أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي
المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٩٩
على بدايات الأعراض ، مثاله : أن الحياء حالة تحصل للإنسان ، ولكن لها مبدأ ومنتهى ، أمّا المبدأ فهو التغيّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إليه القبيح ، وأمّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل ، فإذا ورد الحياء في حقّ الله تعالى ، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضب [له مقدّمة](١) وهو غليان دم القلب وشهوة الانتقام (٢) وله (٣) غاية ، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، فإذا وصفنا الله ـ تعالى ـ بالغضب ، فليس المراد ذلك المبدأ ، يعني شهوة الانتقام ، وغليان دم القلب ، بل المراد تلك النّهاية ، وهي إنزال العقاب (٤) ، فهذا هو القانون الكلّي في هذا الباب».
فصل في تنزيه الخالق سبحانه
قال القاضي : ما لا يجوز على الله ـ تعالى ـ من هذا الجنس إثباتا ، فيجب ألّا يطلق على طريقة النفي عليه ، وإنّما يقال : إنّه ـ تعالى ـ لا يوصف به ، فأمّا أن يقال : «لا يستحي» ويطلق عليه فمحال ؛ لأنّه يوهم نفي ما يجوز عليه ، وما ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه من قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] ، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] فهو بصورة النفي ، وليس بنفي على الحقيقة ، وكذلك قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) [المؤمنون : ٩١] ، وكذلك قوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائز أن يطلق في المخاطبة ، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلّا مع بيان أنّ ذلك محال.
ولقائل أن يقول : لا شكّ أنّ هذه الصّفات منتفية عن الله تعالى ، فكان الإخبار عن انتفائها يدلّ على صحّتها عليه.
فنقول : هذه الدلالة ممنوعة ، وذلك أنّ تخصيص هذا النفي بالذكر ، لا يدلّ على ثبوته لغيره ، لو قرن اللّفظ بما يدلّ على انتفاء الصّحّة كان ذلك أحسن ، من حيث إنه يكون مبالغة في البيان ، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحا.
فصل في إعراب الآية
قوله : «لا يستحيي» جملة في محلّ الرفع خبرا ل «أن» ، واستفعل هنا للإغناء عن الثّلاثي المجرّد.
وقال الزمخشري : «إنّه موافق له أي : قد ورد «حيي» ، و «استحيى» بمعنى واحد ، والمشهور : استحيى يستحيي فهو مستحي ومستحيى منه من غير حذف».
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : الإقدام.
(٣) في ب : عليه.
(٤) في أ : العذاب.
قال القرطبي (١) : و «يستحيي» أصله يستحيي عينه ولامه حرفا علة أعلّت «اللام» منه بأن استثقلت الضمة على «الياء» فسكنت ، والجمع مستحيون ومستحيين ، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل : استقى يستقي.
وقرأ (٢) به ابن محيصن.
ويروى عن ابن كثير ، وهي لغة «تميم» و «بكر بن وائل» ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى «الحاء» فسكنت ، ثم استثقلت الضّمة على الثانية ، فسكنت ، فحذف إحداهما للالتقاء ، والجمع مستحون ومستحين ، قاله الجوهري.
ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلف فيه ؛ فقيل : عين الكلمة ، فوزنه يستفل.
وقيل : لامه ، فوزنه يستفع ، ثمّ نقلت حركة اللّام على القول الأوّل ، وحركة العين على القول الثاني إلى الفاء ، وهي الحاء ؛ ومن الحذف قوله : [الطويل]
٣٢٣ ـ ألا تستحي منّا الملوك وتتّقي |
|
محارمنا لا يبؤ الدّم بالدّم (٣) |
وقال آخر : [الطويل]
٣٢٤ ـ إذا ما استحين الماء يعرض نفسه |
|
كرعن بسبت في إناء من الورد (٤) |
و «استحيي» يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جرّ تقول : استحييته وعليه : إذا ما استحين الماء ..
واستحييت منه ؛ وعليه :
ألّا تستحي منّا الملوك ..
فيحتمل أن يكون قد تعدّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه ، فيكون في محل نصب قولا واحدا ، ويحتمل أن يكون تعدّى إليه بحرف الجر المحذوف ، وحينئذ يجري الخلاف المتقدّم في قوله : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ).
و «يضرب» معناه : يبيّن فيتعدّى لواحد.
وقيل : معناه التصيير ، فيتعدّى لاثنين نحو : «ضربت الطّين لبنا».
وقال بعضهم : «لا يتعدّى لاثنين إلّا مع المثل خاصة» ، فعلى القول الأوّل يكون
__________________
(١) ينظر القرطبي : ١ / ١٦٨.
(٢) وقرأ بها شبل بن عباد ، ويعقوب ، وهي لغة بني تميم. يجرونها مجرى يستبي. انظر الشواذ : ٤ ، والقراءات الشاذة للشيخ القاضي : ٢٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٦٤ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨٢.
(٣) البيت لجابر بن حني التغلبي ينظر شرح اختيارات المفضل : ص ٩٥١ ، ولسان العرب (بوا) ، (مكس) ، والكتاب : ٣ / ٩٥ ، الدر المصون : ١ / ١٦٢.
(٤) ينظر البيت في الكشاف : ١ / ١١٣ ، الدر المصون : ١ / ١٦٢.
«مثلا» مفعولا و «ما» زائدة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني : «معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة».
وقال ابن الخطيب (١) : والأصح قول أبي مسلم ؛ لأن الله ـ تعالى ـ وصف القرآن بكونه: هدى وبيانا ، وكونه لغوا ينافي ذلك ، فعلى هذا يكون «ما» صفة للنكرة قبلها ، لتزداد النكرة اتساعا. ونظيره قولهم : «لأمر مّا جدع قصير أنفه» ، وقول امرىء القيس : [المديد]
٣٢٥ ـ وحديث الرّكب يوم هنا |
|
وحديث مّا على قصره (٢) |
وقال أبو البقاء : وقيل : «ما» نكرة موصوفة ، ولم يجعل بعوضة صفتها ، بل جعلها بدلا منها ، وفيه نظر ؛ إذ يحتاج أن يقدّر صفة محذوفة ولا ضرورة إلى ذلك ، فكان الأولى أن يجعل بعوضة صفتها بمعنى أنّه وصفها بالجنس المنكّر لإبهامه ، فهي في معنى «قليل» ، وإليه ذهب الفرّاء والزّجّاج وثعلب ، وتكون «ما» وصفتها حينئذ بدلا من «مثلا» و «بعوضة» بدلا من «ما» ، أو عطف بيان لها ، إن قيل : «ما» صفة ل «مثلا» ، أو نعت ل «ما» إن قيل : إنّها بدل من «مثلا» كما تقدّم في قول الفرّاء ، وبدل من «مثلا» أو عطف بيان له إن قيل : إن «ما» زائدة.
وقيل : «بعوضة» هو المفعول ، و «مثلا» نصب على الحال قدّم على النكرة.
وقيل : نصب على إسقاط الخافض ، التقدير : ما بين بعوضة ، فلمّا حذفت «بين» أعربت «بعوضة» بإعرابها ، وتكون الفاء في قوله : «فما فوقها» بمعنى إلى ، أي : إلى ما فوقها ، ويعزى هذا للكسائي والفرّاء وغيرهم من الكوفيين ؛ وأنشدوا : [البسيط]
٣٢٦ ـ يا أحسن النّاس ما قرنا إلى قدم |
|
ولا حبال محبّ واصل تصل (٣) |
أي : ما بين قرن.
وحكوا : «له عشرون ما ناقة فجملا» ، وعلى القول الثّاني يكون «مثلا» مفعولا أوّل ، و «ما» تحتمل الوجهين المتقدمين ، و «بعوضة» مفعول ثان.
وقيل : بعوضة هي المفعول الأول ، و «مثلا» هو الثّاني ، ولكنّه قدّم.
وتلخّص مما تقدّم أنّ في «ما» ثلاثة أوجه :
زائدة ، صفة لما قبلها ، نكرة موصوفة ، وأنّ في «مثلا» ثلاثة أيضا :
__________________
(١) ينظر الرازي : ٢ / ١٢٤.
(٢) ينظر ديوانه : (١٠٣) ، والدر المصون : ١ / ١٦٣.
(٣) ينظر البيت في خزانة الأدب : ١١ / ٧ ، والدرر : ٦ / ٨٣ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٦٤ ، مغني اللبيب : ١ / ١٦٢٠ ، همع الهوامع : ٢ / ١٣١ ، الدر المصون : ١ / ١٦٣.
مفعول أوّل ، أو مفعول ثان ، أو حال مقدّمة (١) ، وأنّ في «بعوضة» تسعة أوجه ، والصواب من ذلك كلّه أن يكون «ضرب» متعدّيا لواحد بمعنى بيّن ، و «مثلا» مفعول به ، بدليل قوله : «ضرب مثل» ، و «ما» صفة للنّكرة ، و «بعوضة» بدل لا عطف بيان ، لأن عطف البيان ممنوع عند جمهور البصريين في النكرات.
وقرأ (٢) إبراهيم بن أبي عبلة والضّحّاك ورؤبة بن العجاج برفع «بعوضة» واتفقوا على أنّها خبر لمبتدأ ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ ، فقيل : هو «ما» على أنّها استفهامية أي : أيّ شيء بعوضة ، وإليه ذهب الزمخشري ورجّحه.
وقيل : المبتدأ مضمر تقديره : هو بعوضة ، وفي ذلك وجهان :
أحدهما : أن تجعل هذه الجملة صلة ل «ما» لكونها بمعنى الذي ، ولكنّه حذف العائد ، وإن لم تطل الصّلة ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلّا في «أيّ» خاصّة لطولها بالإضافة ، وأمّا غيرها فشاذّ ، أو ضرورة كقراءة (٣) : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] وقوله : [البسيط]
٣٢٧ ـ من يعن بالحقّ لا ينطق بما سفه |
|
ولا يحد عن سبيل الحمد والكرم (٤) |
أي : الذي هو أحسن ، وبما هو سفه ، وتكون «ما» على هذا بدلا من «مثلا» كأنّه قيل : مثلا الذي هو بعوضة.
قال النّحّاس (٥) : «والحذف في «ما» أقبح منه في «الذي» لأن «الذي» إنّما له وجه واحد ، والاسم معه أطول».
والثاني : أن تجعل «ما» زائدة ، أو صفة ، وتكون «هو بعوضة» جملة كالمفسّرة لما انطوى عليه الكلام.
__________________
(١) في أ : مقدرة.
(٢) وقرأ بها «قطرب». انظر الكشاف : ١ / ١١٥ ، وقال الزمخشري : «وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج ، وهو أمضغ العرب للشيخ والقيصوم ، والمشهود له بالفصاحة ، وكانوا يشبهون به الحسن ...».
وانظر البحر المحيط : ١ / ٢٦٧ ، والدر المصون : ١ / ١٦٤.
(٣) ستأتي في سورة الأنعام آية (١٥٤).
(٤) ينظر أوضح المسالك : ١ / ١٦٨ ، وتخليص الشواهد : ص ١٦٠ ، والدرر : ١ / ٣٠٠ ، وشرح التصريح : ١ / ١٤٤ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٤٦ ، وشرح الأشموني : ١ / ٧٨ ، وهمع الهوامع : ١ / ٩٠ ، الدر المصون : ١ / ١٦٤.
(٥) أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري ، أبو جعفر النحاس : مفسر ، أديب. مولده بمصر ، ووفاته بمصر أيضا سنة ٣٣٨ ه ، كان من نظراء نفطويه وابن الأنباري ، زار العراق واجتمع بعلمائه ، من مصنفاته : «تفسير القرآن» و «إعراب القرآن» و «ناسخ القرآن ومنسوخه» و «شرح المعلقات السبع». ينظر الأعلام : ١ / ٢٠٨ ، البداية والنهاية : ١١ / ٢٢٢ ، إنباه الرواة : ١ / ١٠١.
ويقال : إنّ معنى : «ضربت له مثلا» مثّلت له مثلا ، وهذه الأبنية على ضرب واحد ، وعلى مثال [واحد](١) ونوع واحد.
والضرب : النوع ، والبعوضة : واحدة البعوض ، وهو معروف ، وهو في الأصل وصف على فعول كالقطوع ، مأخوذ من البعض ، وهو القطع ، وكذلك البضع والعضب ؛ قال : [الوافر]
٣٢٨ ـ لنعم البيت بيت أبي دثار |
|
إذا ما خاف بعض القوم بعضا (٢) |
وقال الجوهري : البعوض : البقّ ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها.
فصل في استحسان ضرب الأمثال
اعلم أنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ، وقد اشتهر العرب في التمثيل بأحقر الأشياء ، فقالوا في التمثيل بالذّرّة : «أجمع من ذرّة» ، و «أضبط من ذرّة» ، «وأخفى من ذرّة» ، وفي التمثيل بالذّباب : «أجرأ من الذّباب» ، «وأخطأ من الذّباب» ، «وأطيش من الذباب» ، و «أشبه من الذباب بالذباب» ، «وألخّ من الذّباب».
وفي التمثيل بالقراد : «أسمع من قراد» ، وأضعف من قرادة ، وأعلق من قرادة ، وأغم من قرادة ، وأدبّ من قرادة.
وقالوا في الجراد : أطير من جرادة ، وأحطم من جرادة ، وأفسد من جرادة ، وأصفى من لعاب الجرادة.
وفي الفراشة : «أضعف من فراشة» ، و «أجمل من فراشة» ، و «أطيش من فراشة».
وفي البعوضة : «كلفني مخّ البعوضة» ، مثل في تكليف ما لا يطاق. فقولهم : ضرب الأمثال لهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى.
قلنا : هذا جهل ، لأنّه ـ تعالى ـ هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمه في كلّ ما خلق وبرأ عام ؛ لأنّه قد أحكم جميعه ، وليس الصغير أخفّ عليه من العظيم ، ولا العظيم أصعب عليه من الصّغير ، وإذا كان الكلّ بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى من أن يضربه مثلا لعباده من الصغير ، بل المعتبر فيه ما يليق بالقضيّة ، وإذا كان الأليق بها الذّباب والعنكبوت ، ضرب المثل بهما ، لا بالفيل والجمل ، فإذا أراد أن يقبّح عبادتهم للأصنام ، ويقبّح عدولهم عن عبادة الرحمن ، صلح أن يضرب المثل بالذّباب ، ليبيّن أن قدر مضرّتها لا تندفع بهذه الأصنام ، ويضرب المثل ببيت العنكبوت ؛ ليبيّن أنّ عبادتها أوهى وأضعف
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) ينظر البيت في اللسان (بعض) شواهد الكشاف : ١ / ١١٥ ، الدر المصون : ١ / ١٦٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١١١.
من ذلك ، كلّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح ، وضرب المثل بالبعوضة ؛ لأنّه من عجائب خلق الله تعالى ؛ فإنه صغير جدّا ، وخرطومه في غاية الصغر ، ثمّ إنّه مع ذلك مجوّف ، ثمّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره ، وكونه مجوّفا يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص ، وذلك لما ركّب الله في رأس خرطومه من السم.
قوله : (فَما فَوْقَها) قد تقدّم أنّ «الفاء» بمعنى «إلى» ، وهو قول مرجوح جدّا ، و «ما» في «فما فوقها» إن نصبنا «بعوضة» كانت معطوفة عليها موصولة بمعنى «الذي» ، وصلتها الظّرف ، أو موصوفة وصفتها الظرف أيضا ، وإن رفعنا «بعوضة» ، وجعلنا «ما» الأولى موصولة أو استفهامية ، فالثانية معطوفة عليها ، لكن في جعلنا «ما» موصولة يكون ذلك من عطف المفردات ، وفي جعلنا إيّاها استفهامية يكون من عطف الجمل ، وإن جعلنا «ما» زائدة ، أو صفة لنكرة ، و «بعوضة» خبرا ل «هو» مضمرا كانت «ما» معطوفة على بعوضة.
فصل في معنى قوله : «فما فوقها»
قال الكسائيّ وأبو عبيدة ، وغيرهما : معنى «فما فوقها» والله أعلم : ما دونها في الصّغر ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول ؛ لأنّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان ، وكلّما كان المشبّه به أشدّ حقارة كان المقصود أكمل حصولا في هذا الباب.
وقال قتادة ، وابن جريج : «المعنى في الكبر كالذّباب ، والعنكبوت ، والكلب ، والحمار ؛ لأنّ القوم أنكروا تمثيل الله بتلك الأشياء».
قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
«أمّا» حرف ضمّن معنى اسم شرط وفعله ، كذا قدّره سيبويه قال : «أمّا» بمنزلة مهما يك من شيء.
وقال الزّمخشريّ (١) : وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد ، تقول : زيد ذاهب ، فإذا قصدت توكيد ذلك ، وأنّه لا محالة ذاهب ، قلت : أمّا زيد فذاهب.
وقال بعضهم : «أمّا» حرف تفصيل لما أجمله المتكلم ، أو ادّعاه المخاطب ، ولا يليها إلّا المبتدأ ، وتلزم الفاء في جوابها ، ولا تحذف إلّا مع قول ظاهر ومقدّر كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي : فيقال لهم : أكفرتم ، وقد تحذف حيث لا قول ؛ كقوله : [الطويل]
٣٢٩ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم |
|
ولكنّ سيرا في عراض المواكب (٢) |
__________________
(١) ينظر الكشاف : ١ / ١١٧.
(٢) البيت للحارث بن خالد المخزومي ينظر ديوانه : ص ٤٥ ، وخزانة الأدب : ١ / ٤٥٢ ، والدرر : ٥ / ـ
أي : فلا قتال.
ولا يجوز أن تليها «الفاء» مباشرة ، ولا أن تتأخّر عنها بجزأي جملة ، لو قلت : «أمّا زيد منطلق ففي الدّار» لم يجز ، ويجوز أن يتقدّم معمول ما بعد «الفاء» عليها متليّ أمّا كقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى : ٩]
ولا يجوز الفصل بين أمّا والفاء بمعمول خبر «إنّ خلافا للمبرد ، ولا بمعمول خبر «ليت» و «لعلّ» خلافا للفرّاء ، وإن وقع بعدها مصدر نحو : «أمّا علما فعالم» فإن كان نكرة جاز نصبه عند التميميين برجحان ، وضعف رفعه ، وإن كان معرفة التزموا فيه الرّفع ، وأجاز الحجازيون فيه الرفع والنصب نحو : «أمّا العلم فعالم» ، ونصب المنكّر عند سيبويه على الحال ، والمعرّف مفعول له.
وأمّا الأخفش فنصبهما عنده على المفعول المطلق ، والنصب بفعل الشرط المقدّر ، أو بما بعد الفاء ، ما لم يمنع مانع ، فيتعيّن فعل الشرط نحو : أمّا علما فلا علم له أو : فإنّ زيدا عالم ؛ لأن «لا» و «إنّ» لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما.
وأمّا الرفع فالظاهر أنه بفعل الشرط المقدّر ، أي : مهما يذكر علم ، أو : العلم فزيد عالم ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وعالم خبر مبتدأ محذوف ، والجملة خبره ، والتقدير : أمّا علم ـ أو العلم ـ فزيد عالم به ، وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنّه موضع تفصيل ، وفيها كلام طويل.
و (الَّذِينَ آمَنُوا) في محلّ رفع بالابتداء ، و «فيعلمون» خبره.
قوله : (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
الفاء جواب «أمّا» لما تضمنته من معنى الشّرط ، و «أنّه الحقّ» سادّ مسدّ المفعولين عند الجمهور ، [وساد](١) مسدّ المفعول الأوّل فقط ، والثاني محذوف ، عند الأخفش ، أي : فيعلمون حقيقته ثابتة.
وقال الجمهور : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأنّ وجود النسبة فيها بعد «أنّ» كاف في تعلّق العلم ، أو الظّنّ به ، والضمير في «أنّه» عائد على المثل.
وقيل : على ضرب المثل المفهوم من الفعل.
__________________
١١٠ ، أسرار العربية : ص ١٠٦ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٥٣ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٢٣٠٤ ، والجنى الداني : ص ٥٢٤ ، وسر صناعة الإعراب : ص ٢٦٥ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ١٠٧ ، وشرح شواهد المغني : ص ١٧٧ ، وشرح ابن عقيل : ص ٥٩٧ ، وشرح المفصل : ٧ / ١٣٤ ، ٩ / ٤١٢ ، والمنصف : ٣ / ١١٨ ، ومغني اللبيب : ص ٥٦ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٥٧٧ ، ٤ / ٤٧٤ ، والمقتضب : ٢ / ٧١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٧ ، الدر المصون : ١ / ١٦٥.
(١) سقط في ب.
وقيل : على ترك الاستحياء.
و «الحقّ» : هو الثابت ، ومنه حقّ الأمر أي : ثبت ، ويقابله الباطل.
و «الحق» واحد الحقوق ، و «الحقّة» بفتح الحاء أخص منه ، يقال : هذه حقّتي ، أي : حقّي.
و «من ربّهم» في محل نصب على الحال من الحقّ أي : كائنا وصادرا من ربّهم ، و «من» لابتداء الغاية المجازية.
وقال أبو البقاء (١) : والعامل فيه معنى الحقّ ، وصاحب الحال الضمير المستتر فيه أي من الحقّ ؛ لأنّه مشتقّ ، فيتحمّل ضميرا.
قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لغة «بني تميم» ، و «بني عامر» في «أمّا» «أيما» يبدلون من أحد الميمين ياء ؛ كراهية للتضعيف ؛ وأنشد عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]
٣٣٠ ـ رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت |
|
فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر (٢) |
قوله : (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ).
اعلم أنّ «ما» له في كلام العرب ستة استعمالات :
أحدها : أن تكون «ما» اسم استفهام في محل رفع بالابتداء ، و «ذا» اسم إشارة خبره.
والثاني : أن تكون «ما» استفهامية و «ذا» بمعنى الّذي ، والجملة بعدها صلة ، وعائدها محذوف ، والأجود حينئذ أن يرفع ما أجيب به أو أبدل منه ؛ كقوله : [الطويل]
٣٣١ ـ لا تسألان المرء ماذا يحاول |
|
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل (٣) |
__________________
(١) ينظر الاملاء : ١ / ٢٦.
(٢) ينظر البيت في ديوانه : (٩٤) ، خزانة الأدب : ٥ / ٣١٥ ، ٣٢١ ، ١١ / ٣٦٧ ، مغني اللبيب : ١ / ٥٥ ، والأزهية : ص ١٤٨ ، والدرر : ٥ / ١٠٨ ، والأغاني : ١ / ٨١ ، وشرح شواهد المغني : ص ١٧٤ ، والمحتسب : ١ / ٢٨٤ ، والممتع في التصريف : ١ / ٣٧٥ ، والجنى الداني : ص ٥٢٧ ، وتذكرة النحاة : ص ١٢٠ ، ورصف المباني : ص ٩٩ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٧ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٦٠٨ ، ولسان العرب «ضحا».
(٣) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه : ٢٥٤ ، والأزهية : ٢٠٦ ، الجنى الداني : ٢٣٩ ، خزانة الأدب : ٢ / ٢٥٢ ، ديوان المعاني : ١ / ١١٩ ، شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٤٠ ، شرح التصريح : ١٣٩ ، شرح شواهد المغني : ١ / ١٥٠ و ٢ / ٧١١ ، والكتاب : ٢ / ٤١٧ ، ولسان العرب (نحب) (حول) ، المعاني الكبير : (١٢٠) ، مغني اللبيب : ٣٠٠ ، والبيت بلا نسبة في أوضح المسالك : ١ / ١٥٩ ، ورصف المباني : ١٨٨ ، شرح الأشموني : ١ / ٧٣ ، شرح المفصل : ٣ / ١٤٩ ، ١٥٠ و ٤ / ٢٣ ، كتاب اللامات : ٦٤ ، مجالس ثعلب : ٥٣٠ ، وينظر الدر المصون : ١ / ١٦٦.
ف «ذا» هنا بمعنى الذي ؛ لأنه أبدل منه مرفوع ، وهو «أنحب» ، وكذا (ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] في قراءة أبي عمرو (١).
والثالث : أن يغلّب حكم «ما» على «ذا» فيتركا ، ويصيرا بمنزلة اسم واحد ، فيكون في محلّ نصب بالفعل بعده ، والأجود حينئذ أن ينصب جوابه والمبدل منه كقوله : (ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ : الْعَفْوَ) في قراءة غير أبي عمرو (٢) ، و (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل: ٣٠] عند الجميع. ومنه قوله : [البسيط]
٣٣٢ ـ يا خزر تغلب ما ذا بال نسوتكم |
|
لا يستفقن إلى الدّيدين تحنانا (٣) |
ف «ماذا» مبتدأ ، و «بال نسوتكم» خبره.
الرابع : أن يجعل «ماذا» بمنزلة الموصول تغليبا ل «ذا» على «ما» عكس الصورة التي قبله ، وهو قليل جدّا ؛ ومنه قوله : [الوافر]
٣٣٣ ـ دعي ماذا علمت سأتّقيه |
|
ولكن بالمغيّب حدّثيني (٤) |
ف «ماذا» بمعنى الذي ؛ لأنّ ما قبله لا تعلّق له به.
الخامس : زعم الفارسيّ أنّ «ماذا» كله تكون نكرة موصوفة ، وأنشد : «دعي ماذا علمت» أي : دعي شيئا معلوما ، وقد تقدّم تأويله.
السّادس : وهو أضعفها أن تكون «ما» استفهاما ، و «ذا» زائدة ، وجميع ما تقدّم يصلح أن يكون مثالا له ، ولكنّ زيادة الأسماء ممنوعة أو قليلة جدا.
إذا عرف ذلك فقوله (ما ذا أَرادَ اللهُ) يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية :
أحدهما : أن تكون «ما» استفهامية في محلّ دفع بالابتداء ، و «ذا» بمعنى «الذي» ، و «أراد الله» صلة ، والعائد محذوف لاستكمال شروطه ، تقديره : «أراده الله» والموصول خبر «ما» الاستفهامية.
والثاني : أن تكون «ماذا» بمنزلة اسم واحد في محلّ نصب بالفعل بعده ، تقديره :
__________________
(١) انظر البحر المحيط : ٢ / ١٦٨ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ٣١٥ ، وحجة القراءات : ١٣٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٣٧ ، والدر المصون : ١ / ٥٣٧ ، وشرح طيبة النشر : ٤ / ٩٧ ، وشرح شعلة : ٢٨٩.
(٢) ستأتي في النحل (٣٠).
(٣) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ١٦٧ ، والجنى الداني : ص ٢٤٠ ، والدرر : ١ / ٢٧٠ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٨١ ، ومغني اللبيب : ص ٣٠١ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٤ ، الدر المصون : ١ / ١٦٦.
(٤) البيت للمثقب العبدي ينظر ديوانه : ص ٢١٣ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٤٨٩ ، ١١ / ٨٠ ، وشرح شواهد المغني : ص ١٩١ ، ولسحيم بن وثيل الرياحي في المقاصد النحوية : ١ / ١٩٢ ، ولأبي حية النميري في لسان العرب (أبى) ، ولمزرد بن ضرار ينظر ديوانه : ص ٦٨ ، الجنى الداني : ص ٢٤١ ، والدرر : ١ / ٢٧١ ، والكتاب : ٢ / ٤١٨ ، ولسان العرب (ذوا) ، ومغني اللبيب : ص ٢٣٠١ ، ٣٠ ، الدر المصون : ١ / ١٦٦.
أيّ شيء أراد الله. قال ابن كيسان : وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول ، و «مثلا» نصب على التمييز ، قيل : وجاء على معنى التوكيد ؛ لأنه من حيث أشير إليه بهذا علم أنّه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكّدا للاسم الذي أشير إليه.
وقيل : نصب على الحال ، واختلف في صاحبها ، فقيل : اسم الإشارة ، والعامل فيها معنى الإشارة.
وقيل : اسم الله ـ تعالى ـ أي : متمثّلا بذلك.
وقيل : على القطع وهو رأي الكوفيين ، ومعناه عندهم : أنّه كان أصله أن يتبع ما قبله ، والأصل : بهذا المثل ، فلمّا قطع عن التّبعيّة انتصب ؛ وعلى ذلك قول امرىء القيس : [الطويل]
٣٣٤ ـ سوامق جبّار أثيث فروعه |
|
وعالين قنوانا من البسر أحمرا (١) |
أصله : من البسر الأحمر.
فصل في معنى الإرادة واشتقاقها
و «الإرادة» لغة طلب الشيء مع الميل إليه ، وقد تتجرّد للطلب ، وهي التي تنسب إلى الله ـ تعالى ـ وعينها واو من راد يرود ، أي : طلب ، فأصل «أراد» «أرود» مثل : أقام ، والمصدر الإرادة مثل الإقامة ، وأصلها : إرواد فأعلّت وعوّض من محذوفها تاء التأنيث.
فصل في ماهية الإرادة
و «الإرادة» ماهية يجدها العاقل من نفسه ، ويدرك بالتفرقة البديهية بينها وبين علمه (٢) وقدرته وألمه ولذّته ، وإذا كان كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاحا إلى التعريف.
وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع ، بل في الإيقاع ، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة.
قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) الياء فيه للسّببيّة ، وكذلك في «يهدي به» ، وهاتان الجملتان لا محلّ لهما ؛ لأنّهما كالبيان للجملتين المصدّرتين ب «أمّا» ، وهما من كلام الله تعالى. وقيل : في محلّ نصب ؛ لأنهما صفتان ل «مثلا» أي : مثلا يفرّق النّاس به إلى ضلّال ومهتدين ، وهما على هذا من كلام الكفّار.
__________________
(١) ينظر ديوانه : (٥٧) ، البحر المحيط : ٣ / ٤٥٩ ، وروي صدره هكذا فأتت أعاليه وآدت أصوله ، الدر المصون : (١ / ٣٦٧).
(٢) في ب : عمله.
وأجاز أبو البقاء (١) أن تكون حالا من اسم الله ، أي : مضلّا به كثيرا ، وهاديا به [كثيرا](٢).
وجوّز ابن عطية (٣) أن يكون جملة قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من كلام الكفّار ، وجملة قوله : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهر لأنّه إلباس في التركيب.
والضمير في «به» عائد على «ضرب» المضاف تقديرا إلى المثل ، أي بضرب المثل ، وقيل : الضمير الأوّل للتكذيب ، والثاني للتصديق ، ودلّ على ذلك قوة الكلام.
[وقرىء (٤) : «يضلّ به كثير ، ويهدى به كثير ، وما يضلّ به إلّا الفاسقون» بالبناء للمفعول](٥).
وقرىء أيضا (٦) : «يضلّ كثير ويهدي به كثير ، وما يضلّ به إلّا الفاسقون» بالبناء للفاعل.
قال بعضهم : «وهي قراءة القدريّة ، وقد نقل ابن عطية عن أبي عمرو الدّاني أنّها قراءة المعتزلة» (٧). ثم قال : «وابن أبي عبلة من ثقات الشاميين» يعني قارئها ، وفي الجملة فهي مخالفة لسواد المصحف.
فإن قيل : كيف وصف المهتدين هنا بالكثرة وهم قليلون ؛ لقوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٢٤] ، و (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] فالجواب أنّهم ، وإن كانوا قليلين في الصّورة ، فهم كثيرون في الحقيقة ؛ كقوله : [البسيط]
٣٣٥ ـ إنّ الكرام كثير في البلاد وإن |
|
قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا (٨) |
فصار ذلك باعتبارين.
__________________
(١) ينظر الإملاء : ١ / ٢٦.
(٢) سقط في أ.
(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١١٢.
(٤) قرأ بها زيد بن علي.
انظر البحر المحيط : ١ / ٢٧٠ ، والدر المصون : ١ / ١٦٧.
(٥) سقط في أ.
(٦) وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة.
انظر المحرر الوجيز : ١ / ١١٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٧٠ ، والدر المصون : ١ / ١٦٧.
(٧) المنقول في «المحرر الوجيز» عن «أبي عمرو الداني» قوله : هذه قراءة القدرية ، وابن أبي عبلة من ثقات الشاميين ، ومن أهل السّنّة ، ولا تصحّ هذه القراءة عنه ، مع أنها مخالفة خط المصحف. ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١١٢.
(٨) ينظر الكشاف : ١ / ١١٨ ، والدر المصون : ١ / ١٦٧.
فصل في استعمالات الهمزة
قال ابن الخطيب : «الهمزة تجيء تارة لتنقل الفعل من غير التعدّي إلى التعدّي كقولك : «خرج» فإنّه غير متعدّ ، فإذا قلت : «أخرج» فقد جعلته متعدّيا ، وقد تجيء لتنقل الفعل من التعدّي إلى غير التعدّي كقوله «كببته فأكب» (١) ، وقد تجيء لمجرّد الوجدان».
حكي عن عمرو بن معديكرب (٢) أنّه قال لبني سليم : «قاتلناكم فما أجبنّاكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم» ، أي : ما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ، ولا بخلاء. ويقال : أتيت أرض فلان فأعمرتها ، أي : وجدتها عامرة.
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : الهمزة لا تفيد إلّا نقل الفعل من غير التعدّي إلى التعدّي ، وأمّا قوله : كببته فأكبّ ، فلعلّ المراد كببته فأكبّ نفسه على نفسه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين ، وهذا ليس بعرف؟!
وأما قوله : «قاتلناكم فما أجبناكم» فالمراد ما أثّر قتالنا في صيرورتكم جبناء ، وكذا القول في البواقي وهذا الذي قلناه أولى دفعا للاشتراك.
إذا ثبت هذا فنقول قولنا : «أضلّه الله» لا يمكن حمله إلّا على وجهين :
أحدهما : أنه صيّره ضالّا عن الدّين.
والثاني : وجده ضالّا.
فصل في معنى الإضلال
واعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللّغة : هو الدعاء إلى ترك الدّين ، وتقبيحه في عينه ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله ـ تعالى ـ إلى «إبليس» فقال : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص : ١٥] وقال : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) [النساء : ١١٩].
وقوله : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) [فصلت : ٢٩] ، وأيضا أضاف هذا الإضلال إلى فرعون ، فقال : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩].
واعلم أنّ الأمّة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى ؛ فإنّه ما دعا إلى الكفر ، وما رغّب فيه ، بل نهى عنه ، وزجر وتوعّد بالعقاب عليه ، وإذا كان المعنى الأصلي في الإضلال في اللّغة هذا ، وهذا المعنى منفي بالإجماع ، ثبت انعقاد
__________________
(١) في أ : فانكب.
(٢) عمرو بن كريب بن صالح الرعيني أحد المقدمين في أيام عبد العزيز بن مروان بمصر ، جعل له ولاية الحرس والأعوان والخيل ، بعد وفاة جندب بن مرثد الرعيني وكانا من ثقاته فعاش عمرو بعد سلفه أربعين ليلة وتوفي بالقاهرة سنة ٨٣ ه.
ينظر الأعلام : ٥ / ٨٤ (٥٤٨) ، الولاة والقضاة : ٥٣.
الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللّفظ على ظاهره ، وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل.
أمّا أهل الجبر فقد حملوه على أنّه ـ تعالى ـ خالق الضلال والكفر فيهم وصدّهم عن الإيمان ، وحال بينهم وبينه ، وربّما قالوا : هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة ؛ لأنّ الإضلال عبارة عن جعل الشّيء ضالّا كما أنّ الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجا وداخلا. وأما المعتزلة فقالوا : التأويل من وجوه :
أحدها : قالوا : إنّ الرّجل إذا ضلّ باختياره عن حضور شيء من غير أن يكون لذلك الشّيء أثر في ضلاله فيقال لذلك الشيء : إنّه أضلّه قال تعالى في حق الأصنام : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) [إبراهيم : ٣٦] أي : ضلّوا بهنّ وقال : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) [نوح : ٢٣] أي : ضلّ كثير من النّاس بهم.
وقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [المائدة : ٦٤]. وقوله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] أي : لم يزدهم الدّعاء إلّا فرارا.
وقال : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) [المؤمنون : ١١٠] وهم لم ينسوهم في الحقيقة ، وكانوا يذكّرونهم الله.
وقال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].
فأخبر تعالى أنّ نزول السورة المشتملة على الشّرائع يعرّف أحوالهم.
فمنهم من يصلح عليها ؛ فيزداد بها إيمانا ، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفرا ، فأضيفت الزيادة في الإيمان ، والزيادة في الكفر إلى السّورة ؛ إذ كانوا إنّما صلحوا عند نزولها وفسدوا ، فهكذا أضيف الضّلال والهدى إلى الله تعالى ؛ إذ كان حدوثهما عند ضربه ـ تعالى ـ الأمثال لهم.
وثانيها : أنّ الإضلال هو التسمية بالضلالة ، فيقال : أضلّه إذا سماه ضالا ، وأكفر فلان فلانا إذا سمّاه كافرا ، وذهب إليه قطرب ، وكثير من المعتزلة.
ومن أهل اللغة من أنكره ، وقال : إنّما يقال : ضللته تضليلا ، إذا سمّيته ضالّا ، وكذلك فسّقته وفجّرته ، أي : سمّيته : فاسقا وفاجرا.
وأجيب عنه بأنّه حتى صيّره في نفسه ضالّا لزمه أي يصيّره محكوما عليه بالضّلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور.
وثالثها : أن يكون الإضلال هو التّخلية ، وترك المنع بالقهر ، والجبر ، فيقال : أضلّه أي : خلّاه وضلاله.
قالوا : ومجازه من قولهم : «أفسد فلان ابنه ، وأهلكه» إذا لم يتعهّده بالتأديب ؛ ومنه قوله: [الوافر]
٣٣٦ ـ أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا |
|
........... (١) |
ويقال لمن ترك (٢) سيفه في الأرض النّديّة حتّى فسد وصدىء : أفسدت سيفك وأصدأته.
ورابعها : الضلال ، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر : ٤٧](يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) [القمر : ٤٨] ، فوصفهم بأنّهم يوم القيامة في ضلال ، وذلك هو عذابه.
وخامسها : أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال ، كقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] قيل : أهلكها ، وأبطلها ، ومجازه من قولهم : «ضلّ الماء في اللّبن» إذا صار مستهلكا فيه.
ويقال : أضلّ القوم ميّتهم ، أي : واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى.
وقالوا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] فيحتمل أن يضل الله إنسانا أي: يهلكه ويعدمه.
وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنّة.
قالت المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليس تأويلا ، بل حمل للّفظ على ظاهره فإن الآية تدلّ على أنّه يضلّهم ، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يضلهم؟ فنحن نحملها على أنّه ـ تعالى ـ يضلّهم عن طريق الجنّة ، ثمّ حملوا كلّ ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل ، وهو اختيار الجبّائي. قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الحج : ٤] أي : يضلّه عن الجنّة وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.
وسابعها : أن تحمل الهمزة لا على التعدية ، بل على الوجدان على ما تقدّم ، فيقال : أضلّ فلان بعيره أي : ضلّ عنه ، فمعنى إضلال الله ـ تعالى ـ لهم أنّه وجدهم ضالّين.
وثامنها : أن يكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من تمام قول الكفّار كأنّهم قالوا : ما ذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه؟
__________________
(١) صدر بيت للعرجي وعجزه :
ليوم كريهة وسداد ثغر
ينظر اللسان : (ضيع).
(٢) في أ : ألقى.
ثمّ قالوا : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، ذكروه على سبيل التّهكّم ، فهذا من قول الكفّار ، ثمّ قال تعالى جوابا لهم : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي ما أضلّ إلّا الفاسقين. هذا مجموع كلام المعتزلة.
قالت الجبرية (١) : وهذا معارض بمسألة الدّاعي ، وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والضلال لم فعل أحدهما دون الآخر؟
ومعارض أيضا بمسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧].
والجواب عن الآيات يأتي في مواضعه.
قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) «الفاسقين» مفعول ل «يضل» وهو استثناء مفرّغ ، وقد تقدّم معناه ، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوبا على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره : «وما يضلّ به أحدا إلّا الفاسقين» ؛ كقوله : [الطويل]
٣٣٧ ـ نجا سالم والنّفس منه بشدقه |
|
ولم ينج إلّا جفن سيف ومئزرا (٢) |
__________________
(١) معنى الجبر : نفي الفعل عن العبد وإضافته لله ـ تعالى ـ.
وفكرة الجبر ليست عربية ، وقد تلقاها «الجعد من درهم» عن يهوديّ ، وتلقاها عن «الجعد» «جهم بن صفوان».
وقد شاعت هذه الفكرة في أول العصر الأموي ، وانتشرت حتى صارت مذهبا في آخره ، وتنسب فرقة الجبرية إلى «جهم بن صفوان» ؛ لأنه يعتبر أكبر الدعاة لهذه النحلة ، وأعظم أنصارها ؛ ولهذا سميت ب «الجهمية».
وكان مولى ل «بني راسب» من أهل خراسان وأقام ب «الكوفة» ، ولخطابته أثر كبير فيمن تبعه ، وقد ظهر بمذهبه (في ترمذ) ، وكان وزيرا للحارث بن سريح ، ولما خرج «الحارث» على بني أمية ، وهزم على يد «سالم بن أحوز المازني» الذي بعثه عامل الأمويين على خراسان ووقع «الجهم» أسيرا في يده ، فقتله في سنة ١٢٨ ه.
مبادىء الجبرية :
أولا ـ الإنسان مجبور في فعله ، فلا يوصف بالاستطاعة ، ولا قدرة له ولا اختيار ، وإنما يخلق الله فيه الأفعال كما يخلقها في الجمادات.
ثانيا ـ لا يوصف الله بصفة وصف بها خلقه ؛ لأن هذا يقتضي التشبيه ؛ ولهذا نفوا صفات المعاني عن الله ـ تعالى ـ.
ثالثا ـ القول بخلق القرآن ؛ لإنكارهم صفة الكلام.
رابعا ـ وجوب المعرفة بالعقل ، والإيمان هو المعرفة.
خامسا ـ إنكار رؤية الله لما تقتضيه من التشبيه. وغير ذلك كما هو مبسوط في كتب الملل والنحل.
(٢) البيت لحذيفة بن أنس الهذلي ينظر شرح أشعار الهذليين : ٢ / ٥٥٨ ، العقد الفريد : ٥ / ٢٤٤ ، لسان العرب (جفن) ، تذكرة النحاة : ص ٥٢٦ ، جمهرة اللغة : ص ١٣١٩ ، ورصف المباني : ص ٨٦ ، الصاحبي في فقه اللغة : ص ١٣٦ ، المعاني الكبير : ص ٩٧٢ ، المقرب : ١ / ١٦٧ ، الدر المصون ١ / ٠ / ١٦.
أي : لم ينج بشيء ، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء ، كأنّه اعتبر مذهب جمهور البصريين.
و «الفسق» لغة : الخروج ، يقال : فسقت الرّطبة عن قشرها ، أي : خرجت ، والفأرة من جحرها.
و «الفاسق» : خارج عن طاعة الله ، يقال : فسق يفسق ويفسق بالضم والكسر في المضارح فسقا وفسوقا ، عن الأخفش ، فهو فاسق.
وزعم ابن الأعرابي ، أنّه لم يسمع في كلام الجاهلية ، ولا في شعرهم «فاسق» ، وهذا عجيب ، وهو كلام عربيّ حكاه عنه ابن فارس والجوهريّ ، وقد ذكر ابن الأنباريّ في كتاب «الزّاهر» لمّا تكلّم على معنى «الفسق» قول رؤبة : [الرجز]
٣٣٨ ـ يهوين في نجد وغورا غائرا |
|
فواسقا عن قصدها جوائرا (١) |
و «الفسيق» : الدائم الفسق ، ويقال في النداء : يا فاسق ويا خبيث ، يريد يا أيّها الفاسق ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عزوجل ، فقد يقع على من خرج بعصيان. واختلف أهل القبلة في أنّه مؤمن أو كافر.
فعند بعضهم أنّه مؤمن ، وعند الخوارج : أنّه كافر ، وعند المعتزلة : أنّه لا مؤمن ولا كافر.
واحتجّ الخوارج (٢) بقوله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].
__________________
(١) ينظر ملحق ديوانه : (١٩٠) والكتاب : (١ / ٤٩) ، الخصائص : (٢ / ٤٣٢) ، الشذور : (٣٣٤) ، الدر المصون : (١ / ١٦٨).
(٢) هم أشد الفرق الإسلامية دفاعا عن اعتقادهم ، وحماسة لرأيهم ، وقد دفعهم التعصب لفكرتهم إلى الاستهداف للمخاطرة ، وقسوة القلب على من خالفهم.
وقد نشأت هذه الفرقة : بسبب الخلاف بين علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ ، وذلك أنه نشب القتال بينهما في موقعة «صفين» ، وطلب معاوية وصحبه تحكيم كتاب الله ؛ خوفا من الهزيمة ، واختلف أصحاب علي في إجابة طلب معاوية ، ثم كانت نهاية الجدل قبول التحكيم.
من مبادئهم :
١ ـ صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان في أول ولايته ، وكان يجب عزله عندما غير طريقة أبي بكر وعمر وقدم أقاربه.
٢ ـ صحة خلافة علي إلى وقت التحكيم ، ولما أخطأ كفّروه مع الحكمين.
٣ ـ الخلافة يجب أن تكون باختيار حر بين المسلمين ، سواء كان المختار قرشيا أو عبدا حبشيا ، وليس من حقه أن يتنازل أو يحكم ، وعليه أن يخضع تماما لأوامر الدين ، وإلا وجب عزله.
٤ ـ العمل جزء من الإيمان ؛ لأن الإيمان تصديق وعمل ، ومن عصى الله ، يكون كافرا ، والذنوب كلها كبائر.
٥ ـ وجوب الخروج على الإمام الجائر ، ولا يقولون بالتّقيّة مثل الشيعة. ينظر الملل والنحل : ١ / ١١٤.
وقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧]. وقال : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧] وهذه مسألة طويلة مذكورة في علم الكلام.
قوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ) فيه أربعة وجوه :
أحدها : أن يكون نعتا ل «الفاسقين».
والثاني : أنّه منصوب على الذّمّ.
والثالث : أنّه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).
والرابع : أنّه خبر لمبتدأ محذوف أي : هم الفاسقون. والعهد (١) في كلامهم على (٢) معان :
منها الوصيّة والضّمان ، والاكتفاء ، والأمر.
و «من بعد» متعلّق ب «ينقضون» ، و «من» لابتداء الغاية ، وقيل : زائدة ، وليس بشيء. والضمير في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله تعالى ، فهو على الأوّل مصدر مضاف إلى المفعول ، وعلى الثّاني مضاف للفاعل.
و «الميثاق» العهد المؤكّد باليمين مفعال من الوثاقة والمعاهدة ، والجمع : المواثيق على الأصل ؛ لأن أصل ميثاق : موثاق ، صارت «الواو» «ياء» ؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدر ك «الميلاد» و «الميعاد» بمعنى الولادة ، والوعد ؛ وقال ابن عطية (٣) : هو اسم في وضع المصدر ؛ كقوله : [الوافر]
٣٣٩ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي |
|
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٤) |
أي : إعطائك ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمادة تدلّ على الشّدّ والرّبط ، وجمعه مواثيق ، ومياثق أيضا ، ومياثيق ؛ وأنشد ابن الأعرابيّ : [الطويل]
٣٤٠ ـ حمى لا يحلّ الدّهر إلّا بإذننا |
|
ولا نسأل الأقوام عهد المياثق (٥) |
__________________
(١) في أ : العمل.
(٢) في ب : في.
(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١١٣.
(٤) البيت للقطامي ينظر ديوانه : ص ٣٧ ، وتذكرة النحاة : ص ٤٥٦ ، وخزانة الأدب : ٨ / ١٣٦ ، ١٣٧ ، والدرر : ٣ / ٦٢ ، وشرح التصريح : ٢ / ٦٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٤٩ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٩٥ ، ولسان العرب (عطا) ، (رهف) ، ومعاهد التنصيص : ١ / ١٧٩ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥٠٥ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ٤١١ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٢١١ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٣٦ ، وشرح شذور الذهب : ص ٥٢٨ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤١٤ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٨٨ ، ٢ / ٩٥ ، والدر المصون : ١ / ١٦٨.
(٥) البيت لعياض بن درة الطائي ينظر لسان العرب (وثق) ؛ والمقاصد النحوية : ٤ / ٥٣٧ ، ونوادر أبي زيد : ـ
والموثق : الميثاق والمواثقة والمعاهدة ؛ ومنه قوله تعالى : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) [المائدة : ٧].
فصل في النقض
النقض إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد ، والرجوع به إلى الحالة الأولى.
والنقاضة : ما نقض من حبل الشعر ، والمناقضة في القول : أن يتكلّم بما يناقض معناه ، والنّقيضة في الشّعر ما ينقض به.
والنّقض : المنقوض ، واختلف النّاس في هذا العهد ، فقيل : هو الذي أخذه الله على بني آدم ـ عليهالسلام ـ حين استخرجهم من ظهره.
قال المتكلمون : «هذا ساقط» ؛ لأنّه ـ تعالى ـ لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به ، كما لا يؤاخذهم بالسّهو والنسيان وقيل : هو وصيّة الله ـ تعالى ـ إلى خلقه ، وأمره إياهم بها أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به ، وقيل : بل نصب الأدلّة على وحدانيته بالسموات ، والأرض ، وسائر الصنعة ، وهو بمنزلة العهد ، ونقضهم ترك النّظر في ذلك.
وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوّة محمد عليهالسلام ، ولا يكتموا أمره ، فالآية على هذا في أهل الكتاب.
وقال أبو إسحاق الزّجّاج : عهده جلّ وعزّ ما أخذه على النّبيين ومن تبعهم ، ألّا يكفروا بالنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ودليل ذلك : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) إلى قوله : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران : ٨١] أي : عهدي.
قوله : «ويقطعون» عطف على «ينقضون» فهي صلة أيضا ، و «ما» موصولة ، و (أَمَرَ اللهُ بِهِ) صلتها وعائدها.
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلّا عند أبي الحسن وابن السراج وهي مفعولة ب «يقطعون» والقطع معروف ، والمصدر ـ في الرّحم ـ القطيعة ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة ، مثل «همزة» ، وقطعت الحبل قطعا ، وقطعت النهر قطوعا ، وقطعت الطير قطوعا ، وقطاعا ، وقطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد.
وأصاب الناس قطعة : إذا قلت مياههم ، ورجل به قطع أي انبهار.
__________________
ـ ص ٦٥ ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق : ص ١٣٨ ، والخصائص : ٣ / ١٥٧ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٧١٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ١ / ٢١٠ ، وشرح شواهد الشافية : ص ٩٥ ، وشرح المفصل : ٥ / ١٢٢ ، الدر المصون : ١ / ١٦٩.
قوله : (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) «ما» في موضع نصب ب «يقطعون» و «أن يوصل» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الجر على البدل من الضمير في «به» أي ما أمر الله بوصله ؛ كقول امرىء القيس : [الطويل]
٣٤١ ـ أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص |
|
فتقصر عنها خطوة أو تبوص (١) |
أي : أمن نأيها.
والنصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ) بدل اشتمال.
والثاني : أنه مفعول من أجله ، فقدره المهدويّ : كراهية أن يوصل ، وقدره غيره : ألا يوصل.
والرفع على أنه خبر مبتدأ [مضمر](٢) أي : هو أن يوصل ، وهذا بعيدا جدا ، وإن كان أبو البقاء ذكره.
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل : صلة الأرحام ، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها ، وهو كقوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمد : ٢٢] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من القرابة ، وعلى هذا فالآية خاصة.
وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ، ولم يعملوا. وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم ، وتكذيب بعضهم. وقيل : الإشارة إلى دين الله ، وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده ، فهي عامة في كل ما أمر الله ـ تعالى ـ به أن يوصل ، هذا قول الجمهور.
وقيل : إن الله ـ تعالى ـ أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين ، فانقطعوا عن المؤمنين ، واتصلوا بالكفار.
وقيل : إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن ، وهم كانوا مشتغلين بذلك.
و «يفسدون» عطف على الصّلة أيضا ، و «في الأرض» متعلق به.
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم.
وقيل : يعبدون غير الله ، ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، ثم إنه ـ
__________________
(١) ينظر ديوانه : ص ١٧٧ ، ولسان العرب (قصر) ، (بوص) ، رصف المباني : ص ٤٣٥ ، الدر المصون : ١ / ١٦٩.
(٢) سقط في أ.
تعالى ـ أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خسر فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥٥] ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ) إذا جعل مبتدأ.
وإن لم يجعل مبتدأ ، فهي مستأنفة ، فلا محلّ لها حينئذ ، و «هم» زائدة ، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ ثان ، و «الخاسرون» خبره ، والثاني وخبره خبر الأول.
والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز.
والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره ؛ قال جرير : [الرجز]
٣٤٢ ـ إنّ سليطا في الخسار إنّه |
|
أولاد قوم خلقوا أقنّه (١) |
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
قال الجوهري : وخسرت الشيء بالفتح ـ وأخسرته نقصته.
والخسار والخسارة والخيسرى : الضّلال والهلاك. فقيل للهلاك : خاسر ؛ لأنه خسر نفسه ، وأهله يوم القيامة ، ومنع منزله من الجنّة.
فصل
قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أنّ الوفاء بالعهد والتزامه ، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه ، فلا يحل له نقضه ، سواء أكان بين مسلم أم غيره ، لذم الله ـ تعالى ـ من نقض عهده.
وقد قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] وقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] فنهاه عن الغدر ، وذلك لا يكون إلّا بنقض العهد ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٨)
اعلم أنه ـ تعالى ـ لما تكلّم في دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد شرع في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين. فالمراد بهذا الاستخبار التّبكيت والتعنيف.
قوله : «كيف» استفهام يسأل به عن الأحوال ، وبني لتضمنه معنى الهمزة ، وبني على أخف الحركات ، وكان سبيلها أن تكون ساكنة ؛ لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب.
__________________
(١) ينظر البيت في ديوانه : (٥٩٨) ، القرطبي : (١ / ٢٤٨) ، الطبري : (١ / ٤١٧) ، الدر المصون : (١ / ١٦٨).