الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

فما لم يكن ضعيفا في نفسه لا يستضعف في دينه ، بل يتبلور إيمانه مهما استضعف إلّا الضعيف القاصر غير المقصر.

إن الضعفاء المقصرين تنازلوا عن كرامات الله وتغافلوا عن كرامة الإنسانية المستقلة الحرة المختارة ، وانساقوا انسياق الشياة وراء المستكبرين والطغاة ، ولم يسمحوا لأنفسهم أن يقولوا «لا» اللهم إلّا بلى في كل بلاء لعناء أوردوهم فيها ، ولا سمحوا أن يفكروا في هذه الحياة الرذيلة الهزيلة ، زاعمين أن المستكبرين يغنون عنهم في الأخرى كما أغنوا ـ فيما خيّل إليهم ـ في الأولى ، فجاء الجواب حاسما لأوهامهم (إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) لا محين إلى استحالة في هدى الله إذ لم يكونوا من أهلها ، ولكن أضلنا الله فأضللناكم!.

وفي محاجة أخرى (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ، قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣٧ : ٢٩) فقد كنتم ضعفاء في أصل الإيمان فاستغللناكم باستضعاف على ضعفكم ظلمات بعضها فوق بعض.

(إِنَّا كُلٌّ فِيها) فانّ كلنا ضعاف لا نقدر على شيء ، فلا نجد لنا نصيرا ولا مصيرا إلّا النار ولا يغنينا عنها شيء إلّا البوار ، هنا ييأس الضعفاء عن الكبراء فينعطفون إلى خزنة جهنم :

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)(٥٠).

(الَّذِينَ فِي النَّارِ) في نفسها تعم الخالدين والآبدين وغيرهما ، وتخفيف

٤٦١

يوم من العذاب ، يعني المستحق الذي لا يقبل العفو ، مهما كان من الذين يخرجون عن النار بعد ردح بعيد أو قريب من الزمن ، ولكن الآية التالية تختصّهم بالكافرين الناكرين للرسالات وللمبدء والمعاد ، فهم الآبدون في النار دون من يخرج فإنهم يستحقون تخفيف يوم وأيام من العذاب حيث مصيرهم الجنة والثواب.

ولماذا (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) لمكان البعد البعيد عن الرب وألّا جواب لهم منه ، ولذلك (ادْعُوا رَبَّكُمْ) دون ربنا أو رب العالمين ، حيث انقطع عنهم عطف الربوبية بكفرهم.

و (يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) قد يعني زمانا مّا ملموسا من العذاب ، حيث المتقاضى في ذلك السعير الحارق البالغ ، ومن أهل النار عالمين أنهم يستحقونها جزاء وفاقا ، إنه ليس بطبيعة الحال إلّا أقل زمان ، فعلّه واحد من الزمن الأخروي أيّا كان ، فاليوم في القيامة بين أدنى الزمان وطائلها وبينهما عوان ، ويعرف كل حسب القرائن ، كمثل اليوم في الدنيا وبينهما البرزخ العوان.

وهنا لا جواب لأهل النار من خزنتها إلّا التأنيب العتاب ، تذكيرا بسبب الدخول في النار :

«قالوا» ألم تك عندكم آيات من الأنفس والآفاق لكم فيها عبرة ، فان لم تكن أو لم تعتبروا (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) وترى معاصرو الرسل أتتهم رسلهم بالبينات فما بال الغيّب يعاتبون بعتبهم فيعذّبون عذابهم؟ القصد من إتيان الرسل إتيان الرسالات ببلاغها

٤٦٢

وبلوغها ، فما عاشت الرسالة بحملتها رسولا وكتابا أمّن ذا ، فالحجة بالغة دامغة وان كان الرسول قضى نحبه ، كما قد لا تبلغ الرسالة والرسول حي يرزق ، فالمدار على بلوغ الرسالة الحجة ببيناتها ، وكلما كانت أقوى فناكرها أخزى في حياته أم بعد مماته ـ (قالُوا بَلى) قد أتتنا رسلنا بالبينات (قالُوا فَادْعُوا) تعجيزا في دعائهم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) فكما عاشوا في حياة التكليف ضلّالا ، فسوف يعيشون حياة الجزاء ضلّالا في دعائهم أمّاذا!.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)(٥١).

وعلّ هذه هي سابق وعد الله وسابغة : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٣٧ : ١٧٣) الذين آمنوا هم منصورون كما المرسلون ، فهم جميعا جند الله الغالبون! قاعدة صارمة مطردة طول التاريخ الرسالي دونما استثناء.

هنا تأكيدات أربع لتحقيق ذلك الوعد «إن ـ نا ـ ل ـ ننصر» اثنتان لجمعية الصفات وهي أقوى تأكيدا ، والأخريان من أداة التأكيد.

وذلك تعقيب جاسم جازم يناسب الموقف الحاسم الباصم ، أن جند الله غالبون ومنصورون من رسل ومؤمنين ، لا فقط (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) بل و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بينما نشاهد في تاريخ الرسالات أنهم بين شريد وجريح ومهتوك وقتيل ومكذوب من الأكثرية الساحقة بين المرسل إليهم ، فأين ـ إذا ـ وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ومن هنا يدخل الشيطان

٤٦٣

في النفوس ويتدسس ضعاف النفوس ، ليحملهم إلى التشكك في صدق الوعد أو التكذيب بصادق الوعد.

ولكن المناسبة بين الحكم والموضوع تقضي أن النصرة هنا تدور حول موضوع الرسالة والإيمان ، وهما أمران معنويان ، والناس يقيسون بظواهر الأمور ، وفي فترة قصيرة من الزمان وحيّزة محدودة من المكان ، ولكن فسيح الزمان ووسيع المكان بما فيهما زمن دولة القائم المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يجعل الإنتصار في المجموعة ل (رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في السلطة الزمنية إلى السلطة الروحية (١) مهما اختصت قبل ذلك الزمن بالأخيرة.

ولو نظرنا إلى بعدي الرسالة والإيمان معها وبها ، لرأيناهما تنتصران دون ريب ، فأول ما تتطلبه منهم الرسالة ويطلبه صارم الإيمان أن يفنوا في سبيل تحقيقها حتى يبرزوها بصورة أسمى وأقوى ، ولكي يعلم الناكرون أنها أثمن عند أصحابها من كل قيم الحياة ، فإنها كلها زهيدة ضئيلة أمام قضية الرسالة والإيمان!

إبراهيم يلقى في النار ليلقي العقيدة ويلغيها ، ولكنه لا يرجع عنها إلّا في هزيمة قصيرة وانتصار كبير (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) فحتى لو أنه احترق كما الكثرة الكثيرة من حملة الرسالات قتلوا في هذه السبيل ، فالمنتصر في سبيلها هو أصحابها ، حيث لا يقتل إلّا الرسل دون الرسالات ، وهي تزدهر وتنمو بهذه التضحيات.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٢٦ القمي باسناده عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا ...) قال : ذلك والله في الرجعة اما علمت ان أنبياء كثيرة لم ينصروا في الدنيا وقتلوا وأئمة من بعدهم قتلوا ولم ينصروا وذلك في الرجعة أقول : يعني مجموع النصرين وهو تفسير بأكمل المصاديق ، والا فالنصر الروحي حاصل لهم على طول الزمن.

٤٦٤

وسيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله عليهما يستشهد في تلك الصورة المفجعة ، أتراه منهزما في هذه المعركة؟ في الحق إنه منتصر على يزيد الطاغية ، فانه أبرز للأجيال مدى صمود الإيمان أمام أنحس الطغاة حيث لا يرحم رضيعا ، وأصبحت معركة العاشور مدرسة عالية في القمة لمواصلة الفداء والتضحية في سبيل الله ، فقد نصر هو والمؤمنون معه في سبيل هذه الرسالة السامية.

هنالك النصر على اللذات والشهوات والرغبات في طريق تطبيق الرسالات ، صمودا صارما حتى التضحية بالنفس والنفيس ، وتقديم كل غال ورخيص ، ولكي تبقى العقيدة ، ويبقى الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

أذلك هو النصر أم أن يبيع إيمانه بالثمن الأرخص الأركس : الحياة الدنيا بزهرتها وزهوتها؟

وفي كلمة قصيرة غير حصيرة إن نصر الله يرى (رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في غلب الحجة حيث تغلب الباطل ولا تغلب ، والغلب في بينات الحق وزهوق الباطل ، والغلب الكامل في العاقبة فإن (الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وهي الدولة الأخيرة زمن القائم المهدي (عجل الله تعالى فرجه) حيث يرجع المرسلون والذين آمنوا إلى محض الإيمان.

ليس النصر للذين آمنوا في الحياة الدنيا إلّا إذا نصروا الله وهو محض الإيمان (يا أَيُّهَا (١) الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٤٧ : ٧) و (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) (٣ : ١٦٠) (وَلَيَنْصُرَنَ

٤٦٥

اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٢ : ٤٠) (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٠ : ٤٧).

وأما الرسل فهم منصورون على أية حال مهما اختلفت صور النصر ، فإن سيرها واحد هو انتصار الرسالة روحيا ، وقد تنتصر زمنيا ، حتى يتم لها الإنتصار في الدولة الاخيرة : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ...) (٩ : ٤٠) انتصارا لتداوم حياة الرسول ، تكملة للرسالة في القدر الذي قدره الله ، وكما نصره الله بفتح مكة نصرا عزيزا (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٤٨ : ٣).

ولقد نصر نوح بعد ردح بعيد من الزمن زمنيا بعد نصره على طول خط الرسالة روحيا : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ...) (٢٣ : ٢٧).

وفي إبراهيم (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٢١ : ٧١).

وفي موسى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) (٣٧ : ١١٩).

وفي عيسى بن مريم : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا

٤٦٦

مُسْلِمُونَ ... وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...) (٣ : ٥٥) (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٤ : ١٥٩).

ثم ولمن قبلهم وبينهم وبعدهم من النبيين انتصارات توحّدها غلبة الحجة بنصوع المحجة ، وزيادات في سلطات زمنية ما قل منها أو كثر وحتى يأتي صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فهناك يتم الإنتصار ويعم البسيطة وكل العالمين.

هنالك انتصار لهم في الحياة الدنيا ومن ثم (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وهذا تعبير فريد في القرآن تسمى فيه القيامة ب (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وما هي الصلة الوطيدة بينه وبين نصر الرسل؟ إنه سمة لجانب من القيامة وهو قيامة الأشهاد ، حيث الأشهاد ينصرون الرسل والذين آمنوا في شهاداتهم في مربع الشهادة ، وهي انتصار لهم فوق انتصار :

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٥٢).

حيث الأشهاد يشهدون عليهم دون إبقاء فلا تنفعهم معذرتهم بل (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٧٧ : ٣٦) وترى إذا لا يؤذن لهم فيعتذرون ، فكيف لا تنفعهم معذرتهم وهي تلمح أنهم يعتذرون؟.

لا يؤذن لهم نهي عن الاعتذار إذ لا ينفع : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٦ : ٧) فعدم نفع الاعتذار

٤٦٧

على فرضه مهانة ، وعدم الإذن فيه مهانة أخرى ، خلاف جند الله إذ كان لهم انتصار فوق انتصار! (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) من الله والملائكة والنبيين والمؤمنين ، وبالنتيجة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) بما قدمت أيديهم ، لعنة بما يقوم الأشهاد ، وسوء الدار بما تقبل شهاداتهم عليهم ، قدر ما أساءوا في هذه الدار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٥٤).

وهذه جماع الرسالة الموسوية على طولها حيث ختمت بانتصارها ، نموذجا من نماذج الإنتصار الرسالي ، بعد صبر وانتظار :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٥٥).

يا؟؟؟ حامل الرسالة الأخيرة وهي أثقل وأطول وأكمل من كافة الرسالات ، عليك بالصبر الجميل الطويل (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أن ينصرك الله نصرا عزيزا (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وعليك في هذه السبيل الشاق الطويل المليء بالأشلاء والدماء ، أن تستغفر لذنبك ، لذنب الرسالة التي تعيشها بأخطارها ، والدوائر المتربصة بها حتى يغفرها ويسترها عما يمسها بسوء وكما غفر الله بما فتح مكة نصرا زمنيا إلى روحي ، ومن قبل منذ الرسالة من الناحية الروحية.

وان تستغفر لذنبك : السيآت التي تعترضك قضية السلطة الزمنية ، وكذلك الروحية ، أن تدفعها عن ساحتك قبل أن تدنّسها ، بكل ما تملك من إمكانيات ، وتفوض أمرك الى الله فيما لا تسطع على دفعه حين تقوّض ظهرك ، فتصبح في مثلث الاستغفار عن ذنبك ، في العصمة المطلقة الإلهية وقمتها ، ولا رابع له من ذنب مقترف وعصيان حيث الساحة الرسالية بريئة

٤٦٨

عن كل عصيان ، فضلا عن رسول الرسل وسيدهم (صلى الله عليه وآله وسلم)!

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لا تسبيحا فقط ولا حمدا فحسب ، وإنما تسبيح بالحمد ، أن تصفه كما وصف به نفسه ، وتنزهه عن صفات المخلوقين ، وعن زيادة الذاتية منها على ذاته أو تركّبها ، ومماثلة غير الذاتية منها لسواه تعالى ، فقولك «عالم» تعني منه «لا يجهل» ـ ولا أن «علمه كسائر الخلق» فلا نحيط بعلمه شيئا ولا ندرك منه كما هو شيئا. وهذا تسبيح بحمده ، واما حمده دون تسبيح به فقد ينجرف الى اثبات صفات تشبه صفات المخلوقين إمّا ذا مما لا يليق بساحة رب العالمين.

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) وهل إنهما فريضة الفجر والعصر (١) حيث السورة مكية والفرض في ردح من العهد المكي كان لهما؟ «وسبح ...» أمر باستمرار الفرضين حتى ياتي امر الله لا أنه بدايتهما؟ حيث الصلاة بادئة بدء النبوة والآية بسورتها نازلة ردحا بعد النبوة!

أم إن العشى والإبكار كليل نهار تعني الوقت كله ، وقد ذكر طرفاه لأنهما أهم الأوقات للذكر والذكرى في مجموع الليل والنهار ، نيامة في العشي وإفاقة في الابكار ، ففي افاقة الإبكار مثال للحياة بعد الموت ، وفي نيامة العشي مثال للموت بعد الحياة ، فهما وقتان لهما أهميتهما للذكرى؟

أم إنهما تعنيان أوقات الصلاة كلها (٢) وقد ذكرا بينها كأهم الصلوات

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٥٢ ـ اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : صلاة الفجر والعصر.

(٢) المصدر اخرج ابن المنذر عن الضحاك في الآية قال : صل لربك بالعشي والابكار قال : الصلوات المكتوبات.

٤٦٩

والأوقات ، والقصد إلى الصلوات المفروضات في مجموعة الليل والنهار؟

التسبيح بالعشي والإبكار مكرور في آيات مدنية : (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٣ : ٤١) (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) (١٨ : ٢٨) وكما في أخرى ـ مثل هذه ـ مكية : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) (٦ : ٥٢) اثنتان باثنتين ، في إبكار مرتين وغداة مرتين والعشى في الأربع كلها ، فلا نحتمل أنهما الفرضان حيث الخمس فرضت قبل المدنية بردح من الزمن.

ثم للاحتمالين الآخرين مجال ، والخمس المفروضات تشترك فيهما ، فإما أن تعنيها الآية بخصوصها ، أم في عموم التسبيح وهي أهمه! (١).

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٥٦).

ليس جدال هؤلاء الحماقى انتصارا لهم على الرسالة الإلهية ، فإنه (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) وهو يعم نفي أي سلطان ، كالذي يجادل دون أي برهان ، أم بسلطان الباطل : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) وكلاهما سيان في أنهما (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ).

هؤلاء الطغاة لا يجادلون في آيات الله بسلطان قاطع ولا ريبة أو شك هما في سبيل تحقيق الحق وإبطال الباطل ، حيث الشك في هذه السبيل شك مقدس ، فليس في صدورهم واحدة من هذه العاذرة (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) متناسين أنفسهم ومتجاهلين أنهم مهازيل ضعاف ، لا حول لهم ولا قوة إلّا بالله ، لذلك فهم يتنفخون ويتنفجون في تشامخ وتعال وحتى على الله وآياته و (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) كبر في صدورهم خيّل

__________________

(١) راجع تفسير الآيات الثلاث الاخرى في محالها.

٤٧٠

إليهم ، يهدفون إلى بلوغه في واقعهم أمام آيات الله و (ما هُمْ) على أيّة حال ، وفي أي حلّ وترحال وبأية وسيلة وإدغال (بِبالِغِيهِ) فإنهم داحضون بكبرهم وبحجتهم أمام حجج الله ، ومتى رأيت في تاريخ الرسالات أن يبلغ مناوءوها بكبر في صدورهم ، يبلغوا دحضها وإيحائها إلّا دحض أنفسهم وفضحها (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من كيد هؤلاء وميدهم حين يحاولون تضليل المستضعفين (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) مقالكم ومقالهم «البصير» بأحوالكم وأحوالهم ، فإنه ينصر حقه ويهدر باطلهم.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٥٧).

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها)؟ بل هي أكبر وأشد من خلقهم مهما كان الإنسان أحسن تقويما! وليس الأكبر والأشد في الخلق في ميزان الله ، فكل خلق له هين ، إنما هو في ميزاننا ، ولمّا يقيس الإنسان نفسه إلى السماوات والأرض وهما مجموعة الكون ، يطامن من كبريائه متصاغرا متضائلا ، إلّا أن يذكر خلقه (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وليس إلّا في استعداده القمة للإيمان القمة حيث الكافر في أسفل سافلين! (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وهم الأكثرية الكافرة بالله ، المكذبة بآيات الله ، فلأنهم «لا يعلمون» متجاهلين متغافلين ف (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) ولكن (ما هُمْ بِبالِغِيهِ).

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ)(٥٨).

الأعمى والبصير مثل للجاهل والعالم ، والآخران للمؤمن الصالح

٤٧١

وسواه ، ولماذا (وَلَا الْمُسِيءُ) بدلا عن «ولا الذين آمنوا» علّه يعني نفي المساواة بين أفراد «المسيء» بعد نفيها بينه وبين الذين امنوا وعملوا الصالحات بحذف اللّا فيهم عطفا على (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى ...) فقرينة العطف ونفي الإستواء بين المسيء تكفيان دلالة على حذف اللّا عن الذين آمنوا.

فهناك سلوب ثلاثة في الإستواء ثالثها بين أفراد المسيء المنقسم إلى المسيء إيمانا وعملا فأسواهم ، والمسيء إيمانا لا عملا حيث يمكن فسيّئهم ، والمسيء عملا لا إيمانا فأقل سوء ، هم لا يستوون عند الله ، كما لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع مثلث المسيء ، وتشبهها (لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) وقد مضت ، واللّااستواء في مطلق الحسنة يعني حسنة الإيمان والعمل الصالح مفردا وجمعا ، وهنا جمع بينهما ، فالاستواء حاصل بينهم لحدّ مّا مهما اختلفت درجاتهم (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ).

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(٥٩) وهذه الأكثرية بين من يعلم ثم يجحد ولا يؤمن (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) ومن لا يعلم متجاهلا حتى يجهل رغم توفر البراهين على أنها آتية لا ريب فيها ، فلأن «لا يؤمنون» يعم «لا يعملون» و «لا يعلمون» ، لذلك يؤتى به دون «لا يعلمون» إضافة إلى أن توفّر البراهين عليه لا تفسح مجالا ل «لا يعلمون» إلّا تجاهلا مهما بلغ حد الجهل ، فإنه جهل من يعلم! (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٥ : ٢٦) الجهل ولا سيما المركب منه ـ مصدر البليات كلها ، فالجاهل يسيء إلى نفسه وإلى ذويه ، ويحسب أنه يحسن صنعا فهو من الأخسرين أعمالا.

٤٧٢

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٦٠).

ترى ومتى قال ربكم ... فهل هو قاله هنا «أدعوني ...»؟ وهذا مستقبل و «قال» ماض! أم هو قاله في آية المضطر : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٢٧ : ٦٢) ولكنها مكية كما هي ، إلّا أنها علّها نازلة قبلها ، لكنها تعد إجابة المضطر دون أمر بالدعاء! أم إنه آية الفرقان المكية : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)؟ وحقا إنها هيه إذ تحوي ما تحويه ، وتعني ما تعنيه ، ولكنها ليست دلالة المطابقة ، إلا تضامنية بدقة!

أو أنه قاله في أم الكتاب ومحكمه ، يقوله هنا في تفصيل الكتاب؟ أم إنه جماع آيات الدعاء مكية ومدنية؟ وعلى أية حال (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...) لا ريب أنها قول ربكم!

و «ربكم» هنا دون صيغة أخرى : الله ـ ربي ـ رب العالمين ، لمناسبة الدعاء عبادة واستدعاء فإنه أمر تربوي يعم عباد الله المؤمنين.

وهل ان «ادعوني» أمر بدعاء الاستدعاء حين الحاجة والبلاء؟ لمكان (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وشطر من آيات الدعاء : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) (٣ : ٣٨)؟

أو أنه أمر بدعاء العبادة لمكان (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) وشطر آخر من آيات الدعاء : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٧٢ : ١٨) (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (٧ : ١٩٤) (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) (٤٠ : ٦٦).

أم إنه يعنيهما لشطري الآية (أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... عَنْ عِبادَتِي) وشطري

٤٧٣

آيات الدعاء ، وان دعاء الاستدعاء لزامه دعاء العبادة من قبل ف «الدعاء تلو العبادة» (١) فلا يستدعى إلّا من يعبد ولا يعبد إلّا من يستدعى ، والثانية شرط أصيل للأولى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٢ : ٤٠) و «عهدي» هو عهد العبادة (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦ : ٦١) و «عهدكم» هو الاستجابة! ف «لو وفيتم لله لوفى لكم» (٢) وكما أن دعاء العبادة عبادة كذلك «الدعاء هو العبادة» (٣) بل هي مخ العبادة ، وكما الاستكبار عن عبادته كفر ، كذلك الاستكبار عن دعائه فانه مخ الكفر ، وعلّ «عبادتي» تعني دعاء الاستدعاء كأصل بعد دعاء العبادة ، وكأنها هي العبادة لا سواه ، فإن حقيقة الدعاء هي حقيقة التعلق بالله والزلفى إلى الله وهي حصيلة العبادة ، فهي ـ إذا ـ مخ العبادة : يا رب «سميت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين» (٤) صاغرين ، «فلا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٥٥ بإسناد عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعاء تلو العبادة ثم قرء (وَقالَ رَبُّكُمُ ...) هل تدرون ما عبادة الله؟ قلنا : الله ورسوله اعلم قال : هو إخلاص الله مما سواه.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٥٢٧ القمي حدثني أبي عن محمد بن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله قال له رجل : جعلت فداك ان الله يقول : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وانا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال : لأنكم لا توفون بعهده وان الله يقول : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) ...

(٣) المصدر اخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الدعاء هو العبادة وقرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ...).

(٤) المصدر من ادعية الصحيفة السجادية وقلت «ادْعُونِي ...» فسميت ...

٤٧٤

وكما أن الدعاء تلو العبادة ، كذلك العبادة والدعاء تلو المعرفة (١) وكما تلمح له (إِذا دَعانِ).

«ادعوني» في دعاء الاستدعاء هنا ركن لمكان «أستجب» ولكنها تستصحب شرطها الأصيل : دعاء العبادة ، ثم تتلوها «عبادتي» أنها دعاء الاستدعاء والافتقار ، فالأخرس عن هذا الدعاء على حاجته على أية حال ، ناكر لفقره وافتقاره إليه ، وكافر بغناه.

وهل تعني «أدعوني» بلسان القال؟ وكثيرون يدعون ولا يستجاب لهم ، وقليل يدعون بلسان الحال وهم مستجاب لهم! أم تعني لسان الحال دون قال؟ والمقربون من عباد الله يدعونه بمقال مع حال!

أم تعني لسان الحال ويبرزه المقال والأعمال ، فالعناية إلى مثلث الدعاء كأكمل درجات الدعاء ، وهو الذي يضمن الاستجابة؟ وقد تعنيه آية البقرة (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ...) (١٨٦) فإن «دعان» بعد (دَعْوَةَ الدَّاعِ) لا يعني تكرار الدعاء ، بل هو حقيقة الدعاء دونما شائبة ، ظاهرة ناطقة عن الباطنة بلسان العمل والقال.

وإذا كانت الاستجابة مضمونة بعد الدعاء فما لنا ـ في الأكثر ـ لا يستجاب لنا؟(٢)

__________________

(١) المصدر ح ١٠٤ في كتاب التوحيد باسناده الى موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : قال قوم للصادق (عليه السلام) ندعوه فلا يستجاب لنا؟ قال : لأنكم تدعون من لا تعرفونه.

(٢) المصدر ح ٩٢ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان المؤمن ليدعوا الله عز وجل في حاجته فيقول الله عز وجل : أخّروا إجابته شوقا إلى صوته ودعائه فإذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل : عبدي! دعوتني فاخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا دعوتني في كذا او كذا فأخرت إجابتك وثوابك كذا او كذا قال فيتمنى المؤمن ...

٤٧٥

(أَسْتَجِبْ لَكُمْ) و (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) وهما من وعده الصدق : لا يتحقق إلّا على شروطه وفي زمنه الصالح ، فإذا توفرت الشروط في دعاءك فالاستجابة كائنة على أية حال ، في حال أم استقبال : هنا أم في البرزخ أو الأخرى وهي أحرى وقد «يتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حسن الثواب» (١) ولكنك قد تدعو غير صالحك ، فالله أجل أن يغرك بجهلك صالحك عن طالحك ، وقد يعوّضك صالحا بدل ما دعوت من غير صالح وأنت لا تدري.

وقد تدعو وأنت غير صالح للاستجابة فكيف ترجوا الإجابة؟

وقد تدعو ربك فيما خوّله إليك أو ألزمه عليك ، وليس الدعاء إلّا فيما لا تسطع أم لا تكفيه!.

وعلى أية حال ليس عدم الإجابة إلّا لنقص فيك أو في دعاءك أم هي مستقبلة قريبة أم غريبة ، في دنياك أم أخراك ، فثق بما وعدك ربك واتّهم نفسك في غير إجابة ، أو انتظر مستقبلا فيه الإجابة (٢).

خلف الوعد من خلفيات الجهل او العجز او البخل او الخوف أمّاذا من نقص في الواعد يقتضي نقضا في وعده ، وكل ذلك بعيد عن ساحته

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٣١ عن أبي عبد الله عليه السلام.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٥٢٧ ح ٧٤ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال السائل : الست تقول يقول الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقد نرى المضطر يدعوه فلا يجاب له ، والمطيع يستنصره على عدوه فلا ينصره؟ قال : ويحك ما يدعوه احد الا استجاب له اما الظالم فدعاؤه مردود الى ان يتوب اليه ، واما المحق فانه إذا دعاه استجاب له وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلم او ادخر له ثوابا جزيلا : ليوم حاجته اليه وان لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه امسك عنه والمؤمن العارف بالله ربما عز عليه ان يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك ام خطأ.

٤٧٦

تعالى مستحيل ، فإذا لا تستجاب دعوتك فتّش نقصا فيك أو نقضا في شروط الدعاء.

من الحاجيات ما يعطيها ربنا دون دعاء ، ومنها ما يعطيها بدعاء فإنها شرط الإعطاء ، ليس لأن الله بحاجة إلى أن يدعى ليعلم عن جهل أو يحظو حظوة الاستدعاء ، وإنما حظوة القرب للعبد وليعلم أنه بحاجة دائبة إلى الله ، فيعيش الافتقار إليه في أحواله كلها ، بقلبه ولسانه وكافة وجهاته ف «ادع ولا تقل قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة» (١).

أدع ربك على كل حال ، واطلب منه ما تحتاجه غير مصر ولا جازم علّه لا يصلح لك وأنت جاهل ، وحتى إذا كان من صالحك ولا تستجاب فإن نفس الدعاء عبادة لا تضاحى ، كيف وربك يدعوك لدعائه ويعدك الاستجابة! و «من اعطي الدعاء لم يحرم الإجابة» (٢) وعطاء الدعاء هو حالها واستعدادها بشرائطها.

وللدعاء شروط عدّة هي العدّة للاستجابة ، منها الوفاء بعهد الله العبادة ، ومنها حالة التضرع والخفية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٧ : ٥٥) ومنها ترك الإصرار الجازم علّه لا يصلح له ف (عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ...) ومن «الذنوب التي ترد الدعاء سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها وترك التقرب إلى الله عز

__________________

(١) المصدر ح ٨٣ القمي عن أبيه عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : ادع ... ان الله عز وجل يقول : ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين.

(٢) نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام) مستشهدا بالآية.

٤٧٧

وجل بالبر والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول» (١).

إن هناك أمورا تتقدر فتقضى بحولك وقوتك ، وأمور أخرى لا تطيقها وقد أمرت فيها بدعاء ربك ، فلا تقل «قد فرغ من الأمر» فإنه قول اليهود فكيف قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؟ (٢).

ويا له من رحمة واسعة سابغة ، يأمرنا بدعائه ، ثم يتهددنا إن تركناها : (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين ، وإذ تعلم أنك فقير ضائق والله غني واسع ، يعطيك سؤلك إذا دعوته ، فما يمنعك من دعائه إلّا استكبارك ، أم سوء ظنك به كأنه مخلف وعده عباده أمّاذا من خطأ عارم؟!

كل سائل عبد لمن يسأله مفتقرا ، فهل أنت تسأل سؤلك عباده ، ثم تستكبر ان تسأله تعالى وهو رب السائل والمسؤول؟ ضعف الطالب والمطلوب!.

__________________

(١) المصدر ح ١٠٦ في كتاب معاني الاخبار باسناده الى أبي خالد الكابلي قال سمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) يقول : الذنوب التي ترد الدعاء ...

(٢) المصدر ح ٩٦ في عيون الاخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع سليمان المروزي حديث طويل وفيه قال الرضا (عليه السلام): يا جاهل! فإذا علم الشيء فقد اراده ، قال سليمان : اجل ، قال : فإذا لم يرده لم يعلمه؟ قال سليمان : اجل ، قال : من اين قلت ذاك وما الدليل على ان ارادته علمه؟ وقد يعلم ما لا يريده ابدا وذلك قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فهو يعلم كيف يذهب به ولا يذهب به ابدا ، قال سليمان : لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئا قال الرضا (عليه السلام) هذا قول اليهود فكيف قال : ادعوني استجب لكم قال سليمان : انما عنى بذلك انه قادر عليه ، قال : أفيعد مالا يفي به فكيف قال : يزيد في الخلق ما يشاء ، وقال عز وجل : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وقد فرغ من الأمر؟ فلم يحر جوابا.

٤٧٨

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ

٤٧٩

ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٦٨)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٦١).

تعريف ب «ربكم» الذي (قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أنه (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ...) نعمتان هامتان لم يسألهما الإنسان ربه وقد أعطاهما إياه قبل خلقه ، فكيف إذا سأل نعمة؟ أتراه يبخل فيما يسأل وهو كريم فيما لم يسأل!

الليل هنا وفي سائر القرآن لباس (١) وسكن لتسكنوا فيه عن حركات التعب ونهضات النصب : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً

__________________

(١) راجع تفسير آية النبأ في النوم وفي لباس الليل ومعاش النهار ، الى ج (٣٠) الفرقان ص ١٨ ـ ٣٤.

٤٨٠