تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

وداخلة في النظام الشمسي. والقمر : كوكب أرضي لأنه دون الأرض وتابع لها كبقية أقمار الكواكب فذكر الشمس والقمر كذكر السماء ، والأرض ، والمشرق ، والمغرب ، والبحرين.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦))

عطف على جملة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن : ٥] عطف الخبر على الخبر للوجه الذي تقدم لأن سجود الشمس والقمر لله تعالى وهو انتقال من الامتنان بما في السماء من المنافع إلى الامتنان بما في الأرض ، وجعل لفظ (النَّجْمُ) واسطة الانتقال لصلاحيته لأنه يراد منه نجوم السماء وما يسمى نجما من نبات الأرض كما يأتي.

وعطفت جملة (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) ولم تفصل فخرجت من أسلوب تعداد الأخبار إلى أسلوب عطف بعض الأخبار على بعض لأن الأخبار الواردة بعد حروف العطف لم يقصد بها التعداد إذ ليس فيها تعريض بتوبيخ المشركين ، فالإخبار بسجود النجم والشجر أريد به الإيقاظ إلى ما في هذا من الدلالة على عظيم القدرة دلالة رمزية ، ولأنه لما اقتضى المقام جمع النظائر من المزاوجات بعد ذكر الشمس والقمر ، كان ذلك مقتضيا سلوك طريقة الوصل بالعطف بجامع التضاد.

وجعلت الجملة مفتتحة بالمسند إليه لتكون على صورة فاتحة الجملة التي عطفت هي عليها. وأتي بالمسند فعلا مضارعا للدلالة على تجدد هذا السجود وتكرره على معنى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥].

و (النَّجْمُ) يطلق : اسم جمع على نجوم السماء قال تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١] ، ويطلق مفردا فيجمع على نجوم ، قال تعالى : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩]. وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء.

ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سوق له فهو متصل بالتراب. وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له. والشجر : النبات الذي له ساق وارتفاع عن وجه الأرض. وهذان ينتفع بهما الإنسان والحيوان.

فحصل من قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) بعد قوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن : ٥] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون وهذا من المحسنات البديعية الكاملة.

٢٢١

والسجود : يطلق على وضع الوجه على الأرض بقصد التعظيم ، ويطلق على الوقوع على الأرض مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق ، أو استعارة ومنه قولهم : «نخلة ساجدة» إذا أمالها حملها ، فسجود نجوم السماء نزولها إلى جهات غروبها ، وسجود نجم الأرض التصاقه بالتراب كالساجد ، وسجود الشجر تطأطؤه بهبوب الرياح ودنوّ أغصانه للجانين لثماره والخابطين لورقه ، ففعل (يَسْجُدانِ) مستعمل في معنيين مجازيين وهما الدنو للمتناول والدلالة على عظمة الله تعالى بأن شبه ارتسام ظلالهما على الأرض بالسجود كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في سورة الرعد [١٥] ، وكما قال امرؤ القيس :

يكبّ على الأذ

قان وح الكنهبل

فقال : على الأذقان ، ليكون الانكباب مشبها بسقوط الإنسان على الأرض بوجهه ففيه استعارة مكنية ، وذكر الأذقان تخييل ، وعليه يكون فعل (يَسْجُدانِ) هنا مستعملا في مجازه ، وذلك يفيد أن الله خلق في الموجودات دلالات عدّة على أن الله موجدها ومسخرها ، ففي جميعها دلالات عقلية ، وفي بعضها أو معظمها دلالات أخرى رمزية وخيالية لتفيد منها العقول المتفاوتة في الاستدلال.

[٧ ـ ٩] (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩))

اطّرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يشبه الضدين بعد مقابلة ذكر الشمس والقمر بذكر النجم والشجر ، فجيء بذكر خلق السماء وخلق الأرض.

وعاد الكلام إلى طريقة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله : (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١ ، ٢] ، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه.

ورفع السماء يقتضي خلقها. وذكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب. ومعنى رفعها : خلقها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط : وسّع جيب القميص ، أي خطه واسعا على أن في مجرد الرفع إيذانا بسموّ المنزلة وشرفها لأن فيها منشأ أحكام الله ومصدر قضائه ، ولأنها مكان الملائكة ، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.

وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادة في الاهتمام بالاعتبار بخلقها.

٢٢٢

و (الْمِيزانَ) : أصله اسم آلة الوزن ، والوزن تقدير تعادل الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مفعال من الوزن ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في سورة الأعراف [٨] ، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس.

والميزان هنا مراد به العدل ، مثل الذي في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥] لأنه الذي وضعه الله ، أي عيّنه لإقامة نظام الخلق ، فالوضع هنا مستعار للجعل فهو كالإنزال في قوله : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ). ومنه قول أبي طلحة الأنصاري «وإنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حاء وأنها صدقة لله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله» أي اجعلها وعينها لما يدلّك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضدية وإيهام طباق مع قوله : (رَفَعَها) ففيه محسّنان بديعيان.

وقرن ذلك مع رفع السماء تنويها بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل ، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به ، ولذلك تكرر ذلك العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) في سورة يونس [٥] ، وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) في سورة الحجر [٨٥] ، وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) في سورة الدخان [٣٨ ، ٣٩]. وهذا يصدّق القول المأثور : «بالعدل قامت السماوات والأرض». وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان.

و (أن) في قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا) يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل. وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيره بحرف (أن) التفسيرية. فكان النهي عن إضافة العدل في أكثر المعاملات تفسيرا لذلك. فتكون (لا) ناهية.

ويجوز أن تكون (أن) مصدرية بتقدير لام الجر محذوفة قبلها. والتقدير : لئلا تطغوا في الميزان ، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء ، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة. وتكون (لا) نافية ، وفعل (تَطْغَوْا) منصوبا ب (أن)

٢٢٣

المصدرية.

ولفظ (الْمِيزانِ) يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه. وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل (وَضَعَ) وفعلي (أَلَّا تَطْغَوْا) و (أَقِيمُوا) وحرف الباء في قوله : (بِالْقِسْطِ) وحرف (فِي) من قوله : (فِي الْمِيزانِ) ولفظ (بِالْقِسْطِ) ، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن.

والطغيان : دحض الحق عمدا واحتقارا لأصحابه ، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم. ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه.

و (فِي) من قوله : (فِي الْمِيزانِ) ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان ، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية في قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) [النساء : ٥] ، أي ارزقوهم من بعضها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي :

سبرة بن عمرو الفقعسي

ونشرب في أثمانها ونقامر

إذ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون ، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت :

نحابي بها أكفاءنا ونهينها

وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) عطف على جملة (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية. وعلى جملة (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) على احتمال كون المعطوف عليها تعليلا.

والإقامة : جعل الشيء قائما ، وهو تمثيل للإتيان به على أكمل ما يراد له وقد تقدم عند قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في سورة البقرة [٣].

والوزن حقيقته : تحقيق تعادل الأجسام في الثقل ، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس.

والقسط : العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة : قسطاس ، ومرة : قسط ، وتقدم في قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) في سورة الأنبياء [٤٧].

٢٢٤

والباء للمصاحبة. والمعنى : اجعلوا العدل ملازما لما تقوّمونه من أموركم كما قال تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [الأنعام : ١٥٢] وكما قال : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) [المائدة : ٨] ، فيكون قوله : (بِالْقِسْطِ) ظرفا مستقرا في موضع الحال ، أو الباء للسببية ، أي راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل ، فيكون قوله : (بِالْقِسْطِ) طرفا لغوا متعلقا ، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ١ ـ ٣]. فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه ، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) فإن حمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه ، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيها على شدة عناية الله بالعدل ، وإن حمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين [٣] (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

والإخسار : جعل الغير خاسرا والخسارة النقص.

فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإخسار جعل صاحب الحق خاسرا مغبونا ؛ ويكون (الْمِيزانَ) منصوبا على نزع الخافض ، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإخسار بمعنى النقص ، أي لا تجعلوا الميزان ناقصا كما قال تعالى : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤] ، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل.

[١٠ ـ ١٢] (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢))

عطف على (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن : ٧] وهو مقابله في المزاوجة والوضع يقابل الرفع ، فحصل محسّن الطباق مرتين ، ومعنى (وَضَعَها) خفضها لهم ، أي جعلها تحت أقدامهم وجنوبهم لتمكينهم من الانتفاع بها بجميع ما لهم فيها من منافع ومعالجات.

واللام في (لِلْأَنامِ) للأجل. والأنام : اختلفت أقوال أهل اللغة والتفسير فيه ، فلم يذكره الجوهري ولا الراغب في «مفردات القرآن» ولا ابن الأثير في «النهاية» ولا أبو البقاء الكفوي في «الكليات». وفسره الزمخشري بقوله : «الخلق وهو كل ما ظهر على وجه

٢٢٥

الأرض من دابة فيها روح». وهذا مروي عن ابن عباس وجمع من التابعين. وعن ابن عباس أيضا : أنه الإنسان فقط. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.

وسياق الآية يرجح أن المراد به الإنسان ، لأنه في مقام الامتنان والاعتناء بالبشر كقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩].

والظاهر أنه اسم غير مشتق وفيه لغات : أنام كسحاب ، وآنام كساباط ، وأنيم كأمير.

وجملة (فِيها فاكِهَةٌ) إلى آخرها مبينة لجملة (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وتقديم (فِيها) على المبتدأ للاهتمام بما تحتوي عليه الأرض.

ولما كان قوله : (وَضَعَها لِلْأَنامِ) يتضمن وضعا وعلة لذلك الوضع كانت الجملة المبينة له مشتملة على ما فيه العبرة والامتنان.

والفاكهة : اسم لما يؤكل تفكها لا قوتا مشتقة من فكه كفرح ، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك ، قال تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥] لأن أكل ما يلذ للأكل وليس بضروري له إنما يكون في حال الانبساط.

والفاكهة : مثل الثمار والنقول من لوز وجوز وفستق.

وعطف على الفاكهة النخل وهو شجر التمر ، وهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم ، وهو يثمر أصنافا من الفاكهة من رطب وبسر ومن تمر وهو فاكهة وقوت.

ووصف النخل ب (ذاتُ الْأَكْمامِ) وصف للتحسين فهو اعتبار بأطوار ثمر النخل ، وامتنان بجماله وحسنه كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦] فامتنّ بمنافعها وبحسن منظرها.

و (الْأَكْمامِ) : جمع كمّ بكسر الكاف وهو وعاء ثمر النخلة ويقال له : الكفرّى ، فليست الأكمام مما ينتفع به فتعيّن أن ذكرها مع النخل للتحسين.

و (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) : هو الحب الذي لنباته سنابل ولها ورق وقصب فيصير تبنا ، وذلك الورق والقصب هو العصف ، أي الذي تعصفه الرياح وهذا وصف لحبّ الشعير والحنطة وبهما قوام حياة معظم الناس وكذلك ما أشبههما من نحو السلت والأرز.

وسمي العصف عصفا لأن الرياح تعصفه ، أي تحركه ووصف الحب بأنه (ذُو

٢٢٦

الْعَصْفِ) للتحسين وللتذكير بمنة جمال الزرع حين ظهوره في سنبله في حقوله نظير وصف النخل بذات الأكمام ولأن في الموصوف ووصفه أقوات البشر وحيوانهم.

وقرأ الجمهور (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) برفع (الْحَبُ) ورفع (الرَّيْحانُ) ورفع (ذُو) ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف برفع (الْحَبُ) و (ذُو) وبجر (الرَّيْحانُ) عطفا على (الْعَصْفِ). وقرأه ابن عامر بنصب الأسماء الثلاثة وعلامة نصب ذا العصف الألف. وكذلك كتب في مصحف الشام عطفا على (الْأَرْضَ) أو هو على الاختصاص.

و (الرَّيْحانُ) : ما له رائحة ذكية من الأزهار والحشائش وهو فعلان من الرائحة ، وإنما سمي به ما له رائحة طيبة. وهذا اعتبار وامتنان بالنبات المودعة فيه الأطياب مثل الورد والياسمين وما يسمى بالريحان الأخضر.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة مع دلائل صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقّية وحي القرآن ، ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يتأتى لهم إنكارها ، وهو تذييل لما قبله.

و (أيّ) استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضدّ ما يقربه مثل قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١]. وقد بينته عند قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) في سورة الأنعام [١٣٠] ، أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله.

والآلاء : النعم جمع : إلي بكسر الهمزة وسكون اللام ، وألي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال ألو بواو عوض الياء وهو النعمة.

وضمير المثنى في (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن. والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإنسان المذكور في قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) [الرحمن : ٣] وهم المخاطبون بقوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) [الرحمن : ٨] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره ، أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بله المؤمن ، وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله.

٢٢٧

والمقصود الأصلي : التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعم غير المنعم ، والشهادة عليهم بتوحيد المؤمنين ، والتكذيب مستعمل في الجحود والإنكار.

وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق : ٢٤] ذكر ذلك الطبري والنسفي.

ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل : لبيك وسعديك ، ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان.

وقال جمهور المفسرين : هو خطاب للإنس والجن ، وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن ، فلا يتعرض القرآن لخطابهم ، وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم ، وقد يكلف الله أصنافا بما هم أهل له دون غيرهم ، كما كلّف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلّفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك ، فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة.

وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد». قال الترمذي : هو حديث غريب وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل.

وهذا الحديث لو صح فليس تفسيرا لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله ، وقيل الخطاب للذكور والإناث وهو بعيد.

والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإنكار مجازا لتشنيع هذا الجحد.

وتكذيب الآلاء كناية عن الإشراك بالله في الإلهية. والمعنى : فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون أنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بله إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواما.

٢٢٨

[١٤ ، ١٥] (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥))

هذا انتقال إلى الاعتبار بخلق الله الإنسان وخلقه الجن.

والقول في مجيء المسند فعلا كالقول في قوله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ٢].

والمراد بالإنسان آدم وهو أصل الجنس وقوله : (مِنْ صَلْصالٍ) تقدم نظيره في سورة الحجر [٢].

والصلصال : الطين اليابس.

والفخار : الطين المطبوخ بالنار ويسمى الخزف. وظاهر كلام المفسرين أن قوله : (كَالْفَخَّارِ) صفة ل (صَلْصالٍ). وصرح بذلك الكواشي في «تلخيص التبصرة» ولم يعرجوا على فائدة هذا الوصف. والذي يظهر لي أن يكون كالفخار حالا من (الْإِنْسانَ) ، أي خلقه من صلصال فصار الإنسان كالفخار في صورة خاصة وصلابة.

والمعنى أنه صلصال يابس يشبه يبس الطين المطبوخ والمشبه غير المشبه به ، وقد عبر عنه بالحمإ المسنون ، والطين اللازب ، والتراب.

و (الْجَانَ) : الجن والمراد به إبليس وما خرج عنه من الشياطين ، وقد حكى الله عنه قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص : ٧٦].

والمارج : هو المختلط وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق ، وعيشة راضية ، أي خلق الجان من خليط من النار ، أي مختلط بعناصر أخرى إلا أن الناس أغلب عليه كما كان التراب أغلب على تكوين الإنسان مع ما فيه من عنصر النار وهو الحرارة الغريزية والمقصود هنا هو خلق الإنسان بقرينة تذييله بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٦] وإنما قرن بخلق الجان إظهارا لكمال النعمة في خلق الإنسان من مادة لينة قابلا للتهذيب والكمال وصدور الرفق بالموجودات التي معه على وجه الأرض.

وهو أيضا تذكير وموعظة بمظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته في خلق نوع الإنسان وجنس الجان.

وفيه إيماء إلى ما سبق في القرآن النازل قبل هذه السورة من تفضيل الإنسان على الجان إذ أمر الله الجانّ بالسجود للإنسان ، وما ينطوي في ذلك من وفرة مصالح الإنسان

٢٢٩

على مصالح الجان ، ومن تأهله لعمران العالم لكونه مخلوقا من طينته إذ الفضيلة تحصل من مجموع أوصاف لا من خصوصيات مفردة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦))

هذا توبيخ على عدم الاعتراف بنعم الله تعالى ، جيء فيه بمثل ما جيء به في نظيره الذي سبقه ليكون التوبيخ بكلام مثل سابقه ، وذلك تكرير من أسلوب التوبيخ ونحوه أن يكون بمثل الكلام السابق ، فحق هذا أن يسمى بالتعداد لا بالتكرار ، لأنه ليس تكريرا لمجرد التأكيد ، فالفاء من قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) هنا تفريع على قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] لأن ربوبيته تقتضي الاعتراف له بنعمة الإيجاد والإمداد وتحصل من تماثل الجمل المكررة فائدة التأكيد والتقرير أيضا فيكون للتكرير غرضان كما قدمناه في الكلام على أول السورة.

وفائدة التكرير توكيد التقرير بما لله تعالى من نعم على المخاطبين وتعريض بتوبيخهم على إشراكهم بالله أصناما لا نعمة لها على أحد ، وكلها دلائل على تفرد الإلهية. وعن ابن قتيبة «أن الله عدّد في هذه السورة نعماء ، وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وصفها ، ونعمة وضعها بهذه ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها» اه. وقال الحسين بن الفضل (١) : التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة.

وقال الشريف المرتضى في مجالسه وأماله المسمّى «الدرر والغرر» : وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم ، قال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا :

على أن ليس عدلا من كليب

إذا طرد اليتيم عن الجزور

وذكر المصراع الأول ثماني مرات في أوائل أبيات متتابعة. وقال الحارث بن عياد :

قرّبا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حبال

ثم كرر قوله : قرّبا مربط النعامة مني ، في أبيات كثيرة من القصيد.

وهكذا القول في نظائر قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) المذكور هنا إلى ما في آخر السورة.

__________________

(١) الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي النيسابوري توفي سنة ٢٨٢ ه‍ ، وعمره مائة وأربع سنين ، له «تفسير القرآن».

٢٣٠

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧))

استئناف ابتدائي فيه بيان لجملة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن : ٥] وعطف (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) لأجل ما ذكرته آنفا من مراعاة المزاوجة.

وحذف المسند إليه على الطريقة التي سماها السكاكي باتباع الاستعمال الوارد على تركه أو ترك نظائره وتقدم غير مرة.

والمشرق : جهة شروق الشمس ، والمغرب : جهة غروبها. وتثنية المشرقين والمغربين باعتبار أن الشمس تطلع في فصلي الشتاء والربيع من سمت وفي فصلي الصيف والخريف من سمت آخر وبمراعاة وقت الطول ووقت القصر وكذلك غروبها وهي فيما بين هذين المشرقين والمغربين ينتقل طلوعها وغروبها في درجات متقاربة فقد يعتبر ذلك فيقال : المشارق والمغارب كما في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) في سورة المعارج [٤٠].

ومن زعم أن تثنية المشرقين لمراعاة مشرق الشمس والقمر وكذلك تثنية المغربين لم يغص على معنى كبير.

وعلى ما فسّر به الجمهور (الْمَشْرِقَيْنِ) و (الْمَغْرِبَيْنِ) بمشرقي الشمس ومغربيها فالمراد ب (الْمَشْرِقَيْنِ) النصف الشرقي من الأرض ، وب (الْمَغْرِبَيْنِ) النصف الغربي منها.

وربوبية الله تعالى للمشرقين والمغربين بمعنى الخلق والتصرف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨))

تكرير كما علمت آنفا.

[١٩ ، ٢٠] (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠))

خبر آخر عن (الرَّحْمنُ) [الرحمن : ١] قصد منه العبرة بخلق البحار والأنهار ، وذلك خلق عجيب دال على عظمة قدرة الله وعلمه وحكمته.

ومناسبة ذكره عقب ما قبله أنه لما ذكر أنه سبحانه رب المشرقين ورب المغربين وكانت الأبحر والأنهار في جهات الأرض ناسب الانتقال إلى الاعتبار بخلقهما والامتنان بما أودعهما من منافع الناس.

٢٣١

والمرج : له معان كثيرة ، وأولاها في هذا الكلام إنه الإرسال من قولهم : «مرج الدابة» إذا أرسلها ترعى في المرج ، وهو الأرض الواسعة ذات الكلأ الذي لا مالك له ، أي : تركها تذهب حيث تشاء.

والمعنى : أرسل البحرين لا يحبس ماءهما عن الجري حاجز. وهذا تهيئة لقوله بعد (يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ).

والمراد : أنه خلقهما ومرجهما ، لأنه ما مرجهما إلا عقب أن خلقهما.

ويلتقيان : يتصلان بحيث يصب أحدهما في الآخر.

والبحر : الماء الغامر جزءا عظيما من الأرض يطلق على المالح والعذب.

والمراد تثنية نوعي البحر وهما البحر الملح والبحر العذب. كما في قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [فاطر : ١٢] والتعريف تعريف العهد الجنسي.

فالمقصود ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات وبحر العجم المسمّى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي. في شاطئ البصرة ، والبلاد التي على الشاطئ العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.

والمراد بالبرزخ الذي بينهما : الفاصل بين الماءين الحلو والملح بحيث لا يغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره. وذلك بما في كل ماء منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به. وهذا من مسائل الثقل النوعي. وذكر البرزخ تشبيه بليغ ، أي بينهما مثل البرزخ وهو معنى (لا يَبْغِيانِ) ، أي لا يبغي أحدهما على الآخر ، أي لا يغلب عليه فيفسد طعمه فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي الذي حقيقته الاعتداء والتظلم.

ويجوز أن تكون التثنية تثنية بحرين ملحين معينين ، والتعريف حينئذ تعريف العهد الحضوري ، فالمراد : بحران معروفان للعرب. فالأظهر أن المراد : البحر الأحمر الذي عليه شطوط تهامة مثل : جدّة وينبع النخل ، وبحر عمان وهو بحر العرب الذي عليه حضرموت وعدن من بلاد اليمن.

والبرزخ : الحاجز الفاصل ، والبرزخ الذي بين هذين البحرين هو مضيق باب المندب

٢٣٢

حيث يقع مرسى عدن ومرسى زيلع.

ولما كان في خلق البحرين نعم على الناس عظيمة منها معروفة عند جميعهم فإنهم يسيرون فيهما كما قال تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [النحل : ١٤] وقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] واستخراج سمكه والتطهر بمائه. ومنها معروفة عند العلماء وهي ما لأملاح البحر من تأثير في تنقية هواء الأرض واستجلاب الأمطار وتلقي الأجرام التي تنزل من الشهب وغير ذلك.

وجملة (يَلْتَقِيانِ) وجملة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حالان من (الْبَحْرَيْنِ).

وجملة (لا يَبْغِيانِ) مبينة لجملة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١))

تكرير كما علمته مما تقدم ، ووقع هنا اعتراضا بين أحوال البحرين.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢))

حال ثالثة. ثم إن كان المراد بالبحرين : بحرين معروفين من البحار الملحة تكون (من) في قوله : (مِنْهُمَا) ابتدائية لأن اللؤلؤ والمرجان يكونان في البحر الملح.

وإن كان المراد بالبحرين : البحر الملح ، والبحر العذب كانت (من) في قوله : (مِنْهُمَا) للسببية كما في قوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) في سورة النساء [٧٩] ، أي يخرج اللؤلؤ والمرجان بسببهما ، أي بسبب مجموعهما. أما اللؤلؤ فأجوده ما كان في مصبّ الفرات على خليج فارس ، قال الرماني : لما كان الماء العذب كاللقاح للماء الملح في إخراج اللؤلؤ ، قيل : يخرج منهما كما يقال : يتخلق الولد من الذكر والأنثى ، وقد تقدم بيان تكون اللؤلؤ في البحار في سورة الحج.

وقال الزجّاج : قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما وهو كقوله

تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٥ ، ١٦] ، والقمر في السماء الدنيا. وقال أبو علي الفارسي : هو من باب حذف المضاف ، أي من أحدهما كقوله تعالى : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] أي من إحداهما.

٢٣٣

و (الْمَرْجانُ) : حيوان بحري ذو أصابع دقيقة ينشأ ليّنا ثمّ يتحجّر ويتلوّن بلون الحمرة ويتصلب كلما طال مكثه في البحر فيستخرج منه كالعروق تتخذ منه حلية ويسمى بالفارسية (بسذ). وقد تتفاوت البحار في الجيّد من مرجانها. ويوجد ببحر طبرقة على البحر المتوسط في شمال البلاد التونسية.

و (الْمَرْجانُ) : لا يخرج من ملتقى البحرين الملح والعذب بل من البحر الملح.

وقيل : المرجان اسم لصغار الدرّ ، واللؤلؤ كباره فلا إشكال في قوله منهما.

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب (يَخْرُجُ) بضم الياء وفتح الراء على البناء للمجهول. وقرأ الباقون (يَخْرُجُ) بفتح الياء وضم الراء لأنهما إذا أخرجهما الغوّاصون فقد خرجا.

وبين قوله : (مَرَجَ) [الرحمن : ١٩] وقوله : (وَالْمَرْجانُ) الجناس المذيّل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣))

تكرير لنظيره المتقدم أولا.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤))

الجملة عطف على جملة (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] لأن هذا من أحوال البحرين وقد أغنت إعادة لفظ البحر عن ذكر ضمير البحرين الرابط لجملة الحال بصاحبها.

واللام للملك وهو ملك تسخير السير فيها ، قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ) الرياح (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ* أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) [الشورى : ٣٢ ـ ٣٤]. فالمعنى : أن الجواري في البحر في تصرفه تعالى ، قال تعالى : (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [الحج : ٦٥].

والإخبار عن الجواري بأنها له للتنبيه على أن إنشاء البحر للسفن لا يخرجها عن ملك الله.

والجوار صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه وهو قوله : (فِي الْبَحْرِ). والتقدير : السفن الجواري إذ لا يجري في البحر غير السفن.

وكتب في المصحف الإمام (الْجَوارِ) براء في آخره دون ياء وقياس رسمه أن يكون

٢٣٤

بياء في آخره ، فكتب بدون ياء اعتدادا بحالة النطق به في الوصل إذ لا يقف القارئ عليه ولذلك قرأه جميع العشرة بدون ياء في حالة الوصل والوقف لأن الوقف عليه نادر في حال قراءة القارئين.

وقرأ الجمهور (الْمُنْشَآتُ) بفتح الشين ، فهو اسم مفعول ، إذا أوجد وصنع ، أي التي أنشأها الناس بإلهام من الله فحصل من الكلام منّتان منة تسخير السفن للسير في البحر ومنّة إلهام الناس لإنشائها.

وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر الشين فهو اسم فاعل.

فيجوز أن يكون المنشئات مشتقا من أنشأ السير إذا أسرع ، أي التي يسير بها الناس سيرا سريعا. قال مجاهد : المنشئات التي رفعت قلوعها. والآية تحتمل المعنيين على القراءتين باستعمال الاشتقاق في معنيي المشتق منه ويكون في ذلك تذكيرا بنعمة إلهام الناس إلى اختراع الشراع لإسراع سير السفن وهي مما اخترع بعد صنع سفينة نوح.

ووصفت الجواري بأنها كالأعلام ، أي الجبال وصفا يفيد تعظيم شأنها في صنعها المقتضي بداعة إلهام عقول البشر لصنعها ، والمقتضى عظم المنّة بها لأن السفن العظيمة أمكن لحمل العدد الكثير من الناس والمتاع.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

تكرير لنظيره السابق.

[٢٦ ، ٢٧] (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧))

لما كان قوله : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الرحمن : ٢٤] مؤذنا بنعمة إيجاد أسباب النجاة من الهلاك وأسباب السعي لتحصيل ما به إقامة العيش إذ يسّر للناس السفن عونا للناس على الأسفار وقضاء الأوطار مع السلامة من طغيان ماء البحار ، وكان وصف السفن بأنها كالأعلام توسعة في هذه النعمة أتبعه بالموعظة بأن هذا لا يحول بين الناس وبين ما قدره الله لهم من الفناء ، على عادة القرآن في الفرص للموعظة والتذكير كقوله : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨]. وفائدة هذا أن لا ينسوا الاستعداد للحياة الباقية بفعل الصالحات ، وأن يتفكروا في عظيم قدرة الله تعالى ويقبلوا على توحيده وطلب مرضاته.

٢٣٥

ووقوع هذه الجملة عقب ما عدد من النعم فيه إيماء إلى أن مصير نعم الدنيا إلى الفناء.

والجملة استئناف ابتدائي.

وضمير (عَلَيْها) مراد به الأرض بقرينة المقام مثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص: ٣٢] ، أي الشمس ومثله في القرآن وكثير وفي كلام البلغاء.

ومعنى (فانٍ) : أنه صائر إلى الفناء ، فهذا من استعمال اسم الفاعل لزمان الاستقبال بالقرينة مثل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠].

والمراد ب (مَنْ عَلَيْها) : الناس لأنهم المقصود بهذه العبر ، ولذلك جيء ب (من) الموصولة الخاصة بالعقلاء.

والمعنى : أن مصير جميع من على الأرض إلى الفناء ، وهذا تذكير بالموت وما بعده من الجزاء.

و (وَجْهُ رَبِّكَ) : ذاته ، فذكر الوجه هنا جار على عرف كلام العرب. قال في «الكشاف» : والوجه يعبر به عن الجملة والذات اه.

وقد أضيف إلى اسمه تعالى لفظ الوجه بمعان مختلفة منها ما هنا ومنها قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩].

وقد علم السامعون أن الله تعالى يستحيل أن يكون له وجه بالمعنى الحقيقي وهو الجزء الذي في الرأس.

واصطلح علماء العقائد على تسمية مثل هذا بالمتشابه وكان السلف يحجمون عن الخوض في ذلك مع اليقين باستحالة ظاهره على الله تعالى ، ثم تناوله علماء التابعين ومن بعدهم بالتأويل تدريجا إلى أن اتضح وجه التأويل بالجري على قواعد علم المعاني فزال الخفاء ، واندفع الجفاء ، وكلا الفريقين خيرة الحنفاء.

وضمير المخاطب في قوله : (وَجْهُ رَبِّكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه تعظيم لقدر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم غير مرة.

والمقصود تبليغه إلى الذين يتلى عليهم القرآن ليذكّروا ويعتبروا. ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن ليعمّ كل مخاطب.

٢٣٦

ولما كان الوجه هنا بمعنى الذات وصف ب (ذُو الْجَلالِ) ، أي العظمة و (الْإِكْرامِ) ، أي المنعم على عباده وإلا فإن الوجه الحقيقي لا يضاف للإكرام في عرف اللغة ، وإنما يضاف للإكرام اليد ، أي فهو لا يفقد عبيده جلاله وإكرامه ، وقد دخل في الجلال جميع الصفات الراجعة إلى التنزيه عن النقص وفي الإكرام جميع صفات الكمال الوجودية وصفات الجمال كالإحسان.

وتفريع (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إنما هو تفريع على جملة (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) كما علمت من أنه يتضمن معاملة خلقه معاملة العظيم الذي لا تصدر عنه السفاسف ، الكريم الذي لا يقطع إنعامه ، وذلك من الآلاء العظيمة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))

تكرير كما تقدم وهذا الموقع ينادي على أن ليست هذه الجملة تذييلا لجملة (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] ، ولا أن جملة (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) تتضمن نعمة إذ ليس في الفناء نعمة.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩))

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

استئناف ، والمعنى أن الناس تنقرض منهم أجيال وتبقى أجيال وكل باق محتاج إلى أسباب بقائه وصلاح أحواله فهم في حاجة إلى الذي لا يفنى وهو غير محتاج إليهم. ولما أفضى الإخبار إلى حاجة الناس إليه تعالى أتبع بأن الاحتياج عام أهل الأرض وأهل السماء. فالجميع يسألونه ، فسؤال أهل السماوات وهم الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ويسألون رضى الله تعالى ، ومن في الأرض وهم البشر يسألونه نعم الحياة والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات في الآخرة. وحذف مفعول (يَسْئَلُهُ) لإفادة التعميم ، أي يسألونه حوائجهم ومهامهم من طلوع الشمس إلى غروبها.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

يجوز أن تكون الجملة حالا من ضمير النصب في (يَسْئَلُهُ) أو تذييلا لجملة (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي كلّ يوم هو في شأن من الشئون للسائلين وغيرهم فهو تعالى يبرم شئونا مختلفة من أحوال الموجودات دواما ، ويكون (كُلَّ يَوْمٍ) ظرفا متعلقا

٢٣٧

بالاستقرار في قوله : (هُوَ فِي شَأْنٍ) ، وقدم على ما فيه متعلّقه للاهتمام بإفادة تكرر ذلك ودوامه. والمعنى : في شأن من شئون من في السماوات والأرض من استجابة سؤل ، ومن زيادة ، ومن حرمان ، ومن تأخير الاستجابة ، ومن تعويض عن المسئول بثواب ، كما ورد في أحاديث الدعاء أن استجابته تكون مختلفة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠].

ومعنى (فِي) على هذا التفسير تقوية ثبوت الشئون لله تعالى وهي شئون تصرّفه ومظاهر قدرته ، كما قال الحسين بن الفضل النيسابوري : «شئون يبديها لا شئون يبتديها».

و (يَوْمٍ) مستعمل مجازا في الوقت بعلاقة الإطلاق ، إذ المعنى : كل وقت من الأوقات ولو لحظة ، وليس المراد باليوم الوقت الخاص الذي يمتد من الفجر إلى الغروب.

وإطلاق اليوم ونحوه على مطلق الزمان كثير في كلام العرب كقولهم : الدهر يومان يوم نعم ويوم بؤس ، وقال عمرو بن كلثوم :

وإنّ غدا وإن اليوم رهن

وبعد غد لما لا تعلمين

أراد الزمان المستقبل والحاضر والمستقبل البعيد وإلا فأي فرق بين غد وبعد غد.

والشأن : الشيء العظيم والحدث المهم من مخلوقات وأعمال من السماوات والأرض ، وفي الحديث «أنه تعالى كل يوم يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع أقواما ويضع آخرين» ، وهو تعالى يأمر وينهي ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ونحو ذلك وإذا كان في تصرفه كل شأن فما هو أقل من الشأن أولى بكونه من تصرفه.

والظرفية المستعملة فيها حرف (فِي) ظرفية مجازية مستعارة لشدة التلبس والتعلق بتصرفات الله تعالى بمنزلة إحاطة الظرف بالمظروف أو بأسئلة المخلوقات الذين في السماء والأرض.

والمعنى : أنه تعالى كل يوم تتعلق قدرته بأمور يبرزها ويتعلق أمره التكويني بأمور من إيجاد وإعدام.

ومن أحاسن الكلم في تفسير هذه الآية قول الحسين بن الفضل (١) لما سأله عبد

__________________

(١) تقدمت ترجمته عند تفسير قوله تعالى : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن : ١٤].

٢٣٨

الله بن طاهر (١) قائلا : قد أشكل عليّ قوله هذا : وقد صح أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة. فقال : «إنها شئون يبديها لا شئون يبتديها» وقد أجمل الحسين بن الفضل الجواب بما يقنع أمثال عبد الله بن طاهر ، وإن كان الإشكال غير وارد إذ ليس في الآية أن الشئون تخالف ما سطره قلم العلم الإلهي ، على أن هذا الجواب لا يجري إلا على أحد الوجوه في تفسير قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كما علمت آنفا.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

تكرير لنظائره.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١))

هذا تخلّص من الاعتبار بأحوال الحياة العاجلة إلى التذكير بأحوال الآخرة والجزاء فيها انتقل إليه بمناسبة اشتمال ما سبق من دلائل سعة قدرة الله تعالى ، على تعريض بأن فاعل ذلك أهلّ للتوحيد بالإلهية ، ومستحق الإفراد بالعبادة ، وإذ قد كان المخاطبون بذلك مشركين مع الله في العبادة انتقل إلى تهديدهم بأنهم وأولياءهم من الجن المسوّلين لهم عبادة الأصنام سيعرضون على حكم الله فيهم.

وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنّى به عن التحقيق ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سورة يوسف [٩٨].

والفراغ للشيء : الخلو عما يشغل عنه ، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء ، شبّه حال المقبل على عمل دون عمل آخر بحال الوعاء الذي أفرغ مما فيه ليملأ بشيء آخر.

وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمن «افرغ إلى أضيافك» (أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قراهم) وصالح للاستعمال في الوعيد ، كقول جرير :

ألان وقد فرغت إلى نمير

فهذا حين كنت لها عذابا

والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق ، أن تحمل على معنى الإقبال على

__________________

(١) هو من رجال دولة المأمون ، ولي خراسان. وولي الشام ومصر توفي سنة ٢٣١ ه‍ وعمره ثمان وأربعون سنة ، وهو ممدوح أبي تمام.

٢٣٩

أمور الثقلين في الآخرة ، لأن بعده (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] ، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية.

و (الثَّقَلانِ) : تثنية ثقل ، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإنس والجن.

وأحسب أن الثّقل هو الإنسان لأنه محمول على الأرض ، فهو كالثقل على الدابة ، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب ، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل. وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق. وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة ، ثم استعمله أهل الإسلام ، قال ذو الرمة :

وميّة أحسن الثقلين وجها

وسالفة وأحسنه قذالا

أراد وأحسن الثقلين ، وجعل الضمير له مفردا. وقد أخطأ في استعماله إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه.

وقرأ الجمهور (سَنَفْرُغُ) بالنون. وقرأه حمزة والكسائي بالياء المفتوحة على أن الضمير عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات.

وكتب (أَيُّهَ) في المصحف بهاء ليس بعدها ألف وهو رسم مراعى فيه حال النطق بالكلمة في الوصل إذ لا يوقف على مثله ، فقرأها الجمهور بفتحة على الهاء دون ألف في حالتي الوصل والوقف. وقرأها أبو عمرو والكسائي بألف بعد الهاء في الوقف. وقرأه ابن عامر بضم الهاء تبعا لضم الياء التي قبلها وهذا من الاتباع.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢))

تكرير لنظائره وليس هو خطابا للثقلين ولا تذييلا للجملة التي قبله إذ ليس في الجملة التي قبله ذكر نعمة على الثقلين بل هي تهديد لهما.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣))

هذا مقول قول محذوف يدل عليه سياق الكلام السابق واللاحق ، وليس خطابا

٢٤٠