التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ، وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ) ففي هذه الآية بيان مصارف الفيء بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أن كل ما رده الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كفار أهل القرى ، كقريظة والنضير وفدك وخيبر ، صلحا من غير قتال ، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، يحكم به الله بما يشاء ، ثم يكون ملكا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، ثم في مصالح المسلمين من بعده ، فينفق منه على قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب الممنوعون من أخذ الصدقة أو الزكاة ، فجعل لهم حقا في الفيء.

كما ينفق منه على اليتامى وهم الصغار الذين مات آباؤهم قبل البلوغ ، والمساكين الفقراء ذوي الحاجة والبؤس ، وأبناء السبيل المنقطعين في أثناء السفر ، وهم الغرباء الذين نفدت نفقتهم في سفرهم.

فيكون الفيء مقسوما خمسة أقسام : سهم الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته ، وسهم ذوي القربى أقارب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وسهم اليتامى ، وسهم المساكين ، وسهم ابن السبيل ، والأربعة أخماس الباقية لمصالح المسلمين العامة.

أما الغنيمة : فيصرف خمسها لهؤلاء الخمسة المذكورين في هذه الآية وآية الغنائم : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ..) والأربعة أخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة.

وعلة هذا التقسيم ما قال الله تعالى :

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي حكمنا بهذه القسمة بين هؤلاء المذكورين ، لئلا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء ، ولا يصيب الفقراء منه شيء ، فيغلب الأغنياء الفقراء ، ويقسمونه بينهم. وهذا مبدأ إغناء الجميع ، وتحقيق السيولة للكل.

٨١

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي ما أمركم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فافعلوه ، وما منعكم عنه فاجتنبوه ، فإنه إنما يأمر بخير ، وإنما ينهى عن شر ، فإذا أعطاكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الفيء مثلا ، فخذوه ، فهو حلال ، وإذا منعكم شيئا منه ، فلا تقربوه ، فإنه يعمل بالوحي ولا ينطق عن الهوى. والآية توجب امتثال أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه أيضا.

ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» وأخرج أحمد والشيخان صاحبا الصحيحين أيضا وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات ، والمتنمّصات ، والمتفلجات للحسن (١) ، المغيّرات لخلق الله عزوجل» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد في البيت ، يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن ، فجاءت إليه ، فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت ، فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في كتاب الله تعالى ، فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه ، فما وجدته ، فقال : إن كنت قرأتيه ، فقد وجدتيه أما قرأت : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى ، قال : فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه».

(وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي خافوا الله بامتثال أوامره ، وترك زواجره ونواهيه ، فإنه شديد العقاب لمن عصاه ، وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما زجر عنه ونهاه. والآية تتناول كل ما يجب فيه التقوى ، وتحث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

__________________

(١) الوشم : غرز الإبرة في الجلد تم حشوه بالكحل ، والواشمة : فاعلة الوشم ، والمستوشمة : طالبة الوشم ، والمتنمصات جمع متنمصة : وهي التي تنتف الشعر من وجهها ، والمتفلجات جمع متفلجة : وهي التي تتكلف التفريق بين أسنان الثنايا والرباعيات.

٨٢

وبعد بيان مصارف الفيء ، بيّن الله تعالى حال الفقراء المستحقين له ، فقال :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي إن هؤلاء الأصناف الأربعة (وهم ذوو القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل) هم فقراء المهاجرين والأنصار والتابعين. وفقراء المهاجرين : هم الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج منها ، وإلى ترك أموالهم وديارهم فيها ، طلبا لمرضاة الله وفضله ورزقه في الدنيا ، وثوابه ورضوانه في الآخرة ، ونصرة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجاهدة الكفار ، وإعلاء كلمة الله ودينه ، أي إن الخمس يصرف للمذكور في الآية : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وتكون الأخماس الأربعة الباقية للفقراء المهاجرين ومن جاء بعدهم (١).

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء المهاجرون هم الكاملون في الصدق ، الراسخون فيه ، الذين صدّقوا قولهم بفعلهم ، وقرنوا إيمانهم بالعمل المخلص.

ثم مدح الله تعالى الأنصار ، وأبان فضلهم وشرفهم ، وعدم حسدهم ، وإيثارهم المهاجرين مع الحاجة ، ورضاهم بإعطاء الفيء لهم ، فقال :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة دار الهجرة ، وتمكّن الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قلوبهم ، قبل هجرة المهاجرين ، وهم الأنصار ، يحبون المهاجرين ، ويواسونهم بأموالهم ، ولا يجدون في أنفسهم حسدا أو غيظا أو حزازة للمهاجرين مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء ، بل طابت أنفسهم بذلك ، مع أنهم كانوا في دور الأنصار ، وقدّموا المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا ، ولو

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٨ / ٥٦

٨٣

كان بهم حاجة وفقر. ويلاحظ أن كل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته ، فهو حاجة. والإيثار : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ، والرغبة في الحظوظ الدينية.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من كفاه الله حرص نفسه وبخلها ، وحفظ من ذلك ، فأدى ما أوجبه الشرع عليه في مال من زكاة أو حق ، فقد فاز ونجح ، وظفر بكل المنى والمطلوب.

أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس بن مالك مرفوعا : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا» وروي أيضا عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يجتمع ...».

وأخرج أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».

وأخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا».

والآية دليل على اتصاف الأنصار بصفات خمس : هي استيطانهم دار الهجرة مسبقا وجعل الإيمان مستقرا ووطنا لهم ، ومحبتهم إخوانهم المهاجرين ، وترفعهم عن الجشع والطمع والحسد والحزازة ، وإيثارهم المحتاجين على أنفسهم ، ولو كان بهم حاجة ، واتصافهم بالجود والبعد عن الشح ، لذا وصفوا بأنهم المفلحون الظافرون بما أرادوا.

٨٤

ثم وصف الله القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم متابعون بإحسان ، فقال :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار ، وهم التابعون لهم بإحسان ، كما في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة ٩ / ١٠٠] يقولون أي قائلين : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر لإخواننا السلف الصالح من المهاجرين والأنصار ، وانزع من قلوبنا الغش والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة ، فإنك يا ربنا بالغ الرأفة كثير الرحمة ، فاقبل دعاءنا.

والتابعون لهم بإحسان : هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية.

والآية دليل على تضامن وتكافل آخر الأمة وأولها وأجيالها ، وعلى وجوب محبة الصحابة رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، وتقدير أخوتهم في الدين والسبق إلى الإيمان ، والحث على الدعاء لهم بخير ، وعلى صفاء القلوب من أمراض الحقد والحسد لأي مؤمن.

قال الزهري : قال عمر رضي‌الله‌عنه : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) : هذه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وقرى عرينة وكذا وكذا مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل القرى ، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ،

٨٥

والذين جاؤوا من بعدهم ، فاستوعبت هذه الآية الناس ، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق (١).

وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) حتى بلغ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة ٩ / ٦٠] ثم قال: هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...) الآية [الأنفال ٨ / ٤١] ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) حتى بلغ (لِلْفُقَراءِ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة ، وليس أحد إلا وله فيها حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ، وهو بسرو حمير ، نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه (٢).

قال الرازي : واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين ، لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار ، أو الذين جاؤوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين ، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك ، بل ذكرهم بسوء ، كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية (٣).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية :

١ ـ كانت أموال بني النضير ونحوها التي ردها الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من

__________________

(١) رواه أبو داود ، وفيه انقطاع.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠

(٣) تفسير الرازي : ٢٩ / ٢٨٨

٨٦

غير قتال ولا حرب ولا مشقة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة يضعها حيث شاء ، فقسمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين لشدة حاجتهم. ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين ، هم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمّة.

٢ ـ أموال الفيء : هي ـ كمال قال ابن عباس ـ قريظة والنضير ، وهما بالمدينة ، وفدك وهي على ثلاثة أيام من المدينة ، وخيبر ، وقرى عرينة ، وينبع ، جعلها الله تعالى ، لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ الأموال التي للدولة فيها حق التدخل ثلاثة أنواع : الصدقات والزكوات : وهي ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم. والثاني ـ الغنائم : وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث ـ الفيء : وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف (إسراع) خيل ولا ركاب ، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم ، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له.

أما الزكاة (أو الصدقة) فتصرف إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها وهم الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...) [براءة ٩ / ٦٠].

وأما الغنائم الحربية : فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع فيها ما شاء ، كما قال في سورة الأنفال : (قُلِ : الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ثم نسخ بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية [الأنفال ٨ / ٤١] فيكون الخمس لمن ذكر الله تعالى ، والأربعة أخماس الباقية للغانمين.

وأما الفيء وهو العقار : فالأمر فبه عند المالكية للإمام ، يفعل ما يراه

٨٧

مصلحة ، من قسمته كالغنائم أو ترك قسمته وجعله لمصالح المسلمين العامة ، كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق ومصر وغيرهما ، واحتج على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم الذين طالبوا بالقسمة بهذه الآية آية الفيء : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ...) إلى قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك ، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها (أهل أراضي العراق) ويضع عليها الخراج ، ففعل ذلك ، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية (١). وتكون آية الحشر في رأي المالكية ناسخة في شأن العقارات لآية الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ...). وذكروا أنه يقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه ، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا ، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم ، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة ، فينقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا ، كما فعل عمر رضي‌الله‌عنه عام الرمادة.

وقال الحنفية : تقسم الغنائم ـ أي المنقولات ـ على النحو الذي ذكره الله في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الخمس لمن ذكرت الآية ، والباقي للغانمين ، وأما حكم الفيء أي الأرض فهو أن يكون لكافة المسلمين ، ولا يخمس ، بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. لكن الغنيمة تقسم على ثلاثة أسهم فقط : سهم اليتامى ، وسهم المساكين ، وسهم أبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى ، في الخمس فهو لافتتاح الكلام ، تبركا باسمه تعالى ، وسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سقط بموته ، فالحنفية والمالكية يتركون الخيار للإمام في قسمة العقار ، فهو مخير في قسمته أو جعله وقفا على مصالح المسلمين.

وتكون آية الحشر الثانية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار. روى مالك أن عمر قال : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤٣٠

٨٨

وذهب الشافعية إلى أن حكم الفيء والغنيمة واحد ، فيخمس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص القرآني : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) بجامع أن كلّا منهما مال الكفار استولى عليه المسلمون ، وأما اختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره ، فلا تأثير له ، فعلى الإمام قسمة العقار ، ومن طاب نفسا عن حقه ، فللإمام أن يجعله وقفا على المسلمين.

وتقسم الغنيمة في رأي الشافعية والحنابلة على خمسة أسهم ، أولها ـ سهم المصالح (سهم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أي يصرف لمصالح المسلمين العامة كالثغور وقضاة البلاد وعلماء الشرع والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ونحوهم وثانيها ـ سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها ، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.

٤ ـ علة قسمة الفيء : إن تقسيم الفيء على النحو السابق كيلا يختص به الأغنياء ، كما كانوا يستأثرون بالغنيمة ، وكانوا يغترون به ، وبذلك قضى الإسلام على الطبقية وتجمع الثروة في يد فئة قليلة ، وحرمان الأكثرية من سيولة المال.

٥ ـ قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ ...) دليل واضح على وجوب امتثال جميع أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واجتناب جميع نواهيه ، فإنه لا يأمر إلا بصلاح ، ولا ينهى إلا عن فساد.

وقد استدل الصحابة كابن مسعود وغيره بتحريم أشياء عملا بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، كتحريم الوشم والتنمص (نتف شعر الوجه) وتفليج الأسنان ، وجواز قتل الزّنبور في الإحرام ، اقتداء فيه بعمر الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء به في قوله : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» وأمر الله سبحانه بقبول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويؤكده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه ابن ماجه عن أبي هريرة ـ : «ما أمرتكم به فخذوه ، وما نهيتكم عنه فانتهوا».

٨٩

وأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الله تعالى ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء ٤ / ٨٠] وعن أبي رافع رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» (١)

٦ ـ دل قوله سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على وجوب اتقاء عذاب الله ، فإنه شديد على من عصاه ، وعلى وجوب تقوى الله في أوامره ونواهيه ، فلا تضيّع ، فإن الله شديد العقاب لمن خالف ما أمره به.

٧ ـ المقصود بأولئك الأصناف الأربعة الذين يصرف لهم الفيء : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) هم هؤلاء الأصناف من الفقراء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ، ثم التابعون لهم بإحسان.

٨ ـ وصف الله تعالى المهاجرين بأوصاف ستة : أولها ـ أنهم فقراء ، وثانيها ـ أنهم مهاجرون ، وثالثها ـ أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ورابعها ـ أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والفضل : ثواب الجنة ، والرضوان قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة ٩ / ٧٢] ، وخامسها ـ (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بأنفسهم وأموالهم ، وسادسها ـ (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في دينهم ، لهجر هم لذات الدنيا ، وتحملهم شدائدها.

وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، فقال : هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.

٩ ـ أثنى الله على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء ، إذ أعطي

__________________

(١) أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد ، وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.

٩٠

للمهاجرين دونهم ، ووصفهم أيضا بأوصاف ستة : أولها ـ أنهم استوطنوا المدينة قبل وصول المهاجرين إليها ، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه ، وثانيها ـ محبتهم الخالصة للمهاجرين ، وثالثها ـ لا يحملون في نفوسهم حقدا ولا حسدا ولا حزازة بسبب ما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، ورابعها ـ إيثارهم غيرهم ولو كان بهم حاجة ، وخامسها ـ وقاهم الله من مرض الشح ، وسادسها ـ هم المفلحون الفائزون الظافرون بما أرادوا.

١٠ ـ استدل الإمام مالك على تفضيل المدينة على غيرها من الآفاق بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) الآية. وقال : إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف.

١١ ـ الأولى أن يقال : إن الآيات متعلقة ببعضها ، معطوف بعضها على بعض ، فتكون آية : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) معطوفة على قوله : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) وآية : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي التابعون ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوؤا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم ، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل.

١٢ ـ آية : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) دليل على وجوب محبة الصحابة ، لأنه تعالى جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، وأن من سبّهم أو سب واحدا منهم ، أو اعتقد فيه شرا ، فإنه لا حق له في الفيء.

١٣ ـ آيات الحشر هذه في الفيء تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول ، وإبقاء العقار والأرض حقا عاما للمسلمين جميعا أو وقفا دائما على

٩١

مصالحهم ، كما فعل عمر رضي‌الله‌عنه في سواد العراق ومصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة عنوة ، لأن الله تعالى أخبر عن الفيء ، وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. جاء في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم حقون ، وددت أن رأيت إخواننا ، قالوا : يا رسول الله ، ألسنا بإخوانك؟ فقال : بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطهم على الحوض» أي متقدمهم حتى يردوا ، فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم.

١٤ ـ دل قوله تعالى : (يَقُولُونَ : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) على أن المؤمنين المتأخرين مع مرور الأجيال مأمورون أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال العوام بن حوشب : أدركت صدر هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تألف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم ، فتجسّروا الناس عليهم.

أما من يلعن أو يسب بعض الصحابة فهو فاسق ، بعيد عن أدب الإسلام وأخلاقه ، وروح الدين وصفائه ، متنكر لأهل الفضل والسبق ، مبتدع ضال ، فإن القرآن الكريم أمر بالاستغفار للصحابة ، ونهى عن الحقد والحسد لجميع المؤمنين والمؤمنات. وإذا بلغ القدح ببعض الأصحاب أو أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصادم نصا قرآنيا أو حديثا ثابتا مقطوعا به ، أدى ذلك إلى الكفر ، والعياذ بالله تعالى.

٩٢

تواطؤ المنافقين واليهود وجزاؤهم

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

الإعراب :

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ...) لم يجزم (يَخْرُجُونَ) و (يُنْصَرُونَ) لأنهما جوابا قسمين قبلهما ، وتقديره : والله لا يخرجون معهم ولا ينصرونهم ، فلذلك لم ينجزما بحرف الشرط.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَثَلِ) : جار ومجرور في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : مثلهم كمثل الذين من قبلهم. و (قَرِيباً) لا يبعد أن يتعلق بصلة (الَّذِينَ). وكذلك (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ ...) تقديره : مثلهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر ، فحذف المبتدأ.

٩٣

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها عاقِبَتَهُما) : منصوب لأنه خبر كان ، و (أن) واسمها وخبرها في موضع رفع ، لأن الجملة اسم (كان). و (خالِدَيْنِ) حال من المضمر في الظرف في قوله : (فِي النَّارِ) وتقديره : كائنان في النار خالدين فيها ، وكرر (فِي) تأكيدا كقولهم : زيد في الدار قائم فيها. ويجوز رفع (خالِدَيْنِ) على خبر (أن).

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا ..) استفهام يراد به الإنكار والتعجيب.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) بين (جَمِيعاً) و (شَتَّى) طباق.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ : اكْفُرْ) تشبيه تمثيلي ، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) تنظر. (نافَقُوا) أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر. (لِإِخْوانِهِمُ) المراد بذلك أخوة الكفر ، أو الصداقة والموالاة أي أصدقائهم. (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم بنو النضير وإخوانهم في الكفر. (لَئِنْ) اللام لام القسم في الحالات الأربع. (أُخْرِجْتُمْ) من المدينة. (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع أحدا من الرسول والمؤمنين في قتالكم ، ولا نسمع أمر أحد في خذلانكم. (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) حذف من (إِنْ) اللام الموطئة للقسم. (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) لنعاوننكم. (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك.

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ثبت في التاريخ أنهم كانوا على هذا النحو ، فإن ابن أبي وأصحابه المنافقين راسلوا بني النضير بذلك ، ثم أخلفوهم. وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن. (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) جاؤوا لنصرهم على الفرض والتقدير. (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) ليفرنّ هاربين منهزمين. واستغني بجواب القسم المقدر عن جواب الشرط في المواضع الخمسة. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) بعد أي اليهود ، بل نخذلهم ، ولا ينفعهم نصرة المنافقين.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي إن المنافقين يخافونكم خوفا أشد من خوفهم الله ، وقوله : (رَهْبَةً) خوفا ، أي أشد مرهوبية ، وقوله : (فِي صُدُورِهِمْ) لتأكيد استقرار الخوف في نفوسهم ، فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. وقوله : (مِنَ اللهِ) لأنهم يظهرون النفاق مع أنه لا يخفى على الله تعالى ، ولتأخير عذاب الله. (لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حق خشيته.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي اليهود. (جَمِيعاً) مجتمعين. (مُحَصَّنَةٍ) بالدروب والخنادق

٩٤

(جُدُرٍ) حيطان وأسوار ، جمع جدار ، وذلك لفرط رهبتهم. (بَأْسُهُمْ) حربهم ، فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا ، وليس ذلك لضعفهم وجبنهم ، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم. (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) تظنهم مجتمعين متفقين. (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة لافتراق عقائدهم ، واختلاف مقاصدهم ، جمع شتيت. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه صلاحهم.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مثل اليهود لا سيما يهود بني النضير كالمشركين الذين قتلوا وعذبوا في معركة بدر ، أو كالمهلكين من الأمم الماضية. (قَرِيباً) في زمان قريب. (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا من القتل وغيره. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب مؤلم في الآخرة. (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان. (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ : اكْفُرْ) أي أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ، ولم ينفعه ذلك. والمراد بالإنسان : الجنس ، فيشمل أبا جهل الذي قال له إبليس يوم بدر : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الآية [الأنفال ٨ / ٤٨]. (إِنِّي أَخافُ اللهَ ..) كذبا منه ورياء. (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي الغاوي والمغوي. (الظَّالِمِينَ) الكافرين.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(أَلَمْ تَرَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال : أسلم ناس من أهل قريظة ، وكان فيهم منافقون ، وكانوا يقولون لأهل النضير : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) ، فنزلت هذه الآية فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ).

وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس : أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي ورفاعة بن زيد ، وعبد الله بن نبتل وقوم من منافقي أهل المدينة كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الآيات.

المناسبة :

بعد بيان مصير يهود بني النضير ، وحكم مصارف الفيء الذي يشمل أموال

٩٥

هؤلاء اليهود ، ذكر الله تعالى أحوال العلاقات المشبوهة بين المنافقين واليهود ، فقد كان المنافقون في الظاهر من الأنصار ، ولكنهم كانوا يوالون اليهود في السر ، فصاروا إخوانهم في الكفر ، وأصدقاءهم في معاداة المؤمنين. ومثل هذا الارتباط يتكرر في كل زمان ، حيث نجد ضعاف الإيمان والنفوس وخونة الأمة الإسلامية يوالون أعداءهم ، كما يعد بعض الناس غيرهم على المؤازرة في شيء ، ثم يتخلون عنهم وقت الأزمة.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي ألم تنظر إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد ووديعة بن مالك وسويد وداعس وأمثالهم حين بعثوا إلى يهود بني النضير : أن اثبتوا وتحصنوا ، أو تمنّعوا ، فإننا لا نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، ولا نطيع في شأنكم ، ومن أحلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد وأتباعه ، وإن طال الزمان ، وإن قوتلتم لننصرنكم على عدوكم. فكذبهم الله بقوله :

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج معهم ، والنصرة لهم ، إما لنيتهم ألا يفوا بما وعدوا به ، وإما لأنهم لا يقع منهم ما قالوا.

وقوله في مطلع الآية : (أَلَمْ تَرَ) أسلوب يراد به التعجيب من حال المخبر عنه ، وأن أمره في غاية الغرابة. وقد تبين لليهود كذب المنافقين ، فلم ينصروهم وقت الحصار ، وقذف الله الرعب في قلوب أولئك اليهود ، فطلبوا من

٩٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم ، ففعل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام.

ثم أكد الله تعالى تكذيبهم مفندا على سبيل التفصيل مواقفهم الخادعة ، فقال :

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي وتالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم ، لا يخرج معهم المنافقون ، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم ، ولئن آزروهم وقاتلوا معهم لفرّوا هاربين منهزمين ، ثم لا يصير المنافقون واليهود منصورين بعد ذلك ، بل يذلهم الله ويخذلهم ، ولا ينفعهم نفاقهم. ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٣].

وكان الواقع مطابقا لما أخبر به القرآن ، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود ، وهم بنو النضير ومن معهم ، ولم ينصروا اليهود الذين قوتلوا ، وهم بنو قريظة وأهل خيبر ، ثم بشر الله تعالى بنصر المؤمنين على كلا الفريقين : المنافقين واليهود ، وتحقق وعد الله ، وتطهرت جزيرة العرب من اليهود بفضل من الله وتوفيقه.

وسبب عدم نصرتهم لليهود ما قال تعالى :

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي إنكم أيها المسلمون أشد خوفا وخشية في صدور المنافقين أو في صدور اليهود من رهبة الله ، فهم يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله ، وذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته ، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه أحق بالرهبة منه دونكم.

٩٧

ونظير الآية قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء ٤ / ٧٧].

ثم ذكر تعالى أسلوب اليهود والمنافقين في مقاتلة المؤمنين ، فقال :

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن اليهود والمنافقين من جبنهم وهلعهم لا يواجهون جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة ، ولا يقاتلونهم مجتمعين ، بل يقاتلونهم إما وراء الحصون والدروب والخنادق ، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها ، لجبنهم ورهبتهم ، فيقاتلون للدفاع عنهم ضرورة ، وقد لمس العرب هذا الأسلوب في حروب اليهود في فلسطين في عصرنا.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي إن عداوتهم وجربهم فيما بينهم شديدة ، وقاسية ، تظنهم متوحدين وهم متفرقون ، فاجتماعهم إنما هو في الظاهر ، مع اختلاف نواياهم وأهوائهم وآرائهم وشهاداتهم في الواقع ، لما بينهم من أحقاد وعداوات ، ولأنهم قوم لا يعقلون الحق وأمر الله ، ولا يدركون سر النجاح في الحياة وهو الوحدة ، ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه ، فتوحدوا ولم يختلفوا.

وهذا دليل على أن ضعفهم ناشئ من التفرقة والخلاف ، فجدير بالمسلمين الذين يقاتلونهم في هذا العصر أن يكونوا متوحدين صفا واحدا كالبنيان المرصوص ، وأن يعتمدوا على أنفسهم دون التماس حلول واهنة ضعيفة من شرق أو غرب.

ثم ذكر الله تعالى أحوالا مشابهة لهم ، فقال :

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن هؤلاء اليهود بني النضير أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر ، في السنة

٩٨

الثانية من الهجرة ، ومثل من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى أذرعات بالشام بعد سنة ونصف من الهجرة ، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، وذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا ، ولهم عذاب مؤلم في الآخرة.

ثم ذكر الله تعالى مثلا آخر للمنافقين ورابطتهم باليهود ، فقال :

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ : اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن مثل هؤلاء المنافقين في وعودهم اليهود بالمناصرة والمؤازرة في القتال والخروج ، كمثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشر ، وأغراه بالكفر ، وزيّنه له ، وحمله عليه ، فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان ، تبرأ الشيطان منه وتنصل يوم القيامة ، وقال على وجه التبري من الإنسان : إني أخاف عذاب الله رب العالمين إذا ناصرتك.

وهذا مثل في غاية السوء وشدة الوقع على النفوس ، لذا أبان الله تعالى بعده ما يوجبه من العقاب ، فقال :

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الشيطان الآمر بالكفر ، والإنسان الذي كفر واستجاب أنهما صائران إلى نار جهنم خالدين فيها على الدوام ، وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا ، ومنهم اليهود والمنافقون.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن هناك مصادقة وموالاة ومعاونة في الظاهر بين المنافقين واليهود ، بسبب أخوة الكفر ، ورابطة الاشتراك في العداوة والكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول

٩٩

المنافقون ليهود قريظة والنضير : نحن معكم في الإقامة والقتال والخروج ، ولا نطيع محمدا في قتالكم ، والله شاهد على أنهم كاذبون في قولهم وفعلهم.

وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخبار الغيب ، لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا ، وقوتلوا فلم ينصروهم.

٢ ـ كذب الله المنافقين أولا على سبيل الإجمال ، ثم أتبعه بالتفصيل ، فأخبر بأن اليهود لو أخرجوا من ديارهم ، لم يخرج المنافقون معهم ، وأنهم لو قاتلهم المؤمنون ما نصروهم ولا عاونوهم ، ولئن نصر المنافقون اليهود لفروا هاربين منهزمين.

٣ ـ إن بني النضير في خوفهم من المسلمين أشد خوفا وخشية من رهبة الله ، فهم يخافون منهم أكثر مما يخافون من ربهم ، ذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.

٤ ـ لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلة المسلمين مجتمعين إلا في حصون محصنة بالخنادق والدروب ، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم ، وإلقاء الله الرعب في قلوبهم ، وتفرقهم ، وتأييد الله ونصرته لعباده المؤمنين.

وسبب ذلك التفرق والتشتت والكفر أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله ، ويدركون به نظم الحياة ، ويعرفون أن الوحدة أساس النجاح.

٥ ـ إن ما أصاب يهود بني النضير من الطرد والجلاء عن المدينة والعذاب مشابه لما أصاب بني قينقاع وكفار قريش يوم بدر ، من العقاب ، فقد كان بين النضير وقريظة سنتان ، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، ولهؤلاء الكفار في الآخرة عذاب مؤلم.

١٠٠