الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ٣٠

سليمان النبي الملك هنا وهبة ربانية لداود : (نِعْمَ الْعَبْدُ) ولماذا؟ ل (إِنَّهُ أَوَّابٌ) كما داود أواب.

فهل تصدق ـ بعد ـ الفرية التوراتية والانجيلية على داود وسليمان ، أنه وليد زنا وباني المعابد الوثنية على الأتلال لنساءه المشركات أمّا هي من

٢٤١

هرطقات جارفة هراء! (١).

ففي إنجيل متى : «إن داود الملك ولد سليمان من التي لأوريا» (١ : ٦) وفي صموئيل ١١ : ٣ ـ ٢٦ ، أنه زنى بامرأة أوريا فحبلت منه! وقد مضيا.

كلّا! يا مدنسي الكتاب المقدس ، إنه وهبة إلهية لا من دعارة ، وهو نعم العبد إنه أواب.

وإن (نِعْمَ الْعَبْدُ) من المعبود ... يجعل من العبد قمة مرموقة من العبادة كأنه هو العبادة نفسها رغم أنه ملك!

«سليمان» وهو مذكور في (١٧) موضعا من القرآن بكل تبجيل وتجليل ، هي لغة عبرانية تعني المليء من السلم ، فهو ـ إذا ـ عبارة أخرى عن (نِعْمَ الْعَبْدُ) حيث العبودية هي السلم للمعبود ، فإذا مليء منها العبد فهو (سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) :

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)(٣٣).

(الصَّافِناتُ الْجِيادُ) هي الخيل الصافنة التي تصفن وتصف قدميها عند السكون بكل استقامة ووقار ، جياد شديدة الجري وسريعة إذا جرت

__________________

(١) في الملوك ١١ : ١ ـ ٨ ونحميا ١٣ : ٢٦ يقول : أخذ سليمان يعاشر ويعاشق النساء الغريبات اللاتي منع الله عن عشرتهن فنكح منهن سبعمائة بالعقد الدائم وثلاثمائة منقطعا فاجتذبن واملن قلبه عن ربه الى انفسهن وهو على كهولته وشيخوخته تنحى نحوهن لحد بني لكل واحدة منهن مذبحا للأوثان على الاتلال ... أقول وهذه خلاصة عن تفاصيل (راجع عقائدنا ٤٢٧ ـ ٤٤١) تجد فيه حوارا شاملا مقارنا بين القرآن والعهدين بشأنه.

٢٤٢

وعدت ، وهي خيل الجهاد.

ملك كسليمان النبي له سيطرته وسطوته ، تعرض له صافناته الجياد ليركبها هو وجنوده في مقاتلة الأعداء ، فيبتهج منها ابتهاجة دون زهوة ولا غفلة ولا رعونة ، وليست مقالته حينذاك إلّا (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) حب الصافنات الجياد ـ فقط ـ للجهاد ، فما أحببتها عن شهوة مال أو جمال ، ولا عن كبرياء ودلال ، ولا عن شهرة ونوال ، وانما (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) حب ناشئ (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ) (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) «بالحجاب».

فليس سليمان يحب شيئا من مال وجمال إلا عن ذكر ربه ، لا عن دافع شهوته ونزوته ، ولا يختص ذكره لربه بصلاته وصيامه وقيامه في عبادة ربه ، بل ويذكره فيما هو رمز للغفلة والزهوة ، فلا يبطر في نعمته ، ولا يعشو عن ذكر ربه (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) يرجع إلى ربه فيما هو بطبيعته ينسى ذكر ربه!

وهذه السنة المجيدة في ذكر الله هي سنة الأوابين ، الذين حياتهم أوبة إلى ربهم على أية حال وفي كل مجال ، فليس (ذِكْرِ رَبِّي) هنا خصوص الصلاة ولا «عن» تجاوزا ، حتى يحب الخير (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) تجاوزا عن الصلاة ، فكيف ـ إذا ـ يستحق كرامة رد الشمس؟ ولا (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) تعني الشمس ، إذ لم يسبق لها ذكر أبدا ، وإنما هي (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) المتوارية في سيرها بالحجاب.

ولا (رُدُّوها عَلَيَّ) رد للشمس ، فمن هؤلاء الذين يأمرهم بردها له حتى يقضي فائتة الصلاة ، أهم أرباب؟ أم عباد أمثاله وهم أقوى منه؟.

ثم وليس للشمس المردودة المختلقة سوق وأعناق حتى يمسحها (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) ولا أن المسح قطع وذبح للصافنات

٢٤٣

إن كل واحدة منها من «عبدنا» الى (خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) برهان قاطع لا مرد له على براءة ساحته القدسية قبل رسالته مما افتري عليه ، فضلا عما بعد (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ...)!

والمفترون هنا يجعلون من النعاج والنعجة امرأة ، ومن امرأة زوجة أورياه ، إقحامات واتهامات رديئة دنيئة لا تنسب إلى الأوباش الأغباش ، فضلا عن خليفة الله في الأرض!

«عبدنا» في صيغة الجمع تصوغه كأفضل عبد يجمع في عبوديته بجامع العبادة. وعلى حد المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم): «كان أعبد البشر» (١).

ف «نا» وهي ترمز لجمعية الصفات ، تجعل داود عبدا لله من كافة الجهات ، دون من يعبد الله على حرف ...! ويا ترى كيف يليق ب «عبدنا» أن يرتكب جريمتي القتل والفحشاء ، أم كيف يليق بربنا أن يجعله قدوة الصبر لمحمد وهو أوّل العابدين ، أقدوة لا يصبر على شهوة الجنس ، فيقضي على روح مسلم ومنكوحه لقضاء السعار الحيواني من شهوة الجنس؟!

ثم (ذَا الْأَيْدِ) هل تعني أيدي الجنس المتخلف لكي يرتكب تلك الجريمة النكراء؟ وهي أيدي الرحمة الفائضة الغزيرة التي جعلته حقا «عبدنا»!

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٩٧ ـ اخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا ذكر داود (عليه السلام) وحدث عنه قال : كان

٢٤٤

و (إِنَّهُ أَوَّابٌ) كثير الرجوع إلى الله ، كيف يناسب أؤتبه هكذا إلى سعار الجنس ، رغم توبته؟

وهل (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ ...) لتساعده على استلاب النواميس والأعراض؟

أو (شَدَدْنا مُلْكَهُ) لكي يملك قتل كبير من قواد جنده «أورياه» ليملك زوجته بكل حرية ودناءة؟!

أم (آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) ليأتي بخلاف الحكمة وخلاف العدالة والخلق الإنسانية؟!

أم (وَفَصْلَ الْخِطابِ) ليخاطب جنده ان يجعلو أورياه في مقدمة المقاتلين لكي يقتل؟!

أم (إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) بهذه التأكيدات الأربعة ، ليرتكب أنحس الكبائر بحق رجل مسلم مجاهد؟!

أم (حُسْنَ مَآبٍ) إذ آب إلى ما آب ، وخاب ما خاب ، بما افتري عليه من فتك وقتل وفاحشة؟! (١).

__________________

(١) في صموئيل ١١ : ٢ ـ ٢٦ : «وكان وقت المساء ان داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فراى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد : أليست هذه بنت بشتبع اليعام امرأة أوريا الحثي؟. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت اليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت الى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إني حبلى. فأرسل داود الى يوآب يقول : أرسل الي أوريا الحثي ... فأتى أوريا اليه ... فقال داود لاوريا أقم هنا اليوم ، وغدا أطلقك ... ودعاه داود فأكل امامه وشرب واسكره وفي الصباح كتب داود الى يوآب : اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ... فقتل أوريا كذلك ... فلما سمعت امرأة أوريا انه قد مات رجلها

٢٤٥

ثم وفي هذه البادرة الهامة مطلع للعائشين نصف الكرة لردها ، حيث يبصرونها راجعة بعد غروبها ، ومطلع الآخرين ، لمكان التأخر في أوقاتها ، وفي ذلك إجماع قاصد ملموس لسكنة الأرض كلهم ، فكيف يختص نقلة بأشخاص خصوص؟

ومن الناحية الأدبية كيف يكون «نعم العبد إنه أواب. إذ عرض عليه ... فقال إني أجبت» فهل إن التغافل عن ذكر الرب في معرض الصافنات يجعله (نِعْمَ الْعَبْدُ) فحين لا يتغافل هو ـ إذا ـ بئس العبد؟!

ولأنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) في تأخير الصلاة فلترجع الشمس حتى يقضيها؟

وكيف يقدم عشيا عرض الصافنات وهو وقت الصلاة؟ غفلة عامدة ما لها من عاذرة؟

هراءات خارفة ، ومختلقات جارفة أقحمت في أحاديث الإسلام ، ونحن بعرضها على القرآن نضربها على الحائط!

ثم (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) قد تكون بيانا لمدى قوله (إِنِّي أَحْبَبْتُ) أنه كررها (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) لا أن حب الخير محدد ب (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) حيث التواري ليس ليواري عنه حب الخير عن ذكر ربه.

وعلّ (رُدُّوها عَلَيَّ) قاصد إلى استمرارية ذكره ، ولكي يتلطف بالصافنات الجياد بمعشر الجنود ، وليعلموا أن سليمان يحب الجياد ـ فقط ـ للجهاد.

وقد يعني (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) تواري الصافنات بحجاب الشمس مع حجاب البعد عن سليمان ، فأزال أحد الحجابين ب (رُدُّوها عَلَيَّ) وأزال الآخر أدبيا ب (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)!

٢٤٦

ولو كان (رُدُّوها عَلَيَّ) طلبا لرد الشمس ، فهي كلمة عارية عن كل أساليب الأدب عقيب ترك كل أدب للرب حيث ترك الصلاة ، وكأنه متآمر على ربه ، ويعتبره جماعة من جنوده ، «ردوها» أم يأمر جنود ربه ، واللائق بهذه الحالة الضراعة البالغة والبكاء ، والمبالغة في إظهار التوبة ، وأما أن يقول منهورا مستهترا متغاضيا عن عظمة الرب (رُدُّوها عَلَيَّ) فلا يقولها أدنى الناس!

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ)(٣٤).

(فَتَنَّا سُلَيْمانَ) تأشيرة لامعة أن عرض الصافنات لم تكن فتنة له وابتلاء ، وإلّا فلما ذا هنا «فتنا» وهناك (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ)؟

وترى ما هو الجسد الملقى على كرسيه وممّ أناب؟

هل هو جسد سليمان نفسه حين مرض لحد كأنه جسد لا روح له؟ وصحيح التعبير عن المرض هو المرض ، دون الجسد الصريح في ميت! ثم «وألقينا» دون ضمير يرجع إليه ، و «جسدا» منكرا دون جسده ، ثلاثة دالة على أنه غير سليمان نفسه!

أم إنه الشيطان الملقى على كرسيه يحكم بديله أياما (١)؟ فكذلك الأمر ، ولأنه حيّ غير مريض ، وإلقاء الشيطان على كرسي الحكم الرسالي إلغاء للحكم الرسالي!

__________________

(١) الدر النثور ٥ : ٣١٣ ـ اخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : الجسد الشيطان الذي كان دفع سليمان اليه خاتمه فقذفه في البحر وكان ملك سليمان في خاتمه وكان اسم الجني صخرا ، واخرج ابن جرير عن السدي ان الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما ... أقول وانها خرافة نكراء هراء!

٢٤٧

أو أنه جسد صبي له كان «استرضعه المزن خوفا من بأس الشياطين ، فألقاه الله على كرسيه جسدا تنبيها على أن الحذر لا ينفع من القدر» (١)؟ ولو أن للشياطين مقدرة على قتله لقتلوا مسترضع المزن والسحاب! وكيف يخافهم ولا مميت ـ كما لا محيي ـ إلا الله!

أو أنه ولد له من واحدة من السبعين امرأة جاءت بشق ولد ، رغم ما هواه أن يؤتى بسبعين ولد يضربون بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله (٢)؟ وقد يجوز ولكي لا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله!

ومهما يكن من شيء فليس الجسد الملقى على كرسيه من شأنه حتى يكون شائنا فيه فيستغفر وينيب ، فإنما له صلة بشأن منه ، فتنة له في غير محظور ولا مشكور.

فالابتلاءات مختلفة حسب مختلف المبتلين ، فكما أن منها جزاء بما عمل

__________________

(١) الطبرسي روى ان الجن والشياطين لما ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض ان عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء فاشفق (عليه السلام) منهم فاسترضعه المزن وهو السحاب فلم يشعر الا وقد وضع على كرسيه ميتا تنبيها على ان الحذر لا ينفع من القدر وانما عوقب على خوفه من الشياطين وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٦ : ٢٠٨ ـ روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل ان شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل الا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره فو الذي نفسي بيده لو قال : ان شاء الله لجاهد كلهم في سبيل الله فرسانا أجمعون فذلك قوله : ولقد فتنا ... وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

٢٤٨

من سوء تنبيها وتخفيفا عن جزاء ، كذلك منه ما يبتلى بها عباد الله الصالحون ولكي يزدادوا من ربهم زلفى ، فان أفضل الأعمال أحمزها ، (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ...) (٢ : ١٢٤) كذلك يبتلي سليمان بفتنة ، فيسأله تعالى بعد نجاحه (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ...) فيؤتاه سؤله «فسخرنا ...».

أتراه لأنه عصى ربه يطلب منه ذلك الملك القمة ، بديل التوبة؟ وكما قالوه في عرض الصافنات الجياد؟!

(فَتَنَّا سُلَيْمانَ) حين ترك إن شاء الله ، وحين (أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) فما فزع من ذلك الجسد الذي عكس هواه في سبيل الله ، فلما نجح (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) من ترك المشكور هنا : إن شاء الله ، ومن أن يعترضه أي محظور ، (ثُمَّ أَنابَ) إلى ربه في استيهاب الملك القمة.

ولماذا الاستغفار من ترك المشكور ـ إن صح الحديث أن ترك إنشاء الله ـ؟ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين!.

وقد يلمح استيهابه ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده أن الجسد الملقى على كرسيه كان من يرجو سليمان أن يرثه ملكه ، فلما ابتلي بموته استبدل به ما هو خير :

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(٣٥).

أتراه يبخل في ذلك الاستيهاب الإستيعاب ، فيتطلب ملكا لا ينبغي حتى لخاتم الأنبياء روحيا ، ومن ثم لخاتم الأوصياء زمنيا وروحيا وهو يصفهما على البدل كأفضل محبوب كما في النص العبراني التالي :

٢٤٩

حكو ممتقيم وكولو محمديم زه دودي وزه رعي بنت يرشالام (نشيد الإنشاد : ٥ : ١٦).

«فمه حلو وكله محمد هذا محبوبي وهذا ناصري يا بنات أروشليم»

وذلك بعد ما يصف محبوبه بأوصاف فائقة في آيات سابقة ، فكيف له أن يفضّل ملكه على محبوبه الوحيد؟ كما وأن أباه داود يصف القائم المهدي (عليه السلام) بعدة مواصفات في تصريحات تحيد عمن سواه! (١).

قد لا يعني أثره له على من ياتي بعده طول الزمن وحتى في آخر الزمن ، بل «من بعدي» لصقا أم طوال الرسالة الإسرائيلية وقد حصل ، فان «من بعدي» يعم البعد القريب والبعد الغريب ، ونحن نبعّد البعيد ذودا للبخل عن ساحة سليمان ، وتأشيرا منه وأبيه في الملك العالمي الأخير للقائم المهدي عليه السلام.

أم يعني ملكا لا ينبغي لأحد من الملوك بعدي «مأخوذا بالغلبة والجور واختيار الناس» (٢) وقد حصل فعلا على ذلك الملك ، فما ملك أحد بعده

__________________

(١) راجع «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

(٢) تفسير البرهان ٤ : ٤٨ ـ ابن بابويه بسند عن علي بن يقطين قال قلت لابي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) أيجوز ان يكون نبي الله عز وجل بخيلا؟ فقال : لا فقلت له : قول سليمان (عليه السلام) (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ما وجهه ومعناه؟ فقال : الملك ملكان ، ملك مأخوذ بالغلبة والجور واختيار الناس وملك مأخوذ من قبل الله تبارك وتعالى كملك ابراهيم وملك جالوت وذي القرنين فقال سليمان : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ان يقول انه مأخوذ بالغلبة والجور واختيار الناس فسخر الله له ... فعلم الناس في وقته وبعده ان ملله لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل الناس والمالكين بالغلبة والجور قال فقلت له قول ـ

٢٥٠

ولن يملك زمنيا كما ملك ، وأما روحيا فالمسيح ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل منه ، وأما زمنيا وروحيا معا؟ فالقائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أكمل منه.

أم يعني «ملكا» في طول مكوثه (١) بين صالحي الملوك وكما هو واقع ، فلم يأت حتى الآن ملك يملك طول ملكه.

وعلّ مثلث المعنى هو المعني إذ يصلح كل معنى صالحا لذلك الاستيهاب القمة ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه ، والجمع بين الوجوه الحسنة هو أحسن الوجوه!

وقد يخرج المسيح ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن «لأحد» حيث يعني ـ فقط ـ الملوك بعده ، وهؤلاء لم يكونوا ملوكا مهما يكون لثالثهم سلطة فوق كافة السلطات الروحية والزمنية.

__________________

ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رحم الله اخي سليمان ما كان أبخله ، فقال (عليه السلام) : لقوله وجهان : أحدهما ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه ، والوجه الآخر يقول : ما كان أبخله ان أراد ما يذهب اليه الجهال ثم قال : قد والله أوتينا ما اوتي سليمان ولما لم يؤت سليمان وما لم يؤت احد من العالمين قال الله في قصة سليمان : هذا عطاءنا فامنن او امسك بغير حساب وقال عز وجل في قصة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.

(١) الدر المنثور ٥ : ٣١٣ ـ اخرج الحاكم في المستدرك عن عمر بن علي بن حسين قال مشيت مع عمي واخي جعفر فقلت زعموا ان سليمان (عليه السلام) سأل ربه ان يهبه ملكا قال حدثني أبي عن أبيه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لن يعمر ملك في امة نبي مضى قبله ما بلغ بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من العمر في أمته ، أقول قد يعني قبله قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

٢٥١

فالقائم المهدي (عليه السلام) يعيش عيشة الفقراء فلا يقال عنه : أحد من الملوك ، وسليمان النبي عاش كأفضل عيشة الملوك مهما لم تملكه زهوة الملوك!

ف (مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ) يعم الملوك من غير النبيين حيث لا ينبغي لهم ملك النبوة مهما كانوا عدولا ، والنبيين غير الملوك إذ لم يعطوا ملكا إلى نبوة ، والإمام المهدي الذي أوتي أقوى قوة روحية وزمنية ليس في عداد الملوك ولا النبيين ، فلا ينبغي أن يقال له : ملك ، لأنه فوق الملوك ، وأن عيشته عيشة أفقر الفقراء.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ)(٣٦).

طرف من ملكه الذي لا ينبغي لأحد أن سخّرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، فهو إذا راكب الريح يسوقها كما يسوق ركاب الطائرات (١).

إنها ريح (عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٢١ : ٨١) وهي (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (٣٤ : ١٣).

أترى لا تنافي «رخاء» هنا «عاصفة» هناك؟ كلّا! فإن رخاء حال جريانها بأمره ألّا تستصعب مطاوعة أمره ، ثم وقد يتجمع العصف والرخاء ، أنها تجري سريعة تعصف ، ولكنها عصفة الرخاء كأن لا حراك لها ، رغم أن الاضطراب وشديد الحراك من خلفيات السرعة.

فالريح العاصفة الرخاء كانت له مركبة فضائية لا تشعره بحراك رغم سرعتها الهائلة! (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) كما سخر الله (حَيْثُ أَصابَ)

__________________

(١) راجع سورة سبأ من الفرقان تجد تفسيرا مفصلا لآية الريح.

٢٥٢

سليمان من هدف يرميه ، وأي مكان يعنيه ، اللهم إلّا أن يشارك عاصفة لمولاه سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فيدور بساطه كما دار (١).

وهذه الريح هي من أسباب السماوات والأرض ، التي لا تسخّر بالعلم ، إلّا بما يسخر الله لمن يشاء ويرضى ، وسوف تسخر هي مع سائر الأسباب ـ إلّا التي تخص ربنا ـ تسخّر لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ)(٣٨).

«و» سخرنا له «الشياطين» يعملون له ما يشاء (كُلَّ بَنَّاءٍ) منهم في البرو «كل» «غواص» في البحر سيطرة شاملة على البر والبحر! : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (٣٨ : ١٢) وقرنهم في الأصفاد هو من ذوق عذاب السعير. (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٩).

(هذا عَطاؤُنا) ملكا لك يا سليمان (بِغَيْرِ حِسابٍ) : لأحد له عطاء ، ولا حساب عليه أجرا «فامنن» صرفا وعطاء لمن تشاء وكما تشاء (بِغَيْرِ حِسابٍ) ـ (أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

__________________

(١) تفسير البرهان ٤ : ٥٠ وروى ان سليمان (عليه السلام) كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء فمر ذات يوم وهو سائر في ارض كربلاء فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خافوا السقوط مكنت الريح ونزل البساط الى ارض كربلاء فقال سليمان للريح لم سكنت؟ فقالت : ان هنا يقتل الحسين (عليه السلام) فقال : ومن يكون الحسين؟ فقالت : هو سبط محمد المختار وعلى الكرار فقال : ومن قاتله؟ فقالت : يقتله لعين اهل السماوات والأرض يزيد لعنه الله فرفع سليمان يديه ولعنه ودعى عليه وامن على دعائه الانس والجن فهبت وسارت.

٢٥٣

أتراه عطاء فوضى في منّ أو إمساك بغير حساب؟ كلّا حيث المعطى له حساب دون فوضى :

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(٤٠).

فزلفاه عند ربه تمنعه عن فوضى العطاء والإمساك ، وحسن مآبه يدفعه ليكون العطاء والإمساك آئبين إلى الله ، فما سليمان ـ إذا ـ إلا أداة لمرضاة الله في ذلك العطاء بغير حساب.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ)(٤٢).

أترى أن الله يسلط الشيطان على عبده ورسوله أيوب أن يمسه بنصب وعذاب ، و (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) وهو (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)؟.

هنالك سلطة ممنوعة للشيطان على المخلصين هي على عقولهم وأرواحهم وأعمالهم ، لكيلا تبطل حجج الله على عباده ، وهنا سلطة ممنوحة على أبدانهم وأموالهم هي من الابتلاءات الربانية الشاملة لعباد الله الأمثل منهم فالأمثل.

والسلطة الشيطانية على أيوب في ردح من زمن المحنة لم تكن إلّا على الناحية المادية ، وقد بلورت فيها السماحة الروحية (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

فيا لهذا العذاب الجسداني من عذوبة روحية حين يصبر العبد عليه دونما شكوى ولا نكوى ، وكما نراه في سائر الصالحين طول الزمن الرسالي من مختلف النصب التي تنصب لهم ، والعذاب الذي يقصدهم في سبيل الدعوة ، أم في طريق التكملة الرسالية لتكمل الدعوة ، وهذه الثانية تمثلت لأيوب (بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

٢٥٤

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٢١ : ٨٣ ـ ٨٤.

نصان في سائر القرآن يتحدثان عن بلوى أيوب وصبره عليها ، باختصار في الأنبياء ، وفصلا هنا.

ذلك النبي العظيم الذي طمع الشيطان في تضليله بنصبه وعذابه ، أن يصدّه عن عبادة ربه أم ينقصه ، ولم يصده ربه امتحانا لعبده ، فعمل في ذلك واعتمل ولم يرجع عنه على طول المدة وطائل النصب والعذاب إلّا خاسئا وهو حسير!

أجل ، وليكن أيوب قبسا وهّاجا في الإيمان ، ومثلا عاليا وحيدا في الصبر واليقين ، حيث ينكص الشيطان على أعقابه ويجمع شياطينه المردة ، ويوحي لهم أن الله ليس ليصدهم عن أية أذى يريدونها بأيوب ، فقالوا : نجرّده عن أهله وماله وصحة حاله ليعود مجردا عن إيمانه حيث تشغله بليته باله هنا يريد الله بذلك السماح إمتحان عبده ، ويريد الشيطان امتهانه (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

ولقد سلّط الشيطان على قصوره فجعلها قبورا ، وعلّ على ولده أيضا فبدّلهم ميتا ، وعلى مواشيه وأمواله ، وعلى بدنه ، فقلبه في حظوظه المادية ظهر بطن لا يبقي له شيئا ولا يذر إلّا أطاح به ودمّر.

يريد الشيطان ليضطر عبد الله أيوب إلى اختراق ثوب الاصطبار إذا تهدمت عليه أركان حياته ، في ماله وأولاده ودوره وحاله ، ويريد الله ليجعل من أيوب عبدا صبورا أوّابا شكورا ، تصبح قصته ذكرى للعابدين وعبرة للمصابين ، وعزاء للمكروبين ، وسلوى للمرضى والزمنى والمجروحين.

٢٥٥

مرت الأيام ، وتحدرت الأعوام وأيوب لا يزال على شكاته حتى هزل جسمه وذهب لحمه ، وأصبح منقوف الوجه شاحب اللون ، لا يقر على فراشه من الآلام.

فرّ عنه الصديق ، وجانبه الرفيق ، ورغبت عنه شيعته ومن حوله إلّا زوجه الرؤوف العطوف الحنون حيث تحننت عليه ما وسع قلبها الحنان ، وعنيت به ما استطاعت إليه سبيلا ، ورفّت عليه بجناحيها ، وبسطت له أكناف قلبها ، وما شكت إلّا هموما تساورها من آلامه ، ومخاوف تتحذرها على حياته ، ولكنها ظلت أيام مرضه حامدة راضية ، مؤمنة محتسبة.

لهذا أعيى أمر أيوب عبد الله إبليس عدو الله ، ولم يجد إليه سبيلا إلّا من قبل زوجه ، فانطلق إليها وهي في بعض شأنها مع أيوب ، فتمثل لها رجلا وقال : أين زوجك؟ قالت : هوذا عميدا وقيذا ، يتضور من الحمى ، ويتقلب مما ألح عليه من الداء ، فلا هو حي ولا هو ميت.

هنا طمع اللعين في إغوائها فأخذ يذكرها بما كان لزوجها في صدر شبابه وغضاضة إهابه من صحة وعافية ونعمة صافية ، فأعادت لها الذكرى الأشجان ، وأثارت لديها كوامن الأحزان ، ثم أخذ يدركها الضجر وينساب إلى قلبها اليأس فذهبت إلى أيوب قائلة :

حتى متى تعذّب ، أين المال؟ أين الجمال ، اين الحال والعيال ، اين شبابك الذاهب ، اين عزك القديم؟! فأجابها قائلا : أراك قد سوّل لك الشيطان أمرا ، أتراك تبكين على عز فائت ، وولد مائت؟

فقالت : هلا دعوت الله أن يكشف عنك حزنك ويزيح بلواك؟ قال : كم مكثت في الرخاء؟ قالت : ثمانين ، قال : وكم في البلاء؟ قالت سبعا.

٢٥٦

قال : أستحي من ربي أن اطلب إليه كشف بلائي ، ولمّا قضيت فيه مدة رخائي ، ولكن يخيل لي أنه قد بدأ يضعف إيمانك ، ويضيق بقضاء الله قلبك ، ولئن برئت وأتتني القوة لأضربنك مائة سوط ، وحرام عليّ أن آكل من يديك بعد اليوم طعاما أو أشرب شرابا ، أو أكلفك أمرا ، فاغربي عني حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا!

أصبح أيوب ـ الآن ـ وحيدا فريدا وقد اشتدت آلامه ، وتضاعفت أسقامه ، ففزع إلى ربه داعيا متحننا ، لا شاكيا متبرما ف (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٢١ : ٨٣) وذلك في آخر الامتحان ، وكما تدل الآية التالية (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ...) استجابة دون فصل!

يشكو ربه الرحيم من الشيطان الرجيم دون أن يصارحه في كشف ضره ، وإنما عرضا لحاله (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ ...) وقرنا لرحمته تعالى إلى حاله (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإن رأيت فارحم عبدك ، وإلّا فأنا من الصابرين ، فاستجاب له ربه فور عرضه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ...).

أجل! ولحد الآن يصمد أيوب لوسوسة الشيطان ، فيرتقي إلى ذروة الإيمان (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) ـ وليس الركض حسب العادة إلّا برجل ـ فذلك لمحة إلى مدى مرضه لحد لم يك يمشي برجل ، ولكنه الآن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) عدوا قفزة أولى إلى الصحة ، ثم وثانية إلى العافية : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فلم يكن يسطع قبل لاغتسال ولا شرب شراب.

فما شرب واغتسل حتى اندملت قروحه ظهر بطن ، وبرئت جروحه ، وكأن بارد الماء كان مرحما ملحما ، رغم أنه يضر بالجروح في عادية الأحوال!.

٢٥٧

ولقد كانت زوجته رق قلبها وحدبت عليه ولم تطاوعها نفسها الكريمة الحنونة أن تتركه وشأنه ، وقد لزمته منذ اوّل بلائه على طول المدة وطائل المحنة ، فرجعت إليه كعادتها تعاود إصلاح شأنه فترى عجبا حين ترى شابا مكتمل الشباب ، غض الإهاب ، مكتنز اللحم ، وافر المنة والقوة ، فحمدت الله على ما ردت إليه من عافية.

فهل إن أيوب يتركها ويستبدل بها غيرها ، بعد أن يضربها مائة سوط كما عهد من ذي قبل؟ ما هكذا الظن به ولا المعروف من فضله ، أن يتناسى حنانها الدائب ، وحضورها الواصب.

وحين لا يتركها فما ذا يفعل بعهده عليها وهو بلاء على بلاء وعناء على عناء ، إذا يأتي الوحي الحبيب من الحبيب :

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤).

خذ حزمة من القش والريحان تشتمل على مائة باقة واضرب بمجموعها زوجك مرة واحدة ، حفيفا رقيقا رفيقا ، رخصة لك في يمينك ، ورحمة بهذه المخلصة الصالحة التي احتملتك في مرضك ، وشاركتك في آلامك!.

ولئن سئلنا كيف يبتلى أيوب بمثل هذه البلية التي تنفّر عنه الطباع ، أبذنب؟ والأنبياء لا يذنبون ، أم بغير ذنب فأسوء وأنكى ، ومن لزامات الرسالات بقاء الرسل في حالة جذابة غير منفرة ، والروايات تقول أصبح بدنه كله منتنا مدوّدا.

فلنضرب بروايات متخلفات ومختلقات ـ تمس من ساحة نبي الله أيوب وتنتقص من سماحته ـ نضربها عرض الحائط ، كما هو مصير آيات مختلقات

٢٥٨

متناقضات في العهد القديم (١) ، فقد طغت إسرائيليات في رواياتنا هنا

__________________

(١) ففي حين يصفه حزقيال ١٤ : ١٤ و ٢٠ بكمال العبودية والايمان وانه تحمل ألوان الرزايا صابرا محتسبا ـ و : ليس كمثله احد في كمال الاستقامة والتقوى (أيوب ١ : ٨ و ٢ : ٣ و ٣٨ : ١ و ٤٠ : ١ و ٦  : ٤٢ : ٧).

نجده يصفه بما يناقضه : (قد كرهت نفسي حياتي ، اسيب شكواي ، أتكلم في مرارة نفسي قائلا لله : لا تستذلي ، فهمني لماذا تخاصمني؟ أحسن عندك أن تظلم ، ان ترذل عمل يديك وتشرف على مشورة الأشرار ، ألك عينا بشر ام كنظر الإنسان تنظر ... حتى تبحث عن إثمي وتفتش على خطيئتي ، في علمك إني لست مذنبا ولا منقذ من يدك ... ان ارتفع تصطادني كأسد ثم تعود وتتجبر على ، تجدد شهودك تجاهي وتزيد غضبك علي ، نوب وجيش ضدي فلما ذا اخرجتني من الرحم ... (أيوب ١٠ : ١ ـ ٨).

أشكو بمرارة نفسي ... قد ذبت لا الى الأبد أحيا ... ما هو الإنسان حتى تعتبره وتضع عليه قلبك وتتعهده كل صباح وكل لحظة تمتحنه ، حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما ابلع ريقي ... لماذا جعلتني عاثورا لنفسك حتى أكون على نفسي حملا ... (أيوب ٧ : ١١ ـ ٢١).

فاعلموا ان الله قد عوجني ولف عليّ احبولته ، ها اني اصرخ ظلما فلا استجاب ، ادعوا وليس حكم ، وقد حوط طريقي فلا اعبر ، وعلى سبيلي جعل ظلاما ، أزال عني كرامتي ونزع تاج رأسي ، هدّمني من كل جهة فذهبت ، وقلع مثل شجرة رجائي ، واضرم على غضبه وحبسني كاعداء معا جاءت عزاته واعدوا على طريقهم وحلوا حول خيمتي ، قد ابعد عني اخوتي ، ومعارفي زاغوا عني ، اقاربي قد خذلوني ، والذين عرفوني نسوني ، نزلاء بيتي وامنائي يحسبونني أجنبيا ، صرت في أعينهم غريبا ... نكهتي مكروهة عند امرأتي ، وقممت عند أبناء احشائي ، الأولاد ايضا رذلوني ، إذا قمت يتكلمون عليّ كرهني كل رجالي والذين أحبهم انقلبوا عليّ عظمي قد لصق بجسمي ولحمي ونجوت بجلد اسناني ، ترأفوا ترأفوا أنتم عليّ يا اصحابي ، لأن يد الله قد مستني ، لماذا تطاردوني كما الله ، ولا تشبعون من لحمي ، ليت كلماتي الآن تكتب ، يا ليتها رسمت في سفر ونقرت الى الأبد في الصخر بقلم حديد وبرصاص ...» (١٩ : ٦ ـ ٢٤). ـ

٢٥٩

وهناك فشوهت الحقيقة الناصعة التي أتى بها القرآن العظيم ، ولا نؤمن إلا بما جاء نصه في الذكر الحكيم.

والقول الفصل في الجواب في أصوب الصواب تجده عند باقر العلوم (عليه السلام): ان أيوب (عليه السلام) ابتلي من غير ذنب ، وإن الأنبياء لا يذنبون ، لأنهم معصومون مطهرون ، لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ، وان أيوب (عليه السلام) مع جميع ما ابتلي به لم ينتن له رائحة ولا قبحت له صورة ، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ولا استقذره أحدا رآه ، ولا استوحش منه احد شاهده ، ولا تدوّد شيء من جسده ، وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه ، وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بماله عند ربه تعالى من التأييد والفرج ، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي تهون معه على جميع الناس ، لئلا يدعوا معه الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى

__________________

ـ «... من يعطيني أجده فآتي الى كرسيه ، احسن الدعوى امامه ، وأملأ فمي حججا فأعرف الأقوال التي يجيبني وافهم ما يقوله لي ... ها أنا ذا اذهب شرقا فليس هو هناك وغربا فلا أشعر به ، شمالا حيث عمله فلا انظره ، يتعطف الجنوب فلا أراه» (٢٤ : ٣ ـ ٨) «حي هو الله الذي نزع حقي والقدير الذي امر نفسي» (٢٧ : ٢). هذا! ولكن ربه يناقضه في هذه التهم «فقال الرب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدي أيوب لأنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر» (١ : ٨) «الى الآن هو متمسك بكماله وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب (٢ : ٣) فانظر الى هذه الشطحات المتناقضات في التوراة والروايات المتأثرة بها ثم انظر الى القرآن الحكيم فاقض ما أنت قاض.

٢٦٠