تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

إذا أقدم عليه فأخفق كأنّ نفسه لما شجعته على اقتحامه قد قالت له : إنك تطيقه فتعرّض له ولا تبال به فإنك مذلّله فإذا تبين له عجزه فكأنّ نفسه أخبرته بما لا يكون فقد كذبته ، كما يقال : كذبته عينه إذا تخيّل مرئيا ولم يكن.

والمعنى : إذا وقعت القيامة تحقق منكروها ذلك فأقلعوا عن اعتقادهم أنها لا تقع وعلموا أنهم ضلّوا في استدلالهم وهذا وعيد بتحذير المنكرين للقيامة من خزي الخيبة وسفاهة الرأي بين أهل الحشر.

وإطلاق وصف الكذب في جميع هذا استعارة بتشبيه السبب للفعل غير المثمر بالمخبر بحديث كذب أو تشبيه التسبب بالقول قال أبو علي الفارسي : الكذب ضرب من القول فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو قول أبي النجم :

قد قالت الأنساع للبطن الحق (١)

جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق نحو :

بأن كذب القراطف والقروف (٢)

واللام في (لِوَقْعَتِها) لام التوقيت نحو (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١]. وقولهم : كتبته لكذا من شهر كذا ، وهي بمعنى (عند) وأصلها لام الاختصاص شاع استعمالها في اختصاص الموقّت بوقته كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣]. وهو توسع في معنى الاختصاص بحيث تنوسي أصل المعنى. وفي الحديث سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي الأعمال أفضل فقال : الصلاة لوقتها». وهذا الاستعمال غير الاستعمال الذي في قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦].

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣))

__________________

(١) تمامه : قدما فآضت كالفنيق المحنق.

النسع : حزام يشد على بطن الدابة.

(٢) أوله : وذبيانية وصت بنيها.

وهو معقّر بن حمار البارقي.

والقرف : الأديم. والقرطفة : القطيفة المخملة.

٢٦١

خبران لمبتدإ محذوف ضمير (الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١] ، أي هي خافضة رافعة ، أي يحصل عندها خفض أقوام كانوا مرتفعين ورفع أقوام كانوا منخفضين وذلك بخفض الجبابرة والمفسدين الذين كانوا في الدنيا في رفعة وسيادة ، وبرفع الصالحين الذين كانوا في الدنيا لا يعبئون بأكثرهم ، وهي أيضا خافضة جهات كانت مرتفعة كالجبال والصوامع ، رافعة ما كان منخفضا بسبب الانقلاب بالرجّات الأرضية.

وإسناد الخفض والرفع إلى الواقعة مجاز عقلي إذ هي وقت ظهور ذلك. وفي قوله : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) محسن الطباق مع الإغراب بثبوت الضدّين لشيء واحد.

[٤ ـ ٧] (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧))

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ) بدل من جملة (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١] وهو بدل اشتمال.

والرّج : الاضطراب والتحرك الشديد ، فمعنى : (رُجَّتِ) رجّها راجّ ، وهو ما يطرأ فيها من الزلازل والخسف ونحو ذلك.

وتأكيده بالمصدر للدلالة على تحققه وليتأتى التنوين المشعر بالتعظيم والتهويل.

والبسّ يطلق بمعنى التفتت وهو تفرّق الأجزاء المجموعة ، ومنه البسيسة من أسماء السويق أي فتّتت الجبال ونسفت فيكون كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) [طه : ١٠٥ ، ١٠٦].

ويطلق البسّ أيضا على السّوق للماشية ، يقال : بسّ الغنم ، إذا ساقها. وفي الحديث : «فيأتي قوم يبسّون بأموالهم وأهليهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» فهو في معنى قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧] ، وقوله : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) [النبأ : ٢٠] وتأكيده بقوله : (بَسًّا) كالتأكيد في قوله : (رَجًّا) لإفادة التعظيم بالتنوين.

وتفريع (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) على (بُسَّتِ الْجِبالُ) لائق بمعنيي البسّ لأن الجبال إذا سيّرت فإنما تسيّر تسييرا يفتتها ويفرقها ، أي تسيير بعثرة وارتطام.

والهباء : ما يلوح في خيوط شعاع الشمس من دقيق الغبار ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) في سورة الفرقان [٢٣].

٢٦٢

والمنبثّ : اسم فاعل انبثّ ، مطاوع بثّه ، إذا فرّقه. واختير هذا المطاوع لمناسبته مع قوله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ) في أن المبني للنائب معناه كالمطاوعة ، وقوله : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) تشبيه بليغ ، أي فكانت كالهباء المنبث.

والخطاب في : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) للناس كلهم ، وهذا تخلص للمقصود من السورة وهو الموعظة.

والأزواج : الأصناف. والزوج يطلق على الصنف والنوع كقوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] ووجه ذلك أن الصنف إذا ذكر يذكر معه نظيره غالبا فيكون زوجا.

[٨ ـ ١٢] (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

قد علمت عند تفسير قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١] الوجه في متعلق (إِذا) وإذ قد وقع قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] عطفا على الجمل التي أضيف إليها (إذا) من قوله : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) [الواقعة : ٤] كان هو محط القصد من التوقيت ب (إذا) الثانية الواقعة بدلا من (إذا) الأولى وكلتاهما مضمن معنى الشرط ، فكان هذا في معنى الجزاء ، فلك أن تجعل الفاء لربط الجزاء مع التفصيل للإجمال ، وتكون جملة (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) جوابا ل (إذا) الثانية آئلا إلى كونه جوابا ل (إذا) الأولى لأن الثانية مبدلة منها ، ولذلك جاز أن يكون هذا هو جواب (إذا) الأولى فتكون الفاء مستعملة في معنييها كما تقدم عند قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢].

وقد أفاد التفصيل أن الأصناف ثلاثة :

صنف منهم أصحاب الميمنة ، وهم الذين يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر. واليمين جهة عناية وكرامة في العرف ، واشتقت من اليمن ، أي البركة.

وصنف أصحاب المشأمة ، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم ، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع وقد سميا في الآية الآتية (أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧] و (أَصْحابُ الشِّمالِ) [الواقعة : ٤١] ، فجعل الشمال ضدّ اليمين كما جعل المشأمة هنا ضد الميمنة إشعارا بأن حالهم حال شؤم وسوء ، وكل ذلك مستعار لما عرف في كلام العرب من إطلاق هذين

٢٦٣

اللفظين على هذا المعنى الكنائي الذي شاع حتى ساوى الصريح ، وأصله جاء من الزجر والعيافة إذ كانوا يتوقعون حصول خير من أغراضهم من مرور الطير أو الوحش من يمين الزاجر إلى يساره ويتوقعون الشر من مروره بعكس ذلك ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) في سورة الصافات [٢٨] ، وتقدم شيء منه عند قوله تعالى : (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) في سورة الأعراف [١٣١] ، وعند قوله تعالى : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) في سورة يس [١٨].

ولذلك استغني هنا عن الإخبار عن كلا الفريقين بخبر فيه وصف بعض حاليهما بذكر ما هو إجمال لحاليهما مما يشعر به ما أضيف إليه أصحابه من لفظي الميمنة والمشأمة بطريقة الاستفهام المستعمل في التعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، وهو تعجيب ترك على إبهامه هنا لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من الخير والشر ، ف (ما) في الموضعين اسم استفهام.

و (أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) خبران عن (ما) في الموضعين كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢] وقوله : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ، ٢].

وإظهار لفظي (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) و (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) بعد الاستفهامين دون الإتيان بضميريهما. لأن مقام التعجيب والتشهير يقتضي الإظهار بخلاف مقام قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) [القارعة : ١٠].

وقوله : (وَالسَّابِقُونَ) هذا الصنف الثالث في العدّ وهم الصنف الأفضل من الأصناف الثلاثة ، ووصفهم بالسبق يقتضي أنهم سابقون أمثالهم من المحسنين الذين عبر عنهم بأصحاب الميمنة فهم سابقون إلى الخير ، فالناس لا يتسابقون إلا لنوال نفيس مرغوب لكل الناس ، وأما الشر والضرّ فهم يتكعكعون عنه.

وحقيقة السبق : وصول أحد مكانا قبل وصول أحد آخر. وهو هنا مستعمل على سبيل الاستعارة ، وقد جمع المعنيين قول النابغة :

سبقت الرجال الباهشين إلى العلا

كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد

فيجوز أن يكون (السَّابِقُونَ) مستعملا في المبادرة والإسراع إلى الخير في الدين كما في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) في سورة براءة [١٠٠].

٢٦٤

ويجوز أن يكون مستعملا في المغالبة في تحصيل الخير كقوله تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) في سورة المؤمنين [٦١].

وقوله : (السَّابِقُونَ) ثانيا يجوز جعله خبرا عن (السَّابِقُونَ) الأول كما أخبر عن أصحاب الميمنة بأنهم (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) لأنه يدل على وصفهم بشيء لا يكتنه كنهه بحيث لا يفي به التعبير بعبارة غير تلك الصفة إذ هي أقصى ما يسعه التعبير ، فإذا أراد السامع أن يتصور صفاتهم فعليه أن يتدبر حالهم ، وهذا على طريقه قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧]. ويجوز جعله تأكيدا للأول فمآل جملة (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ونظيرتها وجملة (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هو التعجيب من حالهم وطريقه هو الكناية ولكنّ بين الكنايتين فرقا بأن إحداهما كانت من طريق السؤال عن الوصف ، والأخرى من طريق تعذر التعبير بغير ذلك الوصف.

والمعنى : أن حالهم بلغت منتهى الفضل والرفعة بحيث لا يجد المتكلم خبرا يخبر به عنهم أدلّ على مرتبتهم من اسم (السَّابِقُونَ) فهذا الخبر أبلغ في الدلالة على شرف قدرهم من الإخبار ب (ما) الاستفهامية التعجيبية في قوله : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ، وهذا مثل قول أبي الطمحان القيني :

وإني من القوم الذين همو همو

إذا مات منهم سيد قام صاحبه

مع ما في اشتقاق لقبهم من «السبق» من الدلالة على بلوغهم أقصى ما يطلبه الطالبون.

وحذف متعلق (السَّابِقُونَ) في الآية لقصد جعل وصف (السَّابِقُونَ) بمنزلة اللقب لهم ، وليفيد العموم ، أي أنهم سابقون في كل ميدان تتسابق إليه النفوس الزكية كقوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] ، فهؤلاء هم السابقون إلى الإيمان بالرسل وهم الذين صحبوا الرسل والأنبياء وتلقوا منهم شرائعهم ، وهذا الصنف يوجد في جميع العصور من القدم ، ومستمر في الأمم إلى الأمة المحمدية وليس صنفا قد انقضى وسبق الأمة المحمدية. وأخّر (السَّابِقُونَ) في الذكر عن أصحاب اليمين لتشويق السامعين إلى معرفة صنفهم بعد أن ذكر الصنفان الآخران من الأصناف الثلاثة ترغيبا في الاقتداء.

وجملة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب عما يثيره قوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) من تساؤل السامع عن أثر التنويه بهم.

٢٦٥

وبذلك كان هذا ابتداء تفصيل لجزاء الأصناف الثلاثة على طريقة النشر بعد اللف ، نشرا مشوّشا تشويشا اقتضته مناسبة اتصال المعاني بالنسبة إلى كل صنف أقرب ذكرا ، ثم مراعاة الأهمّ بالنسبة إلى الصنفين الباقيين فكان بعض الكلام آخذا بحجز بعض.

والمقرّب : أبلغ من القريب لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء ، وذلك قرب مجازي ، أي شبه بالقرب في ملابسة القريب والاهتمام بشئونه فإن المطيع بمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله ، أي طالب القرب منه فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قرّبه الله ، أي عامله معاملة المقرّب المحبوب ، كما جاء : «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» وكل هذه الأوصاف مجازيه تقريبا لمعنى التقريب.

ولم يذكر متعلّق (الْمُقَرَّبُونَ) لظهور أنه مقرب من الله ، أي من عنايته وتفضيله ، وكذلك لم يذكر زمان التقريب ولا مكانه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة.

وفي جعل المسند إليه اسم إشارة تنبيه على أنهم أحرياء بما يخبر عنه من أجل الوصف الوارد قبل اسم الإشارة وهو أنهم السابقون على نحو ما تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر ثان عن (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) أو حال منه.

وإيقاعه بعد وصف (الْمُقَرَّبُونَ) مشير إلى أن مضمونه من آثار التقريب المذكور.

[١٣ ، ١٤] (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤))

اعتراض بين جملة (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٢] وجملة على (سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) [الواقعة : ١٥].

و (ثُلَّةٌ) خبر عن مبتدأ محذوف ، تقديره : هم ثلة ، ومعاد الضمير المقدر «السابقون» ، أي السابقون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.

وهذا الاعتراض يقصد منه التنويه بصنف السابقين وتفضيلهم بطريق الكناية عن ذلك بلفظي (ثُلَّةٌ) و (قَلِيلٌ) المشعرين بأنهم قلّ من كثر ، فيستلزم ذلك أنهم صنف عزيز نفيس

٢٦٦

لما عهد في العرف من قلة الأشياء النفيسة وكقول السموأل ـ وقيل غيره ـ :

تعيرنا أنّا قليل عديدنا

فقلت لها : إن الكرام قليل

مع بشارة المسلمين بأن حظهم في هذا الصنف كحظ المؤمنين السالفين أصحاب الرسل لأن المسلمين كانوا قد سمعوا في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنويها بثبات المؤمنين السالفين مع الرسل ومجاهدتهم فربما خامر نفوسهم أن تلك صفة لا تنال بعدهم فبشرهم الله بأن لهم حظا منها مثل قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) إلى قوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) إلى قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤ ـ ١٤٦] وغيرها ، تلهيبا للمسلمين وإذكاء لهممهم في الأخذ بما يلحقهم بأمثال السابقين من الأولين فيستكثروا من تلك الأعمال. وفي الحديث : «لقد كان من قبلكم يوضع المنشار على أحدهم فينشر إلى عظمه لا يصده ذلك عن دينه».

والثلّة : بضم الثاء لا غير : اسم للجماعة من الناس مطلقا قليلا كانوا أو كثيرا ، وهذا هو قول الفراء وأهل اللغة والراغب وصاحب «لسان العرب» وصاحب «القاموس» والزمخشري في «الأساس» ، وقال الزمخشري في «الكشاف» إن الثلة : الأمة الكثيرة من الناس ومحمله على أنه أراد به تفسير معناها في هذه الآية لا تفسير الكلمة في اللغة.

ولما في هذا الاعتراض من الإشعار بالعزة قدم على ذكر ما لهم من النعيم للإشارة إلى عظيم كيفيته المناسبة لوصفهم ب (السابقين) بخلاف ما يأتي في أصحاب اليمين.

ومعنى : (الْأَوَّلِينَ) قوم متقدمون على غيرهم في الزمان لأن الأول هو الذي تقدم في صفة ما كالوجود أو الأحوال على غير الذي هو الآخر أو الثاني ، فالأوّلية أمر نسبي يبيّنه سياق الكلام حيثما وقع.

فالظاهر أن (الْأَوَّلِينَ) هنا مراد بهم الأمم السابقة قبل الإسلام بناء على ما تقدم من أن الخطاب في قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] خطاب لجميع الناس بعنوان أنهم ناس لأن المنقرضين الذين يتقدمون من أمة أو قبيلة أو أهل نحلة يدعون بالأوليين كما قال الفرزدق :

ومهلهل الشعراء ذاك الأوّل

وقال تعالى : (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) [الواقعة : ٤٨] الذين هم يخلفونهم ويكونون

٢٦٧

موجودين ، أو في تقدير الموجودين يدعون الآخرين.

وقد وصف أهل الإسلام بالآخرين في حديث فضل الجمعة «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» الحديث. وإذ قد وصف السابقون بما دل على أنهم أهل السبق إلى الخير ووصفت حالهم في القيامة عقب ذلك فقد علم أنهم أفضل الصالحين من أصحاب الأديان الإلهية ابتداء من عصر آدم إلى بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩].

فلا جرم أن المراد ب (الْأَوَّلِينَ) الأمم الأولى كلها ، وكان معظم تلك الأمم أهل عناد وكفر ولم يكن المؤمنون فيهم إلا قليلا كما تنبئ به آيات كثيرة من القرآن.

ووصف المؤمنون من بعض الأمم عند أقوامهم بالمستضعفين ، وبالأرذلين ، وبالأقلين.

ولا جرم أن المراد بالآخرين الأمة الأخيرة وهم المسلمون.

فالسابقون طائفتان طائفة من الأمم الماضين ومجموع عددها في ماضي القرون كثير مثل أصحاب موسى عليه‌السلام الذين رافقوه في التيه ، ومثل أصحاب أنبياء بني إسرائيل ، ومثل الحواريين ، وطائفة قليلة من الأمة الإسلامية وهم الذين أسرعوا للدخول في الإسلام وصحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] ، وإذ قد كانت هذه الآية نزلت قبل الهجرة فهي لا يتحقق مفادها إلا في المسلمين الذين بمكة.

و (مِنَ) تبعيضية كما هو بيّن ، فاقتضى أن السابقين في الأزمنة الماضية وزمان الإسلام حاضره ومستقبله بعض من كلّ ، والبعضية تقتضي القلة النسبية ولفظ (ثُلَّةٌ) مشعر بذلك ولفظ (قَلِيلٌ) صريح فيه.

وإنما قوبل لفظ (ثُلَّةٌ) بلفظ (قَلِيلٌ) للإشارة إلى أن الثلة أكثر منه. وعن الحسن أنه قال : سابقو من مضى أكثر من سابقينا.

وروي عن أبي هريرة «أنه لما نزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شقّ ذلك على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحزنوا وقالوا : إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل ، فنزلت نصف النهار (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] فنسخت :

٢٦٨

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)» (١).

وهذا الحديث مشكل ومجمل فإن هنا قسمين مشتبهين ، والآية التي فيها (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٤٠] ليست واردة في شأن السابقين فليس في الحديث دليل على أن عدد أهل مرتبة السابقين في الأمم الماضية مساو لعدد أهل تلك المرتبة في المسلمين ، وأن قول أبي هريرة : «فنسخت (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)» يريد نسخت هذه الكلمة. فمراده أنها أبطلت أن يكون التفوق مطردا في عدد الصالحين فبقي التفوق في العدد خاصا بالسابقين من الفريقين دون الصالحين الذين هم أصحاب اليمين ، والمتقدمون يطلقون النسخ على ما يشمل البيان فإنه مورد آية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] في شأن صنف أصحاب اليمين ومورد الآية التي فيها : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هو صنف السابقين فلا يتصور معنى النسخ بالمعنى الاصطلاحي مع تغاير مورد الناسخ والمنسوخ ولكنه أريد به البيان وهو بيان بالمعنى الأعم.

[١٥ ـ ٢٦] (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

الجار والمجرور خبر ثالث عن (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١١] أو حال ثانية من اسم الإشارة. وهذا تبشير ببعض ما لهم من النعيم مما تشتاق إليه النفوس في هذه الحياة الدنيا لتشويقهم إلى هذا المصير فيسعوا لنواله بصالح الأعمال ، وليس الاقتصار على المذكور هنا بمقتض حصر النعيم فيما ذكر فقد قال الله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١].

والسرر : جمع سرير ، وهو كرسي طويل متسع يجلس عليه المتكئ والمضطجع ، له سوق أربع مرتفع على الأرض بنحو ذراع يتخذ من مختلف الأعواد ويتخذه الملوك من ذهب ومن فضة ومن عاج ومن نفيس العود كالأبنوس ويتخذه العظماء المترفهون من

__________________

(١) رواه أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، وزاد ابن أبي حاتم قوله : «وقالوا إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل. وزاد «فنخست وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ».

٢٦٩

الحديد الصرف ومن الحديد الملون أو المزين بالذهب. والسرير مجلس العظماء والملوك. وتقدم في قوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في سورة الصافات [٤٤].

والموضونة : المسبوك بعضها ببعض كما تسبك حلق الدروع وإنما توضن سطوحها وهي ما بين سوقها الأربع حيث تلقى عليها الطنافس أو الزرابي للجلوس والاضطجاع ليكون ذلك المفرش وثيرا فلا يؤلم المضطجع ولا الجالس. وفسر بعضهم (مَوْضُونَةٍ) بمرمولة ، أي منسوجة بقضبان الذهب.

والاتكاء : اضطجاع مع تباعد أعلى الجنب ، والاعتماد على المرفق ، وتقدم في سورة الرحمن.

والتقابل : من تمام النعيم لما فيه من الأنس بمشاهدة الأصحاب والحديث معهم.

وقوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) بيان لجملة (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٢] وتقدم قريب منه في سورة الصافات.

والطواف : المشي المكرر حول شيء وهو يقتضي الملازمة للشيء. ووصف الولدان بالمخلدين ، أي دائمين على الطواف عليهم ومناولتهم لا ينقطعون عن ذلك. وإذ قد ألفوا رؤيتهم فمن النعمة دوامهم معهم. وقد فسر (مُخَلَّدُونَ) بأنهم مخلدون في صفة الولدان ، أي بالشباب والغضاضة ، أي ليسوا كولدان الدنيا يصيرون قريبا فتيانا فكهولا فشيوخا.

وفسره أبو عبيدة بأنهم مقرطون بالأقراط. والقرط يسمى خلدا وخلدا وجمعه خلدة كقردة وهي لغة حميرية استعملها العرب كلهم وكانوا يحسّنون غلمانهم بالأقراط في الآذان.

والأكواب : جمع كوب ، وهو إناء الخمر لا عروة له وله خرطوم وفيه استدارة متسع موضع الشرب منه فهو كالقدح.

والأباريق : جمع إبريق وهو إناء تحمل فيه الخمر للشاربين فتصب في الأكواب ، والإبريق له خرطوم وعروة.

والكأس : إناء للخمر كالكوب إلا أنه مستطيل ضيق المشرب وتقدم في سورة الصافات.

والكأس جنس يصدق بالواحد والمتعدد فليس إفراده هنا للوحدة فإن المراد كئوس

٢٧٠

كثيرة كما اقتضاه جمع أكواب وأباريق ، فإذا كانت آنية حمل الخمر كثيرة كانت كئوس الشاربين أكثر ، وإنما أوثرت صيغة المفرد لأن في لفظ كئوس ثقلا بوجود همزة مضمومة في وسطه مع ثقل صيغة الجمع.

والمعين : الجاري ، والمراد به الخمر التي لكثرتها تجري في المجاري كما يجري الماء وليست قليلة عزيزة كما هي في الدنيا ، قال تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥].

وليس المراد بالمعين الماء لأن الكأس ليست من آنية الماء وإنما آنيتهما الأقداح ، وقد تقدم في سورة الصافات [٤٥ ، ٤٧] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) وتلك صفات الخمر.

والتصديع : الإصابة بالصداع ، وهو وجع الرأس من الخمار الناشئ عن السكر ، أي لا تصيبهم الخمر بصداع.

ومعنى (عنها) مجاوزين لها ، أي لا يقع لهم صداع ناشئ عنها ، أي فهي منزهة عن ذلك بخلاف خمور الدنيا فاستعملت (عن) في معنى السببية.

وعطف (وَلا يُنْزِفُونَ) على (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) فيقدر له متعلق دل عليه متعلق (لا يُصَدَّعُونَ) فقد قال في سورة الصافات [٤٧] ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي لا يعتريهم نزف بسببها كما يحصل للشاربين في الدنيا.

والنزف : اختلاط العقل ، وفعله مبني للمجهول يقال : نزف عقله مثل : عني فهو منزوف.

وقرأ الجمهور (يُنْزِفُونَ) بفتح الزاي من أنزف الذي همزته للتعدية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الزاي من أنزف المهموز القاصر إذا سكر وذهب عقله.

والفاكهة : الثمار والنقول كاللوز والفستق ، وتقدم في سورة الرحمن. وعطف (فاكِهَةٍ) على (بِأَكْوابٍ) ، أي ويطوفون عليهم بفاكهة وذلك أدخل في الدعة وألذّ من التناول بأيديهم ، على أنهم إن اشتهوا اقتطافها بالأيدي دنت لهم الأغصان فإن المرء قد يشتهي تناول الثمرة من أغصانها.

و (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) : الجنس الذي يختارونه ويشتهونه ، أي يطوفون عليهم بفاكهة من الأنواع التي يختارونها ، ففعل (يَتَخَيَّرُونَ) يفيد قوة الاختيار.

٢٧١

و «لحم الطير» : هو أرفع اللحوم وأشهاها وأعزها.

وعطف (وَلَحْمِ طَيْرٍ) على (فاكِهَةٍ) كعطف (فاكِهَةٍ) على (أكواب).

والاشتهاء : مصدر اشتهى ، وهو افتعال من الشهوة التي هي محبة نيل شيء مرغوب فيه من محسوسات ومعنويات ، يقال : شهي كرضي ، وشها كدعا. والأكثر أن يقال : اشتهى ، والافتعال فيه للمبالغة.

وتقديم ذكر الفاكهة على ذكر اللحم قد يكون لأن الفواكه أعزّ. وبهذا يظهر وجه المخالفة بين الفاكهة ولحم طير فجعل التخيّر للأول. والاشتهاء للثاني ولأن الاشتهاء أعلق بالطعام منه بالفواكه ، فلذة كسر الشاهية بالطعام لذة زائدة على لذة حسن طعمه ، وكثرة التخيّر للفاكهة هي لذة تلوين الأصناف.

و (حُورٌ عِينٌ) عطف على (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) ، أي ويطوف عليهم حور عين.

والحور العين : النساء ذوات الحور ، وتقدم في سورة الرحمن. وذوات العين وهو سعة العين وتقدم في سورة الصافات.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر (وَحُورٌ عِينٌ) بالكسر فيهما على أن (حُورٌ) عطف على (بِأَكْوابٍ) عطف معنى من باب قوله :

وزجّجن الحواجب والعيونا

بتقدير : وكحّلن العيون ، أو يعطف على (جَنَّاتِ) ، أي وفي حور عين ، أي هم في حور عين أو محاطون بهن ومحدقون بهن.

والمراد : أزواج السابقين في الجنة وهن المقصورات في الخيام.

والأمثال : الأشباه. ودخول كاف التشبيه على (أمثال) للتأكيد مثل قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. والمعنى : هن أمثال اللؤلؤ المكنون.

و (اللُّؤْلُؤِ) : الدرّ ، وتقدم تبيينه عند قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) في سورة الحج [٢٣].

و (الْمَكْنُونِ) : المخزون المخبأ لنفاسته ، وتقدم في سورة الصافات.

وانتصب (جَزاءً) على المفعول لأجله لفعل مقدر دل عليه قوله : (الْمُقَرَّبُونَ)

٢٧٢

[الواقعة : ١١] ، أي أعطيناهم ذلك جزاء ، ويجوز أن يكون (جَزاءً) مصدرا جاء بدلا عن فعله ، والتقدير : جازيناهم جزاء.

والجملة على التقديرين اعتراض تفيد إظهار كرامتهم بحيث جعلت أصناف النعيم الذين حظوا به جزاء على عمل قدّموه وذلك إتمام لكونهم مقربين.

ثم أكمل وصف النعيم بقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) ، وهي نعمة روحية فإن سلامة النفس من سماع ما لا يحب سماعه ومن سماع ما يكره سماعه من الأذى نعمة براحة البال وشغله بسماع المحبوب.

واللغو : الكلام الذي لا يعتدّ به كالهذيان ، والكلام الذي لا محصل له.

والتأثيم : اللّوم والإنكار ، وهو مصدر أثّم ، إذا نسب غيره إلى الإثم.

وضمير (فِيها) عائد إلى (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٢].

وأتبع ذكر هذه النعمة بذكر نعمة أخرى من الأنعام بالمسموع الذي يفيد الكرامة لأن الإكرام لذة روحية يكسب النفس عزة وإدلالا بقوله : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). وهو استثناء من (لَغْواً) ـ و ـ (تَأْثِيماً) بطريقة تأكيد الشيء بما يشبه ضده المشتهر في البديع باسم تأكيد المدح لما يشبه الذم ، وله موقع عظيم من البلاغة كقوله النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

فالاستثناء متصل ادعاء وهو المعبر عنه بالاستثناء المنقطع بحسب حاصل المعنى ، وعليه فإن انتصاب (قِيلاً) على الاستثناء لا على البدلية من (لَغْواً).

و (سَلاماً) الأول مقول (قِيلاً) أي هذا اللفظ الذي تقديره : سلمنا سلاما ، فهو جملة محكية بالقول.

و (سَلاماً) الثاني تكرير ل (سَلاماً) الأول تكريرا ليس للتأكيد بل لإفادة التعاقب ، أي سلاما إثر سلام ، كقوله تعالى : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر: ٢١] وقولهم : قرأت النحو بابا بابا ، أو مشارا به إلى كثرة المسلمين فهو مؤذن مع الكرامة بأنهم معظمون مبجلون ، والفرق بين الوجهين أن الأول يفيد التكرير بتكرير الأزمنة ، والثاني يفيد التكرار بتكرار المسلمين.

وهذا القيل يتلقونه من الملائكة الموكلين بالجنة ، قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] ويتلقاه بعضهم من بعض كما

٢٧٣

قال تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠].

وإنما جيء بلفظ : (سَلاماً) منصوبا دون الرفع مع كون الرفع أدل على المبالغة كما ذكروه في قوله : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) في سورة هود [٦٩] وسورة الذاريات [٢٥] لأنه أريد جعله بدلا من (قِيلاً).

[٢٧ ـ ٣٤] (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤))

عود إلى نشر ما وقع لفّه في قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] كما تقدم عند قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [الواقعة : ٨].

وعبر عنهم هنا ب (أَصْحابُ الْيَمِينِ) وهنالك ب (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) للتفنن.

فجملة (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) عطف على جملة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ٨] عطف القصة على القصة.

وجملة (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) خبر عن (أَصْحابُ الْيَمِينِ) بإبهام يفيد التنويه بهم كما تقدم في قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [الواقعة : ٨]. وأتبع هذا الإبهام بما يبين بعضه بقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) إلخ.

والسدر : شجر من شجر العضاه ذو ورق عريض مدوّر وهو صنفان : عبري بضم العين وسكون الموحدة وياء نسب نسبة إلى العبر بكسر العين وسكون الموحدة على غير قياس وهو عبر النهي ، أي ضفته ، له شوك ضعيف في غصونه لا يضير.

والصنف الثاني الضّال (بضاد ساقطة ولام مخففة) وهو ذو شوك. وأجود السدر الذي ينبت على الماء وهو يشبه شجر العناب ، وورقه كورق العناب وورقه يجعل غسولا ينظف به ، يخرج مع الماء رغوة كالصابون.

وثمر هذا الصنف هو النبق ـ بفتح النون وكسر الموحدة وقاف ـ يشبه ثمر العناب إلا أنه أصفر مزّ (بالزاي) يفوح الفم ويفوح الثياب ويتفكه به ، وأما الضال وهو السدر البري الذي لا ينبت على الماء فلا يصلح ورقه للغسول وثمره عفص لا يسوغ في الحلق ولا ينتفع به ويخبط الرعاة ورقه للراعية ، وأجود ثمر السدر ثمر سدر هجر أشد نبق حلاوة

٢٧٤

وأطيبه رائحة.

ولما كان السدر من شجر البادية وكان محبوبا للعرب ولم يكونوا مستطيعين أن يجعلوا منه في جناتهم وحوائطهم لأنه لا يعيش إلا في البادية فلا ينبت في جناتهم خص بالذكر من بين شجر الجنة إغرابا به وبمحاسنه التي كان محروما منها من لا يسكن البوادي وبوفرة ظله وتهدل أغصانه ونكهة ثمره.

ووصف بالمخضود ، أي المزال شوكه فقد كملت محاسنه بانتفاء ما فيه من أذى.

والطلح : شجر من شجر العضاه واحده طلحة ، وهو من شجر الحجاز ينبت في بطون الأودية ، شديد الطّول ، غليظ الساق. من أصلب شجر العضاه عودا ، وأغصانه طوال عظام شديدة الارتفاع في الجو ولها شوك كثير قليلة الورق شديدة الخضرة كثيرة الظل من التفاف أغصانها ، وصمغها جيّد وشوكها أقل الشوك أذى ، ولها نور طيب الرائحة ، وتسمى هذه الشجرة أمّ غيلان ، وتسمى في صفاقس غيلان وفي أحواز تونس تسمى مسك صنادق.

والمنضود : المتراصّ المتراكب بالأغصان ليست له سوق بارزة ، أو المنضد بالحمل ، أي النوّار فتكثر رائحته.

وعلى ظاهر هذا اللفظ يكون القول في البشارة لأصحاب اليمين بالطلح على نحو ما قرر في قوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) ويعتاض عن نعمة نكهة ثمر السدر بنعمة عرف نور الطلح.

وفسر الطلح بشجر الموز روي ذلك عن ابن عباس وابن كثير ، ونسب إلى علي بن أبي طالب.

والامتنان به على هذا التفسير امتنان بثمره لأنه ثمر طيب لذيذ ولشجره من حسن المنظر ، ولم يكن شائعا في بلاد العرب لاحتياجه إلى كثرة الماء.

والظل الممدود : الذي لا يتقلص كظل الدنيا ، وهو ظل حاصل من التفاف أشجار الجنة وكثرة أوراقها.

وسكب الماء : صبّه ، وأطلق هنا على جريه بقوة يشبه السّكب وهو ماء أنهار الجنة.

والفاكهة : تقدمت آنفا.

ووصفت ب (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) وصفا بانتفاء ضد المطلوب إذ المطلوب أنها

٢٧٥

دائمة مبذولة لهم. والنفي هنا أوقع من الإثبات لأنه بمنزلة وصف وتوكيده ، وهم لا يصفون بالنفي إلا مع التكرير بالعطف كقوله تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥]. وفي حديث أم زرع : «قالت المرأة الرابعة : زوجي كليل تهامة لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة».

ثم تارة يقصد به إثبات حالة وسطى بين حالي الوصفين المنفيين كما في قول أم زرع : «لا حرّ ولا قرّ» ، وفي آية : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] وهذا هو الغالب وتارة يقصد به نفي الحالين لإثبات ضديهما كما في قوله : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) وقوله الآتي : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤٤] ، وقول المرأة الرابعة في حديث أمّ زرع : «ولا مخافة ولا سآمة».

وجمع بين الوصفين لأن فاكهة الدنيا لا تخلو من أحد ضدي هذين الوصفين فإن أصحابها يمنعونها فإن لم يمنعوها فإن لها إبانا تنقطع فيه.

والفرش : جمع فراش بكسر الفاء وهو ما يفرش وتقدم في سورة الرحمن. و (مَرْفُوعَةٍ) : وصف ل (فُرُشٍ) ، أي مرفوعة على الأسرة ، أي ليست مفروشة في الأرض.

ويجوز أن يراد بالفرش الأسرّة من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه.

[٣٥ ـ ٣٨] (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨))

لما جرى ذكر الفرش وهي مما يعد للاتكاء والاضطجاع وقت الراحة في المنزل يخطر بالبال بادئ ذي بدء مصاحبة الحور العين معهم في تلك الفرش فيتشوف إلى وصفهن ، فكانت جملة : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) بيانا لأن الخاطر بمنزلة السؤال عن صفات الرفيقات.

فضمير المؤنث من (أَنْشَأْناهُنَ) عائد إلى غير مذكور في الكلام ولكنه ملحوظ في الأفهام كقول أبي تمام في طالع قصيدة :

هنّ عوادي يوسف وصواحبه ومنه قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢]. وهذا أحسن وجه في تفسير الآية ، فيكون لفظ (فُرُشٍ) [الواقعة : ٣٤] في الآية مستعملا في معنييه ويكون (مَرْفُوعَةٍ)

٢٧٦

[الواقعة : ٣٤] مستعملا في حقيقته ومجازه ، أي في الرفع الحسي والرفع المعنوي.

والإنشاء : الخلق والإيجاد فيشمل إعادة ما كان موجودا وعدم ، فقد سمّى الله الإعادة إنشاء في قوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠] فيدخل نساء المؤمنين اللاء كنّ في الدنيا أزواجا لمن صاروا إلى الجنة ويشمل إيجاد نساء أنفا يخلقن في الجنة لنعيم أهلها.

وقوله : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) شامل للصنفين.

والعرب : جمع عروب بفتح العين ، ويقال : عربه بفتح فكسر فيجمع على عربات كذلك ، وهو اسم خاص بالمرأة. وقد اختلفت أقوال أهل اللغة في تفسيره. وأحسن ما يجمعها أن العروب : المرأة المتحببة إلى الرجل ، أو التي لها كيفية المتحببة ، وإن لم تقصد التحبّب ، بأن تكثر الضحك بمرأى الرجل أو المزاح أو اللهو أو الخضوع في القول أو اللثغ في الكلام بدون علة أو التغزل في الرجل والمساهلة في مجالسته والتدلل وإظهار معاكسة أميال الرجل لعبا لا جدّا وإظهار أذاه كذلك كالمغاضبة من غير غصب بل للتورك على الرجل ، قال نبيه بن الحجاج :

تلك عريسي غضبى تريد زيالي

ألبين أردت أم لدلال

الشاهد في قوله : أم لدلال ، قال تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [الأحزاب : ٣٢] ، وقال : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) [النور : ٣١]. وإنما فسروها بالمتحببة لأنهم لما رأوا هاته الأعمال تجلب محبة الرجل للمرأة ظنوا أن المرأة تفعلها لاكتساب محبة الرجل. ولذلك فسر بعضهم : العروب بأنها المغتلمة ، وإنما تلك حالة من أحوال بعض العروب. وعن عكرمة العروب : الملقة.

والعروب : اسم لهذه المعاني مجتمعة أو مفترقة أجروه مجرى الأسماء الدالة على الأوصاف دون المشتقة من الأفعال فلذلك لم يذكروا له فعلا ولا مصدرا وهو في الأصل مأخوذ من الإعراب والتعريب وهو التكلم بالكلام الفحش.

والعرابة : بكسر العين : اسم من التعريب وفعله : عرّبت وأعربت ، فهو مما يسند إلى ضمير المرأة غالبا. كأنهم اعتبروه إفصاحا عما شأنه أن لا يفصح عنه ثم تنوسي هذا الأخذ فعومل العروب معاملة الأسماء غير المشتقة ، ويقال : عربة. مثل عروب. وجمع العروب عرب وجمع عربة عربات.

٢٧٧

ويقال للعروب بلغة أهل مكة العربة والشّكلة. ويقال لها بلغة أهل المدينة : الغنجة. وبلغة العراق : الشّكلة ، أي ذات الشّكل بفتح الكاف وهو الدلال والتعرّب.

والأتراب : جمع ترب بكسر المثناة الفوقية وسكون الراء وهي المرأة التي ساوى سنها سنّ من تضاف هي إليه من النساء ، وقد قيل : إن الترب خاص بالمرأة ، وأما المساوي في السن من الرجال فيقال له : قرن ولدة.

فالمعنى : أنهن جعلن في سن متساوية لا تفاوت بينهن ، أي هن في سن الشباب المستوي فتكون محاسنهن غير متفاوتة في جميع جهات الحسن ، وعلى هذا فنساء الجنة هن الموصوفات بأنهن «أتراب» بعضهن لبعض.

وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف (عُرُباً) بسكون الراء سكون تخفيف وهو ملتزم في لغة تميم في هذا اللفظ.

واللام في (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) يتنازعها (أَنْشَأْناهُنَ) و (فَجَعَلْناهُنَ) لإفادة توكيد الاعتناء بأصحاب اليمين المستفاد من المقام من قوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧] الآية.

واعلم أن ما أعطي لأصحاب اليمين ليس مخالفا لأنواع ما أعطي للسابقين ولا أن ما أعطي للسابقين مخالف لما أعطي أصحاب اليمين فإن الظل والماء المسكوب وكون أزواجهم عربا أترابا لم يذكر مثله للسابقين وهو ثابت لهم لا محالة إذ لا يقصرون عن أصحاب اليمين ، وكذلك ما ذكر للسابقين من الولدان وأكوابهم وأباريقهم ولحم الطير وكون أزواجهم حورا عينا وأنهم لا يسمعون إلا قيلا سلاما سلاما ، لم يذكر مثله لأصحاب اليمين مع أن لأهل الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقد ذكر في آيات كثيرة أنهم أعطوا أشياء لم يذكر إعطاؤها لهم في هذه الآية مثل قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] ، فليس المقصود توزيع النعيم ولا قصره ولكن المقصود تعداده والتشويق إليه مع أنه قد علم أن السابقين أعلى مقاما من أصحاب اليمين بمقتضى السياق. وقد أشار إلى تفاوت المقامين أنه ذكر في نعيم السابقين أنه جزاء بما كانوا يعملون للوجه الذي بيناه فيها ولم يذكر مثله في نعيم أصحاب اليمين وجماع الغرض من ذلك التنويه بكلا الفريقين.

[٣٩ ، ٤٠] (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

أي أصحاب اليمين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ، والكلام فيه كالكلام

٢٧٨

في قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ١٣ ، ١٤] فاذكره. وفي «تفسير القرطبي» عن أبي بكر الصديق : أن كلتا الثلتين من الأمة المحمدية ثلة من صدرها وثلة من بقيتها ولم ينبه على سند هذا النقل.

وإنما أخر هذا عن ذكر ما لهم من النعيم للإشعار بأن عزة هذا الصنف وقلته دون عزة صنف السابقين ، فالسابقون أعز ، وهذه الدلالة من مستتبعات التراكيب المستفادة من ترتيب نظم الكلام.

[٤١ ـ ٤٤] (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤))

إفضاء إلى الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ، وهم أصحاب المشاقّة. والقول في جملة: (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) وموقع جملة (فِي سَمُومٍ) بعدها كالقول في جملة (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) [الواقعة : ٢٧ ، ٢٨].

والسموم : الريح الشديد الحرارة الذي لا بلل معه وكأنه مأخوذ من السّمّ ، وهو ما يهلك إذ لاقى البدن.

والحميم : الماء الشديد الحرارة.

واليحموم : الدخان الأسود على وزن يفعول مشتق من الحمم بوزن صرد اسم للفحم. والحممة : الفحمة ، فجاءت زنة يفعول فيه اسما ملحوظا فيه هذا الاشتقاق وليس ينقاس.

وحرف (مِنْ) بيانية إذ الظل هنا أريد به نفس اليحموم ، أي الدخان الأسود.

ووصف (ظِلٍ) بأنه (مِنْ يَحْمُومٍ) للإشعار بأنه ظل دخان لهب جهنم ، والدخان الكثيف له ظل لأنه بكثافته يحجب ضوء الشمس ، وإنما ذكر من الدخان ظله لمقابلته بالظل الممدود المعدّ لأصحاب اليمين في قوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] ، أي لا ظل لأصحاب الشمال سوى ظل اليحموم. وهذا من قبيل التهكم.

ولتحقيق معنى التهكم وصف هذا الظل بما يفيد نفي البرد عنه ونفي الكرم ، فبرد الظلّ ما يحصل في مكانه من دفع حرارة الشمس ، وكرم الظلّ ما فيه من الصفات الحسنة في الظلال مثل سلامته من هبوب السموم عليه ، وسلامة الموضع الذي يظله من الحشرات

٢٧٩

والأوساخ ، وسلامة أرضه من الحجارة ونحو ذلك إذ الكريم من كل نوع هو الجامع لأكثر محاسن نوعه ، كما تقدم في قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة سليمان [٢٩] ، فوصف ظلّ اليحموم بوصف خاص وهو انتفاء البرودة عنه واتبع بوصف عام وهو انتفاء كرامة الظلال عنه ، ففي الصفة بنفي محاسن الظلال تذكير للسامعين بما حرم منه أصحاب الشمال عسى أن يحذروا أسباب الوقوع في الحرمان ، ولإفادة هذا التذكير عدل عن وصف الظلّ بالحرارة والمضرّة إلى وصفه بنفي البرد ونفي الكرم.

[٤٥ ـ ٤٨] (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨))

تعليل لما يلقاه أصحاب الشمال من العذاب ، فيتعيّن أن ما تضمنه هذا التعليل كان من أحوال كفرهم وأنه مما له أثر في إلحاق العذاب بهم بقرينة عطف (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ) ... (وَكانُوا يَقُولُونَ) إلخ عليه.

فأمّا إصرارهم على الحنث وإنكارهم البعث فلا يخفى تسببه في العذاب لأن الله توعدهم عليه فلم يقلعوا عنه ، وإنما يبقى النظر في قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) فإن الترف في العيش ليس جريمة في ذاته وكم من مؤمن عاش في ترف ، وليس كل كافر مترفا في عيشه ، فلا يكون الترف سببا مستقلا في تسبب الجزاء الذي عوملوا به.

فتأويل هذا التعليل : إما بأن يكون الإتراف سببا باعتبار ضميمة ما ذكر بعده إليه بأن كان إصرارهم على الحنث وتكذيبهم بالبعث جريمتين عظمتين لأنهما محفوفتان بكفر نعمة الترف التي خولهم الله إياها على نحو قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] فيكون الإتراف جزء سبب وليس سببا مستقلا ، وفي هذا من معنى قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١].

وإما بأن يراد أن الترف في العيش علّق قلوبهم بالدنيا واطمأنوا بها فكان ذلك ممليا على خواطرهم إنكار الحياة الآخرة ، فيكون المراد الترف الذي هذا الإنكار عارض له وشديد الملازمة له ، فوزانه وزان قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد : ١٢].

وفسر (مُتْرَفِينَ) بمعنى متكبرين عن قبول الحقّ. والمترف : اسم مفعول من أترفه ، أي جعله ذا ترفة بضم التاء وسكون الراء ، أي نعمة واسعة ، وبناؤه للمجهول لعدم

٢٨٠