تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ويجوز أن تكون جملة : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلى آخرها خطابا من الله لموسى ، جوابا عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعل قول محذوف : أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره ، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [البقرة : ١٢٦] الآية.

و (سَيَنالُهُمْ) يصيبهم.

والنول والنّيل : الأخذ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) في هذه السورة [٣٧] ، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني ل (اتَّخَذُوا) محذوف اختصارا ، أي اتخذوه إلها.

وتعريفهم بطريق الموصولية ، لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها ، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من العقاب ، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية ، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال.

وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما.

والذلة : خضوع في النفس واستكانة من جرّاء العجز عن الدفع ، فمعنى : نيل الذلّة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم ، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم ، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم. بحيث يكونون خائفين العدو ، ولو لم يسلّط عليهم ، أو ذلّة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله ، وهذه الذلّة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة ، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف ، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا ، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها ، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة ، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإناءين أحدهما من لبن والآخر من خمر ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغوت أمتك ، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم.

والقول في الإشارة من قوله : (وَكَذلِكَ) تقدم في قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] ، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين.

٣٠١

والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه ، وقد مضى في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في سورة المائدة [١٠٣].

والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائد لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي ، فإن موسى عليه‌السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ...) [الأعراف : ١٣٨ ـ ١٤٠] الآيات الثلاث المتقدمة آنفا ، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضب والذلة ، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله ، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلّاء ، فلما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة ، فأزال مهابتهم من قلوب العرب ، واستأصلهم قتلا وأسرا ، وسلب ديارهم ، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام.

ويؤخذ من هذه الآية أن الكذاب يرمى بالمذلّة.

وقوله : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا) الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب ، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة ، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل ، والمراد بالسيئات : ما يشمل الكفر ، وهو أعظم السيّئات. والتوبة منه هي الإيمان.

وفي قوله : (مِنْ بَعْدِها) في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه (بعد) ـ وقد شاع حذفه ـ دل عليه (عَمِلُوا) أي من بعد عملها ، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع (بعد) و (قبل) المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) في سورة البقرة [٥١].

وحرف (ثم) هنا مفيد للتراخي ، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة ، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيّئات.

وقوله : (مِنْ بَعْدِها) تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف (ثم) وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم.

وعطف الإيمان على التوبة ، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر ، إما للاهتمام به ، لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله :

٣٠٢

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) إلى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٢ ـ ١٧]. ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة.

وإما أن يراد بالإيمان إيمان خاص ، وهو الإيمان بإخلاص ، فيشمل عمل الواجبات.

والخطاب في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ) لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه الأظهر ، أو لموسى على جعل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) مقولا من الله لموسى.

وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى ، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة.

وتأكيد الخبر بإن ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة ، وطردا للقنوط من نفوسهم ، وإن عظمت ذنوبهم ، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزته الذنوب بالكثرة أو العظم لم تقبل منه توبة.

وضمير : (مِنْ بَعْدِها) الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملّي من السيئات.

وحذف متعلق (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لظهوره من السياق ، والتقدير : لغفور رحيم لهم. أو لكل من عمل سيّئة وتاب منها.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

نظم هذا الكلام مثل نظم قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩] وقوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ) [الأعراف : ١٥٠] ، أي : ثم سكت عن موسى الغضب ولمّا سكت عنه أخذ الألواح. وهذه الجملة عطف على جملة (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) [الأعراف : ١٥٠].

والسكوت مستعار لذهاب الغضب عنه ، شبّه ثوران الغضب في نفس موسى المنشئ خواطر العقوبة لأخيه ولقومه ، وإلقاء الألواح حتى انكسرت ، بكلام شخص يغريه بذلك ، وحسّن هذا التشبيه أن الغضبان يجيش في نفسه حديث للنفس يدفعه إلى أفعال يطفئ بها ثوران غضبه ، فإذا سكن غضبه وهدأت نفسه كان ذلك بمنزلة سكوت المغري ، فلذلك أطلق عليه السكوت ، وهذا يستلزم تشبيه الغضب بالناطق المغري على طريقة المكنية ،

٣٠٣

فاجتمع استعارتان ، أو هو استعارة تمثيلية مكنية ؛ لأنه لم تذكر الهيئة المشبه بها ورمز إليها بذكر شيء من روادفها وهو السكوت ، وفي هذا ما يؤيد أن إلقاء الألواح كان أثر للغضب.

والتعريف في (الْأَلْواحَ) للعهد ، أي الألواح التي ألقاها ، وإنما أخذها حفظا لها للعمل بها ، لأن انكسارها لا يضيع ما فيها من الكتابة.

والنسخة بمعنى المنسوخ ، كالخطبة والقبضة ، والنّسخ هو نقل مثل المكتوب في لوح أو صحيفة أخرى ، وهذا يقتضي أن هذه الألواح أخذت منها نسخة ، لأن النسخة أضيفت إلى ضمير الألواح ، وهذا من الإيجاز ، إذ التقدير : أخذ الألواح فجعلت منها نسخة وفي نسختها هدى ورحمة ، وهذا يشير إلى ما في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج «ثم قال الرب لموسى انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما» ـ ثم قال ـ «فنحت لوحين من حجر كالأولين الإهان» ـ قال ـ «وقال الرب لموسى أكتب لنفسك هذه الكلمات» ـ إلى أن قال ـ «فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر».

فوصف النسخة بأن فيها هدى ورحمة يستلزم الأصل المنتسخ بذلك ، لأن ما في النسخة نظير ما في الأصل ، وإنما ذكر لفظ النسخة هنا إشارة إلى أن اللوحتين الأصليين عوضا بنسخة لهما ، وقد قيل إن رضاض الألواح الأصلية وضعه في تابوت العهد الذي أشار إليه قوله تعالى : (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى) في سورة البقرة [٢٤٨].

وقوله : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) يتنازع تعلّقه كل من (هُدىً) و (رَحْمَةٌ) ، واللام في قوله : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) لام التقوية دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخيره عن المعمول.

[١٥٥ ـ ١٥٧] (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)

٣٠٤

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ).

عطفت جملة (وَاخْتارَ مُوسى) على جملة : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) [الأعراف : ١٤٨] عطف القصة على القصة : لأن هذه القصة أيضا من مواقع الموعظة والعبرة بين العبر المأخوذة من قصة موسى مع بني إسرائيل ، فإن في هذه عبرة بعظمة الله تعالى ورحمته ، ودعاء موسى بما فيه جماع الخيرات والبشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وملاك شريعته.

والاختيار تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده ، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل (خار).

وقوله : (سَبْعِينَ رَجُلاً) بدل من (قَوْمَهُ) بدل بعض من كل ، وقيل إنما نصب قومه على حذف حرف الجر ، والتقدير : اختار من قومه ، قالوا وحذف الجار من المتعلق الذي هو في رتبة المفعول الثاني شائع في ثلاثة أفعال : اختار ، واستغفر وأمر ، ومنه أمرتك الخير وعلى هذا يكون قوله : (سَبْعِينَ) مفعولا أول. وأيّا ما كان فبناء نظم الكلام على ذكر القوم ابتداء دون الاقتصار على سبعين رجلا اقتضاه حال الإيجاز في الحكاية ، وهو من مقاصد القرآن.

وهذا الاختيار وقع عند ما أمره الله بالمجيء للمناجاة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] الآية ، فقد جاء في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج : إن الله أمر موسى أن يصعد طور سينا هو وهارون و (ناداب) و (أبيهو) و (يشوع) وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ويكون شيوخ بني إسرائيل في مكان معين من الجبل ويتقد موسى حتى يدخل في السحاب ليسمع كلام الله وأن الله لما تجلى للجبل ارتجف الجبل ومكث موسى أربعين يوما. وجاء في الإصحاح

٣٠٥

الثاني والثلاثين والذي يعده ، بعد ذكر عبادتهم العجل وكسر الألواح ، أن الله أمر موسى بأن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين ليكتب عليهما الكلمات العشر المكتوبة على اللوحين المنكسرين وأن يصعد إلى طور سينا وذكرت صفة صعود تقارب الصفة التي في الإصحاح الرابع والعشرين ، وأن الله قال لموسى من أخطأ أمحوه من كتابي ، وأن موسى سجد لله تعالى واستغفر لقومه قلة امتثالهم وقال فإن عفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك. وجاء في الإصحاح التاسع من سفر التثنية : أن موسى لما صعد الطور في المناجاة الثانية صام أربعين يوما وأربعين ليلة لا يأكل طعاما ولا يشرب ماء استغفارا لخطيئة قومه وطلبا للعفو عنهم. فتبين مما في التوراة أن الله جعل لموسى ميقاتين للمناجاة ، وأنه اختار سبعين رجلا للمناجاة الأولى ولم تذكر اختيارهم للمناجاة الثانية ، ولما كانت المناجاة الثانية كالتكملة للأولى تعيّن أن موسى استصحب معه السبعين المختارين ، ولذلك وقعت فيها الرجفة مثل المرة الأولى ، ولم يذكر القرآن أن الرجفة أخذتهم في المرة الأولى ، وإنما ذكر أن موسى خرّ صعقا ، ويتعين أن يكون السبعون قد أصابهم ما أصاب موسى لأنهم كانوا في الجبل أيضا ، وذكر الرجفة في المرة الثانية ولم تذكرها التوراة.

والضمير في أخذتهم الرجفة للسبعين. فالظاهر أن المراد في هذه الآية هو حكاية حال ميقات المناجاة الثانية التي وقع فيها الاستغفار لقومه ، وأن الرجفة المحكية هنا رجفة أخذتهم مثل الرجفة التي أخذتهم في المناجاة الأولى ، لأن الرجفة تكون من تجلي أثر عظيم من آثار الصفات الإلهية كما تقدم ، فإن قول موسى (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) يؤذن بأنه يعني به عبادتهم العجل ، وحضورهم ذلك. وسكوتهم ، وهي المعني بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب.

ويجوز أن يكون ذلك في المناجاة الأولى وأن قوله : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) يعني به ما صدر من بني إسرائيل من التصلب قبل المناجاة ، كقولهم (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] ، وسؤالهم رؤية الله تعالى. لكن الظاهر أن مثل ذلك لا يطلق عليه (فعل) في قوله : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا). والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله ، وخوف بطشه ، ومقام الرسل من الخشية ، ودعاء موسى ، إلخ.

وقد صيغ نظم الكلام في قوله : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) على نحو ما صيغ عليه قوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] كما تقدم.

٣٠٦

والأخذ مجاز في الإصابة الشديدة المتمكنة تمكن الآخذ من المأخوذ.

و (لو) في قوله : (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) يجوز أن تكون مستعملة في التمني وهو معنى مجازي ناشئ من معنى الامتناع الذي هو معنى (لو) الأصلي ومنه قول المثل (لو ذات سوار لطمتني) إذ تقدير الجواب. لو لطمتني لكان أهون علي ، وقد صرح بالجواب في الآية وهو (شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) أي ليتك أردت إهلاكهم أي السبعين الذين معه. فجملة أهلكتهم بدل اشتمال من جملة (شِئْتَ) من قبل خطيئة القوم التي تسبب عنها الرجوع إلى المناجاة.

وعلى هذا التقدير في (لو) لا يكون ، في قوله (أَهْلَكْتَهُمْ) حذف اللام التي من شأنها أن تقترن بجواب (لو) وإنما قال : (أَهْلَكْتَهُمْ) وإياي ولم يقل : أهلكتنا ، للتفرقة بين الإهلاكين لأن إهلاك السبعين لأجل سكوتهم على عبادة العجل ، وإهلاك موسى ، قد يكون لأجل أن لا يشهد هلاك القوم ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) نجينا (هُوداً) [هود : ٥٨] الآية ونظائرها كثيرة ، وقد خشي موسى أن الله يهلك جميع القوم بتلك الرجفة لأن سائر القوم أجدر بالإهلاك من السبعين ، وقد أشارت التوراة إلى هذا في الإصحاح «فرجع موسى إلى الله وقال إن الشعب قد أخطأ خطيئة عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة فان غفرت لهم خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت. فقال الله لموسى من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي» فالمحو من الكتاب هو محو تقدير الله له الحياة محو غضب ، وهو المحكي في الآية بقوله (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وقد خشي موسى أن تكون تلك الرجفة إمارة غضب ومقدمة إهلاك عقوبة على عبادتهم العجل ، فلذلك قال (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفها ؛ لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلها لهم.

ويجوز أن يكون حرف (لو) مستعملا في معناه الأصلي : من امتناع جوابه لامتناع شرطه ، فيتجه أن يتساءل عن موجب حذف اللام من جواب (لو) ولم يقل : لأهلكتهم مع أن الغالب في جوابها الماضي المثبت أن يقترن باللام فحذف اللام هنا لنكتة أن التلازم بين شرط لو وجوابها هنا قوي لظهور أن الإهلاك من فعل الله وحده فهو كقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) سورة الواقعة [٧٠] وسيأتي بيانه. ويكون المعنى اعترافا بمنة العفو عنهم فيما سبق ، وتمهيدا للتعريض بطلب العفو عنهم الآن ، وهو المقصود من قوله (أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) أي أنك لم تشأ إهلاكهم حين تلبسوا بعبادة العجل فلا

٣٠٧

تهلكهم الآن.

والاستفهام في قوله : (أَتُهْلِكُنا) مستعمل في التفجع أي : أخشى ذلك ، لأن القوم استحقوا العذاب ويخشى أن يشمل عذاب الله من كان مع القوم المستحقين وإن لم يشاركهم في سبب العذاب ، كما قال : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وفي حديث أم سلمة أنها قالت : «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ـ قال ـ نعم إذا كثر الخبث» وفي حديث آخر ، «ثم يحشرون على نياتهم» وقد خشي موسى سوء الظنة لنفسه ولأخيه وللبراء من قومه أن يظنهم الأمم التي يبلغها خبرهم أنهم مجرمون.

وإنما جمع الضمير في قوله : (أَتُهْلِكُنا) لأن هذا الإهلاك هو الإهلاك المتوقع من استمرار الرجفة ، وتوقعه واحد في زمن واحد ، بخلاف الإهلاك المتقدم ذكره فسببه مختلف فناسب توزيع مفعوله.

وجملة : (أَتُهْلِكُنا) مستأنفة على طريقة تقطيع كلام الحزين الخائف السائل. وكذلك جملة : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) وجملة (أَنْتَ وَلِيُّنا).

وضمير (إِنْ هِيَ) راجع إلى ما فعل السفهاء لأن ما صدق ما فعل السفهاء هو الفتنة ، والمعنى : ليست الفتنة الحاصلة بعبادة العجل إلا فتنة منك ، أي من تقديرك وخلق أسباب حدوثها ، مثل سخافة عقول القوم ، وإعجابهم بأصنام الكنعانيين ، وعيبة موسى ، ولن هارون ، وخشيته من القوم ، وخشية شيوخ إسرائيل من عامتهم ، وغير ذلك مما يعلمه الله وأيقن موسى به إيقانا إجماليا.

والخبر في قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) الآية : مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة ، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم ، وليس مستعملا في الاعتذار لقومه بقرينة قوله : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) الذي هو في موضع الحال من (فِتْنَتُكَ) فالإضلال بها حال من أحوالها.

ثم عرّض بطلب الهداية لهم بقوله : (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) والمجرور في قوله (بِها) متعلق بفعل (تُضِلُ) وحده ولا يتنازعه معه فعل (تَهْدِي) لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة ، فمن قدر في التفسير : وتهدي بها أو نحوه ، فقد غفل.

والباء : إما للملابسة ، أي تضل من تشاء ملابسا لها ، وإما للسببية ، أي تضل بسبب تلك الفتنة ، فهي من جهة فتنة ، ومن جهة سبب ضلال.

٣٠٨

والفتنة ما يقع به اضطراب الأحوال ، ومرجها ، وتشتت البال ، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) في سورة البقرة [١٠٢]. وقوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في سورة العقود [٧١] وقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في سورة الأنعام [٢٣].

والقصد من جملة : (أَنْتَ وَلِيُّنا) الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى ، تمهيدا لمطلب المغفرة والرحمة ، لأن شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره.

والولي : الذي له ولاية على أحد ، والولاية حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة ، فإن كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مولى ، وإن كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي (ولي) وللضعيف (مولى) وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد ، لأن المرء لا يتولى غير مواليه ، كان قوله : (أَنْتَ وَلِيُّنا) مقتضيا عدم الانتصار بغير الله. وفي صريحه صيغة قصر.

والتفريع عن الولاية في قوله : (فَاغْفِرْ لَنا) تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران.

وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة ، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب ، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا. والرضا يقتضي الإحسان.

و (خَيْرُ الْغافِرِينَ) الذي يغفر كثيرا ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) في سورة آل عمران [١٥٠].

وإنما عطف جملة : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة ، فعطف على الدعاء ، كانه قيل : فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا ، لأن الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة.

و (اكْتُبْ) مستعار لمعنى العطاء المحقق حصوله ، المجدد مرة بعد مرة ، لأن الذي يريد تحقيق عقد أو عدة ، أو عطاء ، وتعلّقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة ، فلا يقبل النكران ، ولا النقصان ، ولا الرجوع ، وتسمى تلك الكتابة عهدا ، ومنه ما كتبوه في صحيفة القطيعة ، وما كتبوه من حلف ذي المجاز ، قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

٣٠٩

ولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة ، لأن الحوز أو التمكين مغن عن الكتابة ، كما قال تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) [البقرة : ٢٨٢] فالمعنى : آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا وفي يوم القيامة ، دل على هذا المعنى لفظ (اكْتُبْ) ولولاه لكان دعاء صادقا بإعطاء حسنة واحدة ، فيحتاج إلى الاستعانة على العموم بقرينة الدعاء ، فإن النكرة يراد بها العموم في سياق الدعاء كقول الحريري في المقامة الخامسة :

يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا

(أي كل ضر وليس المراد وقيتم ضرا معيّنا).

والحسنة الحالة الحسنة ، وهي : في الدنيا المرضية للناس ، ولله تعالى ، فتجمع خير الدنيا والدين ، وفي الآخرة حالة الكمال ، وقد تقدم بيانها في تفسير قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) في سورة البقرة [٢٠١].

وجملة : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) مسوقة مساق التعليل للطلب والاستجابة ، ولذلك فصلت ولان موقع حرف التأكيد في أولها موقع الاهتمام ، فيفيد التعليل والربط ، ويغني غناء فاء السببية كما تقدم غير مرة.

و (هُدْنا) معناه تبنا ، يقال : هاد يهود إذا رجع وتاب فهو مضموم الهاء في هذه الآية باتفاق القراءات المتواترة والمعنى تبنا مما عسى أن نكون ألممنا به من ذنب وتقصير ، وهذا إخبار عن نفسه ، وعن المختارين من قومه ، بما يعلم من صدق سرائرهم.

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) جملة : (قالَ) إلخ جواب لكلام موسى عليه‌السلام ، فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة ، كما تقدم غير مرة ، وكلام موسى ، وإن كان طلبا ، وهو لا يستدعي

٣١٠

جوابا ، فإن جواب الطالب عناية به وفضل.

والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا ، لأن الكلام جواب لقول موسى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) والإهلاك عذاب ، فبيّن الله له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده ، وقد أجمل الله سبب المشيئة وهو أعلم به ، وموسى يعلمه إجمالا ، فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبراء من قومه ، لأن الله أعظم من أن يعاملهم معاملة المجرمين. والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان ، وجاء الكلام على طريقة مجملة شأن كلام من لا يسأل عما يعقل.

وقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) مقابل قول موسى : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا). وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسئولة له ولمن معه من المختارين ، لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها ، وأن العاصين هم أيضا مغمورون بالرحمة ، فمنها رحمة الإمهال والرزق ، ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة.

وقوله : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ـ إلى قوله ـ (كُلَّ شَيْءٍ) جواب إجمالي ، هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله : (فَسَأَكْتُبُها).

والتفريع في قوله : (فَسَأَكْتُبُها) تفريع على سعة الرحمة ، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعدا لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم ، وهو وعد ناظر إلى قول موسى (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) والضمير المنصوب في (فَسَأَكْتُبُها) عائد إلى (رَحْمَتِي) فهو ضمير جنس ، وهو مساو للمعرف بلام الجنس ، أي اكتب فردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات ، وليس المراد أنه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لأن هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الأجناس ، لكن يعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلقها بصفات تؤذن باستحقاقها ، وبقرينة السكوت عن غيره ، فيعلم أن لهذا المتعلق رحمة خاصة عظيمة وأن غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله : (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وتقدم معنى (فَسَأَكْتُبُها) قريبا.

٣١١

وقد تقدم معنى : (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في قوله تعالى : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) في هذه السورة [٨٩].

والمعنى : أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعد الله بإعطائها لمن كان منهم متصفا بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة ، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله ، والآيات تصدق : بدلائل صدق الرسل ، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رشادهم وهديهم ، ولا سيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنه معجز فدال على صدق الرسول ، وهو المقصود هنا ، وهم الذين يتبعون الرسول الامي إذا جاءهم ، أي يطيعونه فيما يأمرهم ، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه ، بشرط الإيمان ، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفا (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا) [الأعراف : ١٥٣] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته ، ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) النبيئين لما آتيناكم (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ٨١ ، ٨٢]. وتشمل الرحمة أيضا الذين يؤمنون بآيات الله ، والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل ، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة ، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى ، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام ، ولذلك أبدل منهم قوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) إلخ. وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ) ولقوله : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج ، والمراد بآيات الله: القرآن ، لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات ، لأنها جعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها. ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله ، كما تقدم في المقدمة الثامنة.

وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر ، والاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية : فإن موسى بعد أن ذكرهم بخطيئة عبادتهم العجل ، وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة ، كما تضمنه

٣١٢

الاصحاح التاسع من ذلك السفر ، وذكرناه آنفا في تفسير قوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ، ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله : «فالآن يا إسرائيل ما يطلب منك الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه». ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلا للتقوى ، ثم ذكر في الاصحاح الرابع عشر الزكاة فقال «تعشيرا تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك ، وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون» إلخ. ثم ذكر أحكاما كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده.

ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله : «يقيم لك الرب نبيا ومن وسط أخواتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبت من الرب في حوريب (أي جبل الطور حين المناجاة) يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله : «من وسط إخوتك» فإن الخطاب لبني إسرائيل ، ولا يكونون إخوة لأنفسهم. وإخوتهم هم أبناء أخي أبيهم : إسماعيل أخي إسحاق ، وهم العرب ، ولو كان المراد به نبيئا من بني إسرائيل مثل (صمويل) كما يؤوله اليهود لقال : من بينكم أو من وسطكم ، وعلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله : «مثلك» فإن موسى كان نبيا رسولا ، فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله: (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) إلخ.

ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول ، وعبروا عنه بالنبيء ، ليصدق على أنبياء ليصدق على أنبياء بني إسرائيل ، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك ، وحذفوا وصف الأمي ، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي ، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه «غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود».

فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى ، وتشمل الرسل والأنبياء الذين أخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقينا فهم آمنوا به ، وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به ، لأنهم استعدوا لذلك ، وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل ، لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي.

٣١٣

وتقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم ، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب ، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقا بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتهر بوصف النبي الأمي ، فصار هذا المركب كاللقب له ، فلذلك لا يغير عن شهرته ، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن.

والأمي : الذي لا يعرف الكتابة والقراءة ، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه ، لأن النساء في العرب ما كنّ يعرفن القراءة والكتابة ، وما تعلمنها إلّا في الإسلام ، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عبيد الراعي ، وهو إسلامي :

هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور

أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب.

وقيل : منسوب إلى الأمّة أي الذي حاله حال معظم الأمة ، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية ، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلّا النادر منهم ، ولذلك يصفهم أهل الكتاب بالأميّين ، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) في آل عمران [٧٥].

والأميّة وصف خص الله به من رسله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إتماما للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به ، فجعل الأمية وصفا ذاتيا له ، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة ، ليظهر أن كماله النفساني كمال لدنّي إلهي ، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات ، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه ، مع أنها في غيره وصف نقصان ، لأنه لمّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق ، وكان على يقين من علمه ، وبينة من أمره ، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين ، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنّما هو من فيوضات إلهية.

ومعنى : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً) وجدان صفاته ونعوته ، التي لا يشبهه فيها غيره ، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته. وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازا بالاستخدام ، وإنما الموجود نعته ووصفه ، والقرينة قوله : (مَكْتُوباً) فإن الذات لا تكتب ، وعدل عن التعبير بالوصف للدلالة على أنهم يجدون وصفا لا يقبل الالتباس ، وهو : كونه أميا ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويحل الطيبات ، ويحرم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم ،

٣١٤

وشدة شريعتهم.

وذكر الإنجيل هنا لأنه منزل لبني إسرائيل ، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم ، وقد أعلم الله موسى بهذا.

والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفا ، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة ، ففي إنجيل متّى في الإصحاح الرابع والعشرين «ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرون ، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى (أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم) فهذا يخلص ويكرز (١) ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى» (أي منتهى الدنيا) ، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر «وإما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم» (ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولا مشرعا لا نبيّا موكدا).

وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران.

وجملة : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قال أبو علي الفارسي : «هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالا من ضمير (يَجِدُونَهُ) لأن الضمير راجع للذكر والاسم. والذكر والاسم لا يأمران» أي فتعين كون الضمير مجازا ، وكون الآمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذكره ، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها ؛ لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها.

وقد جعل الله المعروف والمنكر ، والطيبات ، والخبائث ، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات ، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة.

فالمعروف شامل لكل ما تقبله العقول والفطر السليمة ، والمنكر ضده ، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في سورة آل عمران [١٠٤].

__________________

(١) وقعت كلمة (يكرز) في ترجمة الإنجيل للآباء اليسوعيين وأريد بها (يتنبّأ) ولا أعرف لها أصلا في العربية.

٣١٥

ويجمعها معنى : الفطرة ، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] ، وهذه أوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية.

والطيبات : جمع طيبة ، وقد روعي في التأنيث معنى الأكيلة ، أو معنى الطّعمة ، تنبيها على أن المراد الطيبات من المأكولات ، كما دل عليه قوله في نظائرها نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) في البقرة [١٦٨] وقوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) في سورة المائدة [٤] ، وليس المراد الأفعال الحسنة ؛ لأن الأفعال عرّفت بوصف المعروف والمنكر. والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر ، إذ ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبولها ومرفوضها ، وإنما تمتلك الناس فيها عوائدهم ، ولما كان الإسلام دين الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه ، ناط حال المأكولات بالطّيب وحرمتها بالخبث ، فالطّيب ما لا ضر فيه ولا وخامة ولا قذارة ، والخبيث ما أضر ، أو كان وخيم العاقبة ، أو كان مستقذرا لا يقبله العقلاء ، كالنجاسة ، وهذا ملاك المباح والمحرم من المآكل ، فلا تدخل العادات إلّا في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح ، فقد كانت قريش لا تأكل الضب ، وقد وضع على مائدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكره أن يأكل منه ، وقال : «ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافه» ولهذا فالوجه : إن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح ، وقد يكون مكروها اعتبارا بمضرة خفيفة ، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومحمله عند مالك في أشهر الروايات عنه ، على الكراهة ، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه ، وأي ضر في أكل لحم الأسد ، وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية ، لاختلاف عوائد الناس في أكلها وعدمه ، فقد كانت جرم لا يأكلون الدجاج ، وفقعس يأكلون الكلب ، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كرهه ذوقه أو عادة قومه ، وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائدة ، فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائع المأكولات وصفاتها ، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير.

ووضع الإصر إبطال تشريعه ، أي بنسخ ما كان فيه شدة من الشرائع الإلهية السابقة ، وحقيقة الوضع الحط من علو إلى سفل ، وهو هنا مجاز في إبطال التكليف بالأعمال الشاقة.

وحقه التعدية إلى المفعول الثاني بحرف (في) الظرفية ، فإذا عدي إليه ب (عن) دل

٣١٦

على نقل المفعول الأول من مدخول (عن) وإذا عدي إلى المفعول الثاني ب (على) كان دالا على حط المفعول الأول في مدخول (على) حطا متمكنا ، فاستعير (يَضَعُ عَنْهُمْ) هنا إلى إزالة التكليفات التي هي كالإصر والأغلال فيشمل الوضع معنى النسخ وغيره ، كما سيأتي.

و «الإصر» ظاهر كلام الزمخشري في «الكشاف» و «الأساس» إنه حقيقة في الثّقل ، (بكسر الثاء) الحسيّ بحيث يصعب معه التحرك ، ولم يقيده غيره من أصحاب دواوين اللغة ، وهذا القيد من تحقيقاته ، وهو الذي جرى عليه ظاهر كلام ابن العربي في «الأحكام» ، والمراد به هنا التكاليف الشاقة والحرج في الدين ، فإن كان كما قيده الزمخشري يكن (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) تمثيلية بتشبيه حال المزال عنه ما يحرجه من التكاليف بحال من كان محمّلا بثقل فأزيل عن ظهره ثقله ، كما في قوله تعالى : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] وإن لم يكن كذلك كان «الإصر» استعارة مكنية (وَيَضَعُ) تخييلا ، وهو أيضا استعارة تبعية للإزالة.

وقد كانت شريعة التوراة مشتملة على أحكام كثيرة شاقة مثل العقوبة بالقتل على معاص كثيرة ، منها العمل يوم السبت ، ومثل تحريم مأكولات كثيرة طيبة وتغليظ التحريم في أمور هينة ، كالعمل يوم السبت ، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصر أنها لم تشرع فيها التوبة من الذنوب ، ولا استتابة المجرم ، والإصر قد تقدم في قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) في سورة البقرة [٢٨٦] وقرأ ابن عامر وحده في القراءات المشهورة ، (آصارهم) بلفظ الجمع ، والجمع والإفراد في الأجناس سواء.

و (الْأَغْلالَ) جمع غل ـ بضم الغين ـ وهو اطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني ويمسك بسير من جلد ، أو سلسلة من حديد بيد الموكّل بحراسة الأسير ، قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١] ويستعار الغل للتكليف والعمل الذي يؤلم ولا يطاق فهو استعارة فإن بنينا على كلام الزمخشري كان (الْأَغْلالَ) تمثيلية بتشبيه حال المحرر من الذل والإهانة بحال من أطلق من الأسر ، فتعيّن أن وضع الأغلال استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس ، وزوال ملك يهوذا ، فإن الإسلام جاء بتسوية أتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية ، فلا يبقى فيه ميز بين أصيل ودخيل ، وصميم ولصيق ، كما كان الأمر في الجاهلية ، ومناسبة استعارة الأغلال للذلة أوضح ، لأن الأغلال من شعار الإذلال في

٣١٧

الأسر والقود ونحوهما.

وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود ، المتحدث عنهم في خطاب الله تعالى لموسى ، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن اليهود قد كان لهم شرع ، وكان فيه تكاليف شاقة ، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم ، ولذلك أضاف الله الإصر إلى ضميرهم ، ووصف الأغلال بما فيه ضميرهم ، على أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم ، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية ، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية ، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة ، وإذلال الرؤساء ، وشدة الأقوياء على الضعفاء ، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات ، والتكايل في الدماء ، وأكلهم أموالهم بالباطل ، فأرسل الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدين من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائد ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ولذلك فسرنا الوضع بما يعم النسخ وغيره ، وفسرنا الأغلال بما يخالف المراد من الأصر ، ولا يناكد هذا ما في أديان الجاهلية والمجوسية وغيرها من التحلل في أحكام كثيرة ، فإنه فساد عظيم لا يخفف وطأة ما فيها من الإصر ، وهو التحلل الذي نظر إليه أبو خراش الهذلي في قوله ، يعني شريعة الإسلام :

فليس كعهد الدار يا أم مالك

ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

والفاء في قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) فاء الفصيحة ، والمعنى : إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوته ، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم ، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هداه ، هم المفلحون.

والقصر المستفاد من تعريف المسند ومن ضمير الفصل قصر إضافي ، أي هم الذين أفلحوا أي دون من كفر به بقرينة المقام ، لأن مقام دعاء موسى يقتضي أنه أراد المغفرة والرحمة وكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة لكل من اتبع دينه ، ولا يريد موسى شمول ذلك لمن لا يتبع الإسلام بعد مجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن جرى القصر على معنى الاحتراس من الإيهام ، ويجوز أن يكون القصر ادعائيا ، دالا على معنى كمال صفة الفلاح للذين يتبعون النبي الأمي ، ففلاح غيرهم من الأمم المفلحين الذين سبقوهم كلا فلاح ، إذا نسب إلى فلاحهم ، أي إن الأمة المحمدية أفضل الأمم على الجملة ، وإنهم الذين تنالهم الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء من شئونهم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)

٣١٨

[الأنبياء : ١٠٧].

ومعنى (عَزَّرُوهُ) أيدوه وقوّوه ، وذلك بإظهار ما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته ، وصفات شريعته ، وإعلان ذلك بين الناس ، وذلك شيء زائد على الإيمان به ، كما فعل عبد الله بن سلام ، وكقول ورقة بن نوفل : «هذا الناموس الذي أنزل على موسى» ، وهو أيضا مغاير للنصر ، لأن النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح ، ومن أجل ذلك عطف عليه (وَنَصَرُوهُ).

واتّباع النور تمثيل للاقتداء بما جاء به القرآن : شبه حال المقتدي بهدي القرآن ، بحال الساري في الليل إذا رأى نورا يلوح له اتّبعه ، لعلمه بأنه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير ، وأجزاء هذا التمثيل استعارات ، فالإتباع يصلح مستعارا للاقتداء ، وهو مجاز شائع فيه ، والنور يصلح مستعارا للقرآن ؛ لأن الشيء الذي يعلّم الحقّ والرشد يشبّه بالنور ، وأحسن التمثيل ما كان صالحا لاعتبار التشبيهات المفردة في أجزائه.

والإشارة في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) للتنويه بشأنهم ، وللدلالة على أن المشار إليهم بتلك الأوصاف صاروا أحرياء بما يخبر به عنهم بعد اسم الإشارة كقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وفي هذه الآية تنويه بعظيم فضل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي‌الله‌عنهم ، ويلحق بهم من نصر دينه بعدهم.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))

هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي ، تذكير لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه‌السلام ، وإيقاظا لأفهامهم بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مصداق الصفات التي علمها الله موسى والخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لجميع البشر ، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتأكيد الخبر ب (إن) باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين ، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم.

٣١٩

وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف (جَمِيعاً) الدال نصا على العموم ، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل ، فإن من اليهود فريقا كانوا يزعمون أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيء ، ويزعمون إنه نبيء العرب خاصة ، ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد ـ وهو يهودي ـ أتشهد أني رسول الله ، قال ابن صياد : أشهد إنك رسول الأميين. وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائل بأن محمدا رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل ، لأن اليهود فريقان : فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها ، وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل ، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل.

وانتصب (جَمِيعاً) على الحال من الضمير المجرور ، ب (إلى) وهو فعيل بمعنى مفعول أي مجموعين ، ولذلك لزم الإفراد ؛ لأنه لا يطابق موصوفه.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نعت لاسم الجلالة ، دال على الثناء.

وتقديم المجرور للقصر ، أي : لا لغيره مما يعبده المشركون ، فهو قصر إضافي للرد على المشركين.

وجملة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حال من اسم الجلالة في قوة متفردا بالإلهية ، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية ، لا لقصد الرد على المشركين.

وجملة : (يُحيِي وَيُمِيتُ) حال ،

والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة : تذكير اليهود ، ووعظهم ، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزعموا أنه لا رسول بعد موسى ، واستعظموا دعوة محمد ، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول ، فذكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض ، وهو واهب الفضائل ، فلا يستعظم أن يرسل رسولا ثم يرسل رسولا آخر ، لأن الملك بيده ، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته ، فلا يكون إلهان للخلق ، وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد ، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى ، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن : لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود ، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر.

وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) النبي (الْأُمِّيِ) والمقصود طلب الإيمان بالنبيء الأمي ؛ لأنه

٣٢٠