تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

روايات غير صحيحة. والأظهر أنّ نزع اللّباس تمثيل لحال التّسبّب في ظهور السوءة.

وكرّر التّنويه باللّباس تمكينا للتّمهيد لقوله تعالى بعده : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١].

وإسناد الإخراج والنّزع والإراءة إلى الشّيطان مجاز عقلي ، مبني على التّسامح في الإسناد بتنزيل السّبب منزلة الفاعل ، سواء اعتبر النّزع حقيقة أم تمثيلا ، فإنّ أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق ، وتكون مجازات ، وتكون مختلفة ، كما تقرّر في علم المعاني.

واللّام في قوله : (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) لام التّعليل الادّعائي ، تبعا للمجاز العقلي ، لأنّه لمّا أسند الإخراج والنّزع والإراءة إليه على وجه المجاز العقلي ، فجعل كأنّه فاعل الإخراج ونزع لباسهما وإراءتهما سوآتهما ، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال وهو أن يريهما سوآتهما ليتم ادّعاء كونه فاعل تلك الأفعال المضرّة ، وكونه قاصدا من ذلك الشّناعة والفظاعة ، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائية من أفعالهم إتماما للكيد ، وإنّما الشّيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما ، فانتظم الإسناد الادّعائي مع التّعليل الادّعائي ، فكانت لام العلّة تقوية للإسناد المجازي ، وترشيحا له ، ولأجل هذه النّكتة لم نجعل اللّام هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠] إذ لم تقارن اللّام هنالك إسنادا مجازيا.

وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة.

وجملة : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان ، والتّحذير من كيده ، لأنّ شأن الحذر أن يرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بوادره ، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين ترى البشر ، وأنّ البشر لا يرونها ، إظهارا للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم ضعيف ، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف ، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري.

فليس المقصود من قوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلّا ما

٦١

له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة.

والضّمير الذي اتّصلت به (إنّ) عائد إلى الشّيطان وعطف : (وَقَبِيلُهُ) على الضّمير المستتر في قوله : (يَراكُمْ) ولذلك فصل بالضّمير المنفصل. وذكر القبيل ، وهو بمعنى القبيلة ، للدّلالة على أنّ له أنصارا ينصرونه على حين غفلة من النّاس ، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوة الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ ، تقول العرب : أتاهم العدوّ وهم غارّون.

وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشّيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه.

و (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر ، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه ، فيفيد : إنّه يراكم وقبيله وأنتم لا ترونه قريبا كانوا أو بعيدا ، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر ، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين ، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة ، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات ، معجزة للأنبياء كما ورد في الصّحيح : «إنّ عفريتا من الجنّ تفلّت عليّ اللّيلة في صلاتي فهممت أن أوثقه في سارية من المسجد» الحديث ، أو كرامة للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة ، وقول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي هريرة : «ذلك شيطان» كما في «الصّحيحين» ، ولا يكون ذلك إلّا على تشكل الشّيطان أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة ، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة ، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهية الشّيطان من ورائه ، وذلك بمنزلة رؤية مكان يعلم أنّ فيه شيطانا ، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق ، فلو لا الخبر لما علم ذلك.

وجملة : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان ، تحذيرا للمؤمنين من الانتظام في سلكهم ، وتنفيرا من أحوالهم ، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملة : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ).

وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين. والجعل هنا جعل التّكوين ، كما يعلم من قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الأعراف : ٢٤] بمعنى خلقنا الشّياطين.

٦٢

و (أَوْلِياءَ) حال من (الشَّياطِينَ) وهي حال مقدرة أي خلقناهم مقدرة ولايتهم للّذين لا يؤمنون ، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسها على طبائع لا تنتقل عنها ، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها : كالافتراس في الأسد ، واللّسع في العقرب ، وخلق للإنسان العقل والفكر فجعله قادرا على اكتساب ما يختار ، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد ، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد ، إذا كان له فيه عاجل شهوة أو كان يشبه الأشياء الصّالحة في بادئ النّظرة الحمقاء ، كان الإنسان في هذه الحالة موافقا لطبع الشّياطين ، ومؤتمرا بما تسوله إليه ، ثمّ يغلب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه ، حتّى صار المالك لإراداتهم ، وتلك مرتبة المشركين ، وتتفاوت مراتب هذه الولاية ، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي ، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢] ـ وقوله ـ (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الأعراف : ٢٤] فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخر دركات الفساد ، وهو الشّرك وما فيه ، فصار هذا جعلا جديدا ناسخا للجعل الذي في قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك ، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان.

والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون ، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة ، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) في هذه السورة [٣٥].

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨))

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) معطوف على (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ٢٧] فهو من جملة الصّلة ، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعلّلاتهم ومعاذيرهم الفاسدة ، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنّهم اتّبعوا آباءهم وأنّ الله أمرهم بذلك ، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذّبين ، بقرينة قوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) والمقصود من جملتي الصّلة : تفظيع حال دينهم بأنّه ارتكاب فواحش ، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول. وجاء الشّرط بحرف (إِذا) الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشّرط ليشير إلى أنّ هذا حاصل منهم لا محالة.

٦٣

والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي : فعلة فاحشة ثمّ نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه ، فصارت الفاحشة اسما للعمل الذّميم ، وهي مشتقّة من الفحش ـ بضمّ الفاء ـ وهو الكثرة والقوّة في الشّيء المذموم والمكروه ، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشّديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السّليمة ، أو ينشأ عنها ضرّ وفساد بحيث يأباها أهل العقول الرّاجحة ، وينكرها أولو الأحلام ، ويستحيي فاعلها من النّاس ، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزّنى والوأد والسّرقة ، ثمّ تنهى عنها الشّرائع الحقّة ، فالفعل يوصف بأنّه فاحشة قبل ورود الشّرع ، كأفعال أهل الجاهليّة ، مثل السّجود للتّماثيل والحجارة وطلب الشّفاعة منها وهي جماد ، ومثل العراء في الحجّ ، وترك تسمية الله على الذّبائح ، وهي من خلق الله وتسخيره ، والبغاء ، واستحلال أموال اليتامى والضّعفاء ، وحرمان الأقارب من الميراث ، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه ، وقتل غير القاتل لأنّه من قبيلة القاتل ، وتحريمهم على أنفسهم كثيرا من الطيّبات التي أحلّها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدّم. وقد روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بالفاحشة في الآية التّعري في الحجّ ، وإنّما محمل كلامه على أنّ التّعرّي في الحجّ من أوّل ما أريد بالفاحشة لا قصرها عليه فكأن أئمّة الشّرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم ، وجماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالفين الذين هم قدوة لخلفهم ، واعتقدوا أنّ آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطّلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا ، ثمّ عطفوا على ذلك أنّ الله أمر بذلك يعنون أنّ آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم ، ولكنّهم رسموها بأمر من الله تعالى ، ففهم منه أنّهم اعتذروا لأنفسهم واعتذروا لآبائهم ، فمعنى قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) ليس ادّعاء بلوغ أمر من الله إليهم ولكنّهم أرادوا أنّ الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرّسوم وسنّوها فكان أمر الله آباءهم أمرا لهم ، لأنّه أراد بقاء ذلك في ذريّاتهم ، فهذا معنى استدلالهم ، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتمادا على فطنة المخاطبين.

وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا) : على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع ، وقد يكون القائل غير الفاعل ، والفاعل غير قائل ، اعتدادا بأنّهم لما صدّق بعضهم بعضا في ذلك فكأنّهم فعلوه كلّهم واعتذروا عنه كلّهم.

وأفاد الشّرط ربطا بين فعلهم الفاحشة وقولهم : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) باعتبار إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق ، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكرت عليهم أو نهوا عنها

٦٤

قالوا وجدنا عليها آباءنا ، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم ، ولكن المراد نهي أيّ ناه وإنكار أيّ منكر ، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل ، فإنّ دين المشركين كان أشتاتا مختلفا ، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمّية ابن أبي الصّلت ، وقد قال لهم زيد بن عمرو : «إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره» وكان ينكر عليهم من يتحرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلّا اتّباعهم فيها إكراها.

وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالهم هواه : كما وقع لإمرئ القيس ، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حجرا ، فقصد ذا الخلصة ـ صنم خثعم ـ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال :

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا

مثلي وكان شيخك المقبورا

لم تنه عن قتل العداة زورا

ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة ، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار. وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم.

ودلّت الآية على إنكار ما كان مماثلا لهذا الاستدلال وهو كلّ دليل توكأ على اتّباع الآباء في الأمور الظّاهر فسادها وفحشها ، وكلّ دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه ، فإنّ قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلّغ ، فإنّهم كانوا ينكرون النّبوءة ، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى.

وقد ردّ الله ذلك عليهم بقوله لرسوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فأعرض عن ردّ قولهم : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) لأنّه إن كان يراد ردّه من جهة التّكذيب فهم غير كاذبين في قولهم ، لأنّ آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش ، وإن كان يراد ردّه من جهة عدم صلاحيته للحجّة فإنّ ذلك ظاهر ، لأنّ الإنكار والنّهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم ، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، فصار ردّ هذه المقدّمة من دليلهم بديهيا وكان أهمّ منه ردّ المقدّمة الكبرى ، وهي مناط الاستدلال ، أعني قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).

فقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) نقض لدعواهم أنّ الله أمرهم بها أي بتلك الفواحش ، وهو ردّ عليهم ، وتعليم لهم ، وإفاقة لهم من غرورهم ، لأنّ الله متّصف بالكمال

٦٥

فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه ، فكون الفعل فاحشة كاف في الدّلالة على أنّ الله لا يأمر به لأنّ الله له الكمال الأعلى ، وما كان اعتذارهم بأنّ الله أمر بذلك إلّا عن جهل ، ولذلك وبّخهم الله بالاستفهام التّوبيخي بقوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي ما لا تعلمون أنّ الله أمر به ، فحذف المفعول لدلالة ما تقدّم عليه ، لأنّهم لم يعلموا أنّ الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه ، وإنّما قالوه عن مجرّد التّوهّم ، ولأنّهم لم يعلموا أنّ الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرّذائل.

وضمن : (تَقُولُونَ) معنى تكذبون أو معنى تتقوّلون ، فلذلك عدّي بعلى ، وكان حقّه أن يعدى بعن لو كان قولا صحيح النّسبة ، وإذ كان التّوبيخ واردا على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يتحقّق عدم وروده من الله أحرى.

وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضّلال والغرور واتّباع وحي الشّياطين إلى أوليائهم أئمّة الكفر ، وقادة الشّرك : مثل عمرو بن لحي ، الذي وضع عبادة الأصنام ، ومثل أبي كبشة ، الذي سنّ عبادة الشّعري من الكواكب ، ومثل ظالم بن أسعد ، الذي وضع عبادة العزى ، ومثل القلمّس ، الذي سنّ النّسيء إلى ما اتّصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوت الشّرك.

واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التّقليد في الأمور الفرعيّة أو الأصول الدّينيّة لأنّ التّقليد الذي نعاه الله على المشركين هو تقليدهم من ليسوا أهلا لأنّ يقلّدوا ، لأنّهم لا يرتفعون عن رتبة مقلّديهم ، إلّا بأنّهم أقدم جيلا ، وأنّهم آباؤهم ، فإنّ المشركين لم يعتذروا بأنّهم وجدوا عليه الصّالحين وهداة الأمّة ، ولا بأنّه ممّا كان عليه إبراهيم وأبناؤه ، ولأنّ التّقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد في أعمال بديهيّة الفساد ، والتّقليد في الفساد يستوي ، هو وتسنينه ، في الذّم ، على أنّ تسنين الفساد أشدّ مذمّة من التّقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصّحيح : «ما من نفس تقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنّه أوّل من سنّ القتل» ـ وحديث : «من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسّرين في هذه الآية من القول في ذمّ التّقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلا في فعل الفواحش.

[٢٩ ، ٣٠] (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ

٦٦

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

بعد أن أبطل زعمهم أنّ الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالا عاما بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] استأنف استئنافا استطراديا بما فيه جماع مقوّمات الدّين الحق الذي يجمعه معنى القسط أي العدل تعليما لهم بنقيض جهلهم ، وتنويها بجلال الله تعالى ، بأنّ يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به. ولأهميّة هذا الغرض ، ولمضادته لمدّعاهم المنفي في جملة : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] فصلت هذه الجملة عن التي قبلها ، ولم يعطف القول على القول ولا المقول على المقول : لأنّ في إعادة فعل القول وفي ترك عطفه على نظيره لفتا للأذهان إليه.

والقسط : العدل وهو هنا العدل بمعناه الأعمّ ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتّفريط في الأشياء ، وهو الفضيلة من كلّ فعل ، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السّليمة أنّه صلاح محض وأنّه حسن مستقيم ، نظير قوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] فالتّوحيد عدل بين الإشراك والتّعطيل ، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدّماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يقدر عليه. وأمر الله بالإحسان ، وهو عدل بين الشحّ والإسراف ، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائما للصّلاح عاجلا وآجلا ، أي سالما من عواقب الفساد ، وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ القسط قول لا إله إلّا هو ، وإنّما يعني بذلك أنّ التّوحيد من أعظم القسط ، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أنّ الله أمرهم بها لأنّ شيئا من تلك الفواحش ليس بقسط ، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط ، والمبالغة في وضع اللباس إفراط ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحرّ ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو ، والاسترسال فيه نهامة ، والوسط هو الاعتدال ، فقوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط.

ثمّ أعقبه بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم عن الله : (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فجملة : (وَأَقِيمُوا) عطف على جملة : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم. والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح. وإبطال شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام ، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن

٦٧

شيء وفعل ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره.

وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى ، في مواضع عبادته ، بحال المتهيّئ لمشاهدة أمر مهم حين يوجه وجهه إلى صوبه ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوجه قائما ، أي غير متغاض ولا متوان في التّوجّه ، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال : قامت السّوق ، وقامت الصّلاة ، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة [٣] عند قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ومنه قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم : ٣٠] فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد ، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة ، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي ، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضا ، وهذا كما ورد في الحديث : «المصلّي يناجي ربّه فلا يبصقنّ قبل وجهه» فالنّهي عن التّعرّي مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه ، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمر باللّباس : ابتداء من قوله : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠] إلى هنا.

ومعنى : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عند كلّ مكان متخذ لعبادة الله تعالى ، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في سورة العقود [٢] ، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالا من الحجّ كلّها مساجد ، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ ، فذكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيره من أصنامهم بالنّية ، كما كانوا وضعوا (هبل) على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهبل ، ووضعوا (إسافا ونائلة) على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما. وكان فريق منهم يهلّون إلى (مناة) عند (المشلل) ، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها ، فهذه مناسبة عطف قوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم ، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها. وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه ، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه ، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه.

والدّعاء في قوله : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأعراف : ١٩٤]. والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة

٦٨

غيره. والدّين بمعنى الطّاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته.

ومنه سمّي الله تعالى : الديّان ، أي القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] ، والمقصد منها إبطال الشّرك في عبادة الله تعالى ، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القسط الذي في قوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) كما قدمناه هنالك ، و (مُخْلِصِينَ) حال من الضّمير في ادعوه.

وجملة : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) في موضع الحال من الضّمير المستتر في قوله : (مُخْلِصِينَ) وهي حال مقدرة أي : مقدّرين عودكم إليه وأنّ عودكم كبدئكم ، وهذا إنذار بأنّهم مؤاخذون على عدم الإخلاص في العبادة ، فالمقصود منه هو قوله : (تَعُودُونَ) أي إليه ، وأدمج فيه قوله : (كَما بَدَأَكُمْ) تذكيرا بإمكان البعث الذي أحالوه ؛ فكان هذا إنذارا لهم بأنّهم عائدون إليه فمجازون عن إشراكهم في عبادته ، وهو أيضا احتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غير الله ، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدفع موجب استبعادهم إياه ، حين يقولون : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة : ٤٧] ـ ويقولون ـ (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [النازعات : ١٠ ، ١١] ونحو ذلك ، بأنّ ذلك الخلق ليس بأعجب من خلقهم الأوّل كما قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] وكما قال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثّاني ، وتذكير لهم بأنّ الله منفرد بخلقهم الثّاني ، كما انفرد بخلقهم الأوّل ، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئا.

فالكاف في قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) لتشبيه عود خلقهم ببدئه و (ما) مصدريّة والتّقدير : تعودون عودا جديدا كبدئه إيّاكم ، فقدم المتعلّق ، الدّال على التّشبيه ، على فعله ، وهو تعودون ، للاهتمام به ، وقد فسّرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعيدة عن سياقها ونظمها.

و (فَرِيقاً) الأوّل والثّاني منصوبان على الحال : إمّا من الضّمير المرفوع في (تَعُودُونَ) ، أي ترجعون إلى الله فريقين ، فاكتفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلا بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب ، ومعنى (فَرِيقاً هَدى) : أنّ فريقا هداهم الله في الدّنيا وفريقا حقّ عليهم الضّلالة ، أي في الدّنيا ، كما دلّ عليه التّعليل بقوله : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله : (مُخْلِصِينَ) أي ادعوه مخلصين حال كونكم فريقين : فريقا هداه

٦٩

الله للإخلاص ونبذ الشّرك ، وفريقا دام على الضّلال ولازم الشّرك.

وجملة : (هَدى) في موضع الصّفة لفريقا الأوّل ، وقد حذف الرّابط المنصوب : أي هداكم الله ، وجملة : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) صفة (فَرِيقاً) الثّاني.

وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة ، وتحذير من اتّباع الشّيطان ، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى ، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله : (هَدى) فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: ٢٢] وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة : ١٩]. وتقديم (فَرِيقاً) الأوّل والثّاني على عامليها للاهتمام بالتّفصيل.

ومعنى : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) ثبتت لهم الضّلالة ولزموها. ولم يقلعوا عنها ، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم ، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين : فريقا هداه الله إلى التّوحيد ، وفريقا لازم الشّرك والضّلالة ، فلم يطرأ عليهم حال جديد. وبذلك يظهر حسن موقع لفظ : (حَقَ) هنا دون أن يقال أضلّه الله ، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم ، كما قال تعالى في نظيره : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦] ـ ثمّ قال ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [النحل : ٣٧] ، فليس تغيير الأسلوب بين : (فَرِيقاً هَدى) وبين (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله ، كما توهمه صاحب «الكشاف» ، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة ، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال.

وجرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث ، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦].

وقوله : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) استئناف مراد به التّعليل لجملة (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦] ، وهذا شأن (إنّ) إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غناء الفاء ، كما تقدّم غير مرّة.

والمعنى أنّ هذا الفريق ، الذي حقت عليهم الضّلالة ، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد

٧٠

والإسلام ، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيّن ، ولكنّهم استوحوا شياطينهم ، وطابت نفوسهم بوسوستهم ، وائتمروا بأمرهم ، واتّخذوهم أولياء ، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله.

وعطف جملة : (وَيَحْسَبُونَ) على جملة : (اتَّخَذُوا) فكان ضلالهم ضلالا مركبا ، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أئمّة الكفر وأولياء الشّياطين ، ولمّا سمعوا داعي الهدى لم يتفكّروا ، وأهملوا النّظر ، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون ، فلذلك لم تخطر ببالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والحسبان الظنّ ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل ، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن.

وعطف هذه الجملة على التي قبلها ، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة ، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين ، فولاية الشّياطين ضلالة ، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضا ، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد ، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطإ ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١))

إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) [الأعراف : ٢٦].

وهذه الجملة تتنزّل ، من التي بعدها ، وهي قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) [الأعراف : ٣٢] منزلة النّتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضا بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها.

فالمقصد من قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة ، وعند مساجد معيّنة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

٧١

وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلّا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت فكان غيرهم يطوفون عراة إلّا أن يعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرّجال الرّجال والنّساء النّساء ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وروي أنّ الحمس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلّا في ثيابنا ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلّا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوبا ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عريانا ، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللّقى ـ بفتح اللام ـ قال شاعرهم :

كفى حزنا كري عليه كأنّه

لقى بين أيدي الطائفين حرام

وفي «الكشاف» ، عن طاوس : كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقد أبطله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أمر أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، عام حجّته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : «أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان».

وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريم اللّم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطّعام إلّا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، ونسب في «الكشاف» ذلك إلى بني عامر ، وكان الحمس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضنا أن يأكل إلّا من طعامنا ، وفي «تفسير الطبري» عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمنها. وفيه عن قتادة : أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.

فالأمر في قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) للوجوب ، وفي قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) للإباحة لبني آدم الماضين والحاضرين.

والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطال التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعا. وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحظر. فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] بعد قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجبا. فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون

٧٢

اللّباس في الحجّ منه واجب ، وهو ما يستر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالا لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالا للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم.

وقوله : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد منى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٢٩]. وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفا.

والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) في سورة النّساء [٦] ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بإضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة.

وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللّاحقة في قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقا : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٩] فإن ترك السّرف من معنى العدل.

وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

استئناف معترض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة ، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد ، فابتدئ الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله. وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد ، وثلث بإنكار أن يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب (قُلْ) دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة.

والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان

٧٣

والإفادة نظير قوله : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) [الأنعام : ١٤٨] ـ وقوله ـ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنعام : ١٤٣] وقرينة التّهكّم : إضافة الزّينة إلى اسم الله ، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده ، ووصف الرّزق بالطّيبات ، وذلك يقتضي عدم التّحريم ، فالاستفهام يؤول أيضا إلى إنكار تحريمها.

ولوضوح انتفاء تحريمها ، وأنّه لا يقوله عاقل ، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم ، أمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤال نفسه ، فعقب ما هو في صورة السؤال بقوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) على طريقة قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) في سورة الأنعام [١٢] ، ـ وقوله ـ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين.

وضمير : (هِيَ) عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصف تحريم من حرّمها ، أي : الزّينة والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حرموا أنفسهم.

واللّام في : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة ، فالمعنى : ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا ، وإنّما حرم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها ، وحرم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى ، ومن أكل اللّحوم والودك والسّمن واللّبن ، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا.

وقوله : (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) قرأه نافع ، وحده : برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله : (هِيَ) أي : هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة ، وقرأه باقي العشرة : بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد ، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة.

والأظهر أنّ الضّمير المستتر في (خالِصَةً) عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها ، أي هي خالصة لهم في الآخرة ، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا ، فمعنى خلاصها صفاؤها ، وكونه في يوم القيامة : هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها ، وهي تبعات تحريمها ، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعم بها ، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم ،

٧٤

بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا ، لأنّهم كفروا نعمة المنعم بها ، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير ، والأمر فيه على قراءة رفع : (خالِصَةً) أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضرارا ، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة.

ويحتمل أن يكون الضّمير في (خالِصَةً) عائدا إلى الزّينة والطّيبات ، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها ، فيكون المعنى : ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة.

ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة ، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة ، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها ، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه.

ومعنى : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) كهذا التّفصيل المبتدئ من قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) [الأعراف : ٢٦] الآيات أو من قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣]. وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام.

والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى ، وانفراده بالإلهيّة ، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ بيّن فساد دين أهل الجاهليّة ، وعلّم أهل الإسلام علما كاملا لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال ، إذ قال : خذوا زينتكم ، وقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [الأعراف : ٣١] ، ثمّ قال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف : ٣١] ، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا ، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعا حرمهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثل سوء ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة ، وإذ وفق المؤمنين لمّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه ، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلّا أشياء فيها ضر علمه الله فحرّمها عليهم ، وسلّمهم من العقاب عليها في الآخرة.

واللّام في قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لام العلّة ، وهو متعلّق بفعل (نُفَصِّلُ) ، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلّا قوم يعلمون ، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون ، ويجوز أن يكون الجارّ والمجرور ظرفا مستقرا في موضع الحال من الآيات ، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون ، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا

٧٥

يفقهونها كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) في سورة الأنعام [٩٩] ، أي كذلك التّفصيل الذي فصلته لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصيلنا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون.

والمراد ب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الثّناء على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها ، والتّعريض بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم ، رغم ما فصّل لهم من الآيات.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣))

لمّا أنبأ قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] إلى آخره ، بأنّ أهل الجاهليّة حرموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق ، وأنبأ قوله تعالى ـ قبل ذلك ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] بأنّ أهل الجاهليّة يعزون ضلالهم في الدّين إلى الله ، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم ، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقّا وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله.

فالقصر المفاد من (إِنَّما) قصر إضافي مفاده أنّ الله حرّم الفواحش وما ذكر معها لا ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات ، فأفاد إبطال اعتقادهم ، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها ، لأنّه لمّا عدّ أشياء ، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها ، علم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة (إنّما) من إثبات ونفي : إذ هي بمعنى (ما ـ وإلّا) ، فأفاد تحليل ما زعموه حراما وتحريم ما استباحوه من الفواحش وما معها.

والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) في سورة النّساء [٢٢] وتقدّم آنفا عند قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) [الأعراف : ٢٨].

و (ما ظَهَرَ مِنْها) هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة ، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة ، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله

٧٦

تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) في سورة الأنعام [١٥١]. وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب ، لو سئلوا ، أنّ الله لا يرضى بها ، وقيل المراد بالفواحش : الزّنا ، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة ، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد.

وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب ، فهو أعمّ من الفواحش ، وتقدّم في قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) في سورة البقرة [٢١٩]. وقوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) في سورة الأنعام [١٢٠] ، فيكون ذكر الفواحش قبله للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب ، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام ، كذكر الخاص بعد العام ، إلّا أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتماما من جهتين.

وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالهم أو بأذاهم ، والكبر على النّاس من البغي ، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بغيا ولكنّه أذى ، قال الله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦] وقد كان البغي شائعا في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف ، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم ، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحمس ، وأن يلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحمس ، ولا يطوف إلّا في ثيابهم.

وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلّا بغير حقّ.

وعطف (الْبَغْيَ) على (الْإِثْمَ) من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة ، قال سوار بن المضرّب السّعدي :

وأنّي لا أزال أخا حروب

إذا لم أجن كنت مجنّ جان

والإشراك معروف وقد حرّمه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلق البشر.

و (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) موصول وصلته ، و (ما) مفعول (تُشْرِكُوا بِاللهِ) ، والسّلطان البرهان والحجّة ، والمجرور في قوله : (بِهِ) صفة ل (سُلْطاناً) ، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له ، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ

٧٧

بِقِنْطارٍ) [آل عمران : ٧٥] أي سلطانا عليه ، أي دليلا. وضمير (به) عائد إلى (ما) وهو الرابط للصّلة. فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء : نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة ، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمراد وصفها ، مثل حرّمت عليكم الميتة أي أكلها. وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين ، ونفي معذرتهم في الإشراك ، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة ، فعرّف الشّركاء المزعومين تعريفا لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم : أنّ لا سلطان على شركتهم لله في الإلهية ، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة ، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف ، وليس ذلك كالوصف ، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة ، ولا الموصولات معدودة في صيغ المفاهيم ، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل : هذا يوهم أن من بين الشّرك ما أنزل الله به سلطانا واحتياجه إلى دفع هذا الإيهام ، ولا ما قفاه عليه صاحب «الانتصاف» من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرئ القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره

ولا يتّجه ما نحاه صاحب «الكشاف» من إجراء هذه الصّلة على طريقة التّهكّم.

وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) تقدّم نظيره آنفا عند قوله تعالى ، في هذه السّورة : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨].

وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام ، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب ، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ. وهذا من ناحية قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ٢١٧].

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

اعتراض بين جملة : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) [الأعراف : ٣١] وبين جملة : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٣٥] لمّا نعى الله على المشركين ضلالهم وتمرّدهم. بعد أن دعاهم إلى الإيمان ، وإعراضهم عنه ، بالمجادلة والتّوبيخ وإظهار نقائصهم بالحجّة البيّنة ، وكان حالهم حال من لا يقلع عمّا هم فيه ، أعقب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامة للحجّة عليهم وإعذارا لهم قبل حلول العذاب بهم.

٧٨

وهذه الجملة تؤكّد الغرض من جملة : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٤] وتحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين ، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيئه بأن يخاطبهم ، لأنّ هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار.

والمعنى الثّاني : أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون وعدا له بالنّصر على مكذّبيه ، وإعلاما له بأنّ سنّته سنّة غيره من الرّسل بطريقة جعل سنّة أمّته كسنّة غيرها من الأمم.

وذكر عموم الأمم في هذا الوعيد ، مع أنّ المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا ، إنّما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التّاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبرا معضودا بالدّليل والحجّة ، كما قال تعالى في آيات كثيرة منها : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران : ١٣٧] أي : ما أنتم إلّا أمة من الأمم المكذّبين ولكلّ أمّة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه.

وذكر الأجل هنا ، دون أن يقول لكلّ أمّة عذاب أو استئصال ، إيقاظا لعقولهم من أن يغرّهم الإمهال فيحسبوا أنّ الله غير مؤاخذهم على تكذيبهم ، كما قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، وطمأنة للرسول عليه الصّلاة والسلام بأنّ تأخير العذاب عنهم إنّما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظّالمين على حدّ قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠] ـ وقوله ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧].

ومعنى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) لكلّ أمّة مكذّبة إمهال فحذف وصف أمّة أي : مكذّبة.

وجعل لذلك الزّمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال ، فالأجل يطلق على مدّة الإمهال ، ويطلق على الوقت المحدّد به انتهاء الإمهال ، ولا شكّ أنّه وضع لأحد الأمرين ثمّ استعمل في الآخرة على تأويل منتهى المدّة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان. فعلى الأوّل يقال قضى الأجل أي المدّة كما قال تعالى : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) [القصص : ٢٨] وعلى الثّاني يقال : «دنا أجل فلان» وقوله تعالى : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا

٧٩

الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) [الأنعام : ١٢٨] والواقع في هذه الآية يصحّ للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأوّل المدّة ، وبالثّاني الوقت المحدّد لفعل ما.

والمراد بالأمّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرّسل ، كما يدلّ عليه السّياق من قوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) [الأعراف : ٣٣] إلخ وليس المراد بالأمّة ، الجماعة التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصوّر انقراضها عن بكرة أبيها ، ولم يقع في التّاريخ انقراض إحداها ، وإنّما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل (طسم) و (جديس) و (عدوان) فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمّة إنّ لها أجلا تنقرض فيه ، إلّا بمعنى جماعة يجمعها أنّها مرسل إليها رسول فكذّبته ، وكذلك كان ما صدق هذه الآية ، فإنّ العرب لمّا أرسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم ، فآمن به من آمن ، وتلاحق المؤمنون أفواجا ، وكذّب به أهل مكّة وتبعهم من حولهم ، وأمهل الله العرب بحكمته وبرحمة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم ، ثمّ هاجر المؤمنون فبقيت مكّة دار شرك وتمحّض من علم الله أنّهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عباده المؤمنين فاستأصلوهم فوجا بعد فوج ، في يوم بدر وما بعده من أيّام الإسلام ، إلى أن تم استئصال أهل الشّرك بقتل بقيّة من قتل منهم في غزوة الفتح ، مثل عبد الله بن خطل ومن قتل معه ، فلمّا فتحت مكّة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشّرك ، ولم تقم للشّرك قائمة بعد ذلك ، وأظهر الله عنايته بالأمّة العربيّة إذ كانت من أوّل دعوة الرّسول غير متمحّضة للشّرك ، بل كان فيها مسلمون من أوّل يوم الدّعوة ، وما زالوا يتزايدون.

وليس المراد في الآية ، بأجل الأمّة ، أجل أفرادها ، وهو مدّة حياة كلّ واحد منها ، لأنّه لا علاقة له بالسّياق ، ولأنّ إسناده إلى الأمّة يعيّن أنّه أجل مجموعها لا أفرادها ، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكلّ أحد أو لكلّ حيّ أجل.

وإذا ظرف زمان للمستقبل في الغالب ، وتتضمّن معنى الشّرط غالبا ، لأنّ معاني الظّروف قريبة من معاني الشّرط لما فيها من التّعليق ، وقد استغني بفاء تفريع عامل الظّرف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب (إذا) لظهور معنى الرّبط والتّعليق بمجموع الظّرفية والتّفريع ، والمفرع هو : (جاءَ أَجَلُهُمْ) وإنّما قدم الظّرف على عامله للاهتمام به ليتأكّد بذلك التّقديم معنى التّعليق. والمجيء مجاز في الحلول المقدّر له كقولهم جاء الشّتاء.

وإفراد الأجل في قوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) مراعى فيه الجنس ، الصّادق بالكثير ،

٨٠