تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

والفعل علّة لفظيّة : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقا بأن يكون هو الاسم ، لأنّ الأصل أنّ الأعرف من الجزأين وهو الذي يكون مسندا إليه.

[٦ ، ٧] (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))

الفاء في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَ) عاطفة ، لترتيب الأخبار لأنّ وجود لام القسم علامة على أنّه كلام أنف انتقال من خبر إلى خبر ، ومن قصة إلى قصة وهو انتقال من الخبر عن حالتهم الدنيوية إلى الخبر عن أحوالهم في الآخرة.

وأكّد الخبر بلام القسم ونون التّوكيد لإزالة الشكّ في ذلك.

وسؤال الذين أرسل إليهم سؤال عن بلوغ الرّسالة. وهو سؤال تقريع في ذلك المحشر ، قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥].

وسؤال المرسلين عن تبليغهم الرّسالة سؤال إرهاب لأممهم ، لأنّهم إذا سمعوا شهادة رسلهم عليهم أيقنوا بأنّهم مسوقون إلى العذاب ، وقد تقدّم ذلك في قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] ـ وقوله ـ (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩].

و (الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) ، هم أمم الرّسل ، وعبّر عنهم بالموصول لما تدلّ عليه الصّلة من التّعليل ، فإن فائدة الإرسال هي إجابة الرّسل ، فلا جرم أن يسأل عن ذلك المرسل إليهم ، ولمّا كان المقصود الأهمّ من السّؤال هو الأمم ، لإقامة الحجّة عليهم في استحقاق العقاب ، قدّم ذكرهم على ذكر الرّسل ، ولما تدلّ عليه صلة (الذي) وصلة (ال) من أنّ المسئول عنه هو ما يتعلّق بأمر الرّسالة ، وهو سؤال الفريقين عن وقوع التّبليغ.

ولمّا دلّ على هذا المعنى التّعبير : ب (الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) والتّعبير : ب (الْمُرْسَلِينَ) لم يحتجّ إلى ذكر جواب المسئولين لظهور أنّه إثبات التّبليغ والبلاغ.

والفاء في قوله : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) للتفريع والتّرتيب على قوله : (فَلَنَسْئَلَنَ) ، أي لنسألنّهم ثمّ نخبرهم بتفصيل ما أجمله جوابهم ، أي فلنقصّنّ عليهم تفاصيل أحوالهم ، أي فعلمنا غني عن جوابهم ولكن السّؤال لغرض آخر.

٢١

وقد دلّ على إرادة التّفصيل تنكير علم في قوله : (بِعِلْمٍ) أي علم عظيم ، فإنّ تنوين (علم) للتعظيم ، وكمال العلم إنّما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة ، وزاد ذلك بيانا قوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) الذي هو بمعنى : لا يعزب عن علمنا شيء يغيب عنّا ونغيب عنه.

والقصّ : الاخبار ، يقال : قصّ عليه ، بمعنى أخبره ، وتقدّم في قوله تعالى : (يَقُصُّ الْحَقَ) في سورة الأنعام [٥٧].

وجملة : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) معطوف على (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) ، وهي في موقع التّذييل.

والغائب ضدّ الحاضر ، وهو هنا كناية عن الجاهل ، لأنّ الغيبة تستلزم الجهالة عرفا ، أي الجهالة بأحوال المغيب عنه ، فإنّها ولو بلغته بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد ، أي : وما كنّا جاهلين بشيء من أحوالهم ، لأنّنا مطّلعون عليهم ، وهذا النّفي للغيبة مثل إثبات المعيّة في قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤].

وإثبات سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨] ـ وقوله ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] لأنّ المسئول عنه هنا هو التّبليغ والمنفيّ في الآيتين الأخريين هو السّؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم ، وهو الذي أريد هنا في قوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ).

[٨ ، ٩] (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

عطف جملة : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) على جملة (فَلَنَقُصَّنَ) [الأعراف : ٧] ، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم ، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهر ذلك العلم وأثره هو الثّواب والعقاب ، وتفاوت درجات العاملين ودركاتهم تفاوتا لا يظلم العامل فيه مثقال ذرّة ، ولا يفوت ما يستحقّه إلّا أن يتفضّل الله على أحد برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك ، ممّا الله أعلم به من عباده ، فلذلك عقبت جملة : (فَلَنَقُصَّنَ) [الأعراف : ٧] بجملة : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) فكأنّه قيل : فلنقصنّ عليهم بعلم ولنجازينّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد.

والتّنوين في قوله : (يَوْمَئِذٍ) عوض عن مضاف إليه دلّ عليه : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ

٢٢

إِلَيْهِمْ) [الأعراف : ٦] وما عطف عليه بالواو وبالفاء ، والتّقدير : يوم إذ نسألهم ونسأل رسلهم ونقص ذنوبهم عليهم.

والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار ، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيّن جعلت أجسام أخرى يعرف بها مقدار التّفاوت ، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء ، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلا واتساعا.

والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تسمّى موازين ، واحدها ميزان أيضا وتسمّى أوزانا واحدها وزن ، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوه قال تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] وفي حديث أبي هريرة ، في «الصّحيحين» : «إنّه ليؤتى بالعظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة». ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال ، كقول الراعي :

وزنت أميّة أمرها فدعت له

من لم يكن غمرا ولا مجهولا

فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير ما تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعيينا لا إجحاف فيه ، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال ، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصّالح لله وكونه رياء ، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونه لمجرّد الطمع في الغنيمة ، فيكون الجزاء على قدر العمل ، فالوزن استعارة ، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ، ينطق أو يتكيّف بكيفيّة فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها ، وذلك ممكن ، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها.

والعبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات ، لأنّها من خوارق المتعارف ، فلا تعدو العبارات فيها تقريب الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة ، فما جاء منها بصيغة المصدر غير متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمله على المجاز المشهور كقوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥]. وما جاء منها على صيغة الأسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) إلخ ومثل قول النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان» وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ)

٢٣

[الأنبياء : ٤٧]. وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام ، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديث قول النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنس بن مالك : «فاطلبني عند الميزان» خرّجه التّرمذي.

وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة ، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش ، وقالوا : هو القضاء السوي ، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور ، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهور المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش ، والأمر هين ، والاستدلال ليس ببيّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته.

والإخبار عن الوزن بقوله : (الْحَقُ) إن كان الوزن مجازا عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل ، أي الجزاء عادل غير جائز ، لأنّه من أنواع القضاء والحكم ، وإن كان الوزن تمثيلا بهيئة الميزان ، فالعدل بمعنى السوي ، أي والوزن يومئذ مساو للأعمال لا يرجح ولا يحجف.

وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقا.

وتفرع على كونه الحق قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون. ومحل التّفريع هو قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقوله : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ ذلك مفرّع على قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) وقوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ).

وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون ، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة ، أي من ثقلت موازينه الصّالحات ، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن ، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها.

والثّقل مع تلك الاستعارة هو أيضا ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء ، ثمّ الخفّة مستعارة لعدم الأعمال الصّالحة أخذا بغاية الخفة على وزان عكس الثّقل ، وهي أيضا ترشيح ثان لاستعارة الميزان ، والمراد هنا الخفّة الشّديدة وهي انعدام الأعمال الصّالحة لقوله : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ). والفلاح حصول الخير وإدراك المطلوب.

٢٤

والتّعريف في (الْمُفْلِحُونَ) للجنس أو العهد وقد تقدّم في تقدّم في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في سورة البقرة [٥].

وما صدق (من) واحد لقوله : (مَوازِينُهُ) ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معيّن ، بل هو كلّ من تحقّق فيه مضمون جملة الشّرط ، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضّميرين من قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

والإتيان بالإشارة للتّنبيه على أنّهم إنّما حصلوا الفلاح لأجل ثقل موازينهم ، واختير اسم إشارة البعد تنبيها على البعد المعنوي الاعتباري.

وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقّق المفلحين ، أي إن علمت جماعة تعرف بالمفلحين فهم هم.

والخسران حقيقته ضد الرّبح ، وهو عدم تحصيل التّاجر على ما يستفضله من بيعه ، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النّفع ، فمعنى (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فقدوا فوائدها ، فإن كلّ أحد يرجو من مواهبه ، وهي مجموع نفسه ، أن تجلب له النّفع وتدفع عنه الضرّ : بالرأي السّديد ، وابتكار العمل المفيد ، ونفوس المشركين قد سوّلت لهم أعمالا كانت سبب خفّة موازين أعمالهم ، أي سبب فقد الأعمال الصّالحة منهم ، فكانت نفوسهم كرأس مال التّاجر الذي رجا منه زيادة الرّزق فأضاعه كلّه فهو خاسر له ، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم ، وانظر ما تقدّم في قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة الأنعام [٢٠]. وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في سورة البقرة [١٦].

والباء في قوله : (بِما كانُوا) باء السّببيّة ، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدّنيا ، فصيغة المضارع في قوله : (يَظْلِمُونَ) لحكاية حالهم في تجدّد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) [فاطر : ٩].

والظلم ـ هنا ـ ضدّ العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقّها من الصدق. وضمن (يَظْلِمُونَ) معنى يكذّبون ، فلذلك عدّي بالباء ، فكأنّه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤].

وإنّما جعل تكذيبهم ظلما لأنّه تكذيب ما قامت الأدلّة على صدقة فتكذيبه ظلم للأدلّة

٢٥

بدحضها وعدم إعمالها.

وتقديم المجرور في قوله : (بِآياتِنا) على عامله ، وهو (يَظْلِمُونَ) ، للاهتمام بالآيات. وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصّالحين وحال المكذّبين المشركين إذ كان النّاس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين ، وهم كلّهم عاملون بالصّالحات ، مستكثرون منها ، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصّالحات ، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيّئا وذلك لم تتعرّض له هذه الآية ، إذ ليس من غرض المقام ، وتعرّضت له آيات آخري.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

عطف على جملة : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٣] فهذا تذكير لهم بأنّ الله هو ولي الخلق ، لأنّه خالقهم على وجه الأرض ، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم ، وتوبيخ على قلّة شكرها ، كما دلّ عليه تذييل الجملة بقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فإنّ النّفوس التي لا يزجرها التّهديد قد تنفعها الذكريات الصّالحة ، وقد قال أحد الخوارج وطلب منه أن يخرج إلى قتال الحجّاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نعما :

أأقاتل الحجّاج عن سلطانه

بيد تقرّ بأنّها مولاته

وتأكيد الخبر بلام القسم وقد ، المفيد للتّحقيق ، تنزيل للذين هم المقصود من الخطاب منزّلة من ينكر مضمون الخبر لأنّهم لما عبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أنّ الله هو الذي مكّنهم من الأرض ، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله.

والتّمكين جعل الشّيء في مكان ، وهو يطلق على الإقدار على التّصرف ، على سبيل الكناية ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) في سورة الأنعام [٦] وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصّريح ، أي جعلنا لكم قدرة ، أي أقدرناكم على أمور الأرض وخوّلناكم التّصرف في مخلوقاتها ، وذلك بما أودع الله في البشر من قوّة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتّغلب على مصاعبه ، وليس المراد من التّمكين هنا القوّة والحكم كالمراد في قوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [الكهف : ٨٤] لأنّ ذلك ليس حاصلا بجميع البشر إلّا على تأويل ، وليس المراد بالتمكين أيضا معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأنّ قوله : (فِي الْأَرْضِ) يمنع من

٢٦

ذلك ، لأنّه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرض ، وقد قال تعالى عن عاد : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم ممّا أقدرناكم عليه ، أي في آثارهم في الأرض أمّا أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما.

ومعايش جمع معيشة ، وهي ما يعيش به الحيّ من الطّعام والشّراب ، مشتقّة من العيش وهو الحياة ، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : ١٢٤] سمي به الشّيء الذي يحصل به العيش ، تسمية للشّيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتّى صار مساويا للحقيقة.

وياء (معايش) أصل في الكلمة لأنّها عين الكلمة من المصدر (عيش) فوزن معيشة مفعلة ومعايش مفاعل ، فحقّها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة. لأنّ استعمال العرب في حرف المدّ الذي في المفرد أنّهم إذا جمعوه جمعا بألف زائدة ردّوه إلى أصله واوا أو ياء بعد ألف الجمع ، مثل : مفازة ومفاوز ، فيما أصله واو من الفوز ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء ، فإذا كان حرف المدّ في المفرد غير أصلي فإنّهم إذا جمعوه جمعا بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قلادة وقلائد ، وعجوز وعجائز ، وصحيفه وصحائف ، وهذا الاستعمال من لطائف التّفرقة بين حرف المد الأصلي والمد الزّائد واتّفق القراء على قراءته بالياء ، وروى خارجة بن مصعب ، وحميد بن عمير ، عن نافع أنّه قرأ : معايش بهمز بعد الألف ، وهي رواية شاذة عنه لا يعبأ بها ، وقرئ في الشاذ : بالهمز ، رواه عن الأعرج ، وفي «الكشاف» نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري.

وقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) هو كقوله في أوّل السّورة (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٣] ونظائره.

والخطاب للمشركين خاصة ، لأنّهم الذين قل شكرهم لله تعالى إذا اتّخذوا معه آلهة.

ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدّم آنفا في أوّل السّورة ، ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل. لأنّهم لمّا عرفوا أنّه ربّهم فقد شكروه ، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها ، ويجوز أن تكون القلّة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالا لتذكرهم.

وانتصب (قليلا) على الحال من ضمير المخاطبين و (ما) مصدريّة ، والمصدر المؤول

٢٧

في محلّ الفاعل بقليلا فهي حال سببيّة.

وفي التّعقيب بهذه الآية لآية : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٤] إيماء إلى أنّ إهمال شكر النّعمة يعرّض صاحبها لزوالها ، وهو ما دلّ عليه قوله : (أَهْلَكْناها).

[١١ ـ ١٣] (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣))

عطف على جملة : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٠] تذكيرا بنعمة إيجاد النّوع ، وهي نعمة عناية ، لأنّ الوجود أشرف من العدم ، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النّوع بأن أمر الملائكة بالسّجود لأصله ، وأدمج في هذا الامتنان تنبيه وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القدم ، ليكون ذلك تمهيدا للتّحذير من وسوسته وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وما تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وسّط في خلال الموعظة.

والخطاب للنّاس كلّهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنّهم الغرض في هذه السورة.

وتأكيد الخبر باللّام و (قد) للوجه الذي تقدّم في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) ، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله: (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وصف الله به.

والتّصوير جعل الشّيء صورة ، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع.

وعطفت جملة (صَوَّرْناكُمْ) بحرف (ثمّ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة

٢٨

الخلق ، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسنا وشرفا ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير ، سواء كان التّصوير مقارنا للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدّة ، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) [المؤمنون: ١٤].

وتعدية فعلي (خلقنا) و (صوّرنا) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٠] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) [الأعراف : ٢٨] وقوله فيما تقدّم : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٣].

وأمّا تعلّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فنزل خلق أصل نوعهم منزلة خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان ، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى : حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٣٥] أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومن آمن به بالخروج من القرية.

ودلّ قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجودا معيّنا مسمّى بآدم ، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى ، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام.

و (ثمّ) في قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) عاطفة الجملة على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة

٢٩

من مضمون الجملة المعطوف عليها.

وقوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، تقدّم تفسيره ، وبيان ما تقدّم أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يعلّمه الملائكة ، عند قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) في سورة البقرة [٣٤].

وتعريف (لِلْمَلائِكَةِ) للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاما لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ابن عبّاس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة. وطريق أمرهم جميعا وسجودهم جميعا لآدم لا يعلمه إلّا الله ، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض.

واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدم قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّا في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة. واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ) يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم. وقال السكاكي في «المفتاح» عدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب.

وجملة : ، (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) حال من (إبليس) ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ، لما فيها من معنى : أستثني ، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، وهو عين مدلول : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فكانت الحال تأكيدا. وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعله من غير السّاجدين : إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديدا لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مهتديا كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].

ففي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عند ما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوى ورأيا ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة.

٣٠

وإنّما استمرّ في عداد الملائكة لأنّه لم يحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلمّا حدث الأمر بالسّجود ظهر خلق العصيان الكامن فيه ، فكان قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لا رجاء في حصوله بعد ، وقد علم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيدا لحكاية السّؤال والجواب في قوله: (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ابتداء المحاورة ، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود ، وضمير : (قالَ) عائد إلى معلوم من المقام أي قال الله تعالى بقرينة قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتا ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقام مقام أمر للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة.

و (ما) للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة.

و (مَنَعَكَ) معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، فلذلك كان ذكر (لا) هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتّأكيد ، ولا تفيد نفيا ، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غير التّأكيد. و (لا) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] ـ وقوله ـ (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الحديد : ٢٩] أي ليعلم أهل الكتابعلما محقّقا. وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعا محققا ، وهذا تأويل الكسائي ، والفراء ، والزّجاج ، والزّمخشري ، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كون السّجود غير واقع فلا ينبغي تأكيده خفاء لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد ، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل.

وقيل (لا) نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه (مَنَعَكَ) لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه ، فكأنّه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإمّا أن يكون (مَنَعَكَ) مستعملا في معنى دعاك ، على سبيل المجاز ، و (لا) هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل السكاكي في «المفتاح» في فصل المجاز اللّغوي ، وقريب منه لعبد الجبّار فيما نقله

٣١

الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلا ، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان ، فذكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه.

وانظر ما قلته عند قوله تعالى : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) في سورة طه [٩٢ ، ٩٣].

وقوله : (إِذْ أَمَرْتُكَ) ظرف ل (تَسْجُدَ) ، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إمّا لأنّه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلا للجنّ ليجعل منه صنفا متميّزا عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] الآية ، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النّوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملا له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار ، وفي «صحيح مسلم» ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار» وإلى هذا ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النّار نورا مخلوطا بالمادة ، ويكون المراد بالنّور نورا مجردا ، فيكون الجنّ نوعا من جنس الملائكة أحطّ ، كما كان الإنسان نوعا من جنس الحيوان أرقى.

وفصل : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) لوقوعه على طريقة المحاورات.

وبيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيرا من آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.

وجملة : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) بيان لجملة : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فلذلك فصلت ، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن.

وحصل لإبليس العلم بكونه مخلوقا من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقه ، أو بإخبار من الله تعالى.

وكونه مخلوقا من النّار ثابت قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٤ ، ١٥] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف [٥٠] : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).

٣٢

واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم.

والنّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة ، كالنّار التي في الشّمس ، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد.

والنار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها وتسلّطها على الأجسام التي تلاقيها ، ولأنّها تضيء ، ولأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار ، والتّراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها.

وأمّا النّور الذي خلق منه الملك فهو أخلص من الشّعاع الذي يبيّن من النّار مجرّدا عن ما في النّار من الأخلاط الجثمانيّة.

والطّين التّراب المختلط بالماء ، والماء عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب ، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر ، وأنّ إبليس أوخذ بعصيان أمر الله عصيانا باتّا ، والله تعالى لمّا أمر الملائكة بالسّجود لآدم قد علم استحقاق آدم ذلك بما أودع الله فيه من القوّة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء والتّقديس ، فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره وذلك ليس كافيا في التّفضيل وحده ، ما لم يكن كيانه من ذلك العنصر مهيّئا إياه لبلوغ الكمالات ، لأنّ العبرة بكيفيّة التّركيب ، واعتبار خصائص المادة المركّب منها بعد التّركيب ، بحسب مقصد الخالق عند التّركيب ، ولا عبرة بحالة المادة المجرّدة ، فالله تعالى ركب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد والاندفاع إليه بالطّبع دون نظر ، بحسب خصائص المادة المركّب هو منها ، وركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخبر والصّلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنّظر ، بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها ، وكلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب ، وركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة ، والاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار ولا نظر ، بحسب خصايص عنصرهم ، ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى وأعجب ، وكان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ وأسهل ، ومن أجل ذلك خوطب بالتّكليف.

ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشري لأنّه سجود

٣٣

اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك ، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] فجاءهم البيان مجملا بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٣١] ـ إلى قوله ـ (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) في سورة البقرة [٣٣].

وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السّماء ، وأحل الملائكة فيه ، وجعله مكانا مقدّسا فاضلا على الأرض فإنّ ذلك كلّه بجعل إلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة ، فقال له : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها).

والتّعبير بالهبوط إمّا حقيقة إن كان المكان عاليا ، وإمّا استعارة للبعد عن المكان المشرّف ، بتشبيه البعد عنه بالنّزول من مكان مرتفع وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة.

والفاء في جملة : (فَاهْبِطْ) لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس ، فهو من عطف كلام متكلّم على كلام متكلّم آخر ، لأنّ الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة ، كالعطف الذي في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤].

والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبّب عن جوابه.

وضمير المؤنّث المجرور بمن في قوله : (مِنْها) عائد على المعلوم بين المتكلّم والمخاطب ، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة ، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة ، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث.

وقوله : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلا للأمر بالهبوط ، وهو عقوبة خاصه عقوبة إبعاد عن المكان المقدّس ، لأنّه قد صار خلقه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له ، وذلك خلق التّكبر لأنّ المكان كان مكانا مقدّسا فاضلا لا يكون إلّا مطهّرا من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه‌الله : لا تحدثوا بدعة في بلدنا. وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشوّ الفساد بينهم.

٣٤

ودلّ قوله : (فَما يَكُونُ لَكَ) على أنّ ذلك الوصف لا يغتفر منه ، لأنّ النّفي بصيغة (ما يكون لك) كذا أشدّ من النّفي ب (ليس لك كذا) كما تقدّم عند قوله تعالى: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) الآية في آل عمران [٧٩] ، وهو يستلزم هنا نهيا لأنّه نفاه عنه مع وقوعه ، وعليه فتقييد نفي التّكبّر عنه بالكون في السّماء لوقوعه علّة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطّرد من السّماء ، فلا دلالة لذلك القيد على أنّه يكون له أن يتكبّر في غيرها ، وكيف وقد علم أنّ التّكبّر معصية لا تليق بأهل العالم العلويّ.

وقوله : (فَاخْرُجْ) تأكيد لجملة (فَاهْبِطْ) بمرادفها ، وأعيدت الفاء مع الجملة الثّانية لزيادة تأكيد تسبّب الكبر في إخراجه من الجنّة.

وجملة : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) يجوز أن تكون مستأنفة استينافا بيانيا ، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصّغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغرا حقيرا حيثما حلّ ، ففصلها عن التي قبلها للاستيناف ، ويجوز أن تكون واقعة موقع التّعليل للإخراج على طريقة استعمال (إنّ) في مثل هذا المقام استعمال فاء التّعليل ، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصّغار والحقارة التي غفل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التّكبّر.

وقوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أشدّ في إثبات الصّغار له من نحو : إنّك صاغر ، أو قد صغرت ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦] ، وقوله آنفا : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ). والصّاغر المتّصف بالصّغار وهو الذلّ والحقارة ، وإنّما يكون له الصّغار عند الله لأنّ جبلته صارت على غير ما يرضي الله ، وهو صغار الغواية ، ولذلك قال بعد هذا : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) [الأعراف : ١٦].

[١٤ ، ١٥] (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥))

لمّا كوّن الله فيه الصّغار والحقارة بعد عزّة الملكية وشرفها انقلبت مرامي همّته إلى التّعلق بالسّفاسف (إذا ما لم تكن إبل فمعزى) فسأل النّظرة بطول الحياة إلى يوم البعث ، إذ كان يعلم قبل ذلك أنّه من الحوادث الباقية لأنّه من أهل العالم الباقي ، فلمّا أهبط إلى العالم الأرضي ظنّ أنّه صائر إلى العدم فلذلك سأل النظرة إبقاء لما كان له من قبل ، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلمه ، وبدر من إبليس طلب النظرة ، قال الله تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي إنّك من المخلوقات الباقية.

وقد أفاد التّأكيد بإنّ والإخبار بصيغة (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أنّ إنظاره أمر قد قضاه الله

٣٥

وقدّره من قبل سؤاله ، أي تحقّق كونك من الفريق الذين أنظروا إلى يوم البعث ، أي أنّ الله خلق خلقا وقدّر بقاءهم إلى يوم البعث ، فكشف لإبليس أنّه بعض من جملة المنظرين من قبل حدوث المعصية منه ، وإن الله ليس بمغيّر ما قدّره له ، فجواب الله تعالى لإبليس إخبار عن أمر تحقّق ، وليس إجابة لطلبة إبليس ، لأنّه أهون على الله من أن يجيب له طلبا ، وهذه هي النّكتة في العدول عن أن يكون الجواب : أنظرتك أو أجبت لك ممّا يدلّ على تكرمة باستجابة طلبه ، ولكنّه أعلمه أنّ ما سأله أمر حاصل فسؤاله تحصيل حاصل.

[١٦ ، ١٧] (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧))

الفاء للتّرتيب والتسبب على قوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف : ١٣] ـ ثمّ قوله ـ (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف : ١٥].

فقد دلّ مضمون ذينك الكلامين أنّ الله خلق في نفس إبليس مقدرة على إغواء النّاس بقوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف : ١٣] وإنّه جعله باقيا متصرّفا بقواه الشرّيرة إلى يوم البعث ، فأحسّ إبليس إنّه سيكون داعية إلى الضّلال والكفر ، بجبلة قلبه الله إليها قلبا وهو من المسخ النّفساني ، وإنّه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأنّ ما يصدر عنه هو ضلال وفساد ، فصدور ذلك منه كصدور النّهش من الحيّة ، وكتحرّك الأجفان عند مرور شيء على العين ، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما.

والباء في قوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) سببية وهي ظرف مستقر واقع موقع الحال من فاعل (لَأَقْعُدَنَ) ، أي أقسم لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي. واللّام في (لَأَقْعُدَنَ) لام القسم : قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه.

وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التّعليل ، وهو قريب من الشّرط فلذلك استحقّ التّقديم فإنّ المجرور إذا قدم قد يفيد معنى قريبا من الشرطيّة ، كما في قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما تكونوا يولّى عليكم» وفي رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشّرط بعلامة الجزم فلم يرو «يولى» إلّا بالألف في آخره على عدم اعتبار الجزم. وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلّق ، إذ كان هو السّبب في حصول المتعلّق به ، فالتّقديم للاهتمام ، ولذلك لم يكن هذا التّقديم منافيا لتصدير لام القسم في جملتها ، على أنّا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب. وما مصدريّة ، والقعود عن كناية عن الملازمة

٣٦

كما في قول النّابغة :

قعودا لدى أبياتهم يثمدونهم

رمى الله في تلك الأكف الكوانع

أي ملازمين أبياتا لغيرهم يرد الجلوس ، إذ قد يكونون يسألون واقفين ، وماشين ، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده ، فيقعد الملازم طلبا للرّاحة ، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القعيد ، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] أي ملازم إذ الملك لا يوصف بقعود ولا قيام.

ولمّا ضمن فعل : (لَأَقْعُدَنَ) معنى الملازمة انتصب (صِراطَكَ) على المفعولية ، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره : فامنعنّ صراطك أو فأقطعنّ عنهم صراطك ، واللّام في لهم للأجل كقوله : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥].

وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللّام أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقا لك ، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره ، وهو فعل الخيرات ، وترك السيّئات ، فالكلام تمثيل هيئة العازمين على فعل الخير ، وعزمهم عليه ، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله ، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقة قاطع طريق منعه من المرور فيه.

والضّمير في (لَهُمْ) ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة ، التي اختصرت هنا اختصارا دعا إليه الاقتصار على المقصود منها ، وهو الامتنان بنعمة الخلق ، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس ، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليعمر به وبنسله الأرض ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فالأرض مخلوقة يومئذ ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكة فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا : وهو قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الآية وقد دلّت آية سورة الحجر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواء أهل الأرض في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠] فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة ، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين ، وإن كان آدم قد خلق في جنّة

٣٧

من جنّات الأرض فالأمر ظاهر ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة.

وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس علم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفع ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال ، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد ، فلذلك سمّيت أعمال الخير ، في حكاية كلام إبليس ، صراطا مستقيما ، وأضافه إلى ضمير الجلالة ، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه ، ولذلك أيضا ألزم (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ثم لآتيناهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ).

وبهذا الاعتبار كان إبليس عدوا لبني آدم ، لأنّه يطلب منهم ما لم يخلقوا لأجله وما هو مناف للفطرة التي فطر الله عليها البشر ، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير ، وذلك ما أفصح عنه الجعل الإلهي المشار إليه بقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] ، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح.

وجملة : ثم لآتيناهم (ثمّ) فيها للتّرتيب الرّتبي ، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل.

وكما ضرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، كذلك مثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلّا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكورة في الآية بحقيقة ، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلّا المهاجمة.

وعلّق (بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) و (خَلْفِهِمْ) بحرف (من) وعلّق (أَيْمانِهِمْ) وشمالهم بحرف عن جريا على ما هو شائع في «لسان العرب» في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل (عن) في قولهم : عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوزا له ومجافيا له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت (عن) بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه

٣٨

يقولون : جلس عن يمينه ، وكذلك (من) في قولهم من بين يديه أصلها الابتداء يقال : أتاه من بين يديه ، أي من المكان المواجه له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت (من) بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند ، لأنّ وجود (من) كالعدم ، وقد قال الحريري في «المقامة النّحويّة» (ما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف : «فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة.

والأيمان جمع يمين ، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس ، تعارفه النّاس ، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه ، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدن يقال العين اليمنى واليد اليمنى ونحو ذلك. وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) [الصافات : ٢٨]. وقال امرؤ القيس :

على قطن بالشّيم أيمن صوبه

لذلك قال أئمّة اللّغة سمّيت بلاد اليمن يمنا لأنّه عن يمين الكعبة ، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبل مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان ، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة (يمين) ، ولا أن اليمن أصل لها أو فرع عنها ، والأيمان جمع قياسي.

والشّمائل جمع شمال وهي الجهة التي تكون شمالا لمستقبل مشرق الشّمس ، وهو جمع على غير قياس.

وقوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلّا القليل من النّاس ، وقد علم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات.

وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ووجه هذه الكناية ، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس ، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر ، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتوا أمرا شنيعا إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

٣٩

أعاد الله أمره بالخروج من السّماء تأكيدا للأمرين الأول والثّاني : قال : (فَاهْبِطْ مِنْها) ـ إلى قوله ـ (فَاخْرُجْ) [الأعراف : ١٣].

ومذءوم اسم مفعول من ذأمه ـ مهموزا ـ إذا عابه وذمّه ذأما وقد تسهل همزة ذأم فتصير ألفا فيقال ذام ولا تسهل في بقيّة تصاريفه.

مدحور مفعول من دحره إذا أبعده وأقصاه ، أي : أخرج خروج مذموم مطرود ، فالذّم لما اتّصف به من الرّذائل ، والطّرد لتنزيه عالم القدس عن مخالطته.

واللّام في (لَمَنْ تَبِعَكَ) موطئة للقسم.

و (من) شرطية ، واللّام في لأملأنّ لام جواب القسم ، والجواب ساد مسد جواب الشّرط ، والتّقدير : أقسم من تبعك منهم لأملأنّ جهنّم منهم ومنك ، وغلّب في الضّمير حال الخطاب لأنّ الفرد الموجود من هذا العموم هو المخاطب ، وهو إبليس ، ولأنّه المقصود ابتداء من هذا الوعيد لأنّه وعيد على فعله ، وأمّا وعيد اتّباعه فبالتّبع له ، بخلاف الضّمير في آية الحجر [٤٣] وهو قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٤٣] لأنّه جاء بعد الإعراض عن وعيده بفعله والاهتمام ببيان مرتبة عباد الله المخلصين الذين ليس لإبليس عليهم سلطان ثمّ الاهتمام بوعيد الغاوين.

وهذا كقوله تعالى في سورة الحجر [٤١ ـ ٤٣] : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ).

والتّأكيد ب (أَجْمَعِينَ) للتّنصيص على العموم لئلا يحمل على التّغليب ، وذلك أنّ الكلام جرى على أمّة بعنوان كونهم اتباعا لواحد ، والعرب قد تجري العموم في مثل هذا على المجموع دون الجمع ، كما يقولون : قتلت تميم فلانا ، وإنّما قتله بعضهم ، قال النّابغة في شأن بني حنّ (بحاء مهملة مضمومه) :

وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة [١٩]

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩))

الواو من قوله : (وَيا آدَمُ) عاطفة على جملة : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) [الأعراف : ١٨] الآية ، فهذه الواو من المحكي لا من الحكاية ، فالنّداء والأمر من جملة

٤٠