الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

ليست النار يوم القرار شيئا جديدا ، إنما هي النار التي أوقدوها بما عملوا من قبل «واليوم يجزون عذاب الهون بما كانوا يعملون».

الخالدون في النار والجنة :

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) :

.. آية فريدة في نوعها تقرر أمد الخلود المؤبد للذين يخلدهم الله في النار آبدين ، ومنهم المذكورون هنا : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) طاغون طغوا على الله وطغوا على أنبياء الله ، وطغوا على سائر عباد الله ، عاشوا الطغيان حياتهم دون إبقاء وإن كانوا هم أيضا درجات. وليس فوق الأبد من عذاب النار عذاب ، وهو للذين كفروا وظلموا وصدوا عن سبيل الله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٤ : ١٦٧ ـ ١٦٩) (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤٣ : ٦٤ ـ ٦٥) ولمن يعصي الله ورسوله عصيانا عقديا وعمليا : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٧٢ : ٢٠ ـ ٢٣).

هذه جماع الآيات في أبد الخلود ، من عامة في الكافرين ، ومن خاصة في الظالمين منهم والمكذبين بآيات الله ، الصادين عن سبيل الله ، وتجمعهم لفظة : «الطاغين» وهم الناكرون لوجود الله أو المشركون به ـ المنكرون للقيامة المكذبون به ، والصادون الظالمون .. أولئك هم المؤبدون في النار : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) على سواء في طول أمد العذاب وهو الأبد ، وهم درجات في كيفية

٤١

العذاب : (جَزاءً وِفاقاً) يوافق قدر الكفر والجحود ، كما المؤمنون في الجنة درجات (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (٣ : ١٦٣).

فلنعرف إذا : ما هي الأحقاب وما هو الجزاء الوفاق؟

الأحقاب : في غريب القرآن : «قيل هو جمع الحقب أي الدهر ، قيل : والحقبة ثمانون عاما وجمعها حقب ، والصحيح أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة».

أقول : وقد يؤيد : الدهر والزمن المبهم في الحقب حقب موسى عليه السّلام : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (١٨ : ٦٠) فلا يناسب إلا زمنا مبهما ، فلو كان على علم بزمن البلوغ ما كان يتردد بين الحقب ودونه من بلوغ المجمع ، والحقب والحقب بمعنى ، وقد تؤيده مجموعة أحاديث مروية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الكرام (ع).

فقد تذكر له معاني أخرى تحده بحدّ خاص كسنة أو سبعين أو أربعين أو بضع وثمانين وقد روي الأخيران عن النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

__________________

(١) الدر المنثور (٦ : ٢٠٨) أخرج البراز وابن مردوية والديلمي عن ابن عمر عن النبي (ص) قال : والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا ، والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم ألف سنة مما تعدون ، وأخرج ابن مردوية عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله (ص): الحقب أربعون سنة.

وقد تناسب الروايتان دهرا من الزمن ، فلكل كافر أحقاب من الخلود حسب كفره ، جزاء وفاقا ، أربعون عاما أو ثمانون أو .. وكما الأحقاب قد يفسر بثمانية ـ فيما روي عن الصادق (ع) قال : الأحقاب ثمانية أحقاب والحقب ثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون» (نور الثقلين ٥ : ٤٩٥ ح ٢٤).

وفي نور الثقلين (٥ : ٤٩٤ ح ٢٣) القمى بالإسناد إلى حمران بن أعين قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ، قال : هذه في الذين لا يخرجون من النار ، وفيه عن الباقر (ع) مثله.

والخروج من النار بعد مكوث الأحقاب يعني هنا خروج النار عن كيانها وفناءها بفناء أهلها ، فهو خروج عن الوجود ، وهذا هو معنى «لا يخرجون من النار» ، أي : خروجا مع بقاءها.

٤٢

ومهما يكن من شيء فالذي لا يريبه شك أن الحقب زمن محدود ، عرفناه أم جهلناه ، فجمعه أيضا محدود لا تتصور فيه اللانهاية الزمنية ، التي تدّعي للمكوث في النار ، إضافة إلى سائر المشاكل الدلالية والعقلية في المكوث اللانهائي الحقيقي في النار ، وإلى أن هذه اللانهاية في العذاب ليست جزءا وفاقا ، وكيف الوفاق بين العصيان المحدود والجزاء اللامحدود؟

وهنا في معنى خلود النار وواقعه أقوال عدة بين علماء الإسلام وسواهم ، لا يوافق النقل والعقل منها إلا فناء الآبدون في النار مع النار ، ثم لا نار ولا أهل نار (١).

__________________

(١) وهي ثمانية : ١) «كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد بإذن الله» ذهب إليه الخوارج والمعتزلة وطائفة من الشيعة الامامية.

٢) «أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم ثم تبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم الثانوية» ابن العربي في فصوص الحكم.

٣) «أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم قوم آخرون» (عن اليهود) كما ادعوه وأجابهم القرآن (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢ : ٨٠).

٤) «يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب» حكاه شيخ الإسلام.

٥) «تفنى النار بنفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن وما ثبت حدوثه استحال بقائه وأبديته» جهم بن صفوان وأتباعه دون فرق بين الجنة والنار.

٦) «تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادا لا يتحركون ولا يحسون بألم» أبو الهزيل العلاف إمام المعتزلة طردا لامتناع حوادث لا نهاية لها.

٧) «يفنيها ربها تبارك وتعالى ، فإنه جعل لها أمدا» ابن مسعود وأبو سعيد وعمرو و.. وهو القول المرضي لدينا على تفصيل تذكره.

٨) «يخرجون منها وينعمون بعد الخروج» ، عدة من الفلاسفة مثل الصدر والكاشاني وغيرهما.

٤٣

وفيما روي عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن حفيديه الصادق والباقر عليهما السلام تلميح وتصريح أن أبد النار محدود وإن طال الزمن.

وما يروى أن آية الأحقاب في الذين يخرجون من النار يتنافى وكونهم من المكذبين المنكرين للحساب الذين تصرح الآيات بأبديتهم في النار ، فهي إذا من المجعولات مع كونها معارضة برواية أخرى عن نفس الراوي (١).

الماكثون في النار .. المخلدون :

أدلة النقل والعقل والعدل تتناصر في استنكار اللانهاية الفلسفية في العذاب مهما كانت درجة الكفر والطغيان.

فالنقل ـ قرآنيا وفي السنة ـ لا يساعد الخلود اللانهائي في النار ، والمروي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه أجاب في السؤال عن الخلود في الجنة والنار : إنما خلّد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ما بقوا فالنيات تخلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال : على نيته (٢).

هذا الحديث مضروب عرض الحائط ، على وحدته ومعارضته القرآن : أن النية السوء لا تحقق الجزاء السوء ، فلا عقاب إلا على الكفر والعمل السوء : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٤ : ١٢٣) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

__________________

(١) نور الثقلين (٥ : ٤٩٥ ـ ٢٦) روى العياشي باسناده عن حمران قال : سألت أبا جعفر (ع) عن هذه الآية (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) فقال : هذه في الذين يخرجون من النار ، وروى الأحول مثله ويعارضه ما رواه حمران نفسه قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية قال : هذه في الذين لا يخرجون من النار.

أقول : ولعل النقل الأول خطأ بزيادة «لا» *.

(٢) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٩٢ ج ٣٤ عن علي بن ابراهيم القمي.

٤٤

(٢٧ : ٩٠) (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٢ : ١٦) .. ولأن العقوبة على النية السوء ظلم : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٦ : ٥٤) ثم هو إضافة إلى ذلك ليس جزاء وفاقا.

وأما اللانهاية في الثواب فهي رحمة من الله وفضل فوق العدل ، والواجب في العقاب هو العدل ، وفضله يتطلب إما الغفران أو تقليل العقاب ، عكس الثواب.

ثم نظرة عميقة في آيات الخلود ـ أبديا أم سواه ـ توضّح لنا أنها لا تعني اللانهاية في العذاب ، حيث اللغة والقرآن يتوافقان في أنّ الخلود محدود!

فاللغة تقول : «الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقائه على الحالة التي هو عليها ، وكلما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقاءها ثم استعير للمبقى دائما» (١).

والقرآن يصدق القسم الأول من معناه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٤ : ٥٦).

فلا يعني الخلود إلا طول المكوث ، أو أبد المكوث إذا كان أبديا ، ووصف الخلود بالأبد أحيانا ، وتركه أخرى ، يشهد أنه ليس المكوث الأبد ، وكما أن الأبد لا يعني اللانهاية الفلسفية ، وإنما البقاء طوال الحياة كما الآيات تشهد : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (٩ : ٨٤) (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (٢ : ٩٥) (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها)

__________________

(١) غريب القرآن للراغب ، وفي لسان العرب أن الخلود هو دوام البقاء في دار لا يخرج منها ، والإبطاء عن الشيء كما يقال : خلد : أبطأ عنه الشيب ، ويقال للرجل إذا بقي سواد رأسه ولحيته على كبره : إنه لمخلد ، وللذي يسقط أسنانه من الهرم : مخلد ، والخوالد الجبال والصخور لطول بقاءها بعد دروس الاطلال ، وأخلد الرجل بصاحبه إذا لزمه.

٤٥

(٥ : ٢٤) (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) (٩ : ٨٣) (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) (٩ : ١٠٨) فلا يعنى من الأبد هنا إلا مدى الحياة ، هذه حال الأبد فكيف الخلود؟

فهل يعقل أن الكافر ـ أي كافر ـ يزعم بقاءه على الأرض حيا لغير النهاية ، أو طوال عمر الأرض؟ : «ولكنه أخلد إلى الأرض (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٧ : ١٧٦) (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (١٠٤ : ٣).

فهل نكذّب القرآن هنا وهناك لكي نصدق زعم اللانهاية الفلسفية في الخلود ، دون أي سناد ، إلا شهرة سوقية متحللة عن أي برهان؟

فمن الخالدين في النار من يخرج منها بعد زمن طويل أو أطول حسب ما يستحقه من العذاب (١) ، ومنهم من يحبس فيه ويعذّب مدى الحياة المعبّر عنه بالخلود الأبد : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) (٣٥ : ٣٦) (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) (٢٢ : ٣١) (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (٤ : ١٢١) (.. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٤٣ : ٧٧).

فهؤلاء هم المؤبدون بدوام النار ثم يقضى عليهم مع النار ، فلا تبقى نار ولا أهل نار.

__________________

(١) كما في الآيات : ١٠ : ٥٢ و ٣٢ : ١٤ و ٤١ : ٢٨ و ٤ : ٩٣ و ٩ : ٦٣ و ٥٩ : ١٧ و ٢ : ٣٩ و ٨١ و ٢١٧ و ٢٥٧ و ٣ : ١١٦ و ٥ : ٨٠ و ٧ : ٣٦ و ٩ : ١٧ و ١٠ : ٢٧ و ١٣ : ٥ و ٢١ : ٩٩ و ٢٣ : ١٠٣ و ٤٣ : ٧٤ و ٥٨ : ١٧ و ٢ : ١٦٢ و ٣ : ٨٨ و ٩ : ٦٨ و ١٦ : ٢٩ و ٢٠ : ١٠١ و ٣٩ : ٧٢ و ٤٠ : ٧٦ و ٦٤ : ١٠ و ٩٦ : ٦.

وهذه هي موارد الخلود غير المؤبد ، إما لاختصاصها بغير الآبدين أو اعتبارا بجمعهم مع الآبدين ثم لا تجد أبد الخلود في النار إلا في ٤ : ١٦٩ و ٢٣ : ٦٥ و ٧٢ : ٢٣ و ٢ : ١٦٧.

٤٦

ولاختلاف أمد الخلود ترى فرقا من الكفار ينص على خلودهم بالأبد ، كالمشركين المكذبين الصادين عن سبيل الله ، وفرقا أخرى بالخلود دون الأبد ، كفساق المسلمين وأهل الكتاب غير المشركين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ..) (٩٨ : ٦ ـ ٧).

هنا ـ رغم تأبيد الخلود للمؤمنين ، لا يؤيده لأهل الكتاب والمشركين ، رعاية للأولين إذ لا يخلد أهل الكتاب أجمعين ، ثم آيات أخرى تخص الخلود الأبد بالمشركين ومن نحى منحاهم.

ولمحة أخرى لحد الخلود توحيها الآيات التي تحده ما دامت السماوات والأرض وبمشيئة الله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦ : ١٢٨) (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١١ : ١٠٥ ـ ١٠٧).

فإنها تقيّد وتحدّ الخلود بدوام السماوات والأرض مرة ، ثم بأقل منه حسب مشيته الله تعالى ـ أخرى.

وبعد هذه الدلالات القرآنية واللغوية لا نجد ما يعارضها دلالة على المكوث اللانهائي فلسفيا في النار ، لا كتابا ولا سنة ولا عقليا ، بل العقل حجة قاطعة على تزييف أسطورة اللانهاية في العذاب ، فهل تجد عاقلا مهما بلغ من الظلم والبربرية والوحشية والخشونة أن يحكم بعذاب اللانهاية على من عصاه طوال عمره؟ كلا! فغاية الأمر تعذيبه لزمن ثم إعدامه بالمرة ، فما ذا تظن إذا برب العالمين الذي سبقت رحمته غضبه ، وليس عذابه انتقاما ، وإنما جزاء وفاقا ناتجا عن ذات العمل ، إلى حيث يعتبر الجزاء نفس العمل : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٦ : ٥٤).

٤٧

ولأن العمل ـ أي عمل ـ محدود بطبيعة الحال ، زمنيا وفي كيانه وأثره ، فليكن الجزاء الذي لا يزيد عن العمل ـ بل هو نفس العمل بملكوته وذاته ـ ليكن ذلك الجزاء أيضا محدودا ومماثلا له في السوء : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٤٠ : ٤٠).

فهل يا ترى أن اللانهاية في عذاب الخالدين أبديا ـ أنها الجزاء المثل الوفاق ، وهل إنها هي العمل بذاته؟ فكيف بالإمكان عقليا جعل المحدود غير محدود ، وكيف بالإمكان في عدل الله تعالى أن يزيد على العمل السوء المحدود زيادة لا محدودة ولو أمكن عقليا؟ وكيف نسمح لأنفسنا كموحدين أن نظن هكذا ظلم وقساوة برب العالمين؟ إن هذا إلا افتراء على الله أن يخالف العقل والعدل والرحمة التي كتبها على نفسه ، وكتابه الدال على حدود العذاب.

إننا نصدق إمكانية اختلاف السيئة وعذابها في الزمن ، فلا اعتبار بالزمن ، فكم من عصيان في زمن قليل له من الأثر السوء ما لا يساويه إلا آلاف أضعافه من الزمن ، وكم من عصيان في زمن طويل يقل عن الأول بكثير ، فالحد الزمني ليس هو المقياس في حد العذاب ، وإنما الآثار هي المدار في الجزاء.

نحن نصدق هكذا اختلاف ولكننا نحيل الاختلاف بالنهاية في العصيان واللانهاية في العذاب ، إحالة بسناد العدل والعقل والنقل.

ثم لنفرض إمكانية اللانهاية في العذاب وأنها عدل توافق العقل ، فأين رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه؟ «ولذلك (الرحمة) خلقهم»!

من موانع المكوث اللانهاني في النار :

أنّ الرحمة هي المقصودة في الخلق مبدئيا دون الغضب ، ومن سبق الرحمة وأصالتها لا نهائيتها في الجنة للمؤمنين ، فليس الغضب المسقوق ـ العدل ـ هو اللانهاية ولو كان فلتقتض الرحمة للغصب أمدا ، فما كان بالرحمة وللرحمة فهو

٤٨

مقصود لذاته قصد الغايات ، وما كان من موجب الغضب فهو مقصود لغيره قصد الوسائل ، فالعذاب مسبوق مغلوب ، والرحمة سابقة غالبة ورحمته وسعت كل شيء دون غضبه ، فلتشمل أهل النار ، رحمة مكتوبة على الله للصالحين من عباده ، وأخرى راجحة للطالحين منهم : «ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين آمنوا وكانوا يتقون» فليعذب الآخرون دون استحقاقهم.

ثم النار إنما خلقت تخويفا للمؤمنين وتطهيرا للخاطئين أو تدميرا وإفناء لهم أخيرا ، فهي ـ إذا ـ طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في عالم التكليف ، فإن تطهرت منه هنا بالتوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفّرة ، لم تحتج إلى تطهير هناك في عالم الحساب ، وقيل لها في جملة الطيبين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، وإن لم تتطهر هنا ووافت البرزخ بدرنها أدخلت نار البرزخ طهرة لها ، وإن بقيت دنسة لم تتحلل عن كامل خبثها دخلت نار الآخرة وعذّبت لحد الطهارة ، فإن الدرن الناتج عن العصيان له حد أيا كان ، وفيما إذا أصبحت النفس درنا لا يزول فمقتضى العدل أو الفضل والرحمة ، إفناءها بنارها ، إذ ليست العقوبة إلا للتطهير ولم يحصل ، أو للفرق بين المسلمين والمجرمين وقد حصل : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٦٨ : ٣٥) (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣٢ : ١٨) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٧ ـ ٢٨).

ويكفي فرقا بين الفريقين عقوبة الفجار لحد ما ، جزاء وفاقا ، حيث يحرمون الرحمة زمن العقوبة ، ثم ليست مواصلة العذاب لغير النهاية ضرورة أو رجحانا تنتج الفرق بين الفريقين ـ اللهم إلا عبثا وظلما ـ تعالى الله عنهما علوا كبيرا.

٤٩

٣ ـ إن الله تعالى لم يك يعامل الخلق إلا بفضله دون عدله ، فالجنة الخالدة اللانهائية للصالحين ليست إلا من فضله ، إذ هم لم يعملوا الصالحات إلا لصالحهم دون استحقاق للجزاء إلا فضلا وإحسانا من الله في أصل الجنة وخلودها اللانهائي.

ونرى أنه يجازي بالحسنة عشرا وأعشارا ويزيد ، ولا يجازي على السيئة إلا مثلها ويعفو عن كثير ، بتوبة أو شفاعة أو تكفير : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١ : ١١٤) (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠).

ولو أن الله عامل خلقه بعدله دون فضاء لم ينج أحد من عذابه أو لم يستحقوا رحمته.

٤ ـ إن العفو أحب إليه من الانتقام ـ لو كان العذاب انتقاما ـ وكما أمرنا بالعفو عمّن ظلمنا : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢ : ٢٣٧).

إذا فكيف لا يخفف عن أهل النار عذابهم اللانهائي ، لو كان هو الحق العدل؟! هذه مما يبرهن لنا فناء النار بأهلها ، وخروج غير الآبدين قبل استحقاقهم ، وكما يغفر المذنبين فضلا منه ورحمة.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. جَزاءً وِفاقاً) :

هناك حرمان من ذوق البرد والشراب إلا حميما وغساقا .. بدل البرد حميم ، وبدل الشراب غساق.

٥٠

فما هو البرد وما هو الشراب؟

البرد كل ما يبرد الجسم ـ ظاهره وباطنه ـ من هواء بارد ، وريح ناعمة ، وظل ظليل ، ومن ماء يغمسه أو يغسل به بدنه أو يشربه .. لا يذوقونه ذوقا ، في أيّ من هذه ، فضلا عن أن يستفيدوا منه بشرب أم سواه.

بردا يعم الشراب وسواه ـ (وَلا شَراباً) يبرد الباطن فيريح الظاهر ، شرابا ينوب البرد في التبريد ـ أيّ تبريد ـ لا يذوقونه فضلا عن شربه.

ليس للطاغين برد ولا شراب إلا حميم وغساق : الماء الساخن الذي يشوي الوجوه والخلوق والبطون : (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) .. فهذا هو بردهم ، والغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل ، ويغسق على الإنسان حياته كغسق الليل ، وهذا هو شرابهم : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١٨ : ٢٩).

جزاء وفاقا : إن جهنم المرصاد المآب ، ولبثها الأحقاب ، وعدم ذوق البرد ولا الشراب ، كل ذلك جزاء وفاق ، لا يزيد عما قدموا لأنفسهم أو قد ينقص.

٥١

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً. فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).

إن مهمة اعتناق عقيدة الحياة بعد الموت ، تنحو نحو الحساب ، وإذ لا تصديق بالحساب الحق فلا يجدي الاعتراف بالحياة الأخرى نفعا.

لذلك تركّز الآية على (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) وإن كانوا يرجون حياة أو لا يرجون ، فإن رجاء الحساب هو أقل ما يدفع الإنسان إلى الصالحات رجاء الثواب ، ويمنعه عن محارم الله رجاء العقاب (١) ، ثم فوقه الإيقان بالحساب ، والموقنون أيضا درجات.

هؤلاء الطاغون لم يكن الحساب عندهم حتى ولأدنى ما يجب ، أن يرجوا حساب الله الذي وعده وأكّد عليه .. كانوا يعيشون نكران الحساب ، فأخذوا حريتهم في حيونة الحياة كأنهم يعلمون ألّا حساب! ..

(كانُوا لا يَرْجُونَ) : لا يأملون ولا يخافون حسابا ، أي حساب ، قليلا ولا كثيرا ، فقد تركوا ما فيه أمل الثواب واقترفوا ما فيه خوف العقاب ، ولو أنهم أملوا الثواب لأقبلوا إلى الطاعات ، ولو أنهم خافوا العقاب لأدبروا عن موجبات العقاب ، ولكنهم كانوا لا يرجون حسابا أي حساب : رجاء الثواب أو خوف العقاب ، ثم وكذبوا بآيات الله الكذاب.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) : كذبوا بالآيات الآفاقية والأنفسية ، التكوينية والتشريعية ، إذ كذبوا بآيات الله الواقعية والعقلية والفطرية ، التي تدل على وجوده وتوحيده ، وكذبوا بآيات النبوات : معجزات الأنبياء ، فكذبوا الرسل وكذبوا بآيات الوحي في كتابات السماء ، ومن ضمنها كذبوا بآيات الحساب.

__________________

(١) الرجاء من اللغات المتضادة جاءت بمعنى الأمل والخوف وقد نعنيهما معا كما هنا.

٥٢

كذبوا بهذه الآيات الإلهية رغم أنها آيات : علامات قاطعة تدل على أنها إلهية ، لمن أبصر بها وتذرع لمعرفة ما وراءها ومعها من حقائق إلهية.

كذبوا بها كذابا : تكذيبا عجيبا في أصله وفي كيفيته ، في أصله أن كذبوا ما أحاطت به بينات الصدق ، وفي كيفيته أن كرّسوا كافة طاقاتهم وإمكانياتهم في تكذيبها ، فأصبح تكذيبهم عجبا على عجب : «كذابا» *! فجرس اللفظ يوحي بشدة التكذيب كما المعنى يسانده في جرسه .. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)!

كتب الأعمال الضوئية والصوتية :

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) :

الإحصاء هو الضبط أيا كان ، والكتاب هو المكتوب الثابت منه واقعيا ، فكل شيء : من أقوال وأعمال وأفكار ، أحصاه الله تعالى إحصائا كتابيا ، لئلا تذهب هدرا ، ولكي تبقى حجة تنطق على العاملين : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٥ ـ ١٦) فهذا كتاب في عمق الذات. يكتب الله تعالى على جوانح المكلفين وعلى جوارحهم صور الأعمال وأصوات الأقوال ـ الصادرة عنها ـ ويا له من كتاب لا سبيل إلى نكرانه ، لأن الله هو الذي استنسخ كل شيء في عنق الإنسان : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٨ ـ ٢٩) فهل يا ترى إن الاستنساخ الإلهي يكون عن أسماء الأعمال؟ فليس هذا استنساخا! إنما هو عن أصول الأعمال بصورها وأقوالها وأحوالها .. استنساخا في كتاب الذات وفي الأرض وجوّها ، وفيما لا نعلمه والله يعلمه.

هذه الأرض التي نعيش عليها هي كتاب آخر لأعمالنا وسوف (تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ).

٥٣

كتاب وكتب إلهية تضبط كل شيء دون مغادرة ولا مثقال ذرة : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٨) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠).

وكل شيء أحصيناه كتابا : إحصائا كتابيا في إمام مبين : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٣٦ : ١٢) وعلّه كتب الأعمال أو تشملها وما في اللوح المحفوظ .. كتب الأعمال : النفسية والأرضية ، وشهود الأعمال ملائكية ورسالية ورسولية .. شهود وشهود تشهد بالحق دون إمكانية النكران بحقهم ، فإنهم يشهدون علينا معنا : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٤ : ٢٥ ـ ٢٦).

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) : ذوقوا أعمالكم لا أقل ولا أكثر ، فنفس الأعمال بظهورها في حقائقها ، هي الجزاء لا سواها : و (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠) فلن نزيدكم باستدعاء الغفران إلا عذابا تستحقونه ، جزاء وفاقا ، إذ إنكم ما كنتم تزدادون ـ على ضوء الآيات البينات ـ إلا كذابا (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

فأصل العذاب بأصل الطغيان ، وازدياده بازدياده ، كل على حسبه ولا ظلم اليوم.

فهؤلاء هم الطاغون ، ثم ما هي حال المتقين؟ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ..).

* * *

٥٤

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠)

. لما كانت جهنم مرصادا ومآبا للطاغين ، دون انفلات منها ولا جواز عنها ، فإن المتقين ، الذين اتقوا وتحذروا عن الجحيم يوم الدنيا ، إن لهم هناك مفازا : ظفرا بالخير على سلامة في كيانهم من الشر : خيرا على خير يوم الآخرة ، كما كانوا خيرا على خير يوم الدنيا .. إنهم ينتهون إلى مفازة ومنجاة عن الجحيم إلى الجنة : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٦ : ١٦) (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) (٣٩ : ٦١) (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٤٨ : ٥) (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٠ : ٩) ، فالمفاز كيانه ازدواجية الخير : بعدا عن النار ودخولا في الجنة.

٥٥

مفازا روحانيا إلى جنة الرضوان : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١) .. ومفازا جسدانيا إلى جنة النعيم : (حَدائِقَ وَأَعْناباً. وَكَواعِبَ أَتْراباً. وَكَأْساً دِهاقاً) .. فائزين كلتا الجنتين : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥ : ٤٦ ـ ٤٧).

إن للمتقين مفازا ، يتمثل ـ جسدانيا ـ في أفضل المناظر : حدائق وأعنابا ـ وجنسيا ـ في أجمل البنات : وكواعب أترابا .. وجوا بعيدا عن كل أذى : لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا .. حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود.

حدائق ذات بهجة .. غلبا ، لا كغلب الدنيا وبهجتها فإنها مثال ضئيل عما في الجنة ، والحديقة قطعة من الأرض ذات ماء وكلاء ، محصورة بجدران وأبواب تحدق بها من أطرافها ، إيحاء إلى صلوحها للسكن دون فوضى ولا تدخل لغير صاحبها فيها ، مستورة عن الناظرين إليها.

حدائق تضم من كافة الأشجار والفواكه والوردان ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ومن أعمها نفعا ، وأتمها فائدة ، وأقواها غذاء ، وألذها طعما هي الأعناب.

(وَأَعْناباً) :

تستحق التخصيص بالذكر أكثر من كل الفواكه لجمعها فوائدها وزيادة .. تذكر في عشر مواضع دون سواها من الفواكه (١).

فهي شراب وإدام وطعام ودواء وفاكهة ، تأتي إلى السوق قبل الفواكه وتخرج بعدها ، ويابسها تحفظ خواص رطبها ، فهي مثال تام عن عالم الفواكه.

__________________

(١) كما في الآيات التالية : ٢ : ٢٦٦ ، ٦ : ٩٩ ، ١٣ : ٤ ، ١٦ : ١١ و ٦٧ ، ١٨ : ٣٢ ، ٢٣ : ١٩ ، ٣٦ : ٣٤ ، ٧٨ : ٣٢ ، ١٧ : ٩١ ، ٨٠ : ٢٨.

٥٦

(وَكَواعِبَ أَتْراباً) :

إن دور الجنس يأتي بعد مهمة المسكن والغذاء وإن كان قبلهما في الاندفاع ، إلا أنه ناقص ما لم تتم معداته ، وقد يجرف بالإنسان إلى شفا جرف الهلكات النفسية والاقتصادية إذا لم تكمل الظروف.

والكواعب جمع كاعب : هن الفتيات النواهد (١) : المستدارة ثديهن مع ارتفاع يسير ، والملتحمة أفخاذهن وصدورهن ووجوههن ، فلهن الكعاب المطلوبة في النساء في مختلف المواضع من أبدانهن.

والأتراب هي المماثلات المتوافيات السن والجمال مع لداتهن (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٢٨ : ٥٢) (عُرُباً أَتْراباً) (٥٦ : ٣٧) وعلّه مع أزواجهن أيضا : أترابا مع اللدات وأترابا مع الأزواج. في الكفاءة لا في العمر (٢).

إن الثدي الليمونجية ومماثلة اللدات جعلت هذه الفتيات كأجمل ما يتصور ، فكعب الثدي بداية لسن البلوغ ، وهي أفضل سنيّ التمتع ، وترب العمر والجمال يقضي على التفاضل والتفاخر بينهن ، وعلى التسابق والتحاسد في تخيرهن ، فقد زودت وزينت الجنة لأهلها بما لا يأتي بحرمان ولا نقصان أو عقد نفسية ، فهي دار التواسع لا التضايق ، رغم الحياة الدنيا التي هي دنيا مهما بلغت من السعة والجمال.

__________________

(١) كما عن الامام الباقر (ع) نور الثقلين ٥ : ٤٩٥ ح ٢٨.

(٢) وقد يستفاد من قوله تعالى :«إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً» أنه مماثلتهن مع لداتهن ، أو ومماثلتهن مع الأزواج في الكفائة ، وأما في العمر فالأمر فيه بالعكس كلما كانت الزوجة أصغر كانت ألذ.

٥٧

(وَكَأْساً دِهاقاً) :

هي الممتلئة المترعة المتتابعة (١) تقدّم إلى المتقين بأيدي الكواعب الأتراب.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) :

.. لا بصورة عامة إذ الجو جو الجد والصدق .. ولا عن الكأس الدهاق بما فيها الخمر ، فما هي إلا : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٦ ـ ٤٧) : لذة لأذواقهم ، ولذة لعقولهم وأرواحهم ، تزيدهم عقلا إذ ليس فيها غول «فساد» * ، ولا هم عنها ينزفون «لا يسكرون» فهي تجمع لذات الخمر وزيادة فوق الوصف ، وليس فيها غولها ونزفها ، لا جسدانيا ولا روحيا : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣).

فخمر الدنيا تخمر العقل وتستره عن إنارته ، وخمر الآخرة تخمر الجهل وتزيد العقل إنارة ، فهم يخمرون والهين في معرفة الله وحبه.

.. هذه مناعم محسوسة الظاهر مجهولة الحقيقة لأهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها المحدودة.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) :

إذا كان جهنم للطاغين جزاء وفاقا لا تزيد عما قدموا لأنفسهم ، فالجنة للمتقين أيضا جزاء ، ولكنها جزاء العطاء لا الجزاء الوفاق ، لو لا العطاء هنا لم يكن جزاء ، أو هكذا جزاء ، ونفس التعبير بالجزاء أيضا عطاء ، فما هو جزاء من عمل لصالحه في نضد الحياة ، دون أن يرجع لفائدة وعائدة لرب العالمين : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٩٢ : ١٩ ـ ٢٠).

__________________

(١) ابن عباس فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير ـ وهو المعنى الجامع لمعاني اللفظة.

٥٨

إنه ليس الجزاء للمتقين إلا بالوعد الإلهي عن فضل وعطاء ، لا العدل الذي هو الجزاء الوفاق ، ولكنه للطاغين جزاء وفاق كأكثر الجزاء ، اللهم إلا أن يشملهم بعض الغفران أو بعضهم.

عطاء حسابا : عطاء محسوبا كجزاء فضلا من الله وإحسانا ، وعطاء على حساب الوعد دون الاستحقاق ، وعطاء وفق الحساب ، فلكل عطاء حساب ، لأن المتقين درجات ، وحساب البعض منهم هو الرزق بلا حساب (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) : لا يدخل تحت حسابنا وإن كان عند الله مقدرا معلوما.

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «.. حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً)(١).

إن جزاء الطاغين جزاء وفاق لم ينسب إلى الرب : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً. لِلطَّاغِينَ مَآباً) ، ولأنه ليس انتقاما ، وإنما ظهور لحقائق الطغيان ، فالجزاء هو الأعمال ، منهم لا من ربك (جَزاءً وِفاقاً).

لكنما جزاء المتقين هو من ربك جزاء العطاء ، لو لا فضل الربوبية ووعد العطاء لم يكن لهم ذلك الجزاء ، ولكنه الرب المعطي يعطي الجزاء العطاء الحساب (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً).

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) :

ربك .. رب السماوات : لو لم يكن ربك لما كان رب السماوات ، فإذ قدّر

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٩٥ ح ٢٩ ، أمالى الطوسي باسناده إليه (ع) في حديث طويل.

٥٩

أن يكون ربك ، قدر أن يكون رب السماوات أيضا ، وكما قال : «لولاك لما خلقت الأفلاك» : إن ربك طوى فيك ما طواه من خيرات في الأرض والسماوات وما بينهما ، وفيك مزيد ، تستحق به أن تكون غاية لخلق الكون.

ربك رب السماوات ، دون أن تكون للسماوات والأرض أرباب سواه زعم المشركين ، ولك رب تزعمه! انما هو رب واحد لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) : بالرحمة العامة الشاملة لكائنات العالم ، وربك : بالرحمة الرحيمية الخاصة للصالحين من خلقه ، وأنت مجمع الرحمتين : الرحيمية برسالتك المحمدية العظمي ، والرحمانية بما أودع فيك ما في الكائنات كلها.

«الرحمان» : ومن رحمته الثواب وكذلك العقاب ، فمن الرحمة أن يجد الشر جزائه ، وألّا يتساوى مع الخير في مصيره ، كما من العذاب مساواة المصير.

(الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) : رحمة يصاحبها الجلال والهيبة في ذلك اليوم المهيب الرهيب ، يغمر الجو بالروعة والجلال والرهبة والوقار.

(لا يَمْلِكُونَ) : الكائنون في المحشر كلهم ، من الملائكة والروح والإنس والجن ، الصالحون منهم والطالحون.

(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) : لا خطابا يخاطبوه به فيما فعل أو يفعل بحق المؤمنين والمجرمين ، ف (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢١ : ٢٣).

ولا خطابا يطلبون به منه شفاعة وغفرانا أو مزيدا أو نقصانا (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٢٠ : ١٠٩) (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (١٩ : ٨٧).

٦٠