السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤
كره.
وكل واحد من هذه الإحتمالات التي تقدم ذكرها يصح أن يكون مقصوداً من النداء ، كما يصح أن تكون كلها مقصودة منه ، ولم أعثر على نص يؤيد أحدها ، أو يعيِّن المقصود من النداء.
بيعة الشجرة
أمّا بيعة الشجرة : فهي البيعة التي أداها المؤمنون الذين خرجوا مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الحديبية ، وتسمى ـ أيضاً ـ بيعة الرضوان ، لقوله تعالى فيها : (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)(١) ، وقد سميت ببيعة الشجرة ـ كما أشارت الآية الكريمة ـ لأنَّها تمت تحت شجرة كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يجلس تحت ظلها عندما بايعه المسلمون على أن لا يفروا ، وفي بعض الروايات بايعوه على الموت.
وسببها أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عندما بلغ الحديبية في طريقه إلى مكة ، لغرض أداء العمرة في السنة السادسة للهجرة ، نزل فيها ، وأرسل عثمان بن عفان إلى مشركي مكة ، ليبلغهم أنَّ المسلمين يقصدون العمرة ، وقد ساقوا معهم الهدي ، فذهب عثمان إلى مكة ، فأبطأ ، فشاع خبر بين المسلمين أنَّه قتل ، فدعاهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى البيعة لمقاتلة المشركين إن تأكد النبأ ، فبايعوه ، ونداء العباس عليهالسلام : يا أهل بيعة الشجرة ، يذكر الذين حضروا بيعة الرضوان ، وبايعوا ، بعهدهم على عدم الفرار ، أو على الموت ـ على اختلاف الروايات ـ (٢).
__________________
(١) الفتح ٤٨ : ١٨.
(٢) راجع التفاصيل في : البداية والنهاية ٤ / ١٨٨ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٢٧٠ ، سيرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ٣ / ٧٧٤.
أمّا الإمام علي عليهالسلام فقد كان أول من ثبت مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقاتل بين يديه قتالاً حوَّل الهزيمة إلى نصر ، فهو الرجل الذي لم يخذله فرار من فرَّ ، بل زاده عزماً ، وشوقاً لنيل إحدى الحسنيين ، فتقدم نحو حامل لواء هوازن ، وهو رجل شجاع طويل القامة ، بيده رمح طويل شدَّ به اللواء ، يركب على جمل أحمر ، وكان يدعى : (أبا جرول) ، وكان يطعن بالرمح ، ثم يرفعه للمشركين ليلحقوا به ، ويشدوا على المسلمين ، فصمد الإمام علي عليهالسلام لأبي جرول ، وأرداه صريعاً ، فسقط بمصرعه لواء المشركين ، وتشتت جمعهم.
فحمل الإمام علي عليهالسلام بمن ثبت معه من بني هاشم ، ومن عادوا من الفرار ، ولحقوا به ، فالتأم جمع المسلمين ، وفرَّ المشركون ، وحلت بهم الهزيمة ، وراح المسلمون يطاردونهم ، يقتلون ، ويأسرون ، ويغنمون ، وتحقق هذا النصر بفضل الإمام علي عليهالسلام ، ومن ثبت معه ، بموقفه البطولي الذي حوَّل هزيمة المسلمين إلى نصر ساحق ، وقد تكفل ضرب وجوه الأعداء بسيفه ، ليصدهم عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبذلك كفى الفارين مؤونة القتال ، وتكفل دونهم معونة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في أحرج الأوقات وأشدها صعوبة.
لقد عاد المسلمون إلى ساحة القتال ، والتحقوا بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد فوات الأوان ، فكانوا في يأس من نيل الثواب الذي يأمل المؤمن حصوله من الجهاد ، والثبات أمام زحف العدو ، وقد ارتكبوا الفرار الذي هو من كبائر الذنوب ، وهم يعلمون أنَّ جزاء من ارتكبه الخسران والذل في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة.
ولكن الله عزوجل بلطفه ورحمته ورأفته بالمؤمنين ، وعدهم التوبة من بعد ذلك على من يشاء.
ويفهم من الآية الكريمة أنَّ التوبة لا تشمل الجميع ، وعلة ذلك واضحة ، فمن
شروط التوبة سلامة العقيدة ، والإتجاه إلى الله تعالى بنيَّة صادقة ، والندم على ما صدر من تفريط ، والتصميم على عدم العودة إلى الذنب الذي يراد التوبة منه ، وهذا ما لم يتوفر لكثير منهم.
والثبات أمام جيش تعداده عشرون ألفا ، وقد فرَّ الناس من هول الموقف ، والصمود في مثل تلك الظروف لا يتأتى إلّا بالصبر والإيمان الراسخ ، وإذا كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أشجع البشر ، وقد أحاط به من بني هاشم جماعة يشد بعضهم أزر بعض في الدفاع عنه ، وحفظه من كل سوء ، فقد كان للإمام علي عليهالسلام شأن آخر انفرد به عنهم ، إذ تقدم بين يدي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يهاجم تلك الآلاف ، ويدفعها عنه ، حتى تحقق النصر بصبره وثباته ، بشكل ليس له نظير في تاريخ البطولات ، وفي خوض غمار الحروب ، وبذلك فاز بعظيم الأجر.
واقعة خيبر (١)
«ويوم خيبر إذ أظهر الله خور المنافقين ، وقطع دابر الكافرين ، والحمد لله رب العالمين * (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّـهِ مَسْئُولًا)(٢) *» :
اللغة : الخِوَر : خار الرجل يخور : ضعف وانكسر.
الأدبار : الدبر : الظهر (٣).
خيبر : مدينة تتكون من مجموعة من الواحات ، ذات قلاع وحصون منيعة. تقع إلى الشمال من المدينة المنورة ، كانت مسكناً لليهود ، غزاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إثر مؤامرات اليهود على المسلمين ، وتواطئهم مع المشركين ضد المسلمين ، وذلك بعد عودته من الحديبية ، في شهر صفر من العام السابع للهجرة ، وخرج من الصحابة لغزوها أربعمائة وألف ، منهم مائتا فارس.
نزل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمن معه خيبر ، وأخذ يستولي على حصونها وقلاعها ، فهجر اليهود القلاع والحصون ، واجتمعوا في حصن منيع من حصونها ، له باب كبير يعسر
__________________
(١) باختصار وتصرف عن : الإرشاد ٥٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٣٠٤ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٨٣ سيرة النبي (ص) ٣ / ٨٠٣ ، فضائل الخمسة ٢ / ١٦١.
(٢) الأحزاب ٣٣ : ١٥.
(٣) الصحاح.
فتحه ، وأخذوا يدافعون عن أنفسهم وأموالهم التي جمعوها في ذلك الحصن.
وبعد حصار دام عشرين ليلة ، أرسل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كتيبة لفتح الحصن ، أمَّر عليها أبا بكر ، وأعطاه الراية ، فذهبت الكتيبة ، ولكنها لم تستطع خرق مقاومة اليهود ، ولم تثبت أمامهم بل انكشفت عنهم ، وعاد هو وأصحابه منهزمين ، وقد أصابهم جهد كبير من حملتهم الخاسرة.
وفي اليوم التالي أرسل كتيبة أخرى ، أمَّر عليها عمر ، وأعطاه الراية ، وذهبت الكتيبة ، ولم تحقق شيئاً ، بل انكشفوا أمام العدو ، وعادوا منهزمين ، يجبِّنهم ويجبِّنونه ـ على حد تعبير الرواة ـ وقد أصابهم جهد كبير.
ويفهم من قول الإمام علي الهادي عليهالسلام في الزيارة : «إذ أظهر الله خور المنافقين» وجود المنافقين في هاتين الحملتين ، فظهر ضعفهم ، وانهاروا أمام العدو ، فانكشفوا فارين من الزحف ، مستغلين ضعف القائد ، وعدم كفاءته.
إنَّ فرار هاتين الحملتين أزعج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأغضبه ، فخطب بالمسلمين ، وقال في آخر خطبته : «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، يفتح الله على يديه» فسرَّ قوله المؤمنين ، وأيقنوا أنَّ الفتح سيتم يوم غدٍ بوعده.
وفي اليوم الثاني تطاول بعض الصحابة ، كلٌّ يرجو أن يعطى الراية ، ليكون الفتح على يده ، وليحظى بحب الله ورسوله ، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم طلب الإمام علياً عليهالسلام ليكلفه بهذه المهمة ، وكان في عينيه رمد ، فجيء به ، فتفل في يده ، ومسح بها عينيه ، فبرأتا ، ودعا له ، فقال : «اللهم أذهب عنه أذى الحر والبرد». ثمَّ أعطاه الراية ، وقال له : «إذهب ، فقاتل حتى يفتح الله عليك ، ولا تلتفت». فسار عليهالسلام بالراية ، ثمَّ وقف ، ولم يلتفت ، وقال : «يا رسول الله اُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟».
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنفذ على رسلك ، حتى تنزل بساحتهم ، فادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما كتب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم». ثمَّ أنفذ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين خلفه ، فخرجوا للقتال ، ولم يكتمل وصولهم حتى تمَّ الفتح لمن وصل منهم.
تقدم الإمام علي عليهالسلام نحو حصنهم ، فبرز له مرحب ، وهو يرتجز :
قد علمت خيبر إني مرحب |
|
شاكي السلاح بطل مجرب |
أطعن أحيانا وحينا أضرب |
|
إذا الليوث أقبلت تلهب |
فأجابه الإمام علي عليهالسلام مرتجزاً :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة |
|
أكيلكم بالسيف كيل السندرة |
كليث غابات شديد القسورة
فتبارز هو والإمام علي عليهالسلام ، واختلفا ضربتين ، فطرحت ضربته ترس الإمام علي عليهالسلام من يده ، بينما وقعت ضربة الإمام علي عليهالسلام على هامته ، ففلقت البيضة والمغفر ، وفلقت هامته ، ووصل السيف إلى أضراسه ، ثم قلع عليهالسلام باب الحصن فتترس به ، وهجم هو والمسلمون على اليهود في حصنهم بعد أن وضع باب الحصن على الخندق الذي يحيط به ، وعبر عليه المسلمون ، فحلت الهزيمة باليهود ، واستولى المسلمون على الحصن وما به ، وجاءوا بالنساء سبايا ، فاصطفى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منهن صفية بنت حيي ، وصالحه اليهود على أن يتركوا جميع أموالهم وحصونهم ، وينزحوا.
تمَّ القضاء على آخر مقاومة لليهود بفتح خيبر ، ولم يستطع اليهود بعدها من التحريض على المسلمين ، وكانت تلك آخر حملة عليهم ، ولم يبق منهم غير أهل فدك ، فدخلهم الرعب ، وخافوا أن يكون مصيرهم مصير يهود خيبر ، ومصير من
نكث قبلهم العهد ، وحرضوا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين من اليهود ، فجاءوه ، وصالحوه على دفع أموالهم ، والنزوح عن المدينة المنورة بدون قتال خشية التعرض للغزو.
أما الآية الكريمة التي استشهد بها الإمام الهادي عليهالسلام في الزيارة وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّـهِ مَسْئُولًا). فإنها نزلت في غزوة الأحزاب تندد بمن كانوا يستأذنون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليبرروا فرارهم ، والعهد المقصود بالآية هو ما يلزم المؤمن به نفسه عند اعتناقه للدين الإسلامي الحنيف ، من تطبيق الأحكام وهي التي تتضمن الجهاد ، وعدم الفرار من الزحف.
وللآية معنىً عام لا يخصصه مورد نزولها ، فيصح الإستشهاد بها لكل مورد مشابه ، والإستشهاد بها في الزيارة من هذا الباب ـ كما يفهم من السياق ، ويبدوا أن المقصود بالعهد ـ مضافاً لما تقدم ـ العهد الذي أعطوه في بيعة الرضوان تحت الشجرة بالحديبية ، وهو العهد الذي لم يمر على إبرامه سوى شهران ونصف تقريباً ، وكان أكثر من حضر خيبر قد حضر الحديبية ، وبايع بيعة الرضوان.
وعلى هذا فمن حضر منهم الحديبية فهو مسؤول عن عهده الذي عاهده فيها ، وهو تأكيد لعهده عند اعتناق الإسلام ، والذي يشاركه فيه سائر من حضر ممن لم يشهد الحديبية ، ولكنهم فروا من الزحف ، ولم يراعو كلا العهدين ، والله تعالى سائلهم عن ذلك يوم الجزاء ، ومحاسبهم عليه.
البرهان المنير
«مولاي أنت الحجة البالغة ، والمحجة الواضحة ، والنعمة السابغة ، والبرهان المنير ، فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضلٍ وتبّاً لشانئك ذي الجهل» :
اللغة : الحجة البرهان.
المحجة : جادة الطريق.
السابغة : شيء سابغ : أي كامل وافٍ ، وسبغت النعمة ، تسبغ (بالضم) ، سبوغاً : اتسعت. تبّاً : التباب : الخسران والهلاك ، وتقول : تبّاً لفلان ، تنصبه على المصدر بإضمار فعل : أي ألزمه الله هلاكاً وخسراناً (١).
الحجة البالغة : قد يراد بها التامة أو الواضحة ، وقد يراد بها المبلغ بها فهي بالغة لجميع من شمله التبليغ ، ويصح كلا الفرضين في الإمام علي عليهالسلام ، وقد تحدثنا في موضوع مستقل عن كونه حجة الله تعالى على العباد ، وأنَّ كونه حجة يثبت بخصائصه الشخصية ، كما يثبت بما صحَّ به النقل ، وقد بلّغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الأمة بكل ما يدل على كونه حجة ، فهو حجة تامة واضحة من حيث الدلالة ، ومن حمله علوم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من كتاب وسنة.
وهو الطريق الواضح الذي من أراد الوصول من المؤمنين إلى مفاهيم سليمة وصحيحة للشريعة ، خالية من كل شائبة ، لما فيها من أسس ، وأحكام ، وآداب ، فلابد له أن يسلك هذا الطريق ، وأن يسير بهدي من هو عيبة علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(١) الصحاح.
لا يفصح إلّا عنه ، ولا يقتدى إلّا به ، وهو الملاذ الآمن الذي دلّ الكتاب والسنة على عصمته ، وطهارته من كل رجس ، فلا يتصور أن يصدر منه ذنب ، أو خطأ ، لا عمداً ، ولا سهواً ، وهو الذي جسَّد أحكام الإسلام ، وآدابه في سلوكه ، وفي أوامره ، ونواهيه ، مترجماً إياها بالعمل الصالح الجاد ، والتطبيق المبتني على التقوى ، وبذلك يكون الجادة التي لا يضل من سلكها ، واستنار بهديها.
ومن البديهي أنَّ إرسال الرسل ، ونصبهم الأوصياء بأمر من الله عزوجل ليقوموا بتوجيه البشر بعدهم ، وليؤدوا عن الرسل ما جاءوا به ، بقدر ما هو حجة لله عزوجل على عباده ، فهو لطف بهم ، ونعمة أسبغها عليهم ، لينالوا بها خير الدنيا والآخرة ، لأنَّه يصلح لهم بهذه الوسيلة شؤونهم ، ويرشدهم لما فيه خيرهم.
والإمام علي عليهالسلام نعمة تامة ، لا تشبهها نعمة من النعم ، ومن دراسة سيرته العطرة يتضح لنا ذلك ، فهي تعكس لنا ما تقدمه من دروس وعبر ، وما خلّف من عطاء ثر للإنسانية على اختلاف مللها ونحلها ؛ لذا نرى المفكرين من مختلف الأديان والأهواء يتدارسون سيرته العطرة ؛ لينهلوا من نمير معينها العذب ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وكلما تقدم مفكروا الأمم ، وارتقوا فكرياً ، ازدادت معرفتهم بشخصيته ، مستفيدين من اتساع آفاقهم الفكرية للإستزادة من التراث الفكري الذي خلفه ، واستقامته في سيرته ، ومنهاجه في الحياة.
عرفنا من البحوث السابقة أنَّ الأدلة على عصمة الإمام علي عليهالسلام أدلة قطعية ثابتة ، من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وأنَّ سيرته أيدت ما ثبت بالأدلة ، وأنَّ خصائصه الفريدة تدل بوضوح على أنَّه تالي الرسول المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم في الفضل ، والتقوى ، والعلم ، والعمل ، والجهاد ، وهو بذلك الرجل الذي ينبغي أن يخلفه ، ولا مجال للشك في أحقيته لهذا المنصب.
والإمام علي عليهالسلام هو معجزة الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم الخالدة ؛ لأنَّه تربى في حجره ، وترعرع في كنفه ، واكتسب منه علومه وآدابه ، فهو البرهان المنير على عظمة الرسالة التي ربته ، وأفصح عنها من علومه ما ملأ الآفاق ، وهو البرهان المنير بسيرته وخصائصه على أحقيته للخلافة.
أوتي الإمام علي عليه السلا من الفضل ما لم يبلغه أحد من العالمين ، الفضل الذي لم يترك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فرصة إلّا نوه به ، وأشار إليه ، حتى سارت به الركبان ، وتعذر على الحاقدين طمس معالمه ، وقد نزل به الذكر الحكيم ، وشهد به الملائكة المقربون ، ولا شك أنَّ الله عزوجل يلزم مبغضه الخسران والهلاك ؛ لأنَّه يبغض سيد أوليائه بدون مبرر ؛ ولأنَّ الإمام علياً عليهالسلام مبعث فخر واعتزاز للبشرية جمعاء في مختلف عصورها ، وهو يستحق منها الحب والمودة والوفاء ، ومن أبغضه ضيَّع نصيبه من اكتساب الفضل بمعرفة حقه ، والسير على هديه في الدنيا ، كما حخسر ببغضه إياه ما أعده الله تعالى لمحبي أوليائه من الجزاء الجميل ، وأقحم نفسه فيما أعده لمبغضي أوليائه ، ومن نصب لهم العداء من العذاب.
المؤهل للإمارة
«شَهِدْتَ مع النبي جميع حروبه ومغازيه ، تحمل الراية أمامه ، وتضرب بالسيف قدّامه ، ثمَّ لحزمك المشهور ، وبصيرتك في الأمور ، أمَّرك في المواطن ، ولم يكن عليك أمير» :
اللغة : الرايَة : العَلَم الكبير ، واللواء أصغر منه ، والراية هي التي يتولاها صاحب الحرب ، ويقاتل عليها ، وإليها تميل المقاتلة (١).
حامل راية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
يجمع المؤرخون ، وكُتّاب السير على أنَّ الإمام علياً عليهالسلام حضر مع النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم جميع حروبه ومغازيه ، لم يختلف عنه في واحدة منها ، وغزوة تبوك هي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها معه ، وكان قد خلفه فيها على المدينة لمصالح اقتضت ذلك ، وقال له : «لابد أن أقيم ، أو تقيم» ، وقد مرَّ بيان ذلك في الكلام على حديث المنزلة (٢).
وكان الإمام علي عليهالسلام يحمل راية المهاجرين ، وهي راية النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم في جميع الحروب التي شهدها معه ، أما اللواء فكان مع مصعب بن عمير في (بدر) وفي (اُحد) ، وبعد استشهاد مصعب في اُحد ، دفع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اللواء إلى الإمام
__________________
(١) مجمع البحرين.
(٢) راجع ص ٢٣٩ من هذا الكتاب ، وكتاب : (حديث المنزلة) للمؤلف.
علي عليهالسلام ، فجمع له الراية واللواء ، وقد تحدثنا عن مواقف الإمام علي عليهالسلام في ميادين الجهاد ، وبلائه الحسن في الذب عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لم يتردد ، ولم يتلكّأ عند مبارزة الأقران ، بل كانت مواقفه حاسمة لا تمهل الأعداء ، ولا تمنحهم فرصة للتحرك ، يرمي نفسه في لهوات الحرب ، غير مبال بما يصيبه من ألم وأذى من أجل أن يحرز النصر للإسلام.
وسيرة الإمام علي عليهالسلام تدل على أنَّه كان حازماً ، لا يثنيه عن حزمه شيء ، ما دام ملتزماً بتقوى الله تعالى ، وطاعته ، لا يعرف الكسل ، أو الملل ، بل يمضي بما عهد به إليه ، وبما يلزمه به الشرع المقدس ، ويقترن هذا الحزم ببصيرة نافذة في الأمور التي يلتزم تنفيذها ، يتصرف بفكر ثاقب ، ورأي صائب ، يحيط بما يريد عمله ، ويتمتع بأعلى درجات حسن التقدير ، والنظر إلى العواقب والنتائج ، يتضح ذلك لمن تتبع سيرته التي تميزت بكفائته.
الأمير في كل المواطن :
والنبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم هو أعرف الناس بصنوه المرتضى عليهالسلام ، كان يختاره لكل مهمة عسيرة ، وكل أمر جسيم ، فيعهد به إليه ، لما يعرف من كفاءته ، وحسن تصرفه ، وما يتحلى به من صبر ، وتعقل ، وروية ، وحزم ، وإمضاء عزم ، في حل المعضلات.
ومن تتبع كتب التأريخ والسيرة يتضح بجلاء أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقدِّمه للإمارة دائماً ، وتحت إمرته شيوخ المهاجرين : كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ... وغيرهم ، ولم يثبت بالنقل الصحيح أنَّه اُرسل في سرية أو بعثٍ ، وكان فيها مأموراً ، والأمير غيره من الصحابة.
والشيعة ـ اقتداءً بأهل البيت عليهمالسلام ـ اعتبروا هذا التصرف من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دليلاً عملياً من أدلة إمامته ، وتقديمه للخلافة بعده ؛ لأنَّ سيرة العقلاء جارية على تقديم الأفضل ، والأكثر كفاءة ؛ ولأنَّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يصدر في جميع تصرفاته عن أمر الله تعالى ، بدون أي أثر للعاطفة وما شاكلها من المؤثرات التي يصدر عنها الناس عادة في تصرفاتهم ، فاعتبروا ذلك سنة عملية ، وبه دعموا غيره من الأدلة العقلية ، والأدلة النقلية ، التي اقتبسوها من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة.
والدلالة على أحقيته عليهالسلام للخلافة بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واضحة من هذه السنة العملية ؛ فمن تكرر اختياره للإمارة ، ولم يؤمَّر عليه أحد ، أحق بالخلافة ممّن كان دوماً تحت إمرته ، وإمرة غيره ، والمسلمون يُجمعون على أنَّ السيرة العملية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم سنة ، يجب الأخذ بها ، وقد استدل بعض علماء السنة بما نقل من استدلال عمر يوم السقيفة ، من أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قدم أبا بكر للصلاة بالمسلمين ، ولما كان قد رضيه لأمور دينهم ، فهو يصلح للتقديم لأمور دنياهم ، على أنَّ تقديم أبي بكر للصلاة أمر تدور حوله الشكوك ، والتحقيق يدل على أنَّه لم يكن بأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بدليل خروجه إلى الصلاة على ما به من ضعف ومرض ، لينحي عنها أبا بكر ، ويقيمها بنفسه ، على أنَّ إمامة الصلاة يشترط بها عند السنة صحة القراءة فقط ، ويضيف الشيعة شرط العدالة ، وكلا هذين الشرطين لا يقتضيان الصلاحية للولاية ، إذا لم تتحقق لها الشروط الأخرى.
سياسة علي عليهالسلام تقواه
«كم من أمر صدَّك عن إمضاء عزمك فيه التقى ، واتبع غيرك في مثله الهوى ، فظن الجاهلون أنَّك عجزت عمّا إليه انتهى ، ضل والله الضان لذلك ، وما اهتدى ، ولقد أوضحت ما أشكل من ذلك لمن توهم وامترى بقولك صلى الله عليك : قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ، ودونها حاجز من تقوى الله ، فيدعها رأي العين ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (١) ، صدقت وخسر المبطلون» :
اللغة : أشكل إلتبس. توهَّم : ظن. إمترى : ماريت الرجل ، اُماريه ، مراءً : إذا جادلته ، والإمتراء في الشي : الشك فيه (٢).
حُوَّل (بتشديد الواو) : أي بصير بتحويل الأمور ، وهو حُوَّل قُلَّب ، وقولهم هو : حُوَّل قُلَّب : أي محتال بصير بتقليب الأمور (٣).
يَدَعُ : دَعْ ذا : أي اتركه ، وأصله : وَدَعَ ، يَدَعُ (٤).
__________________
(١) جاء في نهج البلاغة قوله (ع) : (قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ، ودونه مانع من أمر الله ، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين) نهج البلاغة ١ / ٩٢ ويبدو أن هذا النص هو غير النص الذي ورد في الزيارة ، وأن كلاً منهما صدر في مناسبة خاصة به.
(٢) الصحاح.
(٣) لسان العرب.
(٤) الصحاح.
حريجة : المتحرِّج : الكاف عن الإثم (١).
يعتمد أغلب ساسة الدول وقادتها ومن يتولون الأمور في مختلف شؤون الحياة في التوصل إلى أهدافهم كل سبيل ، حتى لو توقف ذلك على ارتكاب كل ما ينافي المبادئ الإنسانية السامية ، والشرائع السماوية ، وهذا ما يعرف ـ اليوم ـ بمبدأ : (الغاية تبرر الوسيلة) ، وهو المبدأ الذي تنتهك به كل الحرمات ، وتعاني منه الشعوب آلام الظلم والحرمان ، لتتحقق للمتسلطين أهواءهم بما يسلكون من طرق ملتوية ، ويخالفون السنن ، والقوانين ، والشرائع ، في سبيل التوصل إليها ، لمجرد اعتقادهم أو ادعائهم أنَّها تحقق لهم غاية مشروعة ، وهذه السيرة اعتمدها المتسلطون على مدى تاريخ البشرية ، وشواهدها أكثر من أن تحصى ، ولا زال العالم يشهد آثارها كل يوم.
إنَّ الإسلام يرفض هذا المبدأ رفضاً قاطعاً ؛ لأنَّه يخالف ما جاء به من أسس العدل والإنصاف ، فهو لا يبيح لولي الأمر أن يسير خلف هواه ، سالكاً أي طريق يحقق مصالحه الشخصية ، ونزواته الفردية ، بل لابد له أن يتقيد بالمثل الإنسانية السامية ، التي أقرها الإسلام ، فجعلها جزءً لا يتجزأ من تشريعاته ، وتعلمياته الأخلاقية ، والتقوى هي الأساس الذي يجب أن يعتمده ولي الأمر في جميع تصرفاته ، باعتبارها الأساس الذي يجب أن يعتمده ولي الأمر في جميع تصرفاته ، باعتبارها الأساس الذي يجب أن تبتني عليه تصرفات المؤمنين ، ولابد لولي الأمر أن يضحي من أجل إسعاد أمته ، ولا (يطلب النصر بالجور) ، ولا مصلحة في تحقق هدف يتوصل إليه بمعصية الله تعالى ، ومخالفة أوامره ، مهما كانت أهمية ذلك الهدف.
والإمام علي عليهالسلام هو تالي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والذي عرف باتباعه والسير على
__________________
(١) لسان العرب.
هديه ، والذي ثبتت عصمته ، لا يمكن أن يحيد عن الأسس والأحكام التي قررها الدين الحنيف قيد شعرة ، وقد حفل التأريخ بشواهد كثيرة على نبذه الأساليب والسبل التي لا تتفق مع مبادئه وأخلاقه ، وتحمله في ذلك النتائج التي يفرزها هذا السلوك حتى لو كانت غاية في القسوة ، وقد اشتهر عنه عليهالسلام ـ على سبيل المثال ـ موقفه مع معاوية في طريقه إلى صفين ، فلم يقابله بالمثل عندما أخذ شريعة الفرات من جيش معاوية ، بل سمح لهم أن يتزودوا من الماء ، وكانوا يريدون قتله وجيشه بالعطش.
الإمام علي عليهالسلام صاحب رسالة ، ورجل مبادئ ، لا يرضى لنفسه أن يكسب موقفاً على حساب دينه ، ولم يكن همّه بسط السيطرة وتوسيع السلطان فحسب ، بل كان همه الأكبر تطبيق أحكام الدين ، وبسط العدل ، وهداية الخلق ، بدعوتهم إلى الله عزوجل ، وتعليمهم أحكام الدين وآدابه ، وإلّا فما قيمة التوسع إذا كان على حساب الأخلاق ، والآداب ، والأحكام التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف.
لقد قارن الناس بين ما كان يجري في ظل حكومة الشام على يد معاوية ، وبين ما كان يجري في ظل الدولة الإسلامية على يد الإمام علي عليهالسلام ، وجعلوهما ضمن معادلة ذات طرفين ، وأخذ بعضهم يكيل الإنتقادات لما صدر عن الإمام علي عليهالسلام ، وكأنَّهم بذلك يريدون أن يجعلوا منه نظيراً لمعاوية في ما ارتكب ، ويأبى هو إلّا أن يكون نظيراً ومتبعاً للحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يطبق سيرته ، فاعتبر بعضهم سياسته غير رشيدة ، ولم تكن هذه الإعتراضات والإنتقادات وليدة زمن محدود ، بل واجهت الإمام علياً عليهالسلام في حياته ، واستمرت إلى يومنا هذا ، تجري بها ألسن الخطباء ، وأقلام الكتاب ، ومن هذه الإعتراضات :
١ ـ سياسته المالية : وهي التي تتمثل في تسويته بين الناس في العطاء ،
وتشدده في استرجاع ما نهبه بنو أمية وصنائعهم على عهد عثمان ، وعدم استرضائه الأشراف بالأموال ، وهؤلاء ملكوا الملايين مما استأثروا به أنفسهم ، أو وهب لهم بغير حق ، مما أفاءه الله تعالى على الفقراء والمحرومين.
٢ ـ تشدده عليهالسلام مع ولاته : لقد كان يختار للولاية ذوي الكفاءة ، ومن عرف بالأمانة ، والتقوى ، والصلاح ، ومع ذلك فلم يتركهم لشأنهم ، يتصرفون كيفما أرادوا ، بل كان يحملهم على التقيد بأسس الدين ، وأحكامه ، وآدابه ، ويحثهم على التقوى ، وكان يراقب أعمالهم مراقبة دقيقة مستمرة ، فإذا بلغه أنَّ أحدهم خالف ذلك ، حاسبه على قدر مخالفته ، وينال جزاءه بقدر ما تقتضيه مخالفته.
٣ ـ عدم إشراك طلحة والزبير في الحكم ، وقد طلبا منه ذلك قبل خروجهما عليه ، ونكثا بيعته ، وزعما أنَّهما إنَّما بايعاه على أن يشركهما في الحكم ، ولكنه عليهالسلام لم يولِّ أحداً منهما ، لما كان يعرفه من طمعهما بالولاية ، وعدم اطمئنانه إلى أنهما سيتورعان في التصرف بشؤونها.
هذه أهم الإعتراضات ، أذكرها على سبيل المثال ، ولست بصدد استقصاء جميع الإعتراضات.
أمّا معاوية الذي حاولوا أن يجعلوه ندّاً للإمام علي عليهالسلام ، فقد كان يهب الأموال الطائلة لغرض شراء الضمائر ، ويفضِّل في العطاء الأشراف لاستمالتهم ، وكسب ودِّهم ، ويولي على الناس الأشداء ، والأشرار ، ويترك لهم الأمر ، ليتصرفوا حسب ما تمليه أهواؤهم ، ولا يسمع فيهم شكوى أحدٍ من الناس ، بل يحملهم على إخضاع الناس بالقوة والإكراه ، فيرهبون الناس ، وينتقمون منهم بمباركته ، ومن أجل توطيد ملكه ، وسلطانه ، فولّى عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ليتخلص من شغبهما ، ويكسب تأييدهما لسلطانه.