تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

منها إلى التي قد أخصبت ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة ، وقد جمع رد القولين في قول.

ومعنى الملك هنا الاستطاعة والتمكن ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة المائدة [٧٦] ، والمقصود منه ، هنا : ما يشمل العلم بالنفع والضر ، لأن المقام لنفي معرفة الغيب ، ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عمله.

وقدم النفع في الذكر هنا على الضر : لأن النفع أحب إلى الإنسان ، وعكس في آية المائدة ؛ لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم ؛ وأنها لا يخشى غضبها.

وإنما عطف قوله : (وَلا ضَرًّا) مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا تعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار ، فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة الفرقان [٣] ، وجعل نفي أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا مقدمة لنفي العلم بالغيب ، لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها ، وإلى التجنب لمواقع الإضرار ، فنفي أن يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر ، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل وهو من الغيب.

والاستثناء من مجموع النفع والضر ، والأولى جعله متصلا ، أي إلّا ما شاء الله أن يملّكنيه بأن يعلمنيه ويقدرني عليه ، فإن لم يشأ ذلك لم يطلعني على مواقعه وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع ، ومن أسباب اتقاء الضر ، وحمله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله تعالى وهي المسماة بالكسب ، فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معرفة شيء مغيب أطلعه عليه لمصلحة الأمة أو لإكرام الأمة له كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ) ـ إلى قوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤].

وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) إلخ تكملة للتبرؤ من معرفة الغيب ، سواء منه ما كان يخص نفسه وما كان من شئون غيره.

٣٨١

فحصل من مجموع الجملتين أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، في عالم الشهادة وفي عالم الغيب ، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب ، مما فيه نفعه وضره وما عداه.

والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير ، وتجنب السوء ، استدلال بأخص ما لو علم المرء الغيب لعلمه ، أول ما يعلم وهو الغيب الذي يهم نفسه ، ولأن الله لو أراد اطلاعه على الغيب ؛ لكان القصد من ذلك إكرام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيكون اطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي اطلاعه عليه ، فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أولى.

ودلي التالي ، في هذه القضية الشرطية ، هو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية ، وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له السوء.

وجملة : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) من تمام القول المأمور به وهي مستأنفة استينافا بيانيا ، ناشئا عن التبرّؤ من أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا لأن السامعين يتوهمون ما نفاه عن نفسه أخص صفات النبي فمن شأنهم أن يتعجبوا من نفيه ذلك عن نفسه وهو يقول إنه رسول الله إليهم ، ويسألوا عن عمله ما هو بعد أن نفي عنه ما نفي ، فبين لهم أن الرسالة منحصرة في النذارة على المفاسد وعواقبها والبشارة بعواقب الانتهاء عنها واكتساب الخيرات.

وإنما قدم وصف النذير على وصف البشير ، هنا : لأن المقام خطاب المكذبين المشركين ، فالنذارة أعلق بهم من البشارة.

وتقدم الكلام على النذير البشير عند قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩].

وقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يتنازع تعلّقه كل من (نَذِيرٌ) و (بَشِيرٌ) : لأن الانتفاع بالأمرين يختص بالذين تهيئوا إلى الإيمان بأن يتأملوا في الآيات وينهوا من أنفسهم ويقولوا الحق على آبائهم ، دون الذين جعلوا ديدنهم التكذيب والإعراض والمكابرة ، فالمضارع مراد به الحال والاستقبال كما هو شأنه ، ليشمل من تهيأ للإيمان حالا ومآلا ، وأما شموله لمن آمنوا فيما مضى فهو بدلالة فحوى الخطاب إذ هم أولى ، وهذا على حد قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].

وفي نظم الكلام على هذا الأسلوب من التنازع ، وإيلاء وصف (البشير) ب (قوم

٣٨٢

يؤمنون) ، إيهام أن البشارة خاصة بالمؤمنين ، وأن متعلق النذارة المتروك ذكره في النظم هو لأضداد المؤمنين ، أي المشركين ، وهذا المعنى مقصود على نحو قوله تعالى : لتنذر (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) [الأحقاف : ١٢].

وهذه المعاني المستتبعات مقصودة من القرآن ، وهي من وجوه إعجازه لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة.

[١٨٩ ، ١٩٠] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠))

جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم [الأعراف : ١٧٢] الآية ، وليست من القول المأمور به في قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) [الأعراف : ١٨٨] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلم الرسول بالغيب ، وقد تم ذلك ، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاما موجها من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم.

ومناسبة الانتقال جريان ذكر اسم الله في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعراف : ١٨٨] وضمير الخطاب في (خَلَقَكُمْ) للمشركين من العرب ، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير ، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر ، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو آدم وزوجه حواء تمهيدا للمقصود.

وتعليق الفعل باسم الجمع ، في مثله ، في الاستعمال يقع على وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الكل المجموعي ، أي جملة ما يصدق عليه الضمير ، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفس آدم الذي تولد منه جميع البشر.

وثانيهما : أن يكون المراد الكل الجميعي أي خلق كل أحد منكم من نفس واحدة ، فتكون النفس هي الأب ، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣] وقوله : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩].

٣٨٣

ولفظ (نَفْسٍ واحِدَةٍ) وحده يحتمل المعنيين ، لأن في كلا الخلقين امتنانا ، وفي كليهما اعتبارا واتعاضا.

وقد جعل كثير من المفسرين النفس الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد ، وهو المأثور عن الحسن ، وقتادة ، ومشى عليه الفخر ، والبيضاوي وابن كثير ، والأصم ، وابن المنير ، والجبائي.

ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة ، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة ، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالا كثيرا ونساء ، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء.

والذي يظهر لي أن في الكلام استخداما في ضميري (تَغَشَّاها) وما بعده إلى قوله: (فِيما آتاهُما) وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين.

و (من) في قوله : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ابتدائية.

وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل ، لأن المقصود جعل الأنثى زوجا للذكر ، لا الإخبار عن كون الله خلقها ، لأن ذلك قد علم من قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ).

و (من) في قوله : (وَجَعَلَ مِنْها) للتبعيض ، والمراد : من نوعها ، وقوله : (مِنْها) صفة ل (زَوْجَها) قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان.

وقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) تعليل لما أفادته (من) التبعيضية.

والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي : جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها ، ففي ذلك منة الإيناس بها ، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها ، فلو جعل الله التناسل حاصلا بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله ، ولو جعله حاصلا بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه ، بحيث لا تنصرف إليه إلّا للاضطرار بعد التأمل والتردد ، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع ، وفرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان.

٣٨٤

وصيغت هذه الكناية بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة.

وذكّر الضمير المرفوع في فعلي يسكن و (تغشى) : باعتبار كون ما صدق المعاد ، وهو النفس الواحدة ، ذكرا ، وأنّث الضمير المنصوب في (تَغَشَّاها) ، والمرفوع في (حَمَلَتْ). و (مرت) : باعتبار كون ما صدق المعاد وهو زوجها أنثى ، وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر.

ووصف الحمل ب (خَفِيفاً) إدماج ثان ، وهو حكاية للواقع ، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألما ، وليس المراد هنا حملا خاصّا ، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله ، لأن المراد بالزوجين جنسهما ، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى ، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدئ خفيفا كالعدم ، ثم يتزايد رويدا رويدا حتى يثقل ، وفي «الموطأ» «قال : مالك وكذلك (أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف») : الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف ، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١] وقال : (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

وحقيقة المرور : الاجتياز ، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ٧٢] أي : نسى دعاءنا ، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله ، وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف : ١٠٥].

فمعنى (فَمَرَّتْ بِهِ) لم تتفطن له ، ولم تفكر في شأنه ، وكل هذا حكاية للواقع ، وهو إدماج.

والإثقال ثقل الحمل وكلفته ، يقال أثقلت الحامل فهي مثقل وأثقل المريض فهو مثقل ، والهمزة للصيرورة مثل أورق الشجر ، فهو كما يقال أقربت الحامل فهي مقرب إذا أقرب أبان وضعها.

وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب : لما فيه من التذكير بتلك

٣٨٥

الأطوار ، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته ، وبلطفه بالإنسان.

وظاهر قوله : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) أن كل أبوين يدعوان بذلك ، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح ، سواء نطقا بذلك أم أضمراه في نفوسهما ، فإن مدة الحمل طويلة ، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها ، وإنما يكون التمني منهم على الله ، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية ، وبأنه هو خالق المخلوقات ومكونها ، ولا حظ للآلهة إلّا في التصرفات في أحوال المخلوقات ، كما دلت عليه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٣٤] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) في الأنعام [١].

وإن حمل (دَعَوَا) على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر ببالهم الدعاء.

وإجراء صفة (رَبَّهُما) المؤذنة بالرفق والإيجاد : للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله ، أي يذكر أنه باللفظ أو ما يفيد مفاده ، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا : ربنا آتنا صالحا.

وجملة : (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) مبيّنة لجملة (دَعَوَا اللهَ).

و (صالِحاً) وصف جرى على موصوف محذوف ، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره : (ذكرا) وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] أي الذكور.

فالدعاء بأن يؤتيا ذكرا ، وأن يكون صالحا ، أي نافعا : لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق ، وينذران : لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين.

ومعنى (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) وضمير (جَعَلا) للنفس الواحدة وزوجها ، أي جعل الأبوان المشركان.

و «الشّرك» مصدر شركه في كذا ، أي جعلا لله شركة ، والشركة تقتضي شريكا أي جعلا لله شريكا فيما آتاهما الله ، والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم ، إذ لا يجعل رشيد الرأي شريكا لأحد في ملكه وصنعه بدون حق ، فلذلك عرف المشروك فيه بالموصولية فقيل (فِيما آتاهُما) دون الإضمار بأن يقال : جعلا له شركا فيه : لما تؤذن به

٣٨٦

الصلة من فساد ذلك الجعل ، وظلم جاعله ، وعدم استحقاق المجعول شريكا لما جعل له ، وكفران نعمة ذلك الجاعل ، إذ شكر لمن لم يعطه ، وكفر من أعطاه ، وإخلاف الوعد المؤكد.

وجعل الموصول (ما) دون (من) باعتبار أنه عطية ، أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل.

وهذا الشرك لا يخلو عنه أحد من الكفار في العرب ، وبخاصة أهل مكة ، فإن بعض المشركين يجعل ابنه سادنا لبيوت الأصنام ، وبعضهم يحجر ابنه إلى صنم ليحفظه ويرعاه ، وخاصة في وقت الصبا ، وكل قبيلة تنتسب إلى صنمها الذي تعبده ، وبعضهم يسمى ابنه : عبد كذا ، مضافا إلى اسم صنم كما سمّوا عبد العزى ، وعبد شمس ، وعبد مناة ، وعبد يا ليل ، وعبد ضخم ، وكذلك امرؤ القيس ، وزيد مناءة ، لأن الإضافة على معنى التمليك والتعبيد ، وقد قال أبو سفيان ، يوم أحد : «اعل هبل» وقالت امرأة الطفيل لزوجها الطفيل بن عمرو الدوسي حين أسلم وأمرها بأن تسلم «لا نخشى على الصبية من (ذي الشّرى) شيئا» ذو الشرى صنم.

وجملة : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزه الله عن إشراكهم كله : ما ذكر منه آنفا من إشراك الوالدين مع الله فيما آتاهما ، وما لم يذكر من أصناف إشراكهم.

وموقع فاء التفريع في قوله : (فَتَعالَى اللهُ) موقع بديع ، لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلق العجيب ، والمنن العظيمة ، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك ، وليس له شريك بحق ، وهو إنشاء تنزيه غير مقصود به مخاطب.

وضمير الجمع في قوله : (يُشْرِكُونَ) عائد إلى المشركين الموجودين لأن الجملة كالنتيجة لما سبقها من دليل خلق الله إياهم.

وقد روى الترمذي وأحمد : حديثا عن سمرة بن جندب ، في تسويل الشيطان لحواء أن تسمي ولدها عبد الحارث ، والحارث اسم إبليس ، قال الترمذي حديث حسن غريب ، ووسمه ابن العربي في «أحكام القرآن» ، بالضعف ، وتبعه تلميذه القرطبي وبيّن ابن كثير ما في سنده من العلل ، على أن المفسرين ألصقوه بالآية وجعلوه تفسيرا لها ، وليس فيه على ضعفه أنه فسّر به الآية ولكن الترمذي جعله في باب تفسير سورة الأعراف من «سننه».

وقال بعض المفسرين : الخطاب في (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) لقريش خاصة ،

٣٨٧

والنفس الواحدة هو قصي بن كلاب تزوج امرأة من خزاعة فلما آتاهما الله أولادا أربعة ذكورا سمى ثلاثة منهم عبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد الدار ، وسمى الرابع «عبدا» بدون إضافة وهو الذي يدعى بعبد قصي.

وقرأ نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر عنه ، وأبو جعفر : شركا ـ بكسر الشين وسكون الراء ـ أي اشتراكا مع الله ، والمفعول الثاني لفعل جعلا محذوف للعلم به ، أي جعلا له الأصنام شركا ، وقرأ بقية العشرة شركاء ـ بضم الشين جمع شريك ، والقراءتان متحدتان معنى.

وفي جملة : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) محسن من البديع وهو مجيء الكلام متزنا على ميزان الشعر ، من غير أن يكون قصيدة ، فإن هذه الجملة تدخل في ميزان الرمل.

وفيها الالتفات من الخطاب الذي سبق في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وليس عائد إلى ما قبله ، لأن ما قبله كان بصيغة المثنى خمس مرات من قوله : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) ـ إلى قوله ـ (فِيما آتاهُما).

[١٩١ ، ١٩٢] (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢))

هذه الآيات الثلاث كلام «معترض بين الكلامين المسوقين لتوبيخ المشركين وإقامة الحجة عليهم ، مخاطب بها النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون ، للتعجيب من عقول المشركين ، وفيه تعريض بالرد عليهم لأنه يبلغ مسامعهم.

والاستفهام مستعمل في التعجيب والإنكار.

وصيغة المضارع في يشركون دالة على تجدد هذا الإشراك منهم. ونفي المضارع في قوله: (ما لا يَخْلُقُ) للدلالة على تجدد نفي الخالقية عنهم.

وأصل معنى التجدد ، الذي يدل عليه المسند الفعلي ، هو حدوث معنى المسند للمسند إليه ، وأنه ليس مجرد ثبوت وتقرر ، فيعلم منه : أنهم لا يخلقون في الاستقبال ، وأنهم ما خلقوا شيئا في الماضي ، لأنه لو كان الخلق صفة ثابتة لهم لكان متقررا في الماضي والحال والاستقبال.

وضمير الغيبة في (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يجوز عندي : أن يكون عائدا إلى ما عاد إليه

٣٨٨

ضمير (يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠] ، أي : والمشركون يخلقون ، ومعنى الحال زيادة تفظيع التعجيب من حالهم لإشراكهم بالله أصنافا لا تخلق شيئا في حال أن المشركين يخلقون يوما فيوما ، أي يتجدد خلقهم ، والمشركون يشاهدون الأصنام جاثمة في بيوتها ومواضعها لا تصنع شيئا فصيغة المضارع دالة على الاستمرار بقرينة المقام.

ودلالة المضارع على الاستمرار والتكرر دلالة ناشئة عن معنى التجدد الذي في أصل المسند الفعلي ، وهي دلالة من مستتبعات التركيب بحسب القرائن المعيّنة لها ولا توصف بحقيقة ولا مجاز لذلك ، ومعنى تجدد مخلوقيتهم : هو أن الضمير صادق بأمة وجماعة ، فالمخلوقية لا تفارقهم لأنها تتجدد آنا فآنا بازدياد المواليد ، وتغير أحوال المواجيد ، كما قال تعالى (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [الزمر : ٦] فتكون جملة : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) حالا من ضمير (أَيُشْرِكُونَ).

والمفسرون أعادوا ضمير و (هُمْ يُخْلَقُونَ) على ما لا يخلق ، أي الأصنام ، ولم يبينوا معنى كون الأصنام مخلوقة وهي صور نحتها الناس ، وليست صورها مخلوقة لله ، فيتعين أن المراد أن مادتها مخلوقة وهي الحجارة.

وجعلوا إجراء ضمائر العقلاء في قوله (وَهُمْ) ـ وقوله ـ (يُخْلَقُونَ) وما بعده على الأصنام وهي جمادات لأنهم نزلوا منزلة العقلاء ، بناء على اعتقاد المحجوجين فيهم ، ولا يظهر على لهذا التقدير وجه الإتيان بفعل يخلقون بصيغة المضارع لأن هذا الخلق غير متجدد.

والضمير المجرور باللام في (لَهُمْ نَصْراً) عائد إلى المشركين ، لأن المجرور باللام بعد فعل الاستطاعة ونحوه هو الذي لأجله يقع الفعل مثل (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) [العنكبوت : ١٧].

وجملة : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) عطف على جملة : (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) فتكون صلة ثانية.

والقول في الفعلين من (لا يَسْتَطِيعُونَ) ـ و (لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) كالقول في (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً).

وتقديم المفعول في (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم ، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لأن من يقصّر في نصر غيره لا يقصّر في نصر نفسه لو قدر.

٣٨٩

والمعنى : أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم إن رام أحد الاعتداء عليها.

والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم ، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم ، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وتراث ، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) [يس : ٧٤ ، ٧٥] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨١ ، ٨٢] ، قال أبو سفيان يوم أحد «اعل هبل» ـ وقال أيضا ـ «لنا العزى ولا عزى لكم» وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضا بالبشارة بأن المشركين سيغلبون قال (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران: ١٢] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))

يجوز أن يكون عطفا على جملة (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) [الأعراف : ١٩١] زيادة في التعجيب من حال المشركين بذكر تصميمهم على الشرك على ما فيه من سخافة العقول ووهن الدليل ، بعد ذكر ما هو كاف لتزييفه.

فضمير الخطاب المرفوع في (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) موجه إلى المسلمين مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضمير جمع الغائب المنصوب عائد إلى المشركين كما عاد ضمير (أَيُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩١] فبعد أن عجّب الله المسلمين من حال أهل الشرك أنبأهم بأنهم لا يقبلون الدعوة إلى الهدى.

ومعنى ذلك أنه بالنظر إلى الغالب منهم ، وإلا فقد آمن بعضهم بعد حين وتلاحقوا بالإيمان ، عدا من ماتوا على الشرك.

وهذا الوجه هو الأليق بقوله تعالى بعد ذلك (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) [الأعراف : ١٩٨] الآية ليكون المخبر عنهم في هذه الآية غير المخبر عنهم في الآية الآتية ، لظهر تفاوت الموقع بين (لا يَتَّبِعُوكُمْ) وبين (لا يَسْمَعُوا) [الأعراف : ١٩٨].

٣٩٠

ويجوز أن تكون جملة (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) إلخ معطوفة على جملة الصلة في قوله : (لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف : ١٩١] فيكون ضمير الخطاب في (تَدْعُوهُمْ) خطابا للمشركين الذين كان الحديث عنهم بضمائر الغيبة من قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠] إلى هنا ، فمقتضى الظاهر أن يقال : وإن يدعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم ، فيكون العدول عن طريق الغيبة إلى طريق الخطاب التفاتا من الغيبة إلى الخطاب توجها إليهم بالخطاب ، لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة.

و (الْهُدى) على هذا الوجه ما يهتدى إليه ، والمقصود من ذكره أنهم لا يستجيبون إذا دعوتموهم إلى ما فيه خيرهم فيعلم أنهم لو دعوهم إلى غير ذلك لكان عدم اتباعهم دعوتهم أولى.

وجملة : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) مؤكدة لجملة (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) فلذلك فصلت.

و (سَواءٌ) اسم للشيء المساوي غيره أي ليس أولى منه في المعنى المسوق له الكلام والهمزة التي بعد (سَواءٌ) يقال لها همزة التسوية ، وأصلها همزة الاستفهام استعملت في التسوية ، كما تقدم عند قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) في سورة البقرة [٦] ، أي سواء دعوتكم إياهم وصمتكم عن الدعوة.

و (على) فيها للاستعلاء المجازي وهي بمعنى العندية أي : سواء عندهم. وإنما جعل الأمران سواء على المخاطبين ولم يجعلا سواء على المدعوين فلم يقل سواء عليهم ، وإن كان ذلك أيضا سواء عليهم ، لأن المقصود من الكلام هو تأييس المخاطبين من استجابة المدعوين إلى ما يدعونهم إليه لا الإخبار ، وإن كان المعنيان متلازمين كما أنهما في قوله (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] متلازمان فإن الإنذار وعدمه سواء : على المشركين ، وعلى المؤمنين ، ولكن الغرض هنالك بيان انعدام انتفاعهم بالهدى.

وهذا هو القانون للتفرقة بين ما يصح أن يسند فيه فعل التسوية إلى جانبين وبين ما يتعين أن يسند فيه إلى جانب واحد إذا كانت التسوية لا تهم إلا جانبا واحدا ، كما في قوله تعالى : (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور : ١٦] فإنه يتعين أن تجعل التسوية بالنسبة للمخاطبين ، ولا يحسن أن يقال سواء علينا ـ وكقوله : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١] فإنه يتعين أن تكون التسوية بالنسبة إلى المتكلمين.

٣٩١

ووقع قوله : (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) معادل أدعوتموهم مع اختلاف الأسلوب بين الجملتين بالفعلية والاسمية ، فلم يقل : أم صمتم ، ففي «تفسير القرطبي» ، عن ثعلب : أن ذلك لأنه رأس آية (أي لمجرد الرعاية على الفاصلة) قال : وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد ، (أي الفعل والوصف المشتق منه سواء) يريد لا تفاوت بينهما في أصل المعنى ، لأن ما بعد همزة التسوية لما كان في قوة المصدر لم يكن فيه أثر للفرق بين الفعل والاسم إذ التقدير : سواء عليكم دعوتكم إياهم وصمتكم عنهم ، فيكون العدول إلى الجملة الاسمية ليس له مقتض من البلاغة بل هما عند البليغ سيان ، ولكن العدول إلى الاسمية من مقتضى الفصاحة ، لأن الفواصل والأسجاع من أفانين الفصاحة ، وفيهما تظهر براعة الكلام إذ يكون فيه إيفاء بحق الفاصلة مع السلامة من التكلف ، كما تظهر براعة الشاعر في توفيته بحق القافية إذا سلم مع ذلك من التكلف ، قال المرزوقي في ديباجة «شرحه على الحماسة» «والقافية يجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوقها المعنى بحقه ، واللفظ بقسطه ، وإلا كانت قلقة في مقرها مجتلبة لمستغن عنها».

والتحقيق أن الجملة الاسمية دلت على ثبوت الوصف المتضمنة ، مع عدم تقييد بزمان ولا إفادة تجدد ، بخلاف الفعلية ، وهو صريح كلام الشيخ في «دلائل الاعجاز» ، والسكاكي في «المفتاح» ، لكن كلام الزمخشري في هذه الآية ينادي على أن جملة : (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) دالة على استمرار صمتهم ، وكذلك كلام السكاكي في إبداء الفرق بين الجملتين في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨] وفي قوله تعالى : (قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] مع قوله عقبه : (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] ، وظاهر كلام الشيرازي في «شرح المفتاح» أن الثبوت يستلزم الاستمرار ، وقال الشارح التفتازاني ، في «شرح المفتاح» : الحق أن الجملة الاسمية التي تكون عدولا عن الفعلية تفيد الدوام الذي هو كالثبوت ، وفسر في «شرح تلخيص المفتاح» الثبوت بمقارنة الدوام ، وأما السيد في «شرح المفتاح» ، و «حاشيته على المطول» ، فقد جعل الجملة الاسمية قد يقصد بها الدوام إثباتا ونفيا بحسب المقامات.

وعندي أن الجملة الاسمية لا تفيد أكثر من الثبوت المقابل للتجدد ، وأما الاستمرار والدوام فهو معنى كنائي لها يحتاج في استفادته إلى القرينة المعيّنة وهي منفية هنا ، فالمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم دعوة متجددة أم لازمتم الصمت ، وليس المعنى على الدوام ، وقد احتاج صاحب «الكشاف» إلى بيانه بطريقة الدقة بإيراد السؤال والجواب على

٣٩٢

عادته ، وأيّا ما كان فالعدول عن الجملة الفعلية في معادل التسوية اقتضاه الحال البلاغي خلافا لثعلب.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤))

هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب ، بقوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) [الأعراف : ١٩٣] الآية ، النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافا ابتدائيا انتقل به إلى مخاطبة المشركين ، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية ، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

والمراد بالذين تدعون من دون الله : الأصنام ، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطأ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله ، في حين هي ليست أهلا لذلك ، فهذا الموصول كالموصول في قول عبدة بن الطبيب :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

ويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق : أن تكون هذه الجملة بيانا وتعليلا لجملة (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) [الأعراف : ١٩٣] أي لأنهم عباد أي مخلوقون.

و (العبد) أصله المملوك ، ضد الحر ، كما في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة : ١٧٨] وقد أطلق في اللسان على المخلوق : كما في قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] ولذلك يطلق العبد على الناس ، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاق العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق ، وجعله صاحب «الكشاف» اطلاق تهكم واستهزاء بالمشركين ، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم ، قال ولذلك أبطل أن يكونوا عبادا بقوله (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ) [الأعراف : ١٩٥] إلى آخره.

والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازا بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة.

٣٩٣

وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله (فَادْعُوهُمْ) فإنه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) المضمن إجابة الأصنام إياهم ، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة ، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم ، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لانهاض حجتهم ، فئال ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين ، قال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤].

والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأيّة حرب أم بأي مكان.

وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كناية عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم ، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبه الاستجابة.

والأمر باللام في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا) أمر تعجيز للأصنام ، وهو أمر الغائب فإن طريق أمر الغائب هو الأمر.

ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلّغ الأمر للغائب.

وهذا أيضا كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابة لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها.

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها).

تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز ، لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة ، وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها ، والاستفهام إنكاري وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بانتفاء الملك الذي دلت عليه اللام كالتقديم في قول حسان :

له همم لا منتهى لكبارها

٣٩٤

ووصف الأرجل ب (يَمْشُونَ) والأيدي ب (يَبْطِشُونَ) والأعين ب (يُبْصِرُونَ) والآذان ب (يَسْمَعُونَ) إما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر ، وإما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل ، وذي الكفين ، وكعيب في صور الرجال ، ومثل سواع كان على صورة امرأة ، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان ، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح ، فلا يطمع طامع في نصرها ، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان ، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر ، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة ، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد ، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد.

والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالا متواليا.

والبطش الأخذ باليد بقوة ، والإضرار باليد بقوة ، وقد جاء مضارعه بالكسر والضم على الغالب. وقراءة الجمهور بالكسر ، وقرأ أبو جعفر : بضم الطاء ، وهما لغتان.

و (أَمْ) حرف بمعنى (أو) يختص بعطف الاستفهام ، وهي تكون مثل (أو) لأحد الشيئين أو الأشياء ، وللتمييز بين الأشياء ، أو الإباحة أي الجمع بينها ، فإذا وقعت بعد همزة الاستفهام المطلوب بها التعيين كانت مثل (أو) التي للتخيير ، كقوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس : ٥٩] أي عينوا أحدهما ، وإن وقعت بعد استفهام غير حقيقي كانت بمعنى (أو) التي للإباحة ، وتسمى ، حينئذ منقطعة ولذلك يقولون إنها بمعنى (بل) الانتقالية وعلى كل حال فهي ملازمة لمعنى الاستفهام فكلما وقعت في الكلام قدر بعدها استفهام ، فالتقدير هنا ، بل ألهم أيد يبطشون بها ، بل ألهم أعين يبصرون بها ، بل ألهم آذان يسمعون بها.

وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض ، الذي هو النصر والنجدة ، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل ، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب ، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا ، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرءان في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي.

(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ).

إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على

٣٩٥

الكيد للرسول عليه‌السلام ، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم علي فتستريحوا مني.

والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإضرار ، كما تقدم عند قوله تعالى آنفا (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف : ١٨٣].

والأمر والنهي في قوله : (كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) للتعجيز.

وقوله : (فَلا تُنْظِرُونِ) تفريع على الأمر بالكيد ، أي فإذا تمكنتم من اضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني.

وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم ، وأن يكون الإضرار به خفيا ، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر ، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم.

وحذفت ياء المتكلم من (كِيدُونِ) في حالتي الوقف والوصل ، في قراءة الجمهور غير أبي عمرو ، وأما (تَنْظُرُونَ) فقرأه الجميع : بحذف الياء إلا يعقوب أثبتها وصلا ووقفا ، وحذف ياء المتكلم بعد نون الوقاية جدّ فصيح.

[١٩٦ ، ١٩٧] (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧))

هذا من المأمور بقوله ، وفصلت هذه الجملة عن جملة (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) [الأعراف : ١٩٥] لوقوعها موقع العلة لمضمون التحدي في قوله (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) [الأعراف : ١٩٥] الآية الذي هو تحقق عجزهم عن كيده ، فهذا تعليل لعدم الاكتراث بتألبهم عليه واستنصارهم بشركائهم ، ولثقته بأنه منتصر عليهم بما دل عليه الأمر والنهي التعجيزيان. والتأكيد لرد الإنكار.

والولي الناصر والكافي ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤].

وإجراء الصفة لاسم الله بالموصولية لما تدل عليه الصلة من علاقات الولاية ، فإن إنزال الكتاب عليه وهو أمي دليل اصطفائه وتوليه.

والتعريف في الكتاب للعهد ، أي الكتاب الذي عهدتموه وسمعتموه وعجزتم عن

٣٩٦

معارضته وهو القرآن ، أي المقدار الذي نزل منه إلى حد نزول هذه الآية.

وجملة : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) معترضة والواو اعتراضيه.

ومجيء المسند فعلا مضارعا لقصد الدلالة على استمرار هذا التولي وتجدده وأنه سنّة إلهية ، فكما تولى النبي يتولى المؤمنين أيضا ، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينصرهم الله كما نصر نبيه وأولياءه.

والصالحون هم الذين صلحت أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح.

وجملة : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) عطف على جملة : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) ، وسلوك طريق الموصولية في التعبير عن الأصنام للتنبيه على خطأ المخاطبين في دعائهم إياها من دون الله مع ظهور عدم استحقاقها للعبادة ، بعجزها عن نصر أتباعها وعن نصر أنفسها والقول في (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) كالقول في نظيره السابق آنفا.

وأعيد لأنه هنا خطاب للمشركين وهنالك حكاية عنهم للنبي والمسلمين ولإبانة المضادة بين شأن ولي المؤمنين وحال أولياء المشركين وليكون الدليل مستقلا في الموضعين مع ما يحصل في تكريره من تأكيد مضمونه.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

عطف على جملة (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) [الأعراف : ٩٧] الآية أي قل للمشركين : وإن تدعوا الذين تدعون من دون الله إلى الهدى لا يسمعوا.

والضمير المرفوع للمشركين ، والضمير المنصوب عائد إلى الذين تدعون من دونه ، أي الأصنام.

والهدى على هذا الوجه ما فيه رشد ونفع للمدعو. وذكر (إِلَى الْهُدَى) لتحقيق عدم سماع الأصنام ، وعدم إدراكها ، لأن عدم سماع دعوة ما ينفع لا يكون إلا لعدم الإدراك.

ولهذا خولف بين قوله هنا (لا يَسْمَعُوا) وقوله في الآية السابقة (لا يَتَّبِعُوكُمْ) [الأعراف : ١٩٣] لأن الأصنام لا يتأتى منها الاتباع ، إذ لا يتأتى منها المشي الحقيقي ولا المجازي أي الامتثال.

٣٩٧

والخطاب في قوله (وَتَراهُمْ) لمن يصلح أن يخاطب فهو من خطاب غير المعين.

ومعنى ينظرون إليك على التشبيه البليغ ، أي تراهم كأنهم ينظرون إليك ، لأن صور كثير من الأصنام كان على صور الأناسي وقد نحتوا لها أمثال الحدق الناظرة إلى الواقف أمامها قال في «الكشاف» «لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلّب حدقته إلى الشيء ينظر إليه».

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩))

أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهدي دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم ، وقد تخلل ذلك كلّه التسجيل بمكابرتهم ، والتعجيب منهم كيف يركبون رءوسهم ، وكيف ينأون بجانبهم ، وكيف يصمون أسماعهم ، ويغمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه ، ونظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم ، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب ، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك ، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم ، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين ، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى ، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين ، ومسلاة للنبي وللمسلمين ، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائهم إلى الخير ، لا جرم شرع في استيناف غرض جديد ، يكون ختاما لهذا الخوض البديع ، وهو غرض أمر الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم ، وبأن يسعوهم من عفوهم والدأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) الآيات.

والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره ، كما يقال : أخذت العدو من تلابيبه ، ولذلك يقال في الأسير أخيذ ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازا فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها ، فيشبّه ذلك التلبس واختياره على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء ، فمعنى (خذ العفو) : عامل به واجعله وصفا ولا تتلبس بضده. وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات القرآن ولذلك ارجع أن البيت المشهور وهو :

٣٩٨

خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

هو لأبي الأسود الدؤلي ، وأنه اتبع استعمال القرآن ، وأن نسبته إلى أسماء بن خارجة الفزاري أو إلى حاتم الطائي غير صحيحة.

والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذنبه وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] وقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) في سورة البقرة [١٠٩] ، والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين.

وقد عمت الآية صور العفو كلها : لأن التعريف في العفو تعريف الجنس فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيره من معنى الحقيقة والعهد ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعفو ويصفح وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم ، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم كما قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] ، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية مثل العفو عن القاتل غيلة ، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله ، والرسول أعلم بمقدار ما يخص من هذا العموم ، وقد يبينه الكتاب والسنة وألحق به ما يقاس على ذلك المبين ، وفي قوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ضابط عظيم لمقدار تخصيص الأمر بالعفو.

ثم العفو عن المشركين المقصود هنا أسبق أفراد هذا العموم إلى الذهن من بقيتها ولم يفهم السلف من الآية غير العموم ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال «قدم عيينة بن حصن المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان الحر بن قيس من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، فقال عيينة لابن أخيه لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فأستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر ، فلما دخل عليه قال «هيه يا ابن الخطاب ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل» فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به فقال له الحر : «يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافا عند كتاب الله» وفيه عن عبد الله بن الزبير قال «ما أنزل الله ذلك إلا في أخلاق الناس» ومن قال إن هذه الآية نسختها آيات القتال فقد وهم : لأن العفو باب آخر ، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص في اصطلاح

٣٩٩

أصول الفقه.

والعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال وهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده ، وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة :

فلا النّكر معروف ولا العرف ضايع

فقابل النكر بالعرف ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في سورة آل عمران [١١٠].

والأمر يشمل النهي عن الضد ، فإن النهي عن المنكر أمر بالمعروف ، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الإيجاز ، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا : لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحدا بعد واحد ، كما ورد في حديث معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن فإنه أمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ثم قال : «فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات» ولو كانت دعوة المشركين مبتدأة بالنهي عن المنكر لنفروا ولملّ الداعي ، لأن المناكير غالبة عليهم ومحدقة بهم ، ويدخل في الأمر بالعرف الاتسام به والتخلق بخلقه : لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفا بمثله. وإلا فقد تعرض للاستخفاف على أن الآمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود :

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

على أن خطاب القرآن الناس بأن يأمروا بشيء يعتبر أمرا للمخاطب بذلك الشيء وهي المسألة المترجمة في أصول الفقه بأن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء. والتعريف في العرف كالتعريف في (الْعَفْوَ) يفيد الاستغراق.

وحذف مفعول الأمر لافادة عموم المأمورين (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس: ٢٥] ، أمر الله رسوله بأن يأمر الناس كلهم بكل خير وصلاح فيدخل في هذا العموم المشركون دخولا أوليا لأنهم سبب الأمر بهذا العموم أي لا يصدنك إعراضهم عن إعادة إرشادهم وهذا كقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) [النساء : ٦٣].

والإعراض : إدارة الوجه عن النظر للشيء. مشتق من العارض وهو الخد ، فإن الذي

٤٠٠