تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة : ٤٧] ، انتقل به إلى التنويه بالقرآن لأنهم لما كذبوا بالبعث وكان إثبات البعث من أهم ما جاء به القرآن وكان مما أغراهم بتكذيب القرآن اشتماله على إثبات البعث الذي عدّوه محالا ، زيادة على تكذيبهم به في غير ذلك مما جاء به من إبطال شركهم وأكاذيبهم ، فلما قامت الحجة على خطئهم في تكذيبهم ، فقد تبين صدق ما أنبأهم به القرآن فثبت صدقه ولذلك تهيّأ المقام للتنويه بشأنه.

والفاء لتفريع القسم على ما سبق من أدلة وقوع البعث فإن قوله : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ) [الواقعة : ٤٩ ، ٥٠] ، إخبار بيوم البعث وإنذار لهم به وهم قد أنكروه ، ولأجل استحالته في نظرهم القاصر كذبوا القرآن وكذّبوا من جاء به ، ففرع على تحقيق وقوع البعث والإنذار به تحقيق أن القرآن منزه عن النقائص وأنه تنزيل من الله وأن الذي جاء به مبلغ عن الله.

فتفريع القسم تفريع معنويّ باعتبار المقسم عليه ، وهو أيضا تفريع ذكري باعتبار إنشاء القسم إن قالوا لكم : أقسم بمواقع النجوم.

وقد جاء تفريع القسم على ما قبله بالفاء تفريعا في مجرد الذكر في قول زهير :

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

عقب أبيات النسيب من معلّقته ، وليس بين النسيب وبين ما تفرع عنه من القسم مناسبة وإنما أراد أن ما بعد الفاء هو المقصود من القصيد ، وإنما قدم له النسيب تنشيطا للسامع وبذلك يظهر البون في النظم بين الآية وبين بيت زهير.

و (فَلا أُقْسِمُ) بمعنى : أقسم ، و (لا) مزيدة للتوكيد ، وأصلها نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم.

وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم لأن الأمر واضح الثبوت ، ثم كثر هذا الاستعمال فصار مرادا تأكيد الخبر فساوى القسم بدليل قوله عقبه : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ، وهذا الوجه الثاني هو الأنسب بما وقع من مثله في القرآن.

وعلى الوجهين فهو إدماج للتنويه بشأن ما لو كان مقسما لأقسم به. وعلى الوجه الثاني يكون قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) بمعنى : وإن المذكور لشيء عظيم يقسم به المقسمون ، فإطلاق قسم عليه من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.

وعن سعيد بن جبير وبعض المفسرين : أنهم جعلوا (لا) حرفا مستقلا عن فعل

٣٠١

(أُقْسِمُ) واقعا جوابا لكلام مقدر يدل عليه بعده من قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ردّا على أقوالهم في القرآن أنه شعر ، أو سحر ، أو أساطير الأولين ، أو قول كاهن ، وجعلوا قوله : (أُقْسِمُ) استئنافا. وعليه بمعنى الكلام مع فاء التفريع أنه تفرع على ما سطح من أدلة إمكان البعث ما يبطل قولكم في القرآن فهو ليس كما تزعمون بل هو قرآن كريم إلخ.

و (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع ، أي محالّ وقوعها من ثوابت وسيارة. والوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غروبها فيكون في معنى قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١] والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]. وجعل (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) بهذا المعنى مقسما به لأن تلك المساقط في حال سقوط النجوم عندها تذكّر بالنظام البديع المجعول لسير الكواكب كلّ ليلة لا يختل ولا يتخلف ، وتذكّر بعظمة الكواكب وبتداولها خلفة بعد أخرى ، وذلك أمر عظيم يحق القسم به الراجع إلى القسم بمبدعه.

ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم ، فالمواقع : محالّ وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريبا من قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج : ١].

والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها.

وذكر (مواقع النجوم) على كلا المعنيين تنويه بها وتعظيم لأمرها لدلالة أحوالها على دقائق حكمة الله تعالى في نظام سيرها وبدائع قدرته على تسخيرها.

ويجوز أن يكون (مواقع) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع.

ومن المفسرين من تأول النجوم أنها جمع نجم وهو القسط الشيء من مال وغيره كما يقال : نجوم الديات والغرامات وجعلوا النجوم ، أي الطوائف من الآيات التي تنزل من القرآن وهو عن ابن عباس وعكرمة فيؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٢ ، ٣].

وجملة (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) معترضة بين القسم وجوابه.

وضمير (إِنَّهُ) عائد إلى القسم المذكور في (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ، أو عائدا إلى مواقع النجوم بتأويله بالمذكور فيكون قسم بمعنى مقسم به كما علمت آنفا.

٣٠٢

ويجوز أن يعود إلى المقسم عليه وهو ما تضمنه جواب القسم من قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).

وجملة (لَوْ تَعْلَمُونَ) معترضة بين الموصوف وصفته وهي اعتراض في اعتراض.

والعلم الذي اقتضى شرط (لَوْ) الامتناعية عدم حصوله لهم إن جعلت ضمير (إِنَّهُ) عائدا على القسم هو العلم التفصيلي بأحوال مواقع النجوم ، فإن المشركين لا يخلون من علم إجمالي متفاوت بأن في تلك المواقع عبرة للناظرين ، أو نزّل ذلك العلم الإجمالي منزلة العدم لأنهم بكفرهم لم يجروا على موجب ذلك العلم من توحيد الله فلو علموا ما اشتملت عليه أحوال مواقع النجوم من متعلقات صفات الله تعالى لعلموا أنها مواقع قدسية لا يحلف بها إلا بارّ في يمينه ولكنهم بمعزل عن هذا العلم ، فإن جلالة المقسم به مما يزع الحالف عن الكذب في يمينه. ودليل انتفاء علمهم بعظمته أنهم لم يدركوا دلالة ذلك على توحيد الله بالإلهية فأثبتوا له شركاء لم يخلقوا شيئا من ذلك ولا ما يدانيه فتلك آية أنهم لم يدركوا ما في طي ذلك من دلائل حتى استوى عندهم خالق ما في تلك المواقع وغير خالقها.

فأما إن جعلت ضمير (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) عائدا إلى المقسم عليه فالمعنى : لو تعلمون ذلك لما احتجتم إلى القسم.

وقرأ الجمهور (بِمَواقِعِ) بصيغة الجمع بفتح الواو وبعدها ألف ، وقرأه حمزة والكسائي وخلق (بِمَواقِعِ) سكون الواو دون ألف بعدها بصيغة المفرد على أنه مصدر ميمي ، أي بوقوعها ، أي غروبها ، أو هو اسم لجهة غروبها كقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [المزمل : ٩].

ومفعول (تَعْلَمُونَ) محذوف دل عليه الكلام ، أي لو تعلمون عظمته ، أي دلائل عظمته ، ولك أن تجعل فعل (تَعْلَمُونَ) منزّلا منزلة اللازم ، أي لو كان لكم علم لكنكم لا تتصفون بالعلم.

وضمير (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) راجع إلى غير مذكور في الكلام لكونه معلوما مستحضرا لهم.

والقرآن : الكلام المقروء ، أي المتلوّ المكرر ، أي هو كلام متعظ به محل تدبر وتلاوة ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) في

٣٠٣

سورة يونس [٦١].

والكريم : النفيس الرفيع في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

وهذا تفضيل للقرآن على أفراد نوعه من الكتب الإلهية مثل التوراة والإنجيل والزبور ومجلة لقمان ، وفضله عليها بأنه فاقها في استيفاء أغراض الدين وأحوال المعاش والمعاد وإثبات المعتقدات بدلائل التكوين. والإبلاغ في دحض الباطل دحضا لم يشتمل على مثله كتاب سابق ، وخاصة الاعتقاد ، وفي وضوح معانيه ، وفي كثرة دلالته مع قلة ألفاظه ، وفي فصاحته ، وفي حسن آياته ، وحسن مواقعها في السمع وذلك من آثار ما أراد الله به من عموم الهداية به ، والصلاحية لكل أمة ، ولكل زمان ، فهذا وصف للقرآن بالرفعة على جميع الكتب حقا لا يستطيع المخالف طعنا فيه.

وبعد أن وصف القرآن ب (كَرِيمٌ) ، وصف وصفا ثانيا بأنه (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) وذلك وصف كرامة لا محالة ، فليس لفظ (كِتابٍ) ولا وصف (مَكْنُونٍ) مرادا بهما الحقيقة إذ ليس في حمل ذلك على الحقيقة تكريم ، فحرف (في) للظرفية المجازية.

والكتاب المكنون : مستعار لموافقة ألفاظ القرآن ومعانيه ما في علم الله تعالى وإرادته وأمره الملك بتبليغه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلك شئون محجوبة عنّا فلذلك وصف الكتاب بالمكنون اشتقاقا من الاكتنان وهو الاستتار ، أي محجوب عن أنظار الناس فهو أمر مغيّب لا يعلم كنهه إلا الله.

وحاصل ما يفيده معنى هذه الآية : أن القرآن الذي بلغهم وسمعوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو موافق لما أراد الله إعلام الناس به وما تعلقت قدرته بإيجاد نظمه المعجز ، ليكمل له وصف أنه كلام الله تعالى وأنه لم يصنعه بشر.

ونظير هذه الظرفية قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) إلى قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في سورة الأنعام [٥٩] ، وقوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] أي إلا جاريا على وفق ما علمه الله وجرى به قدره ، فكذلك قوله هنا : (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) ، فاستعير حرف الظرفية لمعنى مطابقة ما هو عند الله ، تشبيها لتلك المطابقة باتحاد المظروف بالظرف. وقريب منه قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٨ ، ١٩] وهذا أولى من اعتبار

٣٠٤

المجاز في إسناد الوصف بالكون في كتاب مكنون إلى قرآن كريم على طريقة المجاز العقلي باعتبار أن حقيقة هذا المجاز وصف مماثل القرآن ومطابقه لأن المماثل ملابس لمماثله.

واستعير الكتاب للأمر الثابت المحقق الذي لا يقبل التغيير ، فالتأم من استعارة الظرفية لمعنى المطابقة ، ومن استعارة الكتاب للثابت المحقق معنى موافقة معاني هذا القرآن لما عند الله من متعلّق علمه ومتعلّق إرادته وقدرته وموافقة ألفاظه لما أمر الله بخلقه من الكلام الدال على تلك المعاني على أبلغ وجه ، وقريب من هذه الاستعارة قول بشر بن أبي حازم أو الطرمّاح :

وجدنا في كتاب بني تميم

أحق الخيل بالركض المعار

وليس لبني تميم كتاب ولكنه أطلق الكتاب على ما تقرر من عوائدهم ومعرفتهم.

وجملة (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) صفة ثانية ل (كِتابٍ).

و (الْمُطَهَّرُونَ) : الملائكة ، والمراد الطهارة النفسانية وهي الزكاء. وهذا قول جمهور المفسرين وفي «الموطأ» قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أنها بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى [١١ ـ ١٦] قول الله تبارك وتعالى: (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) اه. يريد أن (الْمُطَهَّرُونَ) هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون.

ومعنى المسّ : الأخذ وفي الحديث : «مس من طيبة» ، أي أخذ. ويطلق المسّ على المخالطة والمطالعة قال يزيد بن الحكم الكلابي :

مسسنا من الآباء شيئا فكلّنا

إلى حسب في قومه غير واضع

قال المرزوقي في شرح هذا البيت من «الحماسة» : «مسسنا» يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا لأن المس باليد يقصد به الاختبار. ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا اه.

فالمعنى : أن الكتاب لا يباشر نقل ما يحتوي عليه لتبليغه إلا الملائكة.

والمقصود من هذا أن القرآن ليس كما يزعم المشركون قول كاهن فإنهم يزعمون أن الكاهن يتلقى من الجن والشياطين ما يسترقونه من أخبار السماء بزعمهم ، ولا هو قول شاعر إذ كانوا يزعمون أن لكل شاعر شيطانا يملي عليه الشعر ، ولا هو أساطير الأولين ،

٣٠٥

لأنهم يعنون بها الحكايات المكذوبة التي يتلهى بها أهل الأسمار ، فقال الله : إن هذا القرآن مطابق لما عند الله الذي لا يشاهده إلا الملائكة المطهرون.

وجملة (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) مبينة لجملة (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فهي تابعة لصفة القرآن ، أي فبلوغه إليكم كان بتنزيل من الله ، أي نزل به الملائكة.

وفي معنى نظم هذه الآية قوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الحاقة : ٤١ ـ ٤٣].

وإذ قد ثبتت هذه المرتبة الشريفة للقرآن كان حقيقا بأن تعظم تلاوته وكتابته ، ولذلك كان من المأمور به أن لا يمس مكتوب القرآن إلا المتطهّر تشبها بحال الملائكة في تناول القرآن بحيث يكون ممسك القرآن على حالة تطهر ديني وهو المعنى الذي تومئ إليه مشروعية الطهارة لمن يريد الصلاة نظير ما في الحديث «المصلي يناجي ربه».

وقد دلت آثار على هذا أوضحها ما رواه مالك في «الموطإ» مرسلا «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أقيال ذي رعين وقعافر وهمذان وبعثها به مع عمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر». وروى الطبراني عن عبد الله بن عمر قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يمس القرآن إلا طاهر» ، قال المناوي : وسنده صحيح وجعله السيوطي في مرتبة الحسن.

وفي كتب السيرة أن عمر بن الخطاب قبل أن يسلم دخل على أخته وهي امرأة سعيد بن زيد فوجدها تقرأ القرآن من صحيفة مكتوب فيها سورة طه فدعا بالصحيفة ليقرأها فقالت له : لا يمسه إلا المطهّرون فقام فاغتسل وقرأ السورة فأسلم ، فهذه الآية ليست دليلا لحكم مسّ القرآن بأيدي الناس ولكن ذكر الله إياها لا يخلو من إرادة أن يقاس الناس على الملائكة في أنهم لا يمسّون القرآن إلا إذا كانوا طاهرين كالملائكة ، أي بقدر الإمكان من طهارة الآدميين.

فثبت بهذا أن الأمر بالتطهر لمن يمسك مكتوبا من القرآن قد تقرر بين المسلمين من صدر الإسلام في مكة.

وإنما اختلف الفقهاء في مقتضى هذا الأمر من وجوب أو ندب ، فالجمهور رأوا وجوب أن يكون ممسك مكتوب القرآن على وضوء وهو قول علي وابن مسعود وسعد

٣٠٦

وسعيد وعطاء والزهري ومالك والشافعي ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، وقال فريق : إن هذا أمر ندب وهو قول ابن عباس والشعبي ، وروي عن أبي حنيفة وهو قول أحمد وداود الظاهري.

قال مالك في «الموطأ» «ولا يحمل أحد المصحف لا بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر إكراما للقرآن وتعظيما له». وفي سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء من «العتبية» في المسألة السادسة «سئل مالك عن اللوح فيه القرآن أيمس على غير وضوء؟ فقال : أما الصبيان الذين يتعلمون فلا رأى به بأسا ، فقيل له : فالرجل يتعلم فيه؟ قال :أرجو أن يكون خفيفا ، فقيل لابن القاسم : فالمعلّم يشكّل ألواح الصبيان وهو على غير وضوء ، قال : أرى ذلك خفيفا». قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» : «لما يلحقه في ذلك من المشقة فيكون ذلك سببا إلى المنع من تعلمه. وهذه هي العلة في تخفيف ذلك للصبيان. وأشار الباجي في «المنتقى» إلى أن إباحة مسّ القرآن للمتعلم والمعلم هي لأجل ضرورة التعلم.

وقد اعتبروا هذا حكما لما كتب فيه القرآن بقصد كونه مصحفا أو جزءا من مصحف أو لوحا للقرآن ولم يعتبروه لما يكتب من آي القرآن على وجه الاقتباس أو التضمين أو الاحتجاج ومن ذلك ما يكتب على الدنانير والدراهم وفي الخواتيم.

والمراد بالطهارة عند القائلين بوجوبها الطهارة الصغرى ، أي الوضوء ، وقال ابن عباس والشعبي : يجوز مسّ القرآن بالطهارة الكبرى وإن لم تكن الصغرى.

ومما يلتحق بهذه المسألة مسألة قراءة غير المتطهّر القرآن وليست مما شملته الآية ظاهرا ولكن لمّا كان النهي عن أن يمسّ المصحف غير متطهّر لعله أن المس ملابسة لمكتوب القرآن فقد يكون النهي عن تلاوة ألفاظ القرآن حاصلا بمفهوم الموافقة المساوي أو الأحرى ، إذ النطق ملابسة كملابسة إمساك المكتوب منه أو أشد وأحسب أن ذلك مثار اختلافهم في تلاوة القرآن لغير المتطهّر. وإجماع العلماء على أن غير المتوضئ يقرأ القرآن مع اختلافهم في مسّ المصحف لغير المتوضئ يشعر بأن مس المصحف في نظرهم أشدّ ملابسة من النطق بآيات القرآن.

قال مالك وأبو حنيفة والشافعي : لا يجوز للجنب قراءة القرآن ويجوز لغير المتوضئ. وقلت : شاع بين المسلمين من عهد الصحابة العمل بأن لا يتلو القرآن من كان جنبا ولم يؤثر عنهم إفتاء بذلك. وقال أحمد وداود : تجوز قراءة القرآن للجنب. ورخص

٣٠٧

مالك في قراءة اليسير منه كالآية والآيتين ، ولم يشترط أحد من أهل العلم الوضوء على قارئ القرآن.

واختلف في قراءته للحائض والنفساء. وعن مالك في ذلك روايتان ، وأحسب أن رواية الجواز مراعى فيها أن انتقاض طهارتهما تطول مدته فكان ذلك سببا في الترخيص.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١))

الفاء تفريع على ما سيق لأجله الكلام الذي قبلها في غرضه من التنويه بشأن القرآن ، وهو الذي بحذو الفاء ، أو من إثبات البعث والجزاء وهو الذي حواه معظم السورة ، وكان التنويه بالقرآن من مسبّباته.

وأطبق المفسرون عدا الفخر على أن اسم الإشارة وبيانه بقوله : (فَبِهذَا الْحَدِيثِ) مشير إلى القرآن لمناسبة الانتقال من التنويه بشأنه إلى الإنكار على المكذبين به. فالتفريع على قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] الآية.

والمراد ب (الْحَدِيثِ) إخبار الله تعالى بالقرآن وإرادة القرآن من مثل قوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) واردة في القرآن ، أي في قوله في سورة القلم [٤٤] (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) وقوله في سورة النجم [٥٩] (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ).

ويكون العدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة بقوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) دون أن يقول : أفبه أنتم مدهنون ، إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لتحصل باسم الإشارة زيادة التنويه بالقرآن.

وأما الفخر فجعل الإشارة من قوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) [الواقعة : ٤٧ ، ٤٨] ، فإن الله رد عليهم ذلك بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) [الواقعة : ٤٩] الآية. وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] ثم عاد إلى كلامهم فقال : أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به أنتم مدهنون لأصحابكم اه ، أي على معنى قوله تعالى : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٥].

وإنه لكلام جيّد ولو جعل المراد من (هذا الحديث) جميع ما تقدم من أول السورة

٣٠٨

أصلا وتفريعا ، أي من هذا الكلام الذي قرع أسماعكم ، لكان أجود. وإطلاق الحديث على خبر البعث أوضح لأن الحديث يراد به الخبر الذي صار حديثا للقوم.

والتعريف في (الْحَدِيثِ) على كلا التفسيرين تعريف العهد.

والمدهن : الذي يظهر خلاف ما يبطن ، يقال : أدهن ، ويقال : داهن ، وفسر أيضا بالتهاون وعدم الأخذ بالحزم ، وفسر بالتكذيب.

والاستفهام على كل التفاسير مستعمل في التوبيخ ، أي كلامكم لا ينبغي إلا أن يكون مداهنة كما يقال لأحد قال كلاما باطلا : أتهزأ ، أي قد نهض برهان صدق القرآن بحيث لا يكذب به مكذب إلا وهو لا يعتقد أنه كذب لأن حصول العلم بما قام عليه البرهان لا يستطيع صاحبه دفعه عن نفسه ، فليس إصراركم على التكذيب بعد ذلك إلا مداهنة لقومكم تخشون إن صدّقتم بهذا الحديث أن تزول رئاستكم فيكون في معنى قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣].

وعلى تفسير (مُدْهِنُونَ) بمعنى الإلانة ، فالمعنى : لا تتراخوا في هذا الحديث وتدبروه وخذوا بالفور في اتباعه.

وإن فسر (مُدْهِنُونَ) بمعنى : تكذبون ، فالمعنى واضح.

وتقديم المجرور للاهتمام ، وصوغ الجملة الاسمية في (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) لأن المقرّر عليه إدهان ثابت مستمرّ.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

إذا جرينا على ما فسر به المفسرون تكون هذه الجملة عطفا على جملة (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١] عطف الجملة على الجملة فتكون داخلة في حيّز الاستفهام ومستقلة بمعناها.

والمعنى : أفتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، وهو تفريع على ما تضمنه الاستدلال بتكوين نسل الإنسان وخلق الحب ، والماء في المزن ، والنار من أعواد الاقتداح ، فإن في مجموع ذلك حصول مقومات الأقوات وهي رزق ، والنسل رزق ، يقال : رزق فلان ولدا ، لأن الرزق يطلق على العطاء النافع ، قال لبيد :

رزقت مرابيع النجوم وصابها

ودق الرواعد جودها فرهامها

٣٠٩

أي أعطيت وقال تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧] فعطف الإطعام على الرزق والعطف يقتضي المغايرة.

والاستفهام المقدر بعد العاطف إنكاري ، وإذ كان التكذيب لا يصح أن يجعل رزقا تعين بدلالة الاقتضاء تقدير محذوف يفيده الكلام فقدره المفسرون : شكر رزقكم ، أو نحوه ، أي تجعلون شكر الله على رزقه إياكم أن تكذبوا بقدرته على إعادة الحياة ، لأنهم عدلوا عن شكر الله تعالى فيما أنعم به عليهم فاستنقصوا قدرته على إعادة الأجسام ، ونسبوا الزرع لأنفسهم ، وزعموا أن المطر تمطره النجوم المسماة بالأنواء فلذلك قال ابن عباس : نزلت في قولهم : مطرنا بنوء كذا ، أي لأنهم يقولونه عن اعتقاد تأثير الأنواء في خلق المطر ، فمعنى قول ابن عباس : نزلت في قولهم : مطرنا بنوء كذا ، أنه مراد من معنى الآية.

قال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله رزقا : هذا بنوء كذا وكذا اه.

أشار هذا إلى ما روي في «الموطأ» عن زيد بن خالد الجهني قال : صلّى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء فلما انصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل على الناس فقال: هل تدرون ما ذا قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وليس فيه زيادة فنزلت هذه الآية ولو كان نزولها يومئذ لقاله الصحابي الحاضر ذلك اليوم.

ووقع في «صحيح مسلم» عن ابن عباس أنه قال : «مطر الناس على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا. قال فنزلت : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] حتى بلغ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) فزاد على ما في حديث زيد بن خالد قوله فنزلت : (فَلا أُقْسِمُ) إلخ.

وزيادة الراوي مختلف في قبولها بدون شرط أو بشرط عدم اتحاد المجلس ، أو بشرط أن لا يكون ممن لا يغفل مثله عن مثل تلك الزيادة عادة وهي أقوال لأئمة الحديث وأصول الفقه ، وابن عباس لم يكن في سن أهل الرواية في مدة نزول هذه السورة بمكة فعل قوله : فنزلت تأويل منه ، لأنه أراد أن الناس مطروا في مكة في صدر الإسلام فقال المؤمنون قولا وقال المشركون قولا فنزلت آية (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تنديدا

٣١٠

على المشركين منهم بعقيدة من العقائد التي أنكرها الله عليهم وأن ما وقع في الحديبية مطر آخر لأن السورة نزلت قبل الهجرة. ولم يرو أن هذه الآية ألحقت بالسورة بعد نزول السورة.

ولعل الراوي عنه لم يحسن التعبير عن كلامه فأوهم بقوله فنزلت (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] بأن يكون ابن عباس قال : فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ، أو نحو تلك العبارة. وقد تكرر مثل هذا الإيهام في أخبار أسباب النزول» ويتأكد هذا صيغة (تُكَذِّبُونَ) لأن قولهم : مطرنا بنوء كذا ، ليس فيه تكذيب بشيء ، ولذلك احتاج ابن عطية إلى تأويله بقوله : «فإن الله تعالى قال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ) [ق : ٩ ـ ١١] فهذا معنى (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي تكذبون بهذا الخبر.

والذي نحاه الفخر منحى آخر فجعل معنى (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تكملة للإدهان الذي في قوله تعالى : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١] فقال : «أي تخافون أنكم إن صدّقتم بالقرآن ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون الرسول أي فيكون عطفا على (مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١] عطف فعل على اسم شبيه به ، وهو من قبيل عطف المفردات ، أي أنتم مدهنون وجاعلون رزقكم أنكم تكذّبون ، فهذا التكذيب من الإدهان ، أي أنهم يعلمون صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنهم يظهرون تكذيبه إبقاء على منافعهم فيكون كقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣]. وعلى هذا يقدر قوله : (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) مجرورا بباء الجر محذوفة ، والتقدير : وتجعلون رزقكم بأنكم تكذبون ، أي تجعلون عوضه بأن تكذّبوا بالبعث».

[٨٣ ـ ٨٧] (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

مقتضى فاء التفريع أن الكلام الواقع بعدها ناشئ عما قبله على حسب ترتيبه وإذ قد كان الكلام السابق إقامة أدلة على أن الله قادر على إعادة الحياة للناس بعد الموت ، وأعقب ذلك بأن تلك الأدلة أيدت ما جاء في القرآن من إثبات البعث ، وأنحى عليهم أنهم وضحت لهم الحجة ولكنهم مكابرون فيها ومظهرون الجحود وهم موقنون بها في الباطن ،

٣١١

وكل ذلك راجع إلى الاستدلال بقوة قدرة الله على إيجاد موجودات لا تصل إليها مدارك الناس ، انتقل الكلام إلى الاستدلال على إثبات البعث بدليل لا محيص لهم عن الاعتراف بدلالته.

فالتفريع على جملة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٢] وهو أن عجزهم عن إرجاع الروح عند مفارقتها الجسد ينبههم على أن تلك المفارقة مقدّرة في نظام الخلقة وأنها لحكمة.

فمعنى الكلام قد أخبركم الله بأنه يجازي الناس على أفعالهم ولذلك فهو محييهم بعد موتهم لإجراء الجزاء عليهم ، وقد دلكم على ذلك بانتزاع أرواحهم منهم قهرا ، فلو كان ما تزعمون من أنكم غير مجزيين بعد الموت لبقيت الأرواح في أجسادها ، إذ لا فائدة في انتزاعها منها بعد إيداعها فيها لو لا حكمة نقلها إلى حياة ثانية ، ليجري جزاؤها على أفعالها في الحياة الأولى.

وهذا نظير الاستدلال على تفرد الله بالإلهية بأنّ في كينونة الموجودات دلائل خلقية على أنها مخلوقة لله تعالى وذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥]. ومرجع هذا المعنى إلى أن هذا استدلال بمقتضى الحكمة الإلهية في حالة خلق الإنسان فإن إيداع الأرواح في الأجساد تصرف من تصرف الله تعالى ، وهو الحكيم ، فما نزع الأرواح من الأجساد بعد أن أودعها فيها مدة إلا لأن انتزاعها مقتضى الحكمة أن تنتزع ، وانحصر ذلك في أن يجري عليها الحساب على ما اكتسبته في مدة الحياة الدنيا.

وهذا كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، فالله تعالى جعل الحياة الدنيا والآجال مدد عمل ، وجعل الحياة الآخرة دار جزاء على الأعمال ، ولذلك أقام نظام الدنيا على قاعدة الانتهاء لآجال حياة الناس.

أما موت من كان قريبا من سن التكليف ومن دونه وموت العجماوات فذلك عارض تابع لإجراء التكوين للأجساد الحية على نظام التكوين المتماثل ، وكذلك ما يعرض لها من عوارض مهلكة اقتضاها تعارض مقتضيات الأنظام وتكوين الأمزجة من صحة ومرض ، ومسالمة وعدوان.

فبقي الإشكال في جعل (تَرْجِعُونَها) من جملة جواب شرط (إِنْ) إذ لا يلزم من

٣١٢

عدم قدرتهم على صد الأرواح عن الخروج ، أن يكون خروجها لإجراء الحساب. ودفع هذا الإشكال وجوب تأويل (تَرْجِعُونَها) بمعنى تحاولون إرجاعها ، أي عدم محاولتكم إرجاعها منذ العصور الأولى دليل على تسليمكم بعدم إمكان إرجاعها ، وما ذلك إلا لوجوب خروجها من حياة الأعمال إلى حياة الجزاء. وأصل تركيب هذه الجملة : فإذا كنتم صادقين في أنكم غير مدينين فلولا حاولتم عند كل محتضر إذا بلغت الروح الحلقوم أن ترجعوها إلى مواقعها من أجزاء جسده فما صرفكم عن محاولة ذلك إلا العلم الضروري بأن الروح ذاهبة لا محالة. فإذا علمت هذا اتضح لك انتظام الآية التي نظمت نظما بديعا من الإيجاز ، وأدمج في دليلها ما هو تكملة للإعجاز.

و (لو لا) حرف تحضيض مستعمل هنا في التعجيز لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حضّ على فعله فقد أظهر عجزه والفعل المحضوض عليه هو (تَرْجِعُونَها) ، أي تحاولون رجوعها.

و (إِذا بَلَغَتِ) ظرف متعلق ب (تَرْجِعُونَها) مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه.

والضمير المستتر في (بَلَغَتِ) عائد على مفهوم من العبارات لظهور أن التي تبلغ الحلقوم هي الروح حذف إيجازا نحو قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] أي الشمس. و (ال) في (الْحُلْقُومَ) للعهد الجنسي.

وجملة (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) حال من ضمير (بَلَغَتِ) ومفعول (تَنْظُرُونَ) محذوف تقديره : تنظرون صاحبها ، أي صاحب الروح بقرينة قوله بعده (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) ، وفائدة هذه الحال تحقيق أن الله صرفهم عن محاولة إرجاعها مع شدة أسفهم لموت الأعزّة.

وجملة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) في موضع الحال من مفعول (تَنْظُرُونَ) المحذوف ، أو معترضة والواو اعتراضية.

وأيّا ما كانت فهي احتراس لبيان أن ثمة حضورا أقرب من حضورهم عند المحتضر وهو حضور التصريف لأحواله الباطنة.

وقرب الله : قرب علم وقدرة على حد قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أو قرب ملائكته المرسلين لتنفيذ أمره في الحياة والموت على حد قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ)

٣١٣

[الأعراف : ٥٢] ، أي جاءهم جبريل بكتاب ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) [الأعراف : ٣٧].

وجملة (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) معترضة بين جملة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) وجملة (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) وكلمة (فَلَوْ لا) الثانية تأكيد لفظي لنظيرها السابق أعيد لتبنى عليه جملة (تَرْجِعُونَها) لطول الفصل.

وجملة (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) معترضة أو حال من الواو في (تَرْجِعُونَها).

وجواب شرط (إِنْ) محذوف دل عليه فعل (تَرْجِعُونَها). قال ابن عطية : وقوله : (تَرْجِعُونَها) سدّ مسدّ الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضات ، و (إِذا) من قوله : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) و (إن) المتكررة وحمل بعض القول بعضا إيجاز أو اقتضابات» اه.

وجملة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بيان لجملة (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) وعلى التفسير الأول لمعنى (مَدِينِينَ) يكون وجه إعادة هذا الشرط مع أنه مما استفيد بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) هو الإيماء إلى فرض الشرط في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) بالنسبة لما في نفس الأمر وأن الشرط في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) هو فرض وتقدير لا وقوع له نفي البعث ، وعلى الوجه الثاني يرجع قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إلى ما أفاده التحضيض ، وموقع فاء التفريع من إرادة أن قبض الأرواح لتأخيرها إلى يوم الجزاء ، أي إن كنتم صادقين في نفي البعث والجزاء.

وضمير التأنيث في قوله : (تَرْجِعُونَها) عائد إلى الروح الدال عليه التاء في قوله : (إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ).

ومعنى الاستدراك في (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) راجع إلى قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) لرفع توهم قائل : كيف يكون أقرب إلى المحتضر من العوّاد الحافين حوله وهم يرون شيئا غيرهم يدفع ذلك بأنهم محجوبون عن رؤية أمر الله تعالى.

وجملة (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) معترضة ، والواو اعتراضية. ومفعول (تُبْصِرُونَ) محذوف دلّ عليه قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ).

ومعنى (مَدِينِينَ) مجازين على أعمالكم. وعلى هذا المعنى حمله جمهور المتقدمين من المفسرين ابن عباس ومجاهد وجابر بن زيد والحسن وقتادة ، وعليه جمهور المفسرين من المتأخرين على الإجمال ، وفسره الفراء والزمخشري (مَدِينِينَ) بمعنى : عبيد لله ، من

٣١٤

قولهم : دان السلطان الرعية ، إذا ساسهم ، أي غير مربوبين وهو بعيد عن السياق.

واعلم أن قوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) فرض وتقدير ف (إِنْ) فيه بمنزلة (لو) ، أي لو كنتم غير مدينين ، أي غير مجزيين على الأعمال.

وأسند فعل (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) إلى المخاطبين بضمير المخاطبين ، دون أن يقول : إن كان الناس غير مدينين لأن المخاطبين هم الذين لأجل إنكارهم البعث سيق هذا الكلام. والمعنى : لو كنتم أنتم وكان الناس غير مدينين لما أخرجت الأرواح من الأجساد إذ لا فائدة تحصل من تفريق ذينك الإلفين لو لا غرض سام ، وهو وضع كل روح فيما يليق بها من عالم الخلود جزاء على الأعمال ، ولذلك أوثر لفظ (غَيْرَ مَدِينِينَ) دون أن يقال : غير مبعوثين ، أو غير معادين ، وإن كان لا يلزم من نفي الإدانة نفي البعث فإنه يجوز أن يكون بعث بلا جزاء لكن ذلك لا يدعى لأنه عبث.

فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) إيماء إلى أن الغرض من سوق هذا الدليل إبطال إنكارهم البعث الذي هو لحكمة الجزاء.

ومن مستتبعات هذا الكلام أن يفيد الإيماء إلى حكمة الموت بالنسبة للإنسان لأنه لتخليص الأرواح من هذه الحياة الزائلة المملوءة باطلا إلى الحياة الأبدية الحق التي تجري فيها أحوال الأرواح على ما يناسب سلوكها في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] فيقتضي أنه لو لا أنكم مدينون لما انتزعنا الأرواح من أجسادها بعد أن جعلناها فيها ولأبقيناها لأن الروح الإنساني ليس كالروح الحيواني ، فتكون الآية مشتملة على دليلين : أحدهما بحاقّ التركيب ، والآخر بمستتبعاته التي أومأ إليها قوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ). والغرض الأول هو الذي ذيل بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

هذا تفسير الآية الذي يحيط بأوفر معانيها دلالة واقتضاء ومستتبعات. وجعل في «الكشاف» معنى الآية يصب إلى إبطال ما يعتقده الدهريون ، أي الذين يقولون (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ، لأنهم نفوا أن يكونوا عبادا لله. وجعل معنى (مَدِينِينَ) مملوكين لله ، وبذلك فسره الفراء وقال ابن عطية : «إنه أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا ، ومن عبر بمجازى أو بمحاسب ، فذلك هنا قلق». وقلت : في كلامه نظر ظاهر.

٣١٥

وجعل الزمخشري تفريعه على ما حكي من كلامهم السابق مبنيا على أن ما حكي من كلامهم في الأنواء والتكذيب يفضي إلى مذهب التعطيل ، فاستدل عليهم بدليل يقتضي وجود الخالق وهو كله ناء عن معنى الآية لأن الدهرية لا ينتحلها جميع العرب بل هي نحلة طوائف قليلة منهم وناء عن متعارف ألفاظها وعن ترتيب استدلالها.

[٨٨ ـ ٩٤] (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤))

لما اقتضى الكلام بحذافره أن الإنسان صاحب الروح صائر إلى الجزاء فرع عليه إجمال أحوال الجزاء في مراتب الناس إجمالا لما سبق تفصيله بقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) إلى قوله : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٧ ـ ٤٤] ليكون هذا فذلكة للسورة وردّا لعجزها على صدرها.

فضمير (إِنْ كانَ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (إِلَيْهِ) من قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [الواقعة : ٨٥].

والمقربون هم السابقون الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ٨٥] وأصحاب اليمين قد تقدم والمكذبون الضالون : هم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم.

وقد ذكر لكل صنف من هؤلاء جزاء لم يذكر له فيما تقدم ليضم إلى ما أعدّ له فيما تقدم على طريقة القرآن في توزيع القصة.

والرّوح : بفتح الراء في قراءة الجمهور ، وهو الراحة ، أي فروح له ، أي هو في راحة ونعيم ، وتقدم في قوله : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) في سورة يوسف [٨٧]. وقرأه رويس عن يعقوب بضم الراء. ورويت هذه القراءة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أبي داود والترمذي والنسائي ، أي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم روي عنه الوجهان ، فالمشهور روي متواترا ، والآخر روي متواترا وبالآحاد ، وكلاهما مراد.

ومعنى الآية على قراءة ضم الراء : أن روحه معها الريحان وهو الطيب وجنة النعيم. وقد ورد في حديث آخر : «أن روح المؤمن تخرج طيبة». وقيل : أطلق الرّوح بضم الراء

٣١٦

على الرحمة لأن من كان في رحمة الله فهو الحيّ حقا ، فهو ذو روح ، أما من كان في العذاب فحياته أقل من الموت ، قال تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى : ١٣] ، أي لأنه يتمنى الموت فلا يجده.

والريحان : شجر لورقة وقضبانه رائحة ذكية شديد الخضرة كانت الأمم تزين به مجالس الشراب. قال الحريري «وطورا يستبزل الدنان ، ومرة يستنشق الريحان» وكانت ملوك العرب تتخذه ، قال النابغة :

يحيّون بالريحان يوم السباسب

وتقدم عند قوله تعالى : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) في سورة الرحمن [١٢] ، فتخصيصه بالذكر قبل ذكر الجنة التي تحتوي عليه إيماء إلى كرامتهم عند الله ، مثل قوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: ٢٣ ، ٢٤].

وجملة (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) جواب (أما) التي هي بمعنى : مهما يكن شيء. وفصل بين (ما) المتضمنة معنى اسم شرط وبين فعل شرط وبين الجواب بشرط آخر هو (إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) لأن الاستعمال جرى على لزوم الفصل بين (أمّا) وجوابها بفاصل كراهية اتصال فاء الجواب بأداة الشرط لما التزموا حذف فعل الشرط فأقاموا مقامه فاصلا كيف كان.

وجواب (إن) الشرطية محذوف أغنى عنه جواب (أمّا).

وكذلك قوله : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ).

والسلام : اسم للسلامة من المكروه ، ويطلق على التحية ، واللام في قوله : (لَكَ) للاختصاص. والكلام إجمال للتنويه بهم وعلوّ مرتبتهم وخلاصهم من المكدرات لتذهب نفس السامع كل مذهب.

واختلف المفسرون في قوله : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) فقيل : كاف الخطاب موجهة لغير معين ، أي لكل من يسمع هذا الخبر. والمعنى : أن السلامة الحاصلة لأصحاب اليمين تسر من يبلغه أمرها. وهذا كما يقال : ناهيك به ، وحسبك به ، و (من) ابتدائية ، واللفظ جرى مجرى المثل فطوي منه بعضه ، وأصله : فلهم السلامة سلامة تسرّ من بلغه حديثها.

٣١٧

وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير المعنى كما تقدم لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسرّ بما يناله أهل الإسلام من الكرامة عند الله وهم ممن شملهم لفظ (أَصْحابِ الْيَمِينِ). وقيل : الكلام على تقدير القول ، أي فيقال له : سلام لك ، أي تقول له الملائكة.

و (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) خبر مبتدأ محذوف ، أي أنت من أصحاب اليمين ، و (مِنْ) على هذا تبعيضية ، فهي بشارة للمخاطب عند البعث على نحو قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: ٢٣ ، ٢٤].

وقيل : الكاف خطاب لمن كان من أصحاب اليمين على طريقة الالتفات. ومقتضى الظاهر أن يقال : فسلام له ، فعدل إلى الخطاب لاستحضار تلك الحالة الشريفة ، أي فيسلم عليه أصحاب اليمين على نحو قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] أي يبادرونه بالسلام ، وهذا كناية عن كونه من أهل منزلتهم ، و (مِنْ) على هذا ابتدائية.

فهذه محامل لهذه الآية يستخلص من مجموعها معنى الرفعة والكرامة.

والمكذبون الضالون : هم أصحاب الشمال في القسم السابق إلى أزواج ثلاثة.

وقدم هنا وصف التكذيب على وصف الضلال عكس ما تقدم في قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٥١] ، لمراعاة سبب ما نالهم من العذاب وهو التكذيب ، لأن الكلام هنا على عذاب قد حان حينه وفات وقت الحذر منه فبيّن سبب عذابهم وذكروا بالذي أوقعهم في سببه ليحصل لهم ألم التندم.

والنزل : ما يقدم للضيف من القرى ، وإطلاقه هنا تهكم ، كما تقدم قريبا في هذه السورة كقوله تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) [الواقعة : ٥٦].

والتصلية : مصدر صلّاه المشدّد ، إذا أحرقه وشواه ، يقال : صلى اللحم تصلية ، إذا شواه ، وهو هنا من الكلام الموجه لإيهامه أنه يصلّى له الشواء في نزله على طريقة التهكم ، أي يحرّق بها.

والجحيم : يطلق على النار المؤججة ، ويطلق علما على جهنّم دار العذاب الآخرة.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥))

تذييل لجميع ما اشتملت عليه السورة من المعاني المثبتة.

٣١٨

والإشارة إلى ذلك بتأويل المذكور من تحقيق حق وإبطال باطل.

والحق : الثابت. و (الْيَقِينِ) : المعلوم جزما الذي لا يقبل التشكيك.

وإضافة (حَقُ) إلى (الْيَقِينِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي لهو اليقين الحق. وذلك أن الشيء إذا كان كاملا في نوعه وصف بأنه حقّ ذلك الجنس ، كما في الحديث : «لأبعثن معكم أمينا حقّ أمين». فالمعنى : أن الذي قصصنا عليك في هذه السورة هو اليقين حقّ اليقين ، كما يقال : زيد العالم حق عالم. ومآل هذا الوصف إلى توكيد اليقين ، فهو بمنزلة ذكر مرادف الشيء وإضافة المترادفين تفيد معنى التوكيد ، فلذلك فسروه بمعنى : أن هذا يقين اليقين وصواب الصواب. نريد : أنه نهاية الصواب. قال ابن عطية : وهذا أحسن ما قيل فيه.

ويجوز أن تكون الإضافة بيانية على معنى (من) ، وحقيقته على معنى اللام بتقدير : لهو حق الأمر اليقين ، وسيجيء نظير هذا التركيب في سورة الحاقة. وسأبين هنا لك ما يزيد على ما ذكرته هنا فانظره هنا لك.

وقد اشتمل هذا التذييل على أربعة مؤكدات وهي : (إن) ، ولام الابتداء ، وضمير الفصل ، وإضافة شبه المترادفين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

تفريع على تحقيق أن ما ذكر هو اليقين حقا فإن ما ذكر يشتمل على عظيم صفات الله وبديع صنعه وحكمته وعدله ، ويبشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بمراتب من الشرف والسلامة على مقادير درجاتهم وبنعمة النجاة مما يصير إليه المشركون من سوء العاقبة ، فلا جرم كان حقيقا بأن يؤمر بتسبيح الله تسبيحا استحقه لعظمته ، والتسبيح ثناء ، فهو يتضمن حمدا لنعمته وما هدى إليه من طرق الخير ، وقد مضى تفصيل القول في نظيره من هذه السورة.

٣١٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٧ ـ سورة الحديد

هذه السورة تسمى من عهد الصحابة «سورة الحديد» ، فقد وقع في حديث إسلام عمر بن الخطاب عند الطبراني والبزار أن عمر دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد [٧] فقرأه حتى بلغ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فأسلم ، وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة ، لوقوع لفظ «الحديد» فيها في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥].

وهذا اللفظ وإن ذكر في سورة الكهف [٩٦] في قوله تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) وهي سابقة في النزول على سورة الحديد على المختار ، فلم تسم به لأنها سميت باسم الكهف للاعتناء بقصة أهل الكهف ، ولأن الحديد الذي ذكر هنا مراد به حديد السلاح من سيوف ودروع وخوذ ، تنويها به إذ هو أثر من آثار حكمة الله في خلق مادته وإلهام الناس صنعه لتحصل به منافع لتأييد الدين ودفاع المعتدين كما قال تعالى : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) [الحديد : ٢٥].

وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي لم يختلف مثله في غيرها ، فقال الجمهور : مدنية. وحكى ابن عطية عن النقاش : أن ذلك إجماع المفسرين ، وقد قيل : إن صدرها مكي لما رواه مسلم في «صحيحه» والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود أنه قال : «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) إلى قوله : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ١٦] إلا أربع سنين. عبد الله بن مسعود من أول الناس إسلاما ، فتكون هذه الآية مكية.

وهذا يعارضه ما رواه ابن مردويه عن أنس وابن عباس : أن نزول هذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة من ابتداء نزول القرآن ، فيصار إلى الجمع بين الروايتين

٣٢٠