تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

بأسمائه الدالة على عظيم صفات الإلهية ، والدوام على ذلك ، وأن يعرضوا عن شغب المشركين وجدالهم في أسماء الله تعالى.

وقد كان من جملة ما يتورك به المشركون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، أن أنكروا اسمه تعالى الرحمن ، وهو إنكار لم يقدمهم عليه جهلهم بأن الله موصوف بما يدل عليه وصف (رحمان) من شدة الرحمة ، وإنما أقدمهم عليه ما يقدم كل معاند من تطلب التغليظ والتخطئة للمخالف ، ولو فيما يعرف أنه حق ، وذكر ابن عطية ، وغيره. أنه روي في سبب نزول قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ، ومرة يقرأ فيذكر الرحمن فقال أبو جهل «محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة» فنزلت هذه الآية.

فعطف هذه الآية على التي قبلها عطف الإخبار عن أحوال المشركين وضلالهم ، والغرض منها قوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ).

وتقديم المجرور المسند على المسند إليه ؛ لمجرد الاهتمام المفيد تأكيد استحقاقه إياها ، المستفاد من اللام ، والمعنى أن اتسامه بها أمر ثابت ، وذلك تمهيد لقوله : (فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) ، وقد التزم مثل هذا التقديم في جميع الآي التي في هذا الغرض مثل قوله في سورة الإسراء [١١٠] (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وسورة طه [٨] (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وفي سورة الحشر [٢٤] (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، وكل ذلك تأكيد للرد على المشركين أن يكون بعض الأسماء الواردة في القرآن أو كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسماء لله تعالى بتخييلهم أن تعدد الاسم تعدد للمسمى تمويها على الدهماء.

والأسماء هي الألفاظ المجعولة أعلاما على الذات بالتخصيص أو بالغلبة فاسم الجلالة وهو (الله) علم على ذات الإله الحق بالتخصيص ، شأن الأعلام ، و (الرحمن) و (الرحيم) اسمان لله بالغلبة ، وكذلك كل لفظ مفرد دل على صفة من صفات الله ، وأطلق إطلاق الأعلام نحو الرب ، والخالق ، والعزيز ، والحكيم ، والغفور ، ولا يدخل في هذا ما كان مركّبا إضافيا نحو : ذو الجلال ، ورب العرش ، فإن ذلك بالأوصاف أشبه ، وإن كان دالا على معنى لا يليق إلا بالله نحو : ملك يوم الدين [الفاتحة : ٤].

والحسنى مؤنث الأحسن ، وهو المتصف بالحسن الكامل في ذاته ، المقبول لدى العقول السليمة المجردة عن الهوى ، وليس المراد بالحسن الملاءمة لجميع الناس ، لأن الملاءمة وصف إضافة نسبي ، فقد يلائم زيدا ما لا يلائم عمرا ، فلذلك فالحسن صفة ذاتية

٣٦١

للشيء الحسن.

ووصف الأسماء ب (الْحُسْنى) : لأنها دالة على ثبوت صفات كمال حقيقي ، أما بعضها فلأن معانيها الكاملة لم تثبت إلا لله نحو الحي ، والعزيز ، والحكيم ، والغني ، وأما البعض الآخر فلأن معانيها مطلقا لا يحسن الاتصاف بها إلا في جانب الله نحو المتكبر ، والجبّار ، لأن معاني هذه الصفات وأشباهها كانت نقصا في المخلوق من حيث أن المتسم بها لم يكن مستحقا لها لعجزه أو لحاجته ، بخلاف الإله ، لأنه الغني المطلق ، فكان اتصاف المخلوق بها منشأ فساد في الأرض ، وكان اتصاف الخالق بها منشأ صلاح ، لأنها مصدر العدالة والجزاء القسط.

والتفريع في قوله : (فَادْعُوهُ بِها) تفريع عن كونها أسماء له ، وعن كونها حسنى ، أي فلا حرج في دعائه بها ؛ لأنها أسماء متعددة لمسمى واحد ، لا كما يزعم المشركون ، ولأنها حسنى فلا ضير في دعاء الله تعالى بها. وذلك يشير إلى أن الله يدعى بكل ما دل على صفاته وعلى أفعاله.

وقد دلت الآية على أن كل ما دل على صفة الله تعالى وشأن من شئونه على وجه التقريب للأفهام بحسب المعتاد يسوغ أن يطلق منه اسم لله تعالى ما لم يكن مجيئه على وجه المجاز نحو (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] أو يوهم معنى نقص في متعارف الناس نحو الماكر من قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤].

وليست أسماء الله الحسنى منحصرة في التسعة والتسعين الواردة في الحديث الصحيح عن الأعرج ، وعن أبي رافع ، وعن همام بن منبه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» لأن الحديث الصحيح ليس فيه ما يقتضي حصر الأسماء في ذلك العدد ، ولكن تلك الأسماء ذات العدد لها تلك المزية ، وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا فقال يا حنّان يا منّان ولم يقع هذان الاسمان فيما روي من التسعة والتسعين ، وليس في الحديث المروي بأسانيد صحية مشهورة تعيين الأسماء التسعة والتسعين ، ووقع في «جامع الترمذي» من رواية شعيب بن أبي حمزة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة بعد قوله : «دخل الجنة» هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى آخرها ، فعيّن صفات لله تعالى تسعا وتسعين ، وهي المشهورة بين الذين تصدوا لبيانها ، قال الترمذي : «هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث ، ولا نعلم في شيء من الروايات لها إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا

٣٦٢

في هذا الحديث».

وتعيين هذه الأسماء لا يقتضي أكثر من أن مزيتها أن من أحصاها وحفظها دخل الجنة ، فلا يمنع أن تعد لله أسماء أخرى. وقد عد ابن برّجان الإشبيلي في كتابه «أسماء الله الحسنى» مائة واثنتين وثلاثين اسما مستخرجة من القرآن والأحاديث المقبولة ، وذكر القرطبي : أن له كتابا سماه «الأسنى في شرح الأسماء الحسنى» ذكر فيه من الأسماء ما ينيف على مائتي اسم ، وذكر أيضا أن أبا بكر بن العربي ذكر عدة من أسمائه تعالى مثل متمّ نوره ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، ورابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، والطيب ، والمعلم إلخ.

ولا تخفى سماجة عد نحو رابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، فإنها وردت في القرآن في سياق المجاز الواضح ولا مناص من تحكيم الذوق السليم ، وليس مجرد الوقوف عند صورة ظاهرة من اللفظ ، وذكر ابن كثير في «تفسيره» عن كتاب «الأحوذي في شرح الترمذي» لعله يعني «عارضة الأحوذي» «أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم» ولم أجده في نسخ «عارضة الأحواذي» لابن العربي ، ولا ذكره القرطبي وهو من خاصة تلاميذ ابن العربي ، والموجود في كتاب «أحكام القرآن» له أنه حضره منها مائة وستة وأربعون اسما وساقها في كتاب «الأحكام» ، وسقط واحد منها في المطبوعة ، وذكر أنه أبلغها في كتابه «الآمد» (أي «الأمد الأقصى») في شرح الأسماء إلى مائة وستة وسبعين اسما.

قال ابن عطية : واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحا خالصا ، ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصا هل يطلق ويسمى الله به ، فنص الباقلاني على جواز ذلك ، ونص أبي الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاء والجمهور على المنع ، والصواب : أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ، وأن يكون مدحا خالصا لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه ، إلا الأقل من أهل العلوم ، فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان ، فادخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعا. واختلف في الأفعال التي في القرآن نحو (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] و (مَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ونحو ذلك هل يطلق منها اسم الفاعل ، فقالت فرقة : لا يطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيّدا بسببه نحو : الله ماكر بالذين يمكرون بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعا.

٣٦٣

والمراد من ترك (الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) الإمساك عن الاسترسال في محاجتهم لظهور أنهم غير قاصدين معرفة الحق ، أو ترك الإصغاء لكلامهم ؛ لئلا يفتنوا عامة المؤمنين بشبهاتهم ، أي اتركوهم ولا تغلّبوا أنفسكم في مجادلتهم ، فإني سأجزيهم وقد تقدم معنى «ذر» عند قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) في سورة الأنعام [٧٠].

والإلحاد : الميل عن وسط الشيء إلى جانبه ، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها ، ولما كان وسط الشيء يشبّه به الحق والصواب ، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد ، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد ، ويعدى حينئذ ب (في) لتنزيل المجرور بها منزلة المكان للإلحاد ، والأكثر أن يكون ذلك عن تعمد للإفساد ، ويقال : لحد وألحد ، والأشهر ألحد.

وقرأ من عدا حمزة (يُلْحِدُونَ) ـ بضم الياء وكسر الحاء ـ من ألحد المهموز ، وقرأه حمزة وحده : بفتح الياء والحاء ، من لحد المجرد.

وإضافة الأسماء إلى الله تؤذن بأن المقصود أسماؤه التي ورد في الشرع ما يقتضي تسميته بها.

ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهرا من مظاهر الكفر ، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له ، وهو الأحق بكمال مدلولها فإنهم أنكروا الرحمن ، كما تقدم ، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ، ولمز النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة ، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال ، فحق بأن يسمى إلحادا ؛ لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد.

وهذا يناسب أن يكون حرف (في) من قوله : (فِي أَسْمائِهِ) مستعملا في معنى التعليل كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دخلت امرأة النار في هرة» الحديث ، وقول عمر بن أبي ربيعة :

وعصيت فيك أقاربي فتقطعت

بيني وبينهم عرى أسبابي

وقد جوّز المفسرون احتمالات أخرى في معنى الإلحاد في أسمائه : منها ثلاثة ذكرها الفخر ، وأنا لا أراها ملاقية لإضافة الأسماء إلى ضميره تعالى ، كما لا يخفى عن الناظر فيها.

وجملة : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تتنزل منزلة التعليل للأمر بترك الملحدين ،

٣٦٤

فلذلك فصلت ، أي لا تهتموا بإلحادهم ولا تحزنوا له ، لأن الله سيجزيهم بسوء صنيعهم ، وسمي إلحادهم عملا ؛ لأنه من أعمال قلوبهم وألسنتهم.

و (ما) موصولة عامة أي سيجزون بجميع ما يعملونه من الكفر ، ومن جملة ذلك إلحادهم في أسمائه.

والسين للاستقبال ، وهي تفيد تأكيد.

وقيل : (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) دون ما عملوا أو ما يعملون للدلالة على أن ذلك العمل سنة لهم ومتجدد منهم.

[١٨١ ـ ١٨٣] (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))

عطف على جملة : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] الآية ، والمقصود : التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم ، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم ، أي عرّض عن المشركين ، فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين ، فما صدق «الأمة» هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق بعض النفوس حمامها

يريد نفسه فإنها بعض النفوس. روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها».

وقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة.

والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن ، وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء ؛ ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في سورة الأنعام [٥٧].

والاستدراج مشتق من الدّرجة ـ بفتحتين ـ وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرّجل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيرا للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج ، وهي أيضا واحدة الأعواد المصوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها ، وتسمى هذه الدرجة مرقاة ، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب ، أي طلب منه أن

٣٦٥

يتدرج ، أي صاعدا أو نازلا ، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره ، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك ، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة ، فإنه مبني على تشبيه حسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان ، والقرينة تعيّن المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا.

ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئا استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار ، ف (حَيْثُ) هنا للمكان على أصلها ، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه ، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه ، والتقدير : لا يعلمون تدرجه ، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له.

والإملاء إفعال وهو الإمهال ، وهمزة هذا المصدر منقلبة عن واو ، مشتق من الملاوة مثلثة الميم ، وهي مدة الحياة يقال أملاه وملاه إذا أمهله وأخّره ، كلاهما بالألف دون همز فهو قريب من معنى عمره ، ولذلك يقال في الدعاء بالحياة ملاك الله.

واللام في قوله : (لَهُمْ) هي اللام التي تسمى : لام التبيين ، ولها استعمالات كثيرة فيها خفاء ومرجعها : إلى أنها يقصد منها تبيين اتصال مدخولها بعامله لخفاء في ذلك الاتصال ، فإن اشتقاق أملى من الملو اشتقاق غير مكين ، لأن المشتق منه ليس فيه معنى الحدث ، فلم يجيء منه فعل مجرد ، فاحتيج إلى اللام ، لتبيين تعلق المفعول بفعله.

وأما قولهم : أملى للبعير بمعنى أطال له في طوله في المرعى ، فهو جاء من هذا المعنى بضرب من المجاز أو الاستعارة.

فجملة : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في موضع العلة للجملتين قبلها ، فإن الاستدراج والإملاء ضرب من الكيد ، وكيد الله متين أي قوي لا انفلات منه للمكيد.

وموقع (إن) هنا موقع التفريع والتعليل ، كما قال عبد القاهر : إنها تغني في مثل هذا الموقع غناء الفاء ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) في سورة آل عمران [٩٦] ، أي : يكون ذلك الاستدراج وذلك الاملاء بالغين ما أردناه بهم لأن كيدي قوي.

٣٦٦

ولما كان (أُمْلِي) معطوفا على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) ، فهو مشارك له في الدخول تحت حكم الاستقبال ، أي : وسأملي لهم.

والمغايرة بين فعلي (نستدرج) و (أملي) في كون ثانيهما بهمزة المتكلم ، وأولهما بنون العظمة مغايرة اقتضتها الفصاحة من جهة ثقل الهمزة بين حرفين متماثلين في النطق في (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) وللتفنن والاكتفاء بحصول معنى التعظيم الأول.

و (الكيد) لم يضبط تحديد معناه في كتب اللغة ، وظاهرها أنه يرادف المكر والحيلة ، وقال الراغب : «ضرب من الاحتيال ، وقد يكون مذموما وممدوحا وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وهو يقتضي أن الكيد أخص من الاحتيال وما ذلك إلا لأنه غلب استعماله في الاحتيال على تحصيل ما لو اطلع عليه المكيد لاحترز منه ، فهو احتيال فيه مضرة ما على المفعول به ، فمراد الراغب بالمذموم المذموم عند المكيد لا في نفس الأمر» وقال ابن كمال باشا : الكيد الأخذ على خفاء ، ولا يعتبر فيه إظهار الكائد خلاف ما يبطنه.

ويتحصل من هذه التدقيقات : أن الكيد أخص من الحيلة ومن الاستدراج.

ووقوع جملة : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) موقع التعليل يقتضي أن استدراجهم والإملاء لهم كيد ، فيفيد أنه استدراج إلى ما يكرهونه ، وتأجيل لهم إلى حلول ما يكرهونه ، لأن مضمون الجملة الثانية على هذا شامل لمضمون الجملة السابقة مع زيادة الوصف ، المتين ، ما لو حمل الكيد على معنى الأخذ على خفاء بقطع النظر عن إظهار خلاف ما يخفيه ، فإن جملة : إن كيدي متين لا تفيد إلا تعليل الاستدراج والإملاء بأنهما من فعل من يأخذ على خفاء دون تلوين أخذه بما يغر المأخوذ ، فكأنه قال : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون كائدين لهم ، إن كيدي متين.

وإطلاقه هنا جاء على طريقة التمثيلية بتشبيه الحال التي يستدرج الله بها المكذبين مع تأخير العذاب عنهم إلى أمد هم بالغوه ، بحال من يهيئ أخذا لعدوه مع إظهار المصانعة والمحاسنة ؛ ليزيد عدوه غرورا ، وليكون وقوع ضر الأخذ به أشد وأبعد عن الاستعداد لتلقيه.

و (المتين) القوي ، وحقيقته القوي المتن أي الظهر ، لأن قوة متنه تمكنه من الأعمال الشديدة ، ومتن كل شيء عموده وما يتماسك به.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤))

٣٦٧

لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثا عن تكذيبهم من جاء بها ، وناشئا عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر ، وأن من يدعي أنه مرسل من الله مجنون ، عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول ، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون.

واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) في سورة البقرة [٨٧].

والجملة مستأنفة ، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم.

والاستفهام للتعجيب من حالهم والإنكار عليهم ، و (ما) في قوله : (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) نافية كما يؤذن به دخول (من) على منفى ما ، لتأكيد الاستغراق.

وفعل (يَتَفَكَّرُوا) منزل منزلة اللازم ، فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله : (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر ، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق.

والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة ، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه ، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٥] هو في قوة أن يقال : لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون ، أي ذلك علمك وهذا علمي ، وقوله هنا : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) في قوة : أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون ، ما بصاحبهم من جنة. فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز ، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم ينبه عليه علماء المعاني ، وأن خصائص العربية لا تنحصر.

و «الصاحب» حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه ، ومنه قوله تعالى : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) [يوسف : ٤١] ، وسميت الزوجة صاحبة ، ويطلق مجازا على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر ، تنزيلا لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ، ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته ، أم معبد ، لما أخبرته بدخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركته : «هذا صاحب قريش» ، وقول الحجاج في بعض خطبه لأهل

٣٦٨

العراق «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر» يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز ، فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم ، وقول الفضل بن عبّاس اللهبي :

كلّ له نيّة في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا

فوصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات : هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره ، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢].

والجنة ـ بكسر الجيم ـ اسم للجنون ، وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من أثر مسّ الجن إيّاه في عرف الناس ، ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر ، بحرف الباء الدال على الملابسة. وإنما أنكر عليهم وعجّب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه غير مجنون ، ردا عليهم وصفهم إياه بالجنون (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] ، (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان : ١٤] وهذا كقوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢].

وجملة : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) استئناف بياني لجواب سائل منهم يقول : فما ذا شأنه ، أو هي تقرير لحكم جملة : (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغني عن العطف.

والنذير المحذر من شيء يضر ، وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم ، ومنه المثل «أنا النذير العريان» يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير.

وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مفعل ، مثل الحكيم ، بمعنى المحكم ، وقول عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

أي المسمع. والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح ، ووقع هذا الوصف عقب الإخبار ب (نذير) يقتضي أنه وصف للخبر ، فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكا في صدقه ، ولا في تصوير الحال المحذر منها ، فالغرض من اتباع «النذير» بوصف «المبين» التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته ، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه ، وذلك يقطع عذرهم.

ويجوز جعل (مُبِينٌ) خبرا ثانيا عن ضمير صاحبهم ، والمعنى أنه نذير وأنه مبين

٣٦٩

فيما يبلغه من نذارة وغيرها.

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النذارة والبيان ، وذلك قصر إضافي ، هو قصر قلب ، أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون ، وفي هذا استغباء أو تسفيه لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون. فدعواهم جنونه : إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة ، وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥))

ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم. إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم ، وهو ملكوت السموات والأرض ، وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية الله تعالى التي دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان بها. والمناسبة بين الكلامين : أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبه (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

وعدّي فعل (النظر) إلى متعلّقه بحرف الظرفية ، لأن المراد التأمل بتدبر ، وهو التفكر كقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] وتقول نظرت في شأني ، فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات وهي ظرفية مجازية.

والملكوت الملك العظيم ، وقد مضى عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الأنعام [٧٥].

وإضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي ملك الله لهما ، فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله تعالى.

وعطف (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) على (مَلَكُوتِ) فقسّم النظر إلى نظر في عظيم

٣٧٠

ملك الله تعالى ، وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ، فالنظر إلى عظمة السموات والأرض دليل على عظم ملك الله تعالى فهو الحقيق بالإلهية دون غيره ، والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته تعالى ، وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية ، فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار ؛ لعلموا أن صانع ذلك كله ليس إلا إله واحد ، فلزال إنكارهم دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إبطال الشرك.

وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) معطوف على (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ).

و (أَنْ) هذه هي أن المفتوحة الهمزة المشددة النون خففت ، فكان اسمها ضمير شأن مقدرا. وجملة : (عَسى أَنْ يَكُونَ) إلخ خبر ضمير الشأن.

و (أَنْ) التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالبا في الاستعمال.

واسم (يَكُونَ) ضمير شأن أيضا محذوف ، لأن ما بعد (يكون) غير صالح لأن يعتبر اسما لكان ، والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم.

وصيغ الكلام على هذا النظم ؛ لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم ، بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخطر في النفوس ، وأن يتحدث به الناس ، وأنه قد صار حديثا وخبرا فكأنه أمر مسلم مقرر.

وهذا موقع ضمير الشان حيثما ورد ، ولذلك يسمى : ضمير القصة اعتدادا بأن جملة خبره قد صارت شيئا مقررا ومما يقصه الناس ويتحدثون به.

ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل ، التخوف من ذلك.

والأجل المضاف إلى ضمير المكذبين هو أجل الأمة لا أجل الأفراد ، لأن الكلام تهديد بأجل غير متعارف ، نبههم إلى التفكر في توقع حلول الاستئصال بهم وإهلاكهم كما هلك المكذبون من قبلهم ، لأنهم إذا تفكروا في أن صاحبهم ليس بمجنون حصل لهم العلم بأنه من العقلاء ، فما كان العاقل بالذي يحدث لقومه حادثا عظيما مثل هذا ، ويحدث لنفسه عناء كهذا العناء لغير أمر عظيم جاء به ، وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، وإذا نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء علموا أن الله الملك الأعظم ، وأنه خالق المخلوقات ، فأيقنوا بأنه الإله الواحد ، فآل ذلك إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإبطال معتقدهم تعدد الآلهة أو آل في أقل

٣٧١

الاحتمالات إلى الشك في ذلك ، فلا جرم أن يفضي بهم إلى النظر في توقع مصير لهم مثل ما صار إليه المكذبون من قبلهم.

ويجوز أن يكون المراد بالأجل مجيء الساعة ، وانقراض هذا العالم ، فهو أجلهم وأجل غيرهم من الناس فيكون تخويفا من يوم الجزاء.

ومن بديع نظم هذه الآيات : أنه لما أريد التبصر والتفكر في ثبوت الحقائق والنّسب في نفس الأمر جيء مع فعلى القلب بصيغة القضية والخبر في قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤] وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولما أريد التبصر والتفكر في صفات الذات جعل فعل القلب متعلقا بأسماء الذوات في قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ).

ثم فرع على التهديد والوعيد توبيخهم والإنكار عليهم بطريقة الاستفهام التعجيبي المفيد للاستبعاد بقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فهو تعجيب مشوب باستبعاد للإيمان بما أبلغ إليهم الله بلسان رسوله عليه الصلاة والسلام ، وما نصب لهم من الآيات في أصناف المخلوقات ، فإن ذلك كله قد بلغ منتهى البيان قولا ودلالة بحيث لا مطمع أن يكون غيره أدل منه.

و (أي) هنا اسم أشرب معنى الاستفهام ، وأصله اسم مبهم يفسره ما يضاف هو إليه ، وهو اسم لحصة متميزة عما يشاركها في نوع من جنس أو صفة ، فإذا أشرب (أي) معنى الاستفهام ، كان للسؤال عن تعيين مشارك لغيره في الوصف المدلول عليه بما تضاف إليه (أي) طلبا لتعيينه ، فالمسئول عنه بها مساو لمماثل له معروف فقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) سؤال عن الحديث المجهول المماثل للحديث المعروف بين السائل والمسئول وسيأتي الكلام على (أي) عند قوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) في سورة القلم [٥ ، ٦].

والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار ، أي لا يؤمنون بشيء من الحديث بعد هذا الحديث.

وحقيقة الحديث أنه الخبر والقصة الحادثة (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [الذاريات : ٢٤] ويطلق مجازا على الأمر الذي من شأنه أن يصير حديثا وهو أعم من المعنى الحقيقي.

٣٧٢

ف «الحديث» هنا إن حمل على حقيقته جاز أن يراد به القرآن ، كما في قوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٣٤] فيكون الضمير في قوله : (بَعْدَهُ) بمعنى بعد القرآن ، أي بعد نزوله ، وجاز أن يراد به دعوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرسالة من عند الله ، وكلا الاحتمالين يناسب قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤].

والباء في قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) على هذا باء التعدية لتعدية فعل (يُؤْمِنُونَ) ، وإن حمل على المجاز شمل القرآن وغيره من دلائل المصنوعات باعتبار أنها من شأنها أن يتحدث الناس بها كما في قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦] فيكون الضمير في قوله : (بَعْدَهُ) عائدا على معنى المذكور أي ما ذكر من ملكوت السموات والأرض ، وما خلق الله من شيء ، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، وأفرد الضمير لتأويله بالمذكور كما في قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) في سورة النساء [٤] أي فبأي شيء يستدل عليهم غير ما ذكر بعد أن لم ينتفعوا بدلالة ما ذكر ، ولم يؤمنوا له فلا يرجى منهم إيمان بعد ذلك.

والباء على هذا الوجه للسببية متعلقة ب (يُؤْمِنُونَ) و (بعد) هنا مستعارة لمعنى غير ، لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير قال تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] وحمل (بعد) على حقيقتها هنا يحوج إلى تأويل ، ويخرج الكلام عن سواء السبيل.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٥] ، لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامه ، فلا طمع لأحد في هديهم ، ولما كان هذا الحكم حاقا على من اتصف بالتكذيب ، وعدم التفكر في حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله ، وفي توقع اقتراب استيصالهم ، كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقا غير معروف للناس ، وإنما ينفرد الله بعلمه ويطلع عليه رسوله عليه الصلاة والسلام ، وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك ، وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام.

وعطف جملة : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) على جملة : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) للإشارة إلى استمرار ضلالهم وانتفاء هديهم في المستقبل كما وقع في الماضي.

٣٧٣

وتفسير : نذرهم تقدم في قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً) في سورة الأنعام [٧٠] وتفسير «طغيان» و (يَعْمَهُونَ) تقدم عند قوله : (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥].

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : نذرهم بالنون وبالرفع ، على أنه عطف جملة على جملة : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : بالياء التحتية والجزم ، على أنه عطف على موضع (فَلا هادِيَ لَهُ) وهو جواب الشرط.

وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب : بالياء التحتية وبالرفع والوجه ظاهر.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))

استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعيين وقت الساعة.

ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف : ١٨٥] سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا ، وهو الاستئصال ، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة ، فإن الكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين.

وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم ، البعث وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] ، وقد جعلوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزا له ، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ، ٣٠].

فالسائلون هم المشركون ، وروي ذلك عن قتادة ، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا ، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن ، كقوله تعالى في سورة

٣٧٤

النازعات [٤٢] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) ـ وقوله ـ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) [النبأ : ١ ـ ٣] يعني البعث والساعة ، ومن المفسرين من قال : المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن الساعة ، وهذا لا يكون سبب نزول الآية ، لأن هذه السورة مكية ، قيل كلها ، وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة ، ولم يعدوا هذه الآية ، فيما اختلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضا نازلة قبل هذه السورة.

والساعة معرّفة باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي ، وتسمى : يوم البعث ، ويوم القيامة.

و (أَيَّانَ) اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من (أي) الاستفهامية و (آن) وهو الوقت ، ثم خففت (أي) وقلبت همزة (آن) ياء ليتأتى الإدغام ، فصارت (أيّان) بمعنى أي زمان ، ويتعين الزمان المسئول عنه بما بعد (أيان) ، ولذلك يتعين أن يكون اسم معنى لا اسم ذات ، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات ، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت (متى) من الاستفهام إلى الشرطية ، وهي توسيعات في اللغة تصير معاني متجددة ، وقد ذكروا في اشتقاق (أيان) احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال ، وكلها غير مرضية ، وما ارتأيناه هنا أحسن منها.

فقوله : (أَيَّانَ) خبر مقدم لصدارة الاستفهام ، و (مُرْساها) مبتدأ مؤخر ، وهو في الأصل مضاف إليه آن الأصل أي (آن) آن مرسى الساعة.

وجملة : (أَيَّانَ مُرْساها) في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل (يَسْئَلُونَكَ) والتقدير : يقولون أيان مرساها ، وهو حكاية لقولهم بالمعنى ، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ).

والمرسى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رسا الجبل ثبت ، وأرساه أثبته وأقره ، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل :

وقال رائدهم أرسوا نزاولها

ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود: ٤١] ، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيها لوقوع الأمر الذي كان مترقبا أو متردد

٣٧٥

فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده.

وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكم ، إظهارا لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الشاعة ، وتعليما للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه.

فقد ورد في الصحيح أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ ـ فقال رسول الله ـ ما ذا أعددت لها؟ ـ فقال ـ ما أعددت لها كبير عمل إلّا أني أحب الله ورسوله ـ فقال ـ أنت مع من أحببت.

وعلم الساعة هو علم تحديد وقتها كما ينبئ عنه السؤال ، وقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أي علم وقتها ، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وظرفية (عند) مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها.

والحصر حقيقي : لأنه الأصل ، ولما دل عليه توكيده بعد في قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة ، لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى.

والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماء إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسئول ففيه إيماء إلى خطئهم وإلى شبهة خطئهم.

و (التجلية) الكشف ، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين ، والكشف بالإيقاع ، وكلاهما منفي الإسناد عن غير الله تعالى ، فهو الذي يعلم وقتها ، وهو الذي يظهرها إذا أراد ، فإذا أظهرها فقد أجلاها.

واللام في قوله : (لِوَقْتِها) للتوقيت كالتي في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨].

ومعنى التوقيت ، قريب من معنى (عند) ، والتحقيق : أن معناه ناشئ عن معنى لام الاختصاص.

٣٧٦

ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء ، وهو الإظهار ، لأنه الذي إذا حصل تم كشف أمرها ، وتحقق الناس أن القادر على إجلائها كان عالما بوقت حلولها.

وفصلت جملة : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير.

وقدم المجرور وهو (لِوَقْتِها) على فاعل (يُجَلِّيها) الواقع استثناء مفرغا للاهتمام به تنبيها على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة.

وجملة : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معترضة لقصد الإفادة بهولها ، والإيماء إلى حكمة إخفائها.

وفعل (ثَقُلَتْ) يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة ، أمرها كقوله : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً).

ويجوز أن يكون تعجيبا بصيغة فعل ـ بضم العين ـ فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب ، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل ، فيكون من قبيل قوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥].

والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكبر ، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيّل لمن خلت به أنه حامل شيئا ثقيلا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] أي شديدا تلقيه وهو القرآن ، ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث ، فوصفها بذلك مجاز عقلي ، والقرينة واضحة ، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفا للزمان ، ولكنه وصف للأحداث ، فإذا أسند إلى الزمان ، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفا للأحداث ، كقوله : (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧].

وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض ، من تصادم الكواكب ، وانخرام سيرها ، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين ، والبحار ، وجفاف المياه ، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي مكان عليه سير العالم ، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات.

ومن بديع الإيجاز تعدية فعل (ثَقُلَتْ) بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل ، وحذف ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف (إلى) الذي يدل على ما يقع عليه الفعل ،

٣٧٧

ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عملية عملية الثقل بمعنى الشدة.

وجملة : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة ، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلّا لله ، وبأن الله غير مظهره لأحد ، فدل قوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاء متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال ، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة ، لأن تلك الأمارات ممتدة الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها.

و «البغتة» مصدر على زنة المرّة من البغت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له ، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) في سورة الأنعام [٣١].

وجملة : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) مؤكدة لجملة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) ومبينة لكيفية سؤالهم فلذينك فصلت.

وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى.

و (حَفِيٌ) فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقا من حفي به ، مثل غني فهو غني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفا ، ويكون المعنى كأنك أكثرت السؤال عن وقتها حتى علمته ، فيكون وصف حفي كناية عن العالم بالشيء ، لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسئول عنه ، وبهذا المعنى فسر في «الكشاف» فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم ، لأن السؤال سبب العلم ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

وقول عامر بن الطفيل :

طلقت إن لم تسألي أي فارس

حليلك إذ لاقى صداء وخثعها

وقول أنيف بن زبّان النبهاني :

فلما التقينا بين السيف بيننا

لسائلة عنّا حفيّ سؤالها

ويجوز أن يكون مشتقا من أحفاه إذا ألح عليه في فعل ، فيكون فعيلا بمعنى مفعل

٣٧٨

مثل حكيم ، أي كأنك ملح في السؤال عنها ، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله تعالى : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد : ٣٧].

وقوله : (كَأَنَّكَ حَفِيٌ) حال من ضمير المخاطب في قوله : (يَسْئَلُونَكَ) معترضة بين (يَسْئَلُونَكَ) ومتعلقه.

ويتعلق قوله : (عَنْها) على الوجهين بكل من (يَسْئَلُونَكَ) ـ و (حَفِيٌ) على نحو من التنازع في التعليق.

ويجوز أن يكون (حَفِيٌ) مشتقا من حفي به ، كرضي بمعنى بالغ في الإكرام ، فيكون مستعملا في صريح معناه ، والتقدير : كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكما بالمشركين ، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة ، روي عن ابن عباس : كأنك صديق لهم ، وقال قتادة : قالت قريش لمحمد : إن بيننا قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فقال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وعلى هذا الوجه يتعلق (عَنْها) ب (يَسْئَلُونَكَ) وحذف متعلق (حَفِيٌ) لظهوره.

وبهذا تعلم أن تأخير (عَنْها) للإيفاء بهذه الاعتبارات.

وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة ، إذ لا فائدة له في ذلك ، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلبا لإبطال الحكمة في إخفائها ، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالا نفسيا يصرفه عن تطلب ذلك ، ولو تطلبه لأعلمه الله به ، كما صرف موسى عليه‌السلام عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره ، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده.

وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تأكيدا لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تأكيدا لكونه حصرا حقيقيا ، وإبطالا لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول ، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة ، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة ، فإنها تتوهم الحقائق على غير ما هي عليه ، وتوقن بما يخيل إليها ،

٣٧٩

وتجعله أصولا تبني عليها معارفها ومعاملاتها ، وتجعلها حكما في الأمور إثباتا ونفيا ، وهذا فرط ضلالة ، وإنه لضغث على إبالة بتشديد الباء وتخفيفها ، وقد حكي التاريخ القديم شاهدا مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال ـ من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن ـ (بخت نصّر) ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها ، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم ، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلّا الآلهة ، غضب ، واغتاظ ، وأمر بقتلهم ، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في (بابل) وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه ، ثم بتعبيرها ، وأن دانيال استنظره مدة ، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه (عزريا) و (ميشاييل) و (حننيا) فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل ، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رآه الملك فأخبر دانيال الملك بذلك ، ثم عبر له ، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

هذا ارتقاء في التبرّؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم ، وزيادة من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة ، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها.

والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استينافها الاهتمام بمضمونها ، كي تتوجه الأسماع إليها ، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ... قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٨٧] للاهتمام باستقلال المقول ، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله ، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة ، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب ، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك ، وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه ، ولذلك نفى عن نفسه معرفة أحواله المغيّبة ، فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلّا ما شاء الله.

في «تفسير البغوي» ، عن ابن عباس : أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل

٣٨٠