تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

المقول المحكي يقال : أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال لآدم (وَيا آدَمُ اسْكُنْ) ، وهذا من عطف المتكلّم بعض كلامه على بعض ، إذا كان لبعض كلامه اتّصال وتناسب مع بعضه الآخر ، ولم يكن أحد الكلامين موجّها إلى الذي وجّه إليه الكلام الآخر ، مع اتّحاد مقام الكلام ، كما يفعل المتكلّم مع متعدّدين في مجلس واحد فيقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ومنه قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قضيّة الرّجل والأنصاري الذي كان ابن الرّجل عسيفا عليه : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عزوجل أما الغنم والجارية فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها» ، ومن أسلوب هذه الآية ما في قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٨ ، ٢٩] حكاية لكلام العزيز ، أي العزيز عطف خطاب امرأته على خطابه ليوسف.

فليست الواو في قوله : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ) بعاطفة على أفعال القول التي قبلها حتّى يكون تقدير الكلام : وقلنا يا آدم اسكن ، لأنّ ذلك يفيت النّكت التي ذكرناها ، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضورا.

وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة ، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقب ، وإظهارا للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي ، ولأنّه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول. ثمّ إن كان آدم خلق في الجنّة ، فكان مستقرا بها من قبل ، فالأمر في قوله : (اسْكُنْ) إنّما هو أمر تقرير : أي أبق في الجنّة ، وإن كان آدم قد خلق خارج الجنّة فالأمر للإذن تكريما له ، وأيّا ما كان ففي هذا الأمر ، بمسمع من إبليس ، مقمعة لإبليس ، لأنّه إن كان إبليس مستقرا في الجنّة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبّر هو عن السّجود إليه في المكان المشرّف الذي كان له قبل تكبّره ، وإن لم يكن إبليس ساكنا في الجنّة قبل فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له ، فقد دلّ موقع هذا الكلام ، في هذه السّورة ، على معنى عظيم من قمع إبليس ، زائد على ما في آية سورة البقرة ، وإن كانتا متماثلتين في اللّفظ ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن.

ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إنّ هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشّيطان وليا من دون الله ، فأمّا ما في سورة البقرة فإنّه لموعظة بني إسرائيل ، وهم

٤١

ممّن يحذر الشّيطان ولا يتّبع خطواته.

والنّداء للإقبال على آدم والتّنويه بذكره في ذلك الملإ. والإتيان بالضّمير المنفصل بعد الأمر ، لقصد زيادة التّنكيل بإبليس لأنّ ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنّه ليس مثله ، إذ الضّمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهوم مخالفة فإنّه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضّمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنع من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسين أو تصحيح العطف على الضّمير المرفوع المستتر ، لأن تصحيح أو تحسين العطف يحصل بكلّ فاصل بين الفعل الرافع للمستتر وبين المعطوف ، لا خصوص الضّمير ، كأن يقال : ويا آدم اسكن الجنّة وزوجك ، فما اختير الفصل بالضّمير المنفصل إلّا لما يفيد من التّعريض بغيره. وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضمّها إليها أيضا.

والكلام على قوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) يعلم ممّا مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة.

سوى أن الذي وقع في سورة البقرة [٣٥] (وَكُلا) بالواو وهنا بالفاء ، والعطف بالواو أعم ، فالآية هنا أفادت أنّ الله تعالى أذن آدم بأن يتمتّع بثمار الجنّة عقب أمره بسكنى الجنّة. وتلك منّة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام ، ولما كان ذلك حاصلا في تلك الحضرة ، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس ، الذي تكبّر وفضل نفسه عليه ، كان الحال مقتضيا إعلام السّامعين به في المقام الذي حكي فيه الغضب على إبليس وطرده ، وأما آية البقرة فإنّما أفادت السّامعين أنّ الله امتن على آدم بمنّة سكنى الجنّة والتّمتّع بثمارها ، لأنّ المقام هنالك لتذكير بني إسرائيل بفضل آدم وبذنبه وتوبته ، والتّحذير من كيد الشّيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم.

على أنّ آية البقرة [٣٥] لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمة له وهو قوله : (رَغَداً) لأنّه مدح للممتن به أو دعاء لآدم ، فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم لآدم ، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها ، ليحصل تجديد الفائدة ، تنشيطا للسّامع ، وتفنّنا في أساليب الحكاية ، لأنّ الغرض الأهمّ من القصص في القرآن إنّما هو العبرة والموعظة والتأسي.

وقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أشدّ في التّحذير من أن ينهى عن الأكل منها ، لأنّ النّهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة.

٤٢

والنّهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنّة : يحتمل أن يكون نهي ابتلاء. جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنّة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشّهوة لامتثال النّهي. فلذلك جعل النّهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها ، وهذا هو الظّاهر ليتكوّن مختلف القوى العقليّة في عقل النّوع بتأسيسها في أصل النّوع ، فتنتقل بعده إلى نسله ، وذلك من اللّطف الإلهي في تكوين النّوع ومن مظاهر حقيقة الربوبيّة والمربوبيّة ، حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشقّ وضعها دفعة على قابليّة العقل ، وقد دلّت الآيات على أن آدم لمّا ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشّجرة المنهي عنها ، فأعقبه الأكل حدوث خاطر الشّعور بما فيه من نقايص أدركها بالفطرة ، فمعناه أنّه زالت منه البساطة والسّذاجة. ويحتمل أن يكون ذلك لخصوصيّة في طبع تلك الشّجرة أن تثير في النّفس علم الخير والشرّ كما جاء في التّوراة أنّ الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشرّ ، وهذا ـ عندي ـ بعيد ، وإنّما حكى الله لنا هيئة تطوّر العقل البشري في خلقة أصل النّوع البشري نظير صنعه في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١].

والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك ممّا تقدّم في سورة البقرة.

وانتصب : (فَتَكُونا) على جواب النّهي ، والكون من الظّالمين متسبّب على القرب المنهي عنه ، لا على النّهي ، وذلك هو الأصل في النّصب في جواب النّهي كجواب النّفي ، أن يعتبر التّسبّب على الفعل المنفي أو المنهي ، بخلاف الجزم في جواب النّهي فإنّه إنّما يجزم المسبّب على إنشاء النّهي لا على الفعل المنهي ، والفرق بينهما : أنّ النّصب على اعتبار التسبب ، والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء بخلاف الجزم فإنه على اعتبار الجواب ، تشبيها بالشّرط ، فاعتبر فيه معنى إنشاء النّهي تشبيها للإنشاء بالاشتراط.

والمراد ب (الظَّالِمِينَ) الذين يحقّ عليهم وصف الظلم : إما لظلمهم أنفسهم وإلقائها في العواقب السيّئة ، وإمّا لاعتدائهم على حقّ غيرهم فإنّ العصيان ظلم لحقّ الربّ الواجب طاعته.

[٢٠ ، ٢١] (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١))

٤٣

كانت وسوسة الشّيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشّجرة ، فعبّر عن القرب بحرف التّعقيب إشارة إلى أنّه قرب قريب ، لأنّ تعقيب كلّ شيء بحسبه.

والوسوسة الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلّا المداني للمتكلّم ، قال رؤبة يصف صائدا :

وسوس يدعو جاهدا ربّ الفلق

سرّا وقد أوّن تأوين العقق

وسمي إلقاء الشيطان وسوسة : لأنّه ألقى إليهما تسويلا خفيا من كلام كلمهما أو انفعال في أنفسهما. كهيئة الغاش الماكر إذ يخفي كلاما عن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشّه بفضح مضاره فألقى لهما كلاما في صورة التّخافت ليوهمهما أنّه ناصح لهما وأنّه يخافت الكلام ، وقد وقع في الآية الأخرى التّعبير عن تسويل الشّيطان بالقول : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] ثمّ درج اصطلاح القرآن وكلام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على تسمية إلقاء الشّيطان في نفوس النّاس خواطر فاسدة ، وسوسة تقريبا لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) [الناس : ٤] وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم.

واللّام في : (لِيُبْدِيَ) لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت ، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين ، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان. ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر ، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء ، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله ، ثم لغرض الإضرار بهما ، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة ، ولمّا كان عدوّا لهما كان يسعى إلى ما يؤذيهما ، ويحسدهما على رضى الله عنهما ، ويعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال ، فكان مظهر ذلك السوء إبداء السوآت ، فجعل مفصّل العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّة ، وإن لم تخطر بباله ، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل. والحاصل أنّه أراد الإضرار ، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر ، كما سيصرّح به فيما بعد ، وفي قوله

٤٤

تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦].

والإبداء ضدّ الإخفاء ، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره ، ويطلق مجازا على معرفة الشّيء بعد جهله يقال : بدا لي أن أفعل كذا.

وأسند إبداء السوآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمع سوأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقائص ، ومن سب العرب قولهم : سوأة لك ، ومن تلهّفهم : يا سوأتا. ويكنّى بالسوأة عن العورة. ومعنى ووري عنهما حجب عنهما وأخفي ، مشتقا من المواراة وهي التّغطية والإخفاء وتطلق المواراة مجازا على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس.

والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة كما في قول أبي زبيد :

لم يهب حرمة النّديم وحقّت

يا لقومي للسوأة السواء

فتكون صيغة الجمع على حقيقتها ، والسّوآت حينئذ مستعمل في صريحه ، ويجوز أن تكون جمع السوأة ، المكنى بها عن العورة ، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤]. وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف : ٢٢].

وعطف جملة : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما) على جملة (فَوَسْوَسَ) يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غير قوله : (ما نَهاكُما) إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال ما نهاكما ، ولو كانت جملة : (ما نَهاكُما) إلى آخرها بيانا لجملة (فَوَسْوَسَ) لكانت جملة : (وَقالَ ما نَهاكُما) بدون عاطف ، لأنّ البيان لا يعطف على المبيّن. وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما. ألا ترى أنّه لم يعطف قوله ، في سورة طه [١٢٠] : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى). فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتداء الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالا لطاعته ، واستزلالا لقدمه ، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) الآية فأشار إلى

٤٥

الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة ، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصص مقصدا أصليا للتنزيل.

والإشارة بقوله : (عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها ، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) استثناء من علل ، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلّا لغرض أن تكونا ملكين ، فتعين تقدير لام التّعليل قبل (أن) وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على (أن) مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس.

وكونهما ملكين أو خالدين علّة للنّهي : أي كونكما ملكين هو باعث النّهي ، إلّا أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله ، أي هو علّة في الجملة ، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير : كراهة أن تكونا. وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، كما تقدّم في سورة الأنعام ، وقيل حذفت (لا) بعد (أن) وحذفها موجود ، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه. وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة ، إذا أكلا من الشّجرة ، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذ ألفى آدم وزوجه غير متبصّرين في حقائق الأشياء ، ولا عالمين المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّر الموجودات ، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم ، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة ، وقيل المراد التشبيه البليغ أي إلّا أن تكونا في القرب والزلفى كالملكين ، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة.

وقوله : (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) عطف على : (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) وأصل (أو) الدّلالة على التّرديد بين أحد الشّيئين أو الأشياء ، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلّها فتكون للإباحة بعد الطّلب ، وللتّجويز بعد الخبر أو للشكّ ؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتّخيير بعد الطّلب وللشكّ أو التّرديد بعد الخبر ، والتّرديد لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا ، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشّجرة يكون ملكا وخالدا ، كما قال عنه في سورة طه [١٢٠] : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فجعل نهي الله لهما عن الأكل لا يعدو إرادة أحد الأمرين ، ويستفاد من المقام أنّه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعا بدلالة الفحوى ، ولم يكن آدم

٤٦

قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر ، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس ، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : ٣٦].

(وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما بما يوهم صدقه ، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف ، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة ، كما حذفت في المكارمة ، والمفاعلة هنا للمبالغة في الفعل ، وليست لحصول الفعل من الجانبين ، ونظيرها : عافاه الله ، وجعله في «الكشاف» : كأنّهما قالا له تقسم بالله إنّك لمن النّاصحين فأقسم فجعل طلبهما القسم بمنزلة القسم ، أي فتكون المفاعلة مجازا ، قال أو أقسم لهما بالنّصيحة وأقسما له بقبولها ، فتكون المفاعلة على بابها ، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنّصح لهما بثلاث مؤكدات دليل على مبلغ شكّ آدم وزوجه في نصحه لهما ، وما رأى عليهما من مخائل التّردّد في صدقه ، وإنّما شكّا في نصحه لأنّهما وجدا ما يأمرهما مخالفا لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادته بهما الخير علما حاصلا بالفطرة.

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).

تفريع على جملة : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٠] وما عطف عليها.

ومعنى (فَدَلَّاهُما) أقدمهما ففعلا فعلا يطمعان به في نفع فخابا فيه ، وأصل دلّى ، تمثيل حال من يطلب شيئا من مظنّته فلا يجده بحال من يدلّي دلوه أو رجليه في البئر ليستقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال : دلّى فلان ، يقال دلّى كما يقال أدلى.

والباء للملابسة أي دلاهما ملابسا للغرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعا بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دلّاه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جندب الهذلي (هو ابن مرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلاميا كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن ، وإلّا كان مثلا مستعملا من قبل) :

٤٧

أحصّ فلا أجير ومن أجره

فليس كمن يدلّى بالغرور

وعلى هذا الاستعمال ففعل دلّى يستعمل قاصرا ، ويستعمل متعدّيا إذا جعل غيره مدلّيا ، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها.

ودلّ قوله : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان ، فأكلا من الشّجرة ، فقوله : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) ترتيب على دلاهما بغرور فحذفت الجملة واستغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لمّا ، والتّقدير : فأكلا منها ، كما ورد مصرّحا به في سورة البقرة ، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما.

والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان ، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب ، ودلت هذه الآية على أن بدوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة ، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة ، فزادت هذه الآية على آية البقرة.

وهذه أوّل وسوسة صدرت عن الشّيطان. وأوّل تضليل منه للإنسان.

وقد أفادت (لما) توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة ، لأنّ (لما) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره ، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها ، وهذا معنى قولهم : حرف وجود لوجود (فاللّام في قولهم لوجود بمعنى (عند) ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين ، يريد باعتبار أصلها ، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت ، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في (لو) حرف امتناع لامتناع ، وفي (لو لا) حرف امتناع لوجود ، ولكن اللّام في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولو لا ، هي لام التّعليل ، بخلافها في عبارتهم في (لما) لأنّ (لما) لا دلالة لها على سبب ، ألا ترى قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض ، ولكن لمّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط (لما) وجوابها معنى السّببية دون اطراد ، فقوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوآت عند ذوق الشّجرة ، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت ، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد ، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما ، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة ، والشّعور بالنقيصة : فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم ، وسلامة الفطرة ، شبيهين بالملائكة لا يقدمان على مفسدة ولا مضرة ، ولا يعرضان عن نصح ناصح

٤٨

علما صدقه ، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه ، ويتوقّعان غروره ، ولا يشعران بالسوء في الأفعال ، ولا في ذرائعها ومقارناتها. لأنّ الله خلقهما في عالم ملكي. ثمّ تطوّرت عقليّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان. فتكوّن فيهما فعل ما نهيا عنه. ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعور بالسّوء للغير ، وبالسوء للنّفس ، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء. وتقارن السوء وتلازمه.

ثمّ إن كان «السّوآت» بمعنى ما يسوء من النّقائص ، أو كان بمعنى العورات كما تقدّم في قوله تعالى : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠] فبدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الاقدام على المعصية ونبذ النّصيحة إلى الاقتداء بالغرور والاغترار بقسمه ، فإنّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل ، وإرادة الإقدام عليه ، قارنت تلك الكيفية الباعثة على الفعل نشأة الانفعال بالأشياء السيّئة ، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة ، أو تكون ذريعة إليها ، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل ، ومن فكرة السّرقة معرفة المكان الذي يختفى فيه ، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه ، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها ، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرار ، فتنشأ في نفوس النّاس كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور ، فالسوءات إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصهما فهي من قبيل القسمين ، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني ، أعني الشّيء المقارن لما يسوء ، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئا من النّقائص المحسوسة ، والله أوجدها سبب مصالح ، فلم يشعر آدم وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله ، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلهام من الله تعالى ، وهذا التّطوّر ، الذي أشارت إليه الآية ، قد جعله الله تطوّرا فطريا في ذرّية آدم ، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئا من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلّا إذا لحق به مؤلم خارجي ، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولّدها ، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه.

وقوله : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه ، وتحيّله على تجنّب ما يكرهه ، وعلى تحسين حاله بحسب ما يخيّل إليه خياله ، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحضارة أنشأه الله في عقلي أصلي البشر ، فإنّهما لما شعرا بسوءاتهما بكلا المعنيين ، عرفا بعض جزئياتها ، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها ، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعا وكراهية ، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام

٤٩

الفطري ، حيث لا ملقّن يلقّنهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأنّ سترها متعيّن ، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارن البشر في نشأته ، فدلّ على أنّه وهم فطري متأصّل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطانا على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزع الجلافة الحيوانية من النّوع ، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثمّ أخذت الشّرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربّين ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجا مع الزّمان ، ولا يبقون منها إلّا ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهميّة ملغى في غالب الأحكام ، كما فصّلته في كتاب «مقاصد الشّريعة» وكتاب «أصول نظام الاجتماع في الإسلام».

والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ ، ويستعمل مجازا مرسلا في مطلق التّقوية للخرقة والثّوب ، ومنه ثوب خصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يشف عمّا تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورق بعضه على بعض كفعل الخاصف ، وضعا ملزقا متمكّنا ، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان ورق الجنّة.

و (من) في قوله : (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) يجوز كونها اسما بمعنى بعض في موضع مفعول (يَخْصِفانِ) أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) ، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه : «(يَخْصِفانِ) والتقدير : يخصفان خصفا من ورق الجنة.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))

عطف على جواب (لمّا) ، فهو ممّا حصل عند ذوق الشّجرة ، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود. فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان. وأعقب ذلك نداء الله إيّاهما.

وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء ، إلّا إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك ، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧] وقد بيّنته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة»

٥٠

ولم أعلم أنّي سبقت إلى الاهتداء إليه.

وقد تأخّر نداء الربّ إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما ، وتحيّلا لستر عوراتهما ليكون للتّوبيخ وقع مكين من نفوسهما ، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما ، فيعلما أنّ الخير في طاعة الله ، وأنّ في عصيانه ضرّا.

والنّداء حقيقته ارتفاع الصّوت وهو مشتق من النّدى ـ بفتح النّون والقصر ـ وهو بعد الصّوت ، قال مدثار بن شيبان النمري :

فقلت ادعي وأدعوا إنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان

وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك ، وله حروف معروفة في العربيّة : تدلّ على طلب الإقبال ، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة ، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك ، وهو إقبال مجازي.

(وَناداهُما رَبُّهُما) مستعمل في المعنى المشهور : وهو طلب الإقبال ، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى : وزكرياء (إِذْ نادى رَبَّهُ) [الأنبياء : ٨٩] وهو كثير في الكلام.

ويجوز أن يكون مستعملا في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١] وقوله : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) [الأعراف : ٤٣] وقول بشّار :

ناديت إنّ الحبّ أشعرني

قتلا وما أحدثت من ذنب

ورفع الصّوت يكون لأغراض ، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ.

وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة ملك مرسل ، مثل الكلام الذي كلّم الله به موسى ، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض ، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة ، ويجوز أن يكون نداء آدم بواسطة أحد الملائكة.

وجملة : ألم أنهاكما في موضع البيان لجملة (ناداهما) ، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها.

والاستفهام في ألم أنهاكما للتّقرير والتّوبيخ ، وأولي حرف النّفي زيادة في

٥١

التّقرير ، لأنّ نهي الله إيّاهما واقع فانتفاؤه منتفيا ، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرّر بضد النّفي كان إقراره أقوى في المؤاخذة بموجبه ، لأنّه قد هيئ له سبيل الإنكار ، لو كان يستطيع إنكارا ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الآية في سورة الأنعام [١٣٠] ، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما.

وعطف جملة : (وَأَقُلْ لَكُما) على جملة : (أَنْهَكُما) للمبالغة في التّوبيخ ، لأنّ النّهي كان مشفوعا بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة ، فهما قد أضاعا وصيتين. والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر ، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين ، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته ، فإنّه لما جبل على الخبث والخزي كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّه ومحسوده في حالة حسنة.

والمبين أصله المظهر ، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره ، وما عامل به آدم من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبانة عن عداوته ، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي ، فلا يحب أن يكون الإنسان إلّا في حالة الضّلال والفساد. ويجوز أن يكون المبين مستعملا مجازا في القوىّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان.

وقد قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) اعترافا بالعصيان ، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما ، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخول في طور ظهور السوآت ، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما ، وبأنّهما جرّا على أنفسهما غضب الله تعالى ، فهما في توقع حقوق العذاب ، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما ، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي ، وإمّا بالاستدلال على العواقب بالمبادئ ، فإنّهما رأيا من العصيان بوادئ الضر والشّر ، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته ، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهارا لتحقيق الخسران استرحاما واستغفارا من الله تعالى.

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤))

٥٢

طوى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم : لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته ، وإظهار ما يعقبه اتّباعه من الخسران والفساد ، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصود منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه ، ولكلّ مقام مقال. والخطاب لآدم وزوجه وإبليس. والأمر تكويني ، وبه صار آدم وزوجه وإبليس من سكّان الأرض.

وجملة : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال من ضمير : (اهْبِطُوا) المرفوع بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضا تفيد معنى تكوينيا وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت ، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ، فأحد البعضين هو آدم وزوجه ، والبعض الآخر هو إبليس ، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين ، كانت موروثة في نسليهما ، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قبله ، وقد نشأت هذه العداوة عن حسد إبليس ، ثمّ سرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ، فهي منبثّة في التّفكير والجسد ، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين.

وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة ، وكون الإسلام دين الفطرة ، وكون الأصل في النّاس الخير. أمّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال.

وعطفت جملة : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) على جملة : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [الأنعام : ٦٧] ـ وقوله ـ (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) في سورة الأنعام [٩٨].

والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يدفنون في الأرض.

٥٣

والمتاع والتّمتّع : نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة ، ويطلق المتاع على ما يتمتّع به وينتفع به من الأشياء ، وتقدّم في قوله تعالى : (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) في سورة النّساء [١٠٢].

والحين المدّة من الزّمن ، طويلة أو قصيرة ، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات ، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة ، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل ، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينه ، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقر والمتاع ، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين ، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفا غير مقترن بعاطف ، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف ، مع كون القائل واحدا ، والغرض متّحدا ، خروجا عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف ، وقد أهمل توجيه ترك العطف جمهور الحذّاق من المفسّرين : الزمخشري وغيره ، ولعلّه رأى ذلك أسلوبا من أساليب الحكاية ، وأوّل من رأيته حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في «املاءات التّفسير» المروية عنه ، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة [١٤٠] : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) بعد قوله : (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البون ، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته ، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه ، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتية بعد هذه ، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر ؛ وقال أبو السّعود : إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده ، وهو قوله : (فِيها تَحْيَوْنَ) [الأعراف : ٢٥] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) [الحجر : ٥٧] ـ إثر قوله ـ (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) [الحجر : ٥٦] فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلا بغير عنوان كونهم مرسلين ، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة ، فلذلك قال : (فَما خَطْبُكُمْ) ، وكما في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] ـ بعد قوله ـ (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء : ٦١] فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في

٥٤

مواضع أخرى ، هذا حاصل كلامه في مواضع ، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال.

والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوبا في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ ، وأنّه مساو للعطف بثمّ ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول ، كما في قوله تعالى : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [الأعراف : ٣٩] ـ بعد قوله ـ (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] ، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول ، وكونه مستأنفا : أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبر ، إيذانا بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالف ما ، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان ، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما ، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير : كلّهم هذا حالهم ، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد ، وإن كان قد وقع بعد وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر ، والقرينة على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله : (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها ، وذلك هو الدّفن بعد الموت ، والشّياطين لا يدفنون. وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذ أو يموت ويبعث ، ولا يعلم ذلك إلّا الله تعالى.

وقد جعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا.

وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز : وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض ، وتظهر لهما ذريّة ، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم ، ومنها مبعثهم ، يشمل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد.

وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة ، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها.

وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم ، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم.

وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير ، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته

٥٥

الأحوال ، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفا بعيدا.

وقرأ الجمهور : تخرجون ـ بضمّ الفوقية وفتح الرّاء ـ على البناء للمفعول ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، ويعقوب ، وخلف : بالبناء للفاعل.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦))

إذا جرينا على ظاهر التّفاسير كان قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية استئنافا ابتدائيا ، عاد به الخطاب إلى سائر النّاس الذين خوطبوا في أوّل السّورة بقوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣] الآيات ، وهم أمّة الدّعوة ، لأنّ الغرض من السّورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشّرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي ، وكان قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] استطرادا بذكر منّة الله عليهم وهم يكفرون به كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) فخاطبت هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة من السّورة فهذه الآية كالمقدّمة للغرض الذي يأتي في قوله : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] ووقوعها في أثناء آيات التّحذير من كيد الشّيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي.

ويجوز أن يكون قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) وما أشبهه ممّا افتتح بقوله : (يا بَنِي آدَمَ) أربع مرّات ، من جملة المقول المحكي بقوله : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) [الأعراف : ٢٥] فيكون ممّا خاطب الله به بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم آدم ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي ، ولو بالإلهام ، لما تنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق ، فابتدأ فأعلمهم بمنّته عليهم أن أنزل لهم لباسا يواري سوآتهم ، ويتجمّلون به بمناسبة ما قصّ الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سوءاتهما ، ثمّ بتحذيرهم من كيد الشّيطان وفتنته بقوله : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] ثمّ بأن أمرهم بأخذ اللّباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] ، ثمّ بأن أخذ عليهم العهد بأن يصدّقوا الرّسل وينتفعوا بهديهم بقوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٣٥] الآية ، واستطرد بين ذلك كلّه بمواعظ تنفع الذين قصدوا من هذا القصص ، وهم المشركون المكذّبون

٥٦

محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفنّنت أساليبه وتناسق نظمه ، وأيّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركو العرب ومكذّبو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك تخللت هذه الخطابات مستطردات وتعريضات مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة.

والجمل الثّلاث من قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) ـ وقوله ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] ـ وقوله ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه ، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) [الأعراف : ٢٥] على طريقة تعداد المقول تعدادا يشبه التّكرير.

وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين ، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين : لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يقينهم بأنّهم موافقون في شئونهم لمرضاة ربّهم ، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم ، معرّضون لسخطه وعقابه.

وابتدئ الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم ، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقع عجيب ، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان : وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها ، وتعادي عدوّهم ، وتحترس من الوقوع في شركه.

ولمّا كان إلهام الله آدم أن يستر نفسه بورق الجنّة منّة عليه ، وقد تقلّدها بنوه ، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّة موروثة ، وهي أوقع وأدعى للشّكر ، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالا ، لقصد تشريف هذا المظهر ، وهو أوّل مظاهر الحضارة ، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله ، أو لأنّ الذي كان منه على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها ، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص ، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي ، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم ، يحسّن استعارة فعل الإنزال إليه ، تشريفا لشأنه ، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع ، كما في قوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد : ٢٥] أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاع به ، وكذلك قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] أي : خلقها لكم في الأرض بتدبيره ، وعلّمكم استخدامها والانتفاع بما فيها ، ولا يطرد في جميع ما ألهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في

٥٧

الجدوى ، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر.

وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة ، والفطرة أوّل أصول الإسلام ، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض ، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عراة كما سيأتي عند قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] فخالفوا الفطرة ، وقد كان الأمم يحتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس ، كما حكى الله عن موسى عليه‌السلام وأهل مصر : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [طه : ٥٩].

واللّباس اسم لما يلبسه الإنسان أي يستر به جزءا من جسده ، فالقميص لباس ، والإزار لباس ، والعمامة لباس ، ويقال لبس التّاج ولبس الخاتم قال تعالى : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [فاطر : ١٢] ومصدر لبس اللّبس ـ بضمّ اللّام ـ.

وجملة : (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) صفة (للباسا) وهو صنف اللّباس اللّازم ، وهذه الصّفة صفة مدح اللّباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللّباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآية إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة ، وهي السوأة ، وأمّا ستر ما عداها من الرّجل والمرأة فلا تدلّ الآية عليه ، وقد ثبت بعضه بالسنّة ، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه.

والرّيش لباس الزّينة الزائد على ما يستر العورة ، وهو مستعار من ريش الطّير لأنّه زينته ، ويقال للباس الزّينة رياش.

وعطف (ريشا) على : (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) عطف صنف على صنف ، والمعنى يسّرنا لكم لباسا يستركم ولباسا تتزيّنون به.

وقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو جعفر : بالنّصب ، عطفا على (لِباساً) فيكون من اللّباس المنزل أي الملهم ، فيتعيّن أنّه لباس حقيقة أي شيء يلبس. والتّقوى ، على هذه القراءة ، مصدر بمعنى الوقاية ، فالمراد : لبوس الحرب ، من الدّروع والجواشن والمغافر. فيكون كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨١]. والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور ، وهو اللّباس بأصنافه الثّلاثة ، أي خير أعطاه الله بني آدم. فالجملة مستأنفة أو حال من (لِباساً) وما عطف عليه.

٥٨

وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخلف : برفع (لِباسُ التَّقْوى) على أنّ الجملة معطوفة على جملة (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) ، فيجوز أن يكون المراد بلباس التّقوى مثل ما يرد به في قراءة النّصب ، ويجوز أن يكون المراد بالتّقوى تقوى الله وخشيته ، وأطلق عليها اللّباس إمّا بتخييل التّقوى بلباس يلبس ، وإمّا بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللّابس لباسه ، كقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] مع ما يحسّن هذا الإطلاق من المشاكلة.

وهذا المعنى الرّفع أليق به. ويكون استطرادا للتّحريض على تقوى الله ، فإنّها خير للنّاس من منافع الزّينة ، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه.

وجملة : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) استئناف ثان على قراءة : (وَلِباسُ التَّقْوى) بالنّصب بأن استأنف. بعد الامتنان بأصناف اللّباس ، استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة : الأوّل بأنّ اللّباس خير للنّاس ، والثّاني بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه ، وتدلّ على وجوده ، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عراة ، فلذلك أكّد الوصاية به. والمشار إليه ، بالإشارة التي في الجملة الثّانية ، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثّانية مستقلّة غير معطوفة.

وعلى قراءة رفع : (وَلِباسُ التَّقْوى) تكون جملة : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) استئناف واحدا والإشارة التي في الجملة الثّانية عائدة إلى المذكور قبل من أصناف اللّباس حتّى المجازي على تفسير لباس التّقوى بالمجازي.

وضمير الغيبة في : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) التفات أي جعل الله ذلك آية لعلّكم تتذكّرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتّقدير واللّطف ، وفي هذا الالتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنّه غائب عن حضرة الخطاب ، على أنّ ضمائر الغيبة ، في مثل هذا المقام في القرآن ، كثيرا ما يقصد بها مشركو العرب.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧))

أعيد خطاب بني آدم ، فهذا النّداء تكملة للآي قبله ، بني على التّحذير من متابعة

٥٩

الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم ، إذ كاد لأصلهم.

والنّداء بعنوان بني آدم : للوجه الذي ذكرته في الآية قبلها ، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيدا للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عراة. وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان ، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته ، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم ، والمعنى النّهي عن طاعته ، وهذا من مبالغة النّهي ، ومنه قول العرب لا أعرفنّك تفعل كذا : أي لا تفعلن فأعرف فعلك ، لا أرينّك هنا : أي لا تحضرن هنا فأراك ، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتنه فيفتنكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه.

وشبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بفتنه آدم وزوجه إذ أقدمهما على الأكل من الشّجرة المنهي عنه ، فأخرجهما من نعيم كانا فيه ، تذكيرا للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم ، وشملت كلّ أحد من النّوع ، إذ حرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها ، وفي ذلك أيضا تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة ، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده.

و (ما) في قوله : (كَما أَخْرَجَ) مصدريّة ، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم ، والتّقدير : فتونا كإخراجه أبويكم من الجنّة ، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه.

والأبوان تثنية الأب ، والمراد بهما الأب والأمّ على التّغليب ، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ) في سورة النّساء [١١]. وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى ، كما في قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ابن عبد المطّلب».

وجملة : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في : (أَخْرَجَ) أو من : (أَبَوَيْكُمْ) والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سوآتهما لأنّ انكشاف السوءة من أعظم الفظائع في متعارف النّاس.

والتّعبير عمّا مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصّورة العجيبة من تمكّنه من أن يتركهما عريانين.

واللّباس تقدّم قريبا ، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباس جلّلهما الله به في تلك الجنّة يحجب سوآتهما ، كما روي أنّه حجاب من نور ، وروي أنّه كقشر الأظفار وهي

٦٠