الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ

٣٨١

وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ

٣٨٢

بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥).

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) الذي أمرنا وعدا ، وهو (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) (٢٦ : ١٨٩) جاء تحقيقا ، (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) مما يدل على أنه حصل على مؤمنين في حجاجه الطويل الطويل (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) رحيمية خاصة بالرساليين من عبادنا الصالحين (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) المدمرة المزمجرة التي خلّفت صاعقة العذاب الهون بما كانوا يعملون (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) على الأرض كما يجثم الطائر إذا قعد ولطئ بالأرض ساقطا بصيده ، فقد صادت هؤلاء الطير الوحش صيحة من عذاب الله وجثمتهم (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) وسكنوا وقتا ما ، إذ ما بقيت لهم من باقية ، «ألا بعدا لعاد كما بعدت ثمود» بعدا لهم بعيدا حيث طويت صفحتهم عن الوجود ، وصحيفتهم عن التاريخ ، اللهم إلّا بكل لؤم وشؤم كما تكررت في هذه الإذاعة القرآنية.

هذا شعيب (عليه السلام) في دعوته الصالحة ، وقد قال عنه أخوه الأكبر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «بكى شعيب (عليه السلام) من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره وأوحى الله إليه يا شعيب ما هذا البكاء ، أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال : لا! ولكن اعتقدت حبك بقلبي ، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي ، فأوحى الله إليه : يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي ، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٨ ـ أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

وفي البحار ١٢ : ٣٨٠ مثله عن الزهري بزيادة مرتين أخريتين لبكائه وعماه فرد الله عليه بصره فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه ..

٣٨٣

وموسى (عليه السلام) هو آخر نبي في هذا العرض المسلسل لأنبياء عدّة ، ولكنه خاصر يكتفى فيه بإرساله إلى فرعون وملاءه بآيات رسولية ورسالية (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ثم (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وقد يغني المضي في «أوردهم» دون «يودهم» أنه أوردهم النار في الحياة الدنيا من ذي قبل ، فهم يردون النار التي أوردهموها من قبل (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

فقد جعل فرعون في هذه الاستعارة اللطيفة ، في تقدمه قومه إلى النار ، بمنزلة الفارط المتقدم للوارد إلى الورد ، كما كان في الدنيا متقدمهم إلى الضلالة وقائدهم إلى الغواية ، وجعل النار بمنزلة الماء الذي يورد (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) فإنه ورد لا يجيز الغصة ولا ينقع الغلة.

وبينما نسمع هنا حكاية عن ماض ووعدا عن مستقبل إذا المشهد ينقلب وكأن المستقبل ماض قد مضى ، إذ قد مضى أصله ، وهو متحقق الوقوع في المستقبل.

وهنا (سُلْطانٍ مُبِينٍ) بعد «بآياتنا» توصيف رصيف للآيات ، بأن فيها سلطة مبينة ، ثم تعميم بعد تخصيص حيث الآيات هي الآيات المعجزات ، وسلطان مبين هو كل البينات التي تبيّن الحق سواء أكانت هي الآيات المعجزات ، أم سواها من حجج بالغة ربانية ، فمن السلطان مبين ومنه غير مبين ، فالسلطان الفاضي عن الحجة هو قاهر قاصر عن المحجة ، والسلطان الفائض بالحجة هو سلطان على الفطر والعقول ، وقد يجتمعان كما في سلطان ثعبان العصى فإنه برهان حسي مخيف ، وأفضل منه سلطان القرآن حيث هو مجمع كل سلطان في كل الحقول ، فطريا وعقليا وعلميا وحسيا وما أشبه.

ثم الورد هو الماء الذي يرده الحيوان العطاش ، وهو المورود لهم ، والإنسان بطبيعة الحال له ورد مورود بما يقدمه من أعمال ، فإن كانت صالحة فنعم الورد المورود هنا وفي الأخرى ، وإن كانت طالحة فبئس الورد المورود فيهما ، حيث «يسقون» الأولون (مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٨٣ : ٢٦) ثم الآخرون لهم

٣٨٤

سقي الزقوم (يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٤٠ : ٧٢) : و (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٦ : ٧٠) حيث (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢٢ : ٢١).

ولأن الورد المورود هو في المصطلح ورد قطيع الغنم العطاش بما يودها رعاتها ، فهنا اللمحة اللّامعة أن قوم فرعون كانوا كقطيع الغنم يقدمها راعيها الخائن الفرعوني فأوردها ورد النار بديلا عن الماء ، فهو ورد الممات بديلا عن ورد الحياة.

ذلك ، فأين ورد مورود من ورد مورود؟ وأين رحيق مختوم من ماء حميم محموم؟.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) الدنيا «لعنة» حيث تلعنهم سنتهم الباقية الباغية بمن تبعهم إلى يوم القيامة ، فإن من سنّ سنة سيئة كان عليه وزره إلى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيء.

ثم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) بلعنة العذاب الحاضر ، بعد لعنة اللّاعنين بما التعنوا به من الطالحين أم لعنوه من الصالحين ، و (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) وهو العطية الربانية جزاء لهم وفاقا ، بديلة عن العطية الموعودة للصالحين ، فكلا الورد المورود والرفد المرفود هما من مخلّفات المساعي الصالحة والطالحة (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

ذلك ، ومن واجهة أخرى كما أن (بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) هو ورد فرعون بما أضلهم ، كذلك (الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) هو رفده وعطيته بما وعدهم كما وعد السحرة جزيل العطاء ، فهو ذا رفده لمن اتبعه ، وذاك ورده لمن أورده.

ذلك ، ولأن حقيقة الرفد هي العطية وقد جعلت اللعنة بديلة من الرفد لهم عند انتقالهم من دار إلى دار على عادة المنتجع المسترفد ، أو الرجل المتزود ، جاز أن يسمى رفدا بوجه المجاز وكما قال تعالى :

٣٨٥

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) والبشارة هي بطبيعة الحال لا تكون إلّا في الخير ، ولكن لما جعل إخبارهم باستحقاق العذاب في موضع البشارة لغيرهم باستحقاق الثواب ، جاز أن يسمى في ذلك بشارة ، أم لو كانت لهم بشارة فهي اللعنة المتبعة يوم القيامة ، فضلا عن النذارة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ)(١٠٠).

النبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة ، وهكذا تكون كل الأنباء القرآنية والقصص المسرودة فيه ، فإنه ليس كتابا قصصيا يعني عرض الأحداث فقط ، فإنما يعني الفوائد العظيمة الرسالية التي تضمها ، فلذلك يعبر عنها تارة بالأنباء ، وأخرى بالقصص ، والقصد إلى قصّ تاريخي عن طوماره ، ما فيه فائدة عظيمة جسيمة.

ف «ذلك» الإنباء الرسولي والرسالي هو (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المتخلفة عن رسالات الله (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) من غابر التاريخ دون سرد لكل محاصيله ، ف «منها» هذه القرى المقصوصة عليك «قائم» بنفاد أهلها أم بقاء بعض منهم «و» منها «حصيد» حصدت مع أهليها ، فقد تعم (قائِمٌ وَحَصِيدٌ) القرى بأهليها ، بل والقرى في الأصل هي الأهلون ، وتطلق على أمكنتهم بمجاز الملابسة.

فالوصفان بالنسبة لأمكنتهم يعنيان : منها قائم البناء ، خال من الأهل ، ومنها منقوض الأبنية ملحق بالأرض تشبيها بالزرع المحصود.

وهما بالنسبة لهم أنفسهم تشبيه للأحياء الباقين بالزرع النامي ، وللأموات الهالكين بالزرع الذاوي ، وذلك أحسن تمثيل وأوقع تشبيه.

أجل «وإن لكم في القرون السالفة لعبرة ، أين العمالقة وأبناء العمالقة ، أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ، أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيين ، وأطفأوا سنن المرسلين ، وأحيوا سنن الجبارين ، أين الذين ساروا بالجيوش ، وهزموا بالألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدّنوا المدائن» (من الخطبة ١٨١).

٣٨٦

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)(١٠١).

(وَما ظَلَمْناهُمْ) فيما عذبناهم «ولكن» هم الذين (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ كذبوا بآياتنا فعذّبوا كما كذّبوا ، فقد ظلموا هم أنفسهم دوننا ، حيث العذاب المستحق هو العدل وتركه ظلم.

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي) ألهتهم حيث «يدعون» ها (مِنْ دُونِ اللهِ) عن عذاب الله (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بذلك العذاب (وَما زادُوهُمْ) هؤلاء الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) : وتقطيع عن رحمات الله ، بدلا من أن توصلهم إليها كما كانوا يزعمون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) «و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)!.

أجل : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦ : ١١٨) (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٤٣ : ٧٦).

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(١٠٢).

«وكذلك» الشديد الشديد (أَخْذُ رَبِّكَ) الذي رباك : هؤلاء الذين يكذبونك بما رباك (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) في دركات الظلم المستحق وفقها دركات العذاب (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) لا قبل به ولا مردّ له ، و «إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ..» (١).

ومن أظلم الظلم التكذيب بآيات الله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٣ : ١١) (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) (٨ : ٥٢) (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) (٦٩ : ١٠).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٩ عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله ... ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

٣٨٧

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)(١٠٤).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الأنباء المقصوصة عليك ، وذلك الأخذ الأليم الشديد «لآية» باهرة على صادق الحق مبدأ ومعادا ورسالة بينهما (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) فأما غير الخائف عذابها مهما كان موحدا معتقدا فيها ، فليس في ذلك له آية ، فإنما يصد أكثر الناس عن التبعثر خوف عذاب الآخرة ، فإنهم عبيد يتبعدون خوف العذاب ، ثم بغية الأجر للأجراء وهم أقل ، ثم طاعة الله وترك معصيته لأنه الله لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته وهم الأحرار وهم أقل من الأقل.

«ذلك» اليوم العظيم هو (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) فهو ـ إذا ـ الآخرة الأخيرة دون البرزخ ، فإنه الآخرة الأولى بعد الدنيا (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) في الأولى بشهادة الفطرة والعقل والعدل الرباني وكتابات الوحي ، وفي الأخرى هو مشهود لمجموع الناس ، ومشهود بشهادات الشهود فإنه (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١).

صحيح أن الحياة الدنيا هي يوم مجموع له ناس بقرون متتالية ، ومثلها البرزخ ، ولكن أين مجموع الآخرة منهما ، حيث الجمع فيها يحلّق على الكل دون إبقاء ، لزمان واحد بمحشر واحد ، ثم إن كلّا مكشوف للآخرين كما هو مكشوف لنفسه ، لا تخفى منهم خافية ، فإنه يوم العرض الأكبر ، على الله وعلى ملائكة الله ورسله ، وعلى عباد الله بعضهم لبعض.

والبرزخ يوم عظيم في برزخه بين يوم الدنيا ويوم الدين «واعلم يا ابن آدم أن من وراء هنا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يجمع الله فيه الأولين والآخرين» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٩٥ في روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ والزهد في الدين.

٣٨٨

إنه يوم مشهود لذلك الجمع ، شاهدين بعضهم بعضا وبعضهم لبعض أم على بعض ، مكشوف لأهل الحشر كلهم دون أي ستار وغطاء على المحشورين وأعمالهم وأحوالهم ، لا تخفى منهم خافية.

(وَما نُؤَخِّرُهُ) : ذلك اليوم الآخر المجموع له الناس ، المشهود للشهداء والناس (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) عندنا ، المجهول بعده وحدّه عند من سوانا ، فإنه من الغيب الطليق الذي لا يظهر الله عليه الله أحدا.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١٠٨).

وترى ما هو ذلك اليوم؟ هل هو يوم القيامة الكبرى كما عنته الآية السالفة؟ وتعلقت بها «يوم» ظرفا بيانيا؟ وأين فيه السماوات والأرض وقد تفطرتا! ثم الخالدون في جنتها غير خارجين عنها وهنا (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قد تستثني عن خلودهم فيها!.

أم هو يوم البرزخ؟ لمكان السماوات والأرض ، و (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) لأهل الجنة والنار حيث يخرجون من الجنة البرزخية إلى الحشر ثم إلى جنة الأخرى أو نارها؟ وليس يوما واحدا كما تعنيه «يوم» فلكل ميت يومه فهو ـ إذا ـ أيام! وليس مجموعا له الناس وقد عنته الآية السالفة!.

قد يعنى «يوم» هنا يومي البرزخ والقيامة الكبرى ، فإن لكلّ وجهه الوجيه : فأما القيامة ، فالسماوات والأرض فيها هما غير التي انفطرت حيث تبنى في الأخرى سماوات وأرض أخرى (١) وكما يقول الله : (يَوْمَ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٥٠ ـ أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : ما دامت السماوات والأرض ، قال : تبدل سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.

٣٨٩

تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (٣٩ : ٧٤) إذا ففي القيامة أرض وسماوات غير هذه حيث تبدّلان بهما ، ثم لا ندري هل هما فقط لأهل الحشر؟ أم ولمن قد يخلقهم الله بعد القيامة الكبرى؟ فأما خلود الذين شقوا في النار إلّا ما شاء ربك؟ :

فقد يعني خروج البعض من أهل النار حيث لا يستحقون الخلود ما دامت السماوات والأرض ، فهم من الخارجين قبل خرابهما وكما في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ومنهم الباقون بعد خرابهما ما دامت النار ، قبل انتهاء سماوات القيامة وأرضها ، ولا نهاية لهما ، وأما الأبدية اللانهائية للنار فهي فرية على العدل الحكيم ، و (ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فقد تؤكد (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) عدم الأبدية الطليقة لأهل النار ، قضية مضي الفعل الدال على حتميته ، فليس الاستثناء بالمشية هنا بيانا لطليق القدرة ، بل الأصل فيه واقع العدالة.

وأمّا خلود الذين سعدوا في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلّا ما شاء ربك ، فهو استثناء لما مضى من مكوث بعض أهل الجنة في النار قبل أن يخرجوا منها إلى الجنة (٢) وأما البرزخ ، ف «يوم» هنا بحسابه منفصل عن (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) في الآية السالفة ، ثم هو جنس اليوم لجنس الموتى فهو ـ إذا ـ أيام ، وهنا (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) هما قبل القيامة

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٥٠ ـ أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة انه تلا هذه الآية : فأما الذين شقوا .. فقال : حدثنا أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال ، أهل حروراء ، وفيه أخرج ابن مردويه عن جابر قال : قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : فأما الذين شقوا ـ إلى قوله ـ إلا ما شاء ربك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل.

(٢) المصدر أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : (وأما الذين سعدوا ...) قال : هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة ، يقول : (خالدين في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) يقول : إلا ما مكثوا في النار حتى ادخلوا الجنة.

٣٩٠

الكبرى ، فالنار والجنة إذا هما البرزخيتان.

فالذين شقوا هم خالدون في ناره ما دامت السماوات والأرض ، إلّا من توفّى عذابه المستحق فخرج من ناره ، ثم يدخل الجنة البرزخية ، ثم إلى جنة الأخرى.

وأما الذين سعدوا فهم خالدون في جنته غير خارجين عنها إلّا خروجا لدخول الجنة الأخرى بفصل الساعة وعرصتها أم بدخول النار البرزخية في البداية ، وهنا (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) تعني أنهم مستمرون في جنة الله بلا انقطاع ، حيث ينتقلون إلى جنة الأخرى بعد خروجهم عن الجنة البرزخية.

ذلك ، ولكن «يوم» منصوبة ، فظرفا بيانيا ل «يوم مجموع له الناس ويوم مشهود» قد ترجح أنه يوم القيامة الكبرى ، مهما صحت عناية البرزخ منها ضمنيا دون دلالة مستقيمة ل «يوم» عليه.

اللهم إلّا أن يؤوّل (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أنه يجمع في نفسه كل الناس لوقت مّا وليس هكذا الدنيا ، فهو كما (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) تحليقا ليوم الموت على المجموع لا وجمعهم لوقت مّا ، وهكذا هو (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) بكل معاني الشهادة الماضية ، ثم وقد تتعلق يوم ب (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) كما يصح تعلقه بما قبل.

فقد تتحمل «يوم» كلا اليومين دون أي تحميل اللهم إلا تحمّل جميل ، مهما كان الأظهر هو يوم القيامة الكبرى ، فإن «الفاء» في (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تبعد تعلق «يوم» بهما.

وترى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تعني الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه (١) ف «على م نعمل؟ على شيء قد فرغ

__________________

(١) قد رواه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان ص ٢٤٠ بقوله : وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه.

٣٩١

منه؟ أو على شيء لم يفرغ منه؟ كما سأل الخليفة عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أجابه (صلى الله عليه وآله وسلم): «بل على شيء فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كلّ ميسر لما خلق له» (١) : كما (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٨٠ : ٢٠) (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠ : ١٠).

أجل فرغ من شقاء من يشقى ومن سعادة من يسعد في علم الله دون تسيير ، بل هو تيسير ، ف «كل ميسر لما خلق له» من شقاء وسعادة كما (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ف «الشقي من علم الله عزّ وجلّ وهو في بطن أمه أنه سيعمل عمل الأشقياء والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل عمل السعداء (٢).

هذا ، وفي نظرة أخرى إلى هذه الآيات نجد فوارق بين الجنة والنار في البرزخ والأخرى : فالداخل في الجنة غير خارج عنها برزخا وأخرى (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) في كل منهما ، لمكان (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) اللهم إلا في الفاصل بين الجنتين وهو عرصات المحشر فالخروج عن الجنة أم فناءها بأهليها لا يناسب عطاء غير مجذوذ ، ولا تعني (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) هنا إلا الخروج عن الجنة البرزخية ثم الدخول إلى جنة الأخرى.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٩ ـ أخرج جماعة عن عمر بن الخطاب قال : لما نزلت : فمنهم شقي وسعيد قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلى م .. وعن صحيح البخاري عن عمران بن الحصين قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فيم يعمل العاملون؟ قال : كل ميسر لما خلق له ، وفيه أيضا عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال : ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار قالوا : ألا ننكل؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرء : فأما من أعطى واتقى فنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى فنيسره للعسرى.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٣٩٦ ـ التوحيد بسند متصل عن محمد بن أبي عمير قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الشقي من شقى ... فقال : الشقي من علم الله ..

٣٩٢

وأما الداخل في النار برزخا وأخرى فقد لا يخلد فيها ، بخروجه عنها قبل فناءها ، كالذين لا يستحقون خلودها (١) ، أم يخلّد ولا يؤبد فيها حيث

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٩٩ عن تفسير العياشي سئل أبو جعفر الباقر (عليهما السلام) عن قول الله ـ في أهل النار ـ : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)؟ فقال : هذه في الذين يخرجون من النار ، أقول : إنهم من المعنيين من الآية وليسوا كلهم وهذا تفسير بمصداق مجهول بيانا. وفيه عن معاني الأخبار بسند متصل عن الحسن بن علي الناصر عن أبيه عن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) عن أبيه ـ ثم ذكر آباءه إلى الحسين (عليهم السلام) قال قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : صف لنا الموت فقال علي (عليه السلام) : على الخبير سقطتم ، هو أحد أمور ثلاثة يرد عليها ، إما بشارة بنعيم أبدا وإما بشارة بعذاب أبدا ، وأما تخويف وتهويل وأمر مبهم لا يدري من أي الفريقين هو ، فأما ولينا المطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد وأما عدونا المخالف علينا فهو المبشر بعذاب الأبد ، وأما المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤل إليه حاله يأتيه الخبر مبهما محزنا ثم لن يسويه الله عزّ وجلّ بأعدائنا لكن يخرجه من النار بشفاعتنا فاعملوا وأطيعوا ولا تنكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله عزّ وجلّ فإن من المسرفين من لا يلحق شفاعتنا إلا بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة.

وفي تفسير البرهان عن ابن مسلم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجهنميين فقال : كان أبو جعفر (عليهما السلام) يقول : يخرجون منها فينتهى بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى عين الحيوان فينضح عليهم من ماءها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم ، ورواه بإسناده عن عمر بن أبان عنه (عليه السلام) مثله.

وفيه عنه بإسناده عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليهما السلام) يقول : إن أناسا يخرجون من النار حتى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة قال : فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشح أهل الجنة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم ودماءهم ويذهب عنهم قشف النار ويدخلون الجنة يقولون ـ أهل الجنة ـ الجهنميين فينادون بأجمعهم : اللهم اذهب عنا هذا الاسم ، قال : فيذهب عنهم ، ثم قال : يا أبا بصير إن أعداء علي هم المخلدون في النار ولا تدركهم الشفاعة.

وفيه عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال : سمعت عبد الله صالحا يقول في الجهنميين : إنهم يدخلون النار بذنوبهم ويخرجون بعفو الله.

وفيه عنه بإسناده عن حمران قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنهم يقولون : لا تعجبون من قوم يزعمون أن الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنة مع أولياء الله؟ فقال : ـ

٣٩٣

لا يستحقه ، أم يؤبد باستحقاقه الأبد ولكنه أبد محدّد ، وهذه الثلاث معنية ب (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) لأهل النار ، فثالثة المشيئة الربانية هي إفناء النار بمن فيها (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من حكمة عادلة ، وحيث لا يريد ظلما بالعباد فليس فعّالا له ولا فاعلا ، فلا يؤبّد أهل النار فيها لغير حدّ محدود ، إنما هو فعّال لما يريد من حكمة عادلة ، ومنها في حقل النار ألّا يخلّدهم ما دامت السماوات والأرض ، حيث الشقاء بآثارها محدّد محدود ، ولا نهائية النار لا تناسب محدودية الكفر والعصيان ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) و (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ولا مماثلة بين المحدود واللّامحدود!.

وهنا (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) مضيا محققا للمشيئة الربانية القاطعة ، مؤكدة ب (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أنه ـ قطعا ـ يريد ما شاءه لوقته ، وفعال لما يريده من مشيئته ، فمثلث المشيئة المرادة الفعالة هنا واردة على مثلث (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ـ خالِدِينَ فِيها ـ ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

والمحور المتعيّن في هذه المحاور للاستثناء هو الأخير : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وصفا لأمد الخلود ، فسواء أكانت السماوات والأرض دائمتين يوم القيامة دون زوال ، أم هما زائلتان ـ ولا دليل قبل (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) على دوامهما ـ فالمعلوم في هذا البين أن (الَّذِينَ شَقُوا) ـ وأظهرهم مدلولا هم المؤبدون في النار ـ أنهم داخلون في مشيئة الرب القاطعة قطعا لعذابهم كما (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦ : ١٢٨) ف (إِلَّا ما شاءَ) هنا في تحقيق المشيئة الماضية ، هي ك (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) هناك في نفس التحقيق الحقيق بأهل

__________________

ـ أما يقرءون قول الله تبارك وتعالى (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) انها جنة دون جنة ونار دون نار ، أنهم لا يساكنون أولياء الله فقال : بينهما والله منزلة ولكن لا أستطيع أن أتكلم ، إن أمرهم لأضيق من الحلقة ، إن القائم إذا قام بدء بهؤلاء.

٣٩٤

النار. فأين إذا اللّانهائية الحقيقية لخلود النار؟.

فقد برزت هذه الآية صارحة صارخة في هذه الإذاعة القرآنية ـ إلى جنب سائر البراهين المتجاوبة معها ـ أن الخلود اللّانهائي للآبدين في النار هو خرافة جارفة ظالمة ، مهما زخرفت بفلسفات وعرفانيات أم وروايات ، إذ هي كلها بما أشبهها من توجيهاتها تطارد ذلك النص الباهر!.

ولأن (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) لا تدل بنفسها على لا نهائيتهما ، فليس (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء عن نص اللانهائية ، بل هي تطارد زعمها بالنسبة لأهل النار ، ثم (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) تثبتها لأهل الجنة.

ذلك ، وأما الاستثناء عن خلود أهل الجنة فقد يعني أكثر من دوام السماوات والأرض وهو اللّانهاية قضية (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وهناك قاطعة البراهين الدالة على أمد النار وأن ليس للجنة أمد ، إنها تؤيد الفارق بين خلود الجنة والنار.

ذلك ، وقد تعني (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) على أن لهما أمدا مهما كان أطول من دوامهما يوم الدنيا ، فلأهل النار الخلود ما دامتا (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فهو خارجون عنها قبل خرابهما ، ولأهل الجنة الخلود ما دامتا ، انقطاعا بانقطاعهما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من عدم انقطاعها عنهم بانقطاعها قضية (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

ف «دام» بنفسها لا تدل على اللّانهاية ، فضلا عن «ما دام» فان «ما» تحدد ذلك الدوام وإن كان يعنى اللّانهائية ، ولا يعنيها ، فقد تكون «ما دام» نصا في نهايتهما ، ثم لا دليل على لا نهائية سماوات القيامة وأرضها اللهم إلّا (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) الدالة على بقاء الجنة بعد خرابهما! فبعد أن لم يكن أبد الجنة دليلا على لا نهايتها ، نجد (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) تفسره باللّانهاية.

إذا ف «ما دامت» إشارة لطيفة إلى انتهاء سماوات القيامة وأرضها ، كانقطاعهما يوم الدنيا ، إلّا أن مشيئة الله تقصّر عذاب أهل النار عطفا منه

٣٩٥

ورحمة قضية أن (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) رحمة بعد العدل ، ثم مشيئته الأخرى تطول رحمة أهل الجنة فضلا منه وإحسانا ، قضية (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

ف (ما دامَتِ ..) تحدد ـ كأصل ـ أمد السماوات والأرض يوم القيامة ، و (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) تقصّر أمد النار وتكثر أمد الجنة.

فهذه الآيات هي منقطعة النظير في مثلث الدلالة ، أمدا للسماوات والأرض يوم القيامة ، وأبدا لا نهائيا لأهل الجنة ، وأمدا قبل انتهاء السماوات والأرض لأهل النار!.

ففي الحق قد يصح القول ـ كما يروى عن الباقر (عليه السلام) ـ : «في ذكر أهل النار استثنى وليس في ذكر أهل الجنة استثناء» (١).

ذلك لأن ظاهر الاستثناء هو عن موجب هو التقصير ، وأما التطويل فغير داخل فيه ، إلّا بدليل قاطع وهو هنا (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

ذلك ، ومن الداخل في تقصير الاستثناء هو (زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) و (خالِدِينَ فِيها) فقد لا يخلد في النار شقي حيث يذوق وبال أمره فيخرج منها إلى الجنة دون زفير وشهيق ، أم بعد زفير وشهيق ، ثم الأشقون يؤبدون ما هم أحياء ثم يفنون بفناء النار قبل فناء السماوات والأرض ، ويظل أهل الجنة في الجنة وهم عند سدرة المنتهى وهي فوق السماء السابعة ، فلا يضرهم ولا جنتهم تفطر السماوات والأرض ، كما لم يضر تفطرهما يوم الدنيا فإنها (جَنَّةُ الْمَأْوى) ، (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) ولا دليل على زوال الكون عن بكرته ، إلا تفطر السماوات والأرض ، وجنة المأوى خارجة عنهما!.

ثم (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) في وجه القيامة وهو الأوجه ، قد تعني «له» لصالح الحساب الجمعي ، حيث الأعمال لها واجهتان اثنتان ثانيتهما

__________________

(١). نور الثقلين ٢ : ٣٩٩ في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : ..

٣٩٦

هي الواجهة الجمعية ، فليجمع الناس كلهم لذلك اليوم حتى يعمهم السؤال والحساب : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٧ : ٦) حيث (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٣٦ : ١٢) فمكتوبات الأعمال بالأحوال والأقوال ـ ما قدموها بآثارها ـ تجمع يوم الجمع ، حيث يقوم الأشهاد والمشهود عليهم أولهم يوم الميعاد.

وهنا أسئلة مطروحة على بساط البحث حول هذه الآيات الأربع فعرضها بأجوبة تناسبها كما تستفاد منها ومن الآيات المناسبة لها :

١ كيف (ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) فالتأخير عما ذا يكون؟ هل هو عن الأجل المحتوم؟ وهو الأجل المعدود! أم عن الأجل المعلق؟ ولا تعلق لأجل القيامة ، ف (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) و (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٦ : ٥٠)!.

المعني من التأخير هنا هو التأخير عما يستعجل منه تهكما أو تعنّتا وكما نسمعه من كافرين ناكرين ليوم الدين.

٢ كيف يكون تقسيم أهل الحشر حاصرا كما يقول (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وهناك فرقة ثالثة لا هي شقية ولا سعيدة كالأطفال والمجانين وسائر المستضعفين القاصرين ، فإن كلّا من السعادة والشقاء هي خلفيّة لعقائد وأعمال سعيدة أو شقية وهما يختصان بالمكلفين الماكنين عقليا من حمل المسئوليات وتطبيقها.

ورابعة هي سعيدة وشقية ، جامعة بينهما عقيديا أو عمليا أو فيهما؟.

إن السعيد هنا هو الذي يدخل الجنة برحمة الله دون استحقاق لعذاب ، سواء أكان مستحقا لثواب بعمله ، أم لا يستحق ثوابا ولا عقابا لعدم تكليفه ، فكما أن مستحق الثواب سعيد بعمله وفضل الله ، كذلك الذي لا يستحق ثوابا ولا عقابا هو سعيد مهما كان فقط بفضل الله ، ولو أن فضله تعالى بحق الأشقياء لم يخالف عدله لشملهم عن بكرتهم ، فالأصل منه هو الفضل لمن يستحقه بعمل أم دون عمل حين لا يستحق العذاب ،

٣٩٧

وإنما فريق السعير هم الظالمون ، وفريق الجنة هم من سواهم ، عادلين وسواهم من غير الظالمين : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٤٢ : ٨).

ثم المستضعفون ومنهم (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ(١) حَكِيمٌ) (٩ : ١٠٦) وهم الذين جمعوا بين قصور وتقصير ، فإن يعذبهم فهم من الذين شقوا ، وإن يتب عليهم فهم من الذين سعدوا ، ولكن الذين يعذبهم ليس ليخلدهم في النار ، فهم ـ إذا ـ من الخارجين عن النار ، جامعين بين سعادة الجنة وشقاء النار ، فهم ـ إذا ـ من السعداء.

وأما الذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (٩ : ١٠٢) فعساهم من السعداء ، بل هم منهم وإن عذبوا بما أساءوا.

وهكذا سائر «المستضعفين» (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤ : ٩٩).

فما روي من أن المجانين والصغار يمتحنون هناك فإما إلى جنة وإما إلى نار ، لا تصدّق حيث «اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل» (الخطبة ٤٢) (١) وكما تظافرت به آيات الكتاب وروايات السنة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من آل الرسول (عليهم السلام).

__________________

(١) وهي : أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان أتباع الهوى وطول الأمل ، فأما أتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، ألا وإن الدنيا قد ولّت حذّاء ، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الأناء اصطّبها صابها ، ألا وأن الآخرة قد أقبلت. ولكل منها بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة ، وإن اليوم ..».

٣٩٨

ذلك ، وقد يعني (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ـ إضافة إلى خالص السعادة لفريق وخالص الشقاوة لآخر ـ يعني : خليطا منهما للجامع بينهما ، ومنهم الذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) و (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ).

ولكن الآية إنما قد تتكفل مصير الفريقين الأولين ، دون الآخرين حيث تتكفل مصيرهم آيات أخرى ك «خلطوا ..» و «مرجون» وما أشبه.

ولكن «سعدوا» مجهولة قد تشمل إلى من مات سعيدا خليطا دون خليص ، تشمل معه من يسعد بعد ما ذاق عذاب شقوته في النار البرزخية أو الأخروية ، وهنا (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) تعني ـ فيما تعني ـ مسبق عذابه حيث شاءه جزاء وفاقا.

إذا ف «سعدوا» قد تشمل إلى الأولين ، من سعد بعد عذابه ، أم سعد دون عذاب ولا استحقاق ثواب ولا عقاب كالقاصرين.

٣ هل تعني (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أن كلا موصوف بما وصف منذ خلقه في بطن أمه؟ أم مند ولادة؟ أم منذ بلوغه الحلم؟ أو القصد ـ فقط ـ إلى زمن القيامة؟.

إنه حكم منه تعالى بكل من الحالتين ليوم القيامة لمكان (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) حيث فرّعت الحالتان على (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ) فلا صلة لذلك الحكم بالشقاء والسعادة قبل ذلك اليوم ، فإنما نعرف أن الشقاء هناك هو خلفية عادلة للشقاء بالعمل المختار هنا ، ثم السعادة هناك هي خلفية عدم الشقاء هنا ، ولكن «شقوا وسعدوا» ـ ماضيتين ـ تعنيان سابق الشقاوة والسعادة ، المنعكستين منذ الموت حتى القيامة.

إذا فهما ليسا من حكم الله تعالى تكوينيا حتى يصبحا مسيّرين لا يتخلفان ، بل هما من حكم الجزاء الوفاق لكلّ كما يستحقه بفضل الله أو عدله.

ذلك ، ومن ثم فعلمه تعالى بما سيحصل من سعادة وشقاء ليس علة

٣٩٩

تامة ولا ناقصة لأحدهما ، بل هو كشف قاطع عن حصول كلّ بسببه الخاص ، وليس عدم تخلّفه عن علمه تعالى إلّا لعدم تخلفه عن سببه المختار لصاحب السعادة والشقاء ، فلو أنه اختار غير ما اختار لكان في علم الله غير ما اختار ، فالعلم بعمل مّا لا يستوجب بطلان الإختيار ، فإنما هو علم كاشف عما سيحصل أم حصل ، فكما أن العلم بما حصل لا يجعله مسيّرا ، كذلك العلم بما يحصل ، إن مسيّرا فمسيّر وإن مخيّرا فمخيّر ، فإنما الإرادة هي المسيّرة ، دون العلم بما حصل أو سيحصل ، إذا ف «كل ميسر لما خلق له» ـ وكما في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس مسيّرا (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر)(١).

__________________

(١) فلا مجال هنا لتقوّل إمام المشككين في تفسيره ١٨ : ٦١ بقوله : اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه والألزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا وذلك محال ، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا وأن الشقي لا ينقلب سعيدا ـ ثم ينقل رواية عمر ويقول ـ : قلنا : الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الذين ذكرناه باقيا.

أقول : هذا دليل خاطئ لا قاطع ، حيث أخبر الله بعلمه بما سيكون ولم يحكم قضاء مبرما بشقاء هنا وسعادة ، فقد بدل الأخبار بالحكم ، كما بدله عما يحصل يوم القيامة بما حصل يوم الدنيا ، ولو أنه كان حكما فليس يعني إلا الحكم بالشقاء والسعادة بما عملها أهلوها يوم الدنيا ميسرين لا مسيرين. فالله يعلم أن فريقا يشقون وفريقا يسعدون كل بما يسّره فاختاره هو من شقاء وسعادة ، ثم يحكم كما يعلم بشقاء أو سعادة يوم القيامة ، فأين الجبر إذا.

وليست صمتية الشقاء والسعادة بما علم الله منهما فحكم به ليوم القيامة ، إنما هي بما يختار أهلوها إذا «كل ميسر لما خلق الله».

أترى العمل الميسّر كما المسيّر أليسا مما يعلمه الله ويحكم يخلفياته؟ فمجرد العلم بعمل ما والحكم بنتيجته لا يستلزم كونه مسيرا ، فالعلم إنما كشف عن الواقع الحاصل بسببه وليس هو سببا لحصوله ، وقد حصل هذا الحوار بين عمر الخيام ، والخواجة نصير الدين الطوسي حيث اعترض عمر أن الله يعلم أني أشرب الخمر ، فأنا إذا مسير في شربها إذ لو لم أشربها لكان علمه تعالى جهلا ، فأجابه الطوسي بأن كون العلم الأزلي علة للعصيان، ـ

٤٠٠