الإيراء إخراج النار والقدح الصك يقال قدح فأورى أى تورى النار من حوافرها وانتصاب قدحا كانتصاب ضبحا على الوجوه الثلاثة (فَالْمُغِيراتِ) أسند الإغارة التى هى مباغتة العدو للنهب أو للقتل أو للأسر إليها وهى حال أهلها إيذانا بأنها العمدة فى* إغارتهم (صُبْحاً) أى فى وقت الصبح وهو المعتاد فى الغارات يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون عليهم صباحا ليروا ما يأتون وما يذرون وقوله تعالى (فَأَثَرْنَ بِهِ) عطف على الفعل الذى دل عليه اسم* الفاعل إذ المعنى واللاتى عدون فأورين فأغرن فأثرن به أى فهيجن بذلك الوقت (نَقْعاً) أى غبارا وتخصيص إثارته بالصبح لأنه لا يثور أو لا يظهر ثورانه بالليل وبهذا ظهر أن الإيراء الذى لا يظهر فى النهار واقع فى الليل ولله در شأن التنزيل وقيل النقع الصياح والجلبة وقرىء فأثرن بالتشديد بمعنى فأظهرن به غبارا لأن التأثير فيه معنى الإظهار (فَوَسَطْنَ بِهِ) أى توسطن بذلك الوقت أو توسطن* ملتبسات بالنقع (جَمْعاً) من جموع الأعداء والفاءات للدلالة على ترتب ما بعد كل منها على ما قبلها كما فى قوله [يا لهف زيابة للحارث ال * صابح فالغانم فالآيب] فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة

١٩٠

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١)

____________________________________

على الإيراء المترتب على العدو وقوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أى لكفور من كند النعمة كنودا جواب القسم والمراد بالإنسان بعض أفراده. روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى أناس من بنى كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصارى وكان أحد النقباء فأبطأ عليه عليه الصلاة والسلام خبرها شهرا فقال المنافقون إنهم قتلوا فنزلت السورة إخبارا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسلامتها وبشارة له بإغارتها على القوم ونعيا على المرجفين فى حقهم ما هم فيه من الكنود وفى تخصيص خيل الغزاة بالإقسام بها من البراعة ما لا مزيد عليه كأنه قيل وخيل الغزاة التى فعلت كيت وكيت وقد أرجف هؤلاء فى حق أربابها ما أرجفوا أنهم مبالغون فى الكفران (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ) أى وإن الإنسان على كنوده (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه بالكنود لظهور أثره عليه (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) أى المال كما فى قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً (لَشَدِيدٌ) أى قوى مطيق مجد فى طلبه وتحصيله متهالك عليه* يقال هو شديد لهذا الأمر وقوى له إذا كان مطيقا له ضابطا وقيل الشديد البخيل أى أنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبخيل ممسك ولعل وصفه بهذا الوصف القبيح بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أن من جملة الأمور الداعية للمنافقين إلى النفاق حب المال لأنهم بما يظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم ويحوزون من الغنائم نصيبا وقوله تعالى (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) الخ تهديد ووعيد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أيفعل ما يفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم حاله إذا بعث من فى القبور من الموتى وإيراد مالكونهم إذ ذاك بمعزل من رتبة العقلاء بحثر وبحث وبحثر وبحث على بنائهم للفاعل (وَحُصِّلَ) أى جمع محصلا أو ميز خيره من شره وقرىء وحصل مبنيا للفاعل وحصل مخففا (ما فِي الصُّدُورِ) من الأسرار الخفية التى من جملتها ما يخفيه المنافقون من* الكفر والمعاصى فضلا عن الأعمال الجلية (إِنَّ رَبَّهُمْ) أى المبعوثين كنى عنهم بعد الإحياء الثانى بضمير العقلاء بعد ما عبر عنهم قبل ذلك بما بناء على تفاوتهم فى الحالين كما فعل نظيره بعد الإحياء الأول

١٩١

١٠١ ـ سورة القارعة

(مكية وهى إحدى عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣)

____________________________________

حيث التفت إلى الخطاب فى قوله تعالى (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) الآية بعد قوله (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) إيذانا بصلاحيتهم للخطاب بعد نفخ الروح وبعدمها قبله كما أشير إليه هناك (رَبَّهُمْ) بذاوتهم* وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ يكون ما ذكر من بعث ما فى القبور وتحصيل ما فى* الصدور (لَخَبِيرٌ) أى عالم بظواهر ما عملوا وبواطنه علما موجبا للجزاء متصلا به كما ينبىء عنه تقييده بذلك اليوم وإلا فمطلق علمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون وقوله تعالى (رَبَّهُمْ) و (يَوْمَئِذٍ) متعلقان بخبير قدما عليه لمراعاة الفواصل واللام غير مانعة من ذلك وقرأ ابن السماك أن ربهم بهم يومئذ خبير. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة العاديات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بمزدلفة وشهد جمعا.

(سورة القارعة مكية وآيها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الْقارِعَةُ) القرع هو الضرب بشدة واعتماد بحيث يحصل منه صوت شديد وهى القيامة التى مبدؤها النفخة الأولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق كما مر فى سورة التكوير سميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال السماء بالانشقاق والانفطار والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانتشار والأرض بالزلزال والتبديل والجبال بالدك والنسف وهى مبتدأ خبره قوله تعالى (مَا الْقارِعَةُ) على أن ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ لا بالعكس لما مر غير مرة أن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ ولا ريب فى أن مدار إفادة الهول والفخامة ههنا هو كلمة ما لا القارعة أى أى شىء عجيب هى فى الفخامة والفظاعة وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيد للتهويل وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق على معنى أن عظم شأنها بحيث لا تكاد

١٩٢

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) (٦)

____________________________________

تناله دراية أحد حتى يدريك بها وما فى حيز الرفع على الابتداء وأدراك هو الخبر ولا سبيل إلى العكس ههنا وما القارعة جملة كما مر محلها النصب على نزع الخافض لأن أدرى يتعدى إلى المفعول الثانى بالباء كما فى قوله تعالى (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) فلما وقعت الجملة الاستفهامية معلقة له كانت فى موقع المفعول الثانى له والجملة الكبيرة معطوفة على ما قبلها من الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ الأول أى وأى شىء أعلمك ما شأن القارعة ولما كان هذا منبئا عن الوعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) على أن يوم مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأى الكوفيين أى هى يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث فى الكثرة والانتشار والضعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعى كتطاير الفراش إلى النار أو منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها اذكر يوم يكون الناس الخ فإنه يدريك ما هى هذا وقد قيل إنه ظرف ناصبه مضمر يدل عليه القارعة أى تقرع يوم يكون الناس الخ وقيل تقديره ستأتيكم القارعة يوم يكون الخ (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أى كالصوف الملون بالألوان المختلفة المندوف فى تفرق أجزائها وتطايرها فى الجو حسبما نطق به قوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق يبدل الله عزوجل الأرض غير الأرض ويغير هيئاتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئات الهائلة ليشاهدها أهل المحشر وهى وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية كما ينطق به قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) وقوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فإن اتباع الداعى الذى هو إسرافيل عليه‌السلام وبروز الخلق لله سبحانه لا يكون إلا بعد البعث قطعا وقد مر تمام الكلام فى سورة النمل وقوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) الخ بيان إجمالى لتحزب الناس إلى حزبين وتنبيه على كيفية الأحوال الخاصة بكل منهما إثر بيان الأحوال الشاملة للكل والموازين إما جمع الموزون وهو العمل الذى له وزن وخطر عند الله كما قاله الفراء أو جمع ميزان قال ابن عباس رضى الله عنهما إنه ميزان له لسان وكفتان لا يورن فيه إلا الأعمال قالوا توضع فيه صحائف الأعمال فينظر إليه الخلائق إظهارا

١٩٣

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١)

____________________________________

للمعدلة وقطعا للمعذرة وقيل الوزن عبارة عن القضاء السوى والحكم العادل وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثير من المتأخرين قالوا إن الميزان لا يتوصل به إلا إلى معرفة مقادير الأجسام فكيف يمكن أن يعرف به مقادير الأعمال التى هى أعراض منقضية وقيل إن الأعمال الظاهرة فى هذه النشأة بصور عرضية تبرز فى النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها فى الحسن والقبح وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وبالأعمال السيئة على صور قبيحة فتوضع فى الميزان أى فمن ترجحت مقادير حسناته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أى ذات رضا أو مرضية (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ترجحت سيئاته على حسناته (فَأُمُّهُ) * أى فمأواه (هاوِيَةٌ) هى من أسماء النار سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها. روى أن أهل النار تهوى فيها سبعين خريفا وقيل إنها اسم للباب الأسفل منها وعبر عن المأوى باللام لأن أهلها يأوون إليها كما يأوى الولد إلى أمه وعن قتادة وعكرمة والكلبى أن المعنى فأم رأسه هاوية فى قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا والأول هو الأوفق لقوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (نارٌ حامِيَةٌ) فإنه تقرير لها بعد إبهامها والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل وهى ضمير الهاوية والهاء للسكت وإذا وصل القارىء حذفها وقيل حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج لأنها ثابتة فى المصحف وقد أجيز إثباتها مع الوصل. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة القارعة ثقل الله تعالى بها ميزانه يوم القيامة.

١٩٤

١٠٢ ـ سورة التكاثر

(مكية وهى ثمان آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٦)

____________________________________

(سورة التكاثر مكية مختلف فيها وآيها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أى شغلكم التغالب فى الكثرة والتفاخر بها. روى أن بنى عبد مناف وبنى سهم تفاخروا وتعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف فى الإسلام فقال كل من الفريقين نحن أكثر منكم سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا فكثرهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم إن البغى إفنانا فى الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم والمعنى أنكم تكاثرتم بالأحياء (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أى حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى التفاخم والتكاثر بالأموات فعبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكما بهم وقيل كانوا يزورون المقابر فيقولون هذا قبر فلان وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك وقيل المعنى ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم فى طلب الدنيا معرضين عما يهمكم من السعى لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت وقرىء أألهاكم على الاستفهام التقريرى (كَلَّا) ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغى أن لا يكون معظم همه مقصورا على الدنيا فإن عاقبة ذلك وخيمة (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثانى أبلغ من الأول أو الأول عند الموت أو فى القبر والثانى عند النشور (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أى لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين أى كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه فحذف الجواب للتهويل وقوله تعالى (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جواب

١٩٥

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

____________________________________

قسم مضمر أكد به له الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيما (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) * المشاهدة والمعاينة (عَيْنَ الْيَقِينِ) أى الرؤية التى هى النفس اليقين فإن علم المشاهدة أقصى مراتب اليقين (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أى عن النعيم الذى ألهاكم الالتذاذ عن الدين وتكاليفه فإن الخطاب مخصوص بمن عكف همته على استيفاء اللذات ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين ويقطع أوقاته باللهو والطرب لا يعبأ بالعلم والعمل ولا يحمل نفسه مشاقهما فأما من تمتع بنعمة الله تعالى وتقوى بها على طاعته وكان ناهضا بالشكر فهو من ذلك بمعزل بعيد وقيل الآية مخصوصة بالكفار. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة التكاثر لم يحاسبه الله تعالى بالنعيم الذى أنعم به عليه فى دار الدنيا وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية.

١٩٦

١٠٣ ـ سورة العصر

(مكية وهى ثلاث آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

____________________________________

(سورة العصر مكية وآيها ثلاث)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَالْعَصْرِ) أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها الباهر أو بالعشى الذى هو ما بين الزوال والغروب كما أقسم بالضحى أو بعصر النبوة لظهور فضله على سائر الأعصار أو بالدهر لانطوائه على تعاجيب الأمور القارة والمارة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أى خسران فى متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم فى مباغيهم والتعريف للجنس والتنكير للتعظيم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم فى تجارة لن تبور حيث باعوا الفانى الخسيس واشتروا الباقى النفيس واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيالها من صفقة ما أربحها وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم وقوله تعالى (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) الخ بيان لتكميلهم لغيرهم أى وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذى لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال فى الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عزوجل واتباع كتبه ورسله فى كل عقد وعمل (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أى عن المعاصى التى تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات* التى يشق عليها أداؤها أو على ما يبلو الله عزوجل به عباده وتخصيص هذا التواصى بالذكر مع اندراجه تحت التواصى بالحق لإبراز كمال الاعتناء به أو لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة التى هى فعل ما يرضى به الله تعالى والثانى عن رتبة العبودية التى هى الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتشوق إليه من فعل وترك بل هو تلقى ما ورد منه تعالى بالجميل والرضا به ظاهرا وباطنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة العصر غفر الله تعالى له وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر.

١٩٧

١٠٤ ـ سورة الهمزة

(مكية وهى تسع آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (٤)

____________________________________

(سورة الهمزة مكية وآيها تسع)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَيْلٌ) مبتدأ خبره (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) وساغ الابتداء به مع كونه نكرة لأنه دعاء عليهم بالهلكة أو بشدة الشر والهمز الكسر كالهزم واللمز الطعن كاللهز شاعا فى الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم وبناء فعلة للدلالة على أن ذلك منه عادة مستمرة قد ضرى بها وكذلك اللعنة والضحكة وقرىء لكل همزة لمزة بسكون الميم وهو المسخرة الذى يأتى بالأضاحيك فيضحك منه ويستهزأ به وقيل نزلت فى الأخنس بن شريق فإنه كان ضاريا بالغيبة والوقيعة وقيل فى أمية بن خلف وقيل فى الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغضه من جنابه الرفيع واختصاص السبب لا يستدعى خصوص الوعيد بهم بل كل من اتصف بوصفهم القبيح فله ذنوب منه مثل ذنوبهم (الَّذِي جَمَعَ مالاً) بدل من كل أو منصوب أو مرفوع على الذم وقرىء جمع بالتشديد* للتكثير وتنكير مالا للتفخيم والتكثير الموافق لقوله تعالى (وَعَدَّدَهُ) وقيل معنى عدده جعله عدة لنوائب الدهر وقرىء وعدده أى جمع المال وضبط عدده أو جمع ماله وعدده الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والأعوان وقيل هو فعل ماض بفك الإدغام (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أى يعمل عمل من يظن أن ماله يبقيه حيا والإظهار فى موقع الإضمار لزيادة التقرير وقيل طول المال أمله ومناه الأمانى البعيدة حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالدا فى الدنيا لا يموت وقيل هو تعريض بالعمل الصالح والزهد فى الدنيا وأنه هو الذى أخلد صاحبه فى الحياة الأبدية والنعيم المقيم فأما المال فليس بخالد ولا بمخلد وروى أن الأخنس كان له أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف والجملة مستأنفة أو حال من فاعل جمع (كَلَّا) ردع له عن

١٩٨

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩)

____________________________________

ذلك الحسبان الباطل وقوله تعالى (لَيُنْبَذَنَّ) جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أى والله ليطرحن بسبب تعاطيه للأفعال المذكورة (فِي الْحُطَمَةِ) أى فى النار التى شأنها أن تحطم وتكسر* كل ما يلقى فيها كما أن شأنه كسر أعراض الناس وجمع المال وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) لتهويل أمرها ببيان أنها ليست من الأمور التى تنالها عقول الخلق وقوله تعالى (نارُ اللهِ) خبر مبتدأ محذوف والجملة بيان لشأن المسؤل عنها أى هى نار الله (الْمُوقَدَةُ) بأمر الله عز سلطانه وفى إضافتها إليه سبحانه* ووصفها بالايقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أى تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما فى الجسد وأشده تألما بأدنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أى مطبقة من أوصدت الباب وآصدته أى أطبقته (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) إما حال من الضمير المجرور فى عليهم أى كائنين فى عمد ممددة أى موثقين فيها مثل المقاطر التى تقطر فيها اللصوص أو خبر مبتدأ مضمر أى هم فى عمد أو صفة لمؤصدة قاله أبو البقاء أى كائنة فى عمد ممددة بأن تؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقا فى استيثاق اللهم أجرنا منها يا خير مستجار وقرىء عمد بضمتين. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه.

١٩٩

١٠٥ ـ سورة الفيل

(مكية هى خمس آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (١)

____________________________________

(سورة الفيل مكية وآيها خمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وكيف معلقة لفعل الرؤية منصوبة بما بعدها والرؤية علمية أى ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواترة ومعاينة الآثار الظاهرة وتعليق الرؤية بكيفية فعله عزوجل لا بنفسه بأن يقال ألم تر ما فعل ربك الخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذلك من الإرهاصات لما روى أن القصة وقعت فى السنة التى ولد فيها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفصيلها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشى بنى بصنعاء كنيسة وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك وقيل أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهد الكعبة فخرج مع جيشه ومعه فيل له اسمه محمود وكان قويا عظيما وإثنا عشر فيلا غيره وقيل ثمانية وقيل ألف وقيل كان معه وحده فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل فكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول فأرسل الله تعالى طيرا سودا وقيل خضرا وقيل بيضا مع كل طائر حجر فى منقاره وحجران فى رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا فى كل طريق ومنهل وروى أن أبرهة تساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق طوقه حتى بلغ النجاشى فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه وقيل إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتى بعير فخرج إليه فى شأنها فلما رآه أبرهة عظم فى عينه وكان رجلا وسيما جسيما وقيل هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذى يطعم الناس فى السهل والوحوش فى رؤس الجبال فنزل أبرهة عن سريره وجلس على بساطه وقيل أجلسه معه على سريره ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فلما ذكر حاجته قال سقطت من عينى حيث جئت لأهدم البيت الذى هو دينك ودين

٢٠٠