الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر المعاصر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعة
مدنيّة ، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها :
سميت سورة الجمعة لاشتمالها على الأمر بإجابة النداء لصلاة الجمعة ، في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ...).
مناسبتها لما قبلها :
يتضح وجه اتصال هذه السورة بما قبلها من نواح أربع هي :
١ ـ ذكر تعالى في السورة التي قبلها حال موسى مع قومه ، وإيذاءهم له ، مؤنبا لهم ، وذكر في هذه السورة حال الرسول صلىاللهعليهوسلم وفضل أمته ، تشريفا لهم ، ليظهر الفرق بين الأمتين وفضل الأمة الاسلامية.
٢ ـ بشّر عيسى عليهالسلام في السورة المتقدمة بمحمد أو أحمد صلىاللهعليهوسلم ، ثم ذكر في هذه السورة أنه هو الذي بشّر به عيسى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).
٣ ـ ختم الله تعالى سورة الصف السابقة بالأمر بالجهاد وسماه (تِجارَةً) وختم هذه السورة بالأمر بالجمعة ، وأخبر أنه خير من التجارة الدنيوية.
٤ ـ في السورة المتقدمة أمر الله المؤمنين بأن يكونوا صفا واحدا في القتال ،
فناسب تعقيب سورة القتال بسورة صلاة الجمعة التي تستلزم الصف ، لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات (١).
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كالسور المدنية بيان أحكام التشريع ، والهدف منها هنا بيان أحكام صلاة الجمعة المفروضة بدلا عن الظهر في يوم الجمعة.
بدأت السورة كسابقتها بتنزيه الله وتمجيده ووصفه بصفات الكمال. ثم أشادت بأوصاف النبي صلىاللهعليهوسلم خاتم النبيين ورحمة الله المهداة وهي عروبته وتلاوته آيات القرآن على قومه وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة ، سواء في زمنه أم للأجيال المتلاحقة ، وبيان كون ذلك فضلا من الله ونعمة ورحمة.
ثم نعت على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة ، وتشبيههم بالحمار الذي يحمل على ظهره الكتب النافعة ، ولكنه لا يفهم منها شيئا ، ولا يناله إلا التعب ، وذلك الشقاء بعينه.
ثم ذكرت طلب مباهلة اليهود إن كانوا أولياء الله بتمني الموت.
وختمت السورة بالحث على أداء صلاة الجمعة وإيجاب السعي لها بمجرد النداء الذي ينادى لها بالأذان والإمام على المنبر ، وأباحت السعي وكسب الرزق عقب انتهاء الصلاة ، وعاتبت المؤمنين الذين تركوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو يخطب على المنبر ، ومسارعتهم لرؤية قافلة التجارة.
فضلها :
روى مسلم في صحيحة عن ابن عباس وأبي هريرة رضياللهعنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين.
__________________
(١) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي : ص ٨٤
خصائص النبي صلىاللهعليهوسلم بالنسبة للعرب والناس كافة
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))
الإعراب :
(رَسُولاً مِنْهُمْ مِنْهُمْ) : في موضع نصب لأنه صفة ل «رسول» وكذلك قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) وكذلك ما بعده من المعطوف عليه. (وَإِنْ كانُوا إِنْ) مخففة من الثقيلة ، واللام تدل عليها ، واسمها محذوف ، أي وإنهم.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وَآخَرِينَ) يجوز فيه النصب والجر ، أما النصب فهو إما بالعطف على الهاء والميم في (يُعَلِّمُهُمُ) أو بحمل معنى (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) على معنى «يعرفهم آياته». وأما الجر : فهو بالعطف على قوله تعالى : (فِي الْأُمِّيِّينَ) وتقديره : بعث في الأميين رسولا منهم وفي آخرين. و (من) في (مِنْهُمْ) للتبيين.
المفردات اللغوية :
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ) ينزهه ويمجده ، واللام زائدة (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ذكر (ما) دون. «من» تغليبا للأكثر. (الْقُدُّوسِ) المنزّه عما لا يليق به المتصف بصفات الكمال. (الْعَزِيزِ) القوي القاهر الغالب الذي لا يغالب. (الْحَكِيمِ) في صنعه وتدبير خلقه ، يضع الأمور في موضعها الصحيح. وقد قرئت الصفات الأربع بالرفع على المدح.
(الْأُمِّيِّينَ) العرب جمع أمي : وهو من لا يقرأ ولا يكتب ، وصف العرب بذلك ، لأن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون. والأمي : نسبة للأم التي ولدته. (رَسُولاً مِنْهُمْ) من جملتهم ، فهو أمي مثلهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يتلو على العرب آيات القرآن ، مع كونه أميّا مثلهم. (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الشرك ومن خبائث العقائد والأعمال. (الْحِكْمَةَ) الشريعة أي معالم
الدين وأحكام القرآن. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي من قبل مجيئه لفي خطأ بيّن واضح ، وهو الشرك وخبائث الجاهلية. وهذا بيان لشدة حاجتهم إلى نبي يرشدهم.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي وغيرهم الآتين بعدهم ، جمع آخر بمعنى : غير ، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم القيامة. (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يلحقوا بهم في السابقة والفضل. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القوي في ملكه وتمكينه من النبوة ، الحكيم في صنعه واختياره. والاقتصار على الصحابة دليل على فضلهم على من عداهم من جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة.
(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) ذلك الفضل المتميز لهذا النبي عن أقرانه فضله. (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) تفضلا وعطية للنبي صلىاللهعليهوسلم وصحبه. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي يتضاءل دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
التفسير والبيان :
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي ينزه الله ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته ، كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء ١٧ / ٤٤] فهو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته ، المنزّه عن النقائص وعن كل ما يخطر بالبال ، الموصوف بصفات الكمال والقوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب ، بليغ العزة والحكمة ، المتقن في تدبير شؤون خلقه ، الحكيم في كل شيء.
وبعد تنزيه الله نفسه وصف رسوله صلىاللهعليهوسلم بما تميز به من خصائص ، فقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنه سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميين ، إذ كان أكثرهم لا يحسن القراءة والكتابة ، رسولا من جنسهم فهو أمي مثلهم ، كما قال ـ فيما يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر ـ : «إنا أمّة لا نكتب ولا نحسب» وقال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٨].
ومع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم من أحد ، كان يتلو على أمته
آيات القرآن التي ترشدهم لخير الدنيا والآخرة ، ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب وأخلاق الجاهلية ، ويعلمهم القرآن والسنة والشرائع والأحكام وحكمتها ، وإن كانوا في جاهليتهم في ضلال وخطأ واضح في العقيدة والتشريع والنظام ، إذ كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليهالسلام ، فبدّلوه وغيّروه ، واستبدلوا بالتوحيد شركا ووثنية ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله ، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها ، وغيّروها وأوّلوها.
فأرسل الله تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بشرع كامل شامل لجميع الخلق ، لا إلى العرب وحدهم ، فيه بيان جميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة إلى ما يقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى عليهم.
وتخصيص العرب الأميين بالذكر ، لأنه صلىاللهعليهوسلم مبعوث إليهم خاصة وإلى الناس عامة ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٧] وقوله سبحانه : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨].
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وبعث الله رسولا من العرب لأجيال آخرين من المؤمنين ، سواء كانوا من العرب أو من غيرهم ، كالفرس والروم ، وهم من جاء بعد الصحابة من المسلمين إلى يوم القيامة ، لم يلحقوا بهم في ذلك الوقت ، وسيلحقون بهم من بعد ، والله هو القوي الغالب القاهر ذو العزّة والسلطان ، القادر على التمكين لأمة الإسلام في الأرض ، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وتدبير خلقه.
روى الإمام أبو عبد الله البخاري رحمهالله تعالى عن أبي هريرة رضياللهعنه قال : «كنا جلوسا عند النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأنزلت عليه سورة الجمعة ، فتلاها ،
فلما بلغ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قالوا : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا ، وفينا سليمان الفارسي ، فوضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده على سلمان الفارسي ، ثم قال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» (١). ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية ، وعلى عموم بعثته صلىاللهعليهوسلم إلى جميع الناس ، لأنه فسر قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) بفارس ، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عزوجل وإلى اتباع ما جاء به.
وروى ابن أبي حاتم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) يعني من يأتي من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم.
ثم أبان الله تعالى أن الإسلام وبعثة محمد فضل منه ورحمة ، فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلىاللهعليهوسلم فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده ، والله صاحب الفضل العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه ، وهو ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا ، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال.
فقه الحياة أو الأحكام :
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :
١ ـ ينزه الله ويمجده ويقرّ بوجوده ووحدانيته وقدرته جميع الكائنات في السموات والأرض.
__________________
(١) ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير.
٢ ـ الغاية من بعثة الرسول صلىاللهعليهوسلم النبي الأمي ثلاثة أمور : هي تلاوة آيات القرآن التي فيها الهدى والرشاد ، وجعل أمته أزكياء القلوب بالإيمان ، مطهرين من دنس الكفر والذنوب ومفاسد الجاهلية ، وتعليم القرآن والسنة وما فيهما من شرائع وأحكام وحكم وأسرار.
٣ ـ كانت أمة العرب قبل بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم في ضياع وشتات وذهاب عن الحق.
٤ ـ وجه الامتنان بجعل النبي صلىاللهعليهوسلم نبيا أميا ثلاثة أسباب كما قال الماوردي : أحدها ـ موافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء ، الثاني ـ مماثلة حاله لأحوال أمته ، فيكون أقرب إلى موافقتهم ، الثالث ـ انتفاء سوء الظن عنه في تبليغه وتعليمه ما أوحي إليه من القرآن والأسرار.
٥ ـ رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم غير خاصة بالعرب ، وإنما هي عامة للناس جميعا في زمنه ، وفي الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ).
٦ ـ إن الإسلام والوحي وبعثة النبي صلىاللهعليهوسلم فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ولله الفضل الدائم على الناس في غير ذلك كالمال الذي ينفق في الطاعة والصحة والمعونة المستمرة ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : ذهب أهل الدّثور (١) بالدرجات العلا والنعيم المقيم ، فقال : وما ذاك؟ قالوا : يصلّون كما نصلّي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ، ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : تسبّحون
__________________
(١) الدثور : الثياب والأمتعة والأموال الكثيرة.
وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (١).
حال اليهود مع التوراة وتمني الموت
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))
الإعراب :
(كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الكاف في (كَمَثَلِ) في موضع رفع ، لأنها في موضع خبر المبتدأ ، وهو (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا). و (يَحْمِلُ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، وتقديره : كمثل الحمار حاملا أسفارا.
(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ الَّذِينَ) إما في موضع رفع بتقدير مضاف محذوف ، تقديره بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا ، فحذف (مَثَلُ) المضاف المرفوع وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإما في موضع جر على أن يكون (الَّذِينَ) وصفا للقوم الذين كذبوا بآيات الله ، ويكون المقصود بالذم محذوفا ، وتقديره : مثلهم أو هذا المثل.
__________________
(١) فسر أبو صالح الراوي عن أبي هريرة فضل الله : بأنه المال الذي ينفق في الطاعة.
(فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ مُلاقِيكُمْ) خبر (إِنْ) المرفوع ، ودخول الفاء : إما لأنها زائدة ، أو أنها غير زائدة ، لتضمن (الَّذِي) معنى الشرط بسبب وقوعها وصفا ، فدخلت في خبر الفاء كما تدخل في الشرط.
البلاغة :
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) تشبيه تمثيلي ، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد ، أي مثلهم في عدم الانتفاع بالتوراة ، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب. وليس له إلا التعب.
(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) بينهما طباق السلب.
(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية :
(حُمِّلُوا التَّوْراةَ) كلفوا العمل بها ، من الحمالة : وهي الكفالة. (لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها ، فلم يؤمنوا بما جاء فيها من نعته صلىاللهعليهوسلم. (أَسْفاراً) كتبا علمية عظيمة ، سميت أسفارا ، لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) الذين كذبوا بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم. (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الكافرين.
(هادُوا) تهودوا. (أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي أحبّاء له ، إذا كانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) تمنوا من الله أن يميتكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تعلق هذا الشرط والشرط الأول وهو (إِنْ زَعَمْتُمْ) بقوله : (فَتَمَنَّوُا) على أن الشرط الأول قيد في الثاني ، أي إن صدقتم في زعمكم أنكم أولياء الله ، والولي يؤثر الآخرة ، ومبدؤها الموت ، فتمنوه.
(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما اقترفوا من الكفر والمعاصي ، ومن ذلك كفرهم بالنبي صلىاللهعليهوسلم. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الكافرين. (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لا حق بكم لا تفوتونه. (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) السر والعلانية. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يجازيكم عليه.
المناسبة :
بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد والنوبة ، وأخبر أنه بعث الرسول العربي الأمي إلى الأميين العرب ، فقال اليهود : إنه صلىاللهعليهوسلم بعث إلى العرب خاصة ، ولم يبعث لنا بمفهوم الآية ، رد الله عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة ، وأنهم لو عملوا
بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بهذا الرسول ، لانتفعوا بها وآمنوا به ، ولم يقولوا هذا القول أو يوردوا هذه الشبهة ، ومثلهم في عدم الانتفاع بتوراتهم وترك العمل بها مثل الحمار الذي يحمل الكتب ، ولم يصبه إلا العناء والتعب.
ثم رد الله عليهم قولا آخر وشبهة أخرى حين قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨] ، بأنه لو كان قولهم حقا وهم على ثقة ، لتمنوا على الله أن يميتهم ، وينقلهم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، مع أنهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدّموا من الكفر وتحريف الآيات.
التفسير والبيان :
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) أي إن شبه اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة ، بعد أن كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها ، فلم يعملوا بموجبها ، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها ، كشبه الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره ، وهو لا يدري الفرق بين الكتاب والزبل ، لأنه لا فهم له ، واليهود وإن كان لهم عقول وأفهام ، فإنهم لم ينتفعوا بها فيما ينفعهم وفي إدراك الحقائق ، لأنهم حفظوا اللفظ ولم يتفهموه ، ولا عملوا بمقتضاه بل أوّلوه وحرفوه وبدّلوه ، فهم أسوأ حالا من الحمير ، لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، لذا وصفهم تعالى بقوله : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٩]. وقال تعالى هنا مبينا قبح هذا المثل :
(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي ما أقبح ما يمثل به للمكذبين ، وما أشنع هذا التشبيه ، وهو تشبيه اليهود بحق بالحمار ، فلا تكونوا أيها المسلمون مثلهم ، والله لا يوفق للحق والخير القوم الكافرين على العموم ، ومنهم اليهود بصفة أولى.
واختير الحمار في هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة ، والذل والحقارة. وقد
فدم هذا تحذيرا للذين تركوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على المنبر قائما يخطب وذهبوا إلى التجارة ، وشبيه به كل من أعرض عن الخطبة ، وهو يسمعها كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من تكلّم يوم الجمعة ، والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، والذي يقول له : أنصت ، ليس له جمعة».
ثم ذم الله تعالى اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة ذمّا آخر مناسبا للذم الأول ، لأن شأن من لم يعمل بالكتاب أن يحب الحياة ، فقال :
(قُلْ : يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل أيها الرسول : أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم أولياء الله وأحباؤه من دون الناس ، وأنكم على هدى ، وأن محمدا صلىاللهعليهوسلم وأصحابه على ضلالة ، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة في زعمكم ، وادعوا بالموت على الضال من الفئتين ، إن كنتم صادقين في هذا الزعم ، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار.
وقد ذكرت هذه المباهلة (الملاعنة) وتحدي اليهود في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة ٢ / ٩٤]. كما ذكرت مباهلة النصارى في قوله سبحانه : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، فَقُلْ : تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران ٣ / ٦١]. ومباهلة المشركين في قوله عزوجل : (قُلْ : مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم ١٩ / ٧٥].
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيت محمدا عند الكعبة ، لآتينه حتى أطأ على عنقه ،
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلىاللهعليهوسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ، ولا مالا».
ثم كشف الله حقيقة أمر اليهود الماديين الذين يحبون الحياة ويكرهون الموت ، وأنهم لن يتمنوه أبدا لسوء أفعالهم ، فقال :
(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي لن يتمنى اليهود الموت أبدا على الإطلاق ، بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي ، والتحريف والتبديل ، والله بالغ العلم ، واسع الاطلاع على أحوال الكافرين ، فيجازيهم بما عملوا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ويلاحظ أنه قال هنا : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) بدون لفظ التأكيد ، وفي سورة البقرة قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة ٢ / ٩٥] بلفظ التأكيد ونفي المستقبل.
(قُلْ : إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي قل أيها النبي لهؤلاء اليهود : إن الموت الذي تهربون منه ، وتأبون المباهلة فيه حبا في الحياة ، هو آت إليكم حتما من الجهة التي تفرون منها ، ثم ترجعون بعد موتكم إلى الله عالم الغيب في السموات والأرض ، وعالم الحس المشاهد فيهما ، فيخبركم بما أنتم عاملون من الأعمال القبيحة ، ويجازيكم عليها بما أنتم له أهل. وهذا أيضا تهديد ووعيد ، ومبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت.
ونظير الآية قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء ٤ / ٧٨].
فقه الحياة أو الأحكام :
أرشدت الآيات إلى ما يأتي ، مبيّنة ذم اليهود من ناحيتين :
١ ـ إن مثل اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة ، ولم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بالرغم من إخبار التوراة عنه ، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة ، ولا ينتفع بها ، وما أقبح هذا المثل الذي شبّهوا به ، والله لا يوفق للحق كل من كان ظالما لنفسه ، كافرا بنعمة ربه.
٢ ـ إن كان اليهود صادقين في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأصفياؤه ، فليطلبوا الموت ليصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله ، لأن للأولياء عند الله الكرامة والحظوة.
٣ ـ لكن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما أسلفوا من تكذيب محمد صلىاللهعليهوسلم ، فلو تمنوه لماتوا ، جاء في حديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال ـ لما نزلت هذه الآية : «والذي نفس محمد بيده ، لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات». وفي هذا إخبار عن الغيب ، ومعجزة للنبي صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ غير أنه تعالى أخبر أن الموت الذي يفر منه هؤلاء اليهود بسبب ما قدمت أيديهم من تحريف الآيات وغيره آت حتما لا محالة ، ولا ينفعهم الفرار ، ثم يرجعون إلى الله ربهم العالم بكل شيء من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم ، فيخبرهم بما فعلوا ، ويجازيهم بما عملوا.
فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))
الإعراب :
(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ) بمعنى (في) : في يوم الجمعة ، ويقرأ (الْجُمُعَةِ) بضم الميم وسكونها وفتحها ، بالضم على الأصل ، والسكون على التخفيف ، والفتح على نسبة الفعل إليها ، كأنها تجمع الناس.
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) كنى عن أحدهما دون الآخر ، للعلم بأنه داخل في حكمه ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة ٩ / ٣٤] وقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة ٢ / ٤٥].
البلاغة :
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) ثم قال : (قُلْ : ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) تفنن في العبارة ، فقدّم التجارة أولا ، لأنها المقصود الأصلي ، ثم قدّم اللهو ، لأن الخسارة فيما لا نفع فيه أعظم ، فقدم المهم في كل موضع.
(وَذَرُوا الْبَيْعَ) مجاز مرسل ، أطلق البيع ، وقصد جميع أنواع التعامل والانشغال من بيع وشراء وإجارة وشركة وغيرها.
المفردات اللغوية :
(نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أذّن لها الأذان الثاني الذي كان يفعل أمام النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو جالس على المنبر قبل الخطبة. (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان ل (إِذا) وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه
للصلاة ، وكانت العرب تسميه (العروبة) أي الرحمة ، وأول من سماه جمعة كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه ، وأول جمعة جمعها رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قباء ، حينما قدم المدينة ، وصلى الجمعة في دار بني سالم بن عوف. وأول من أقام الجمعة بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة. قال ابن حجر : فرضت الجمعة بمكة ، ولم نقم بها لفقد العدد ، أو لأن شعارها الإظهار ، وكان صلىاللهعليهوسلم بها مستخفيا (١).
(فَاسْعَوْا) فامشوا ، وعبّر بالسعي إشارة إلى أنه يطلب من المسلم القيام للجمعة بهمّة ونشاط ، وجد وعزيمة ، لأن لفظ السعي يفيد الجد والعزم. (إِلى ذِكْرِ اللهِ) للصلاة. (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا عقد البيع وسائر وجوه المعاملات. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله خير لكم من المعاملة ، فإن نفع الآخرة خير وأبقى. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشر الحقيقيين ، فإن علمتم أنه خير فافعلوه.
(قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أدّيت وفرغ منها. (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أي فتفرقوا ، وهو أمر بعد حظر ، فيفيد الإباحة لا الوجوب ، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) اطلبوا الرزق. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) اذكروه في مجامعكم ومجالسكم ذكرا كثيرا. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بخير الدارين.
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) التجارة تشمل كل أنواع الكسب ، واللهو : الطبول والمزامير ونحوها. (انْفَضُّوا إِلَيْها) انصرفوا إلى التجارة ، وإلى اللهو. (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر وأنت تخطب. (قُلْ : ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب. (خَيْرٌ) للذين آمنوا من اللهو ومن التجارة ، لأن ثواب الله محقّق مخلّد ، بخلاف ما يتوهم من نفع اللهو والتجارة. (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه ، فكل ما ييسر الله للإنسان من رزق عائلته هو من رزق الله تعالى.
سبب النزول :
نزول الآية (١١):
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ..) : أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير (٢) قد
__________________
(١) تفسير الألوسي : ٢٨ / ١٠٠
(٢) العير : الإبل المحملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت.
قدمت ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).
وأخرج ابن جرير عن جابر أيضا قال : كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير ، ويتركون النبي صلىاللهعليهوسلم قائما على المنبر ، وينفضّون إليها. وأخرج ابن المنذر عن جابر أن الآية نزلت في الأمرين معا : قصة النكاح ، وقدوم العير معا من طريق واحد.
قال المفسرون : أصاب أهل المدينة أصحاب الضرار جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارة من الشام ، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومه ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة ، فخرج إليه الناس ، فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : والذي نفس محمد بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم ، لسال بكم الوادي نارا (١).
المناسبة :
بعد أن بيّن الله تعالى أن اليهود يفرون من الموت حبا في الدنيا وطيباتها ، أراد تعالى أن يربي المؤمنين ويوجههم للعمل في الدنيا ولما ينفع أيضا في الآخرة ، وهو حضور الجمعة ، لأن الدنيا ومتاعها فانية ، والآخرة وما فيها باقية ، قال تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى ٨٧ / ١٧]. ثم ندّد تعالى بترك النبي صلىاللهعليهوسلم وهو على المنبر يخطب ، منصرفين للهو أو للتجارة ، فمنهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته ، ومنهم من انفض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها.
ثم أباح تعالى السعي في العمل ومكاسب الدنيا عقب انتهاء صلاة الجمعة ، قال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص ٢٨ / ٧٧].
__________________
(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٤٣
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ، وَذَرُوا الْبَيْعَ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي يا أيها المؤمنون بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، إذا أذّن لصلاة الجمعة الأذان الثاني بعد أن يجلس الخطيب على المنبر ، لأنه الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أما الأذان الأول فقد زاده عثمان رضياللهعنه بمحضر الصحابة لما اتسعت المدينة ، وذلك على الزّوراء (أعلى دار كانت بالمدينة قرب المسجد) وسمي أذانا ثالثا إضافة إلى الإقامة ، كما قال صلىاللهعليهوسلم فيما رواه الجماعة عن عبد الله بن مغفّل : «بين كل أذانين صلاة لمن شاء» يعني الأذان والإقامة.
إذا أذن للجمعة ، فبادروا إلى السعي أو المضي إلى ذكر الله وهو الخطبة وصلاة الجمعة في المساجد الجامعة ، بعد الإعداد لذلك والتهيؤ للصلاة بالغسل والوضوء والطيب واللباس الجديد أو النظيف الأبيض ونحوها ، واتركوا البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة ونحوهما ، وذلكم السعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع وترك السعي ، لما في الامتثال من الأجر والجزاء ، إن كنتم من أهل الدراية والعلم الصحيح بما ينفع ، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلك خير لكم. ولفظ (من) إما بمعنى (في) أو تبعيضية. وخص البيع بالذكر ، لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش ، وفيه إشارة إلى ترك جميع أنواع التجارة.
وتخصيص الجمعة بفريضتها تشريع للمسلمين في مقابل السبت عند اليهود. وليس المراد بالسعي في الآية المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) [الإسراء ١٧ / ١٩]. فأما المشي السريع إلى الصلاة ، فقد نهي عنه ، لما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضياللهعنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سمعتم الإقامة ، فامشوا إلى
الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج الشيخان أيضا عن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلي مع النبي صلىاللهعليهوسلم إذ سمع جلبة رجال (١) ، فلما صلى قال : ما شأنكم؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ، قال : فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة ، فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أقيمت الصلاة ، فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون ، وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».
ثم أباح الله تعالى العمل والسعي للدنيا بعد الصلاة ، فقال :
(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إذا أديتم الصلاة وفرغتم منها ، فيؤذن ويباح لكم الانتشار والتفرق في الأرض للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم ، والابتغاء ، أي الطلب من فضل الله أي من رزقه الذي يتفضل به على عباده من الأرباح في المعاملات والمكاسب ، ولا تنسوا في أثناء عملكم وبيعكم وشرائكم أن تذكروا الله ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي ، وبالاذكار التي تقربكم إليه ، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك ، كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به.
وفي هذا دلالة على أن عمل المؤمن للدنيا ينبغي أن يكون مصحوبا بذكر الله تعالى ومراقبته ، حتى لا يطغى عليه حبها ، وآن في مراقبة الله تعالى تحقيق الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.
__________________
(١) الجلب والجلبة : الأصوات.
كان عراك بن مالك رضياللهعنه إذا صلى الجمعة ، انصرف ، فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصلّيت فريضتك وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك ، وأنت خير الرازقين (١).
وجاء في الحديث : «من دخل سوقا من الأسواق ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة» (٢).
ثم عاتب الله تعالى على ما وقع من المؤمنين من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى اللهو أو التجارة القادمة إلى المدينة ، فقال :
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ، وَتَرَكُوكَ قائِماً ، قُلْ : ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ، وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي وإذا رأى هؤلاء المصلّون المؤمنون وهم في الجامع يستمعون إلى الخطبة إبلا محملة بتجارة قادمة من بلد آخر ، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وزمر المزامير احتفالا بزواج أو غيره ، تفرقوا خارجين إلى ذلك ، وتركوك أيها النبي قائما على المنبر وأنت تخطب ، قل أيها الرسول لهم مخطّئا ما عملوا : ما عند الله من الجزاء والثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة اللذين ذهبتم إليهما ، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي صلىاللهعليهوسلم لأجلها ، والله هو خير الرازقين ، فمنه اطلبوا الرزق ، وإليه توسلوا بعمل الطاعة ، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه ، والله يرزق من توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته ، وهو كفيل برزق العباد ، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وكلمة (إِذا) مستعملة في الماضي. ولما كان العطف بأو بين قوله : (تِجارَةً أَوْ لَهْواً) صح مجيء الضمير في (إِلَيْها) مفردا. وقوله : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
__________________
(١) رواه ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير ٤ / ٣٦٧).
(٢) كنز العمال ٤ / ٩٣٢٧ ، ٩٤٤٣
وقد عرفنا أن سبب نزول هذه الآية أنه كان بالمدينة فاقة وحاجة ، فأقبل دحية الكلبي بتجارة إلى الشام ، والنبي صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة ، فانفتل الناس إليها ، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا في المسجد ، وسبع نسوة. وترك بعضهم الخطبة إلى سماع اللهو ، فكان الترديد في قوله : (تِجارَةً أَوْ لَهْواً) للدلالة على أن منهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته ، ومنهم من انفض إلى التجارة للحاجة إليها والانتفاع بها.
فقه الحياة أو الأحكام :
يؤخذ من الآيات الأحكام التالية :
١ ـ صلاة الجمعة فرض والسعي إليها فرض أيضا ، لأنه لا يمكن أداؤها جماعة في المسجد إلا به. والخطاب في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خاص بالمكلفين بالإجماع ، فلا يطالب بالجمعة المرضى والزّمنى والمسافرين والعبيد والنساء ، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة ، لما أخرجه الدار قطني عن جابر : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك ، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه ، والله غني حميد».
وقال علماء المالكية وغيرهم : ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر ، لا يمكنه منه الإتيان إليها ، مثل المرض الحابس ، أو خوف الزيادة في المرض ، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع.
٢ ـ يختص وجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء ، أما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ).