تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الموروث عنه.

والقوم الذين كانوا يستضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] ، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين : أولاهما : الإيماء إلى علة الخبر ، أي أن الله ملّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد ، غيرة من الله على عبيده.

الثانية : التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل ، جزاء على صبرهم على الأذى في الله ، ونذارة المشركين بزوال سلطان دينهم.

ومعنى يستضعفون : يستعبدون ويهانون ، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب ، أو للمبالغة كما في استجاب.

والمشارق والمغارب جمع باعتبار تعدد الجهات ، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة ، والمراد بهما إحاطة الأمكنة.

و (الْأَرْضِ) أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدئ من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك.

و (الَّتِي بارَكْنا فِيها) صفة للأرض أو لمشارقها ومغاربها ؛ لأن ماصدقيهما متحدان ، أي قدرنا لها البركة ، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) في هذه السورة [٩٦]. أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضا هي خير من أرض مصر.

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ).

عطف على جملة : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) إلخ ... والمقصود من هذا الخبر هو قوله : (بِما صَبَرُوا) تنويها بفضيلة الصبر وحسن عاقبته ، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها ، وإلّا فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل

إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها ، فتتنزل من جملة : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا

٢٦١

يُسْتَضْعَفُونَ) إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف ، فكان مقتضى العطف هو قوله (بِما صَبَرُوا).

وكلمة : هي القول ، وهو هنا يحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بنيإسرائيل على لسان موسى في قوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٢٩] أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة ، فتمام الكلمة تحقق وعدها ، شبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه ، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدره وهي إرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء : ١٧١].

وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١] وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَتَمَّتْ) كلمات (رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) في سورة الأنعام [١١٥].

و (الْحُسْنى) : صفة ل (كَلِمَتُ) وهي صفة تشريف كما يقال : الأسماء الحسنى ، أي كلمة ربك المنزهة عن الخلف ، ويحتمل أن يكون المراد حسنها لبني إسرائيل ، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه ، لأن العدل حسن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه.

والخطاب في قوله : (رَبِّكَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أدمج في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم ؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين ، وتلك سنته وصنعه ، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر.

وعدي فعل التمام (بعلى) للإشارة إلى تضمين (تَمَّتْ) معنى الإنعام ، أو معنى حقت.

وباء (بِما صَبَرُوا) للسببية ، و (ما) مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل.

والتدمير : التخريب الشديد وهو مصدر دمّر الشيء إذا جعله دامرا للتعدية متصرف من الدمار ـ بفتح الدال ـ وهو مصدر قاصر ، يقال دمر القوم ـ بفتح الميم ـ يدمرون ـ بضم الميم ـ دمارا ، إذا هلكوا جميعا ، فهم دامرون. والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان.

٢٦٢

و (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ) : ما شاده من المصانع ، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع ، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب.

و (يَعْرِشُونَ) ينشئون من الجنات ذات العرائش. والعرائش : ما يرفع من دوالي الكروم ، ويطلق أيضا على النخلات العديدة تربّى في أصل واحد ، ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشا ودهنا ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) في سورة الأنعام [١٤١] وفعله عرش ـ من بابي ضرب ونصر ـ وبالأول قرأ الجمهور ، وقرأ بالثاني ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين ، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال ، أو بالزلزال ، أو على أيديهم جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم ، ويجوز أن يكون (يَعْرِشُونَ) بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل (دَمَّرْنا) ، شبه البناء المرفوع بالعرش. ويجوز أن يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحا للاستعارة.

وفعل (كانَ) في الصلتين دال على أن ذلك دأبه وهجيراه ، أي ما عني به من الصنائع والجنات. وصيغة المضارع في الخبرين عن (كان) للدلالة على التجدد والتكرر.

[١٣٨ ـ ١٤٠] (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠))

لما تمت العبرة بقصة بعث موسى عليه‌السلام إلى فرعون وملئه ، وكيف نصره الله على عدوه ، ونصر قومه بني إسرائيل ، وأهلك عدوهم كشأن سنة الله في نصر الحق على الباطل ، استرسل الكلام إلى وصف تكوين أمة بني إسرائيل وما يحق أن يعتبر به من الأحوال العارضة لهم في خلال ذلك مما فيه طمأنينة نفوس المؤمنين الصالحين في صالح أعمالهم ، وتحذيرهم مما يرمي بهم إلى غضب الله فيما يحقرون من المخالفات ، لما في ذلك كله من التشابه في تدبير الله تعالى أمور عبيده ، وسنته في تأييد رسله وأتباعهم ، وإيقاظ نفوس الأمة إلى مراقبة خواطرهم ومحاسبة نفوسهم في شكر النعمة ودحض

٢٦٣

الكفران.

والمجاوزة : البعد عن المكان عقب المرور فيه ، يقال : جاوز بمعنى جاز ، كما يقال : عالى بمعنى علا ، وفعله متعد إلى واحد بنفسه وإلى المفعول الثاني بالباء فإذا قلت : جزت به ، فأصل معناه أنك جزته مصاحبا في الجواز به للمجرور بالباء ، ثم استعيرت الباء للتعدية يقال : جزت به الطريق إذا سهلت له ذلك وإن لم تسر معه ، فهو بمعنى أجزته ، كما قالوا : ذهبت به بمعنى أذهبته ، فمعنى قوله هنا : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) قدرنا لهم جوازه ويسّرناه لهم.

والبحر هو بحر القلزم ـ المعروف اليوم بالبحر الأحمر ـ وهو المراد باليمّ في الآية السابقة ، فالتعريف للعهد الحضوري ، أي البحر المذكور كما هو شأن المعرفة إذا أعيدت معرفة ، واختلاف اللفظ تفنن ، وتجنبا للإعادة ، والمعنى : أنهم قطعوا البحر وخرجوا على شاطئه الشرقي.

و (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ) معناه أتوا قوما ، ولما ضمن (فَأَتَوْا) معنى مروا عدي بعلى ، لأنهم لم يقصدوا الإقامة في القوم ، ولكنهم ألفوهم في طريقهم.

والقوم هم الكنعانيون ويقال لهم عند العرب العمالقة ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين.

والأصنام كانت صور البقر ، وقد كان البقر يعبد عند الكنعانيين ، أي الفنيقيين باسم (بعل) ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) في سورة البقرة [٥١].

والعكوف : الملازمة بنية العبادة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) في سورة البقرة [١٨٧] ، وتعدية العكوف بحرف (على) لما فيه من معنى النزول وتمكنه كقوله : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) [طه : ٩١].

وقرئ (يَعْكُفُونَ) ـ بضم الكاف ـ للجمهور ، وبكسرها لحمزة والكسائي ، وخلف ، وهما لغتان في مضارع عكف.

واختير طريق التنكير في أصنام ووصفه بأنها لهم ، أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة ، لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة.

٢٦٤

وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يقتصر على قوله : (أَصْنامٍ) قال ابن عرفة التونسي : «عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلههم».

وفصلت جملة (قالُوا) ، فلم تعطف بالفاء : لأنها لما كانت افتتاح محاور ، وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها ، ولو عطفت بالفاء لجاز أيضا.

ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه ، إظهارا لرغبتهم فيما سيطلبون ، وسموا الصنم إلها لجهلهم فهم يحسبون أن اتخاذ الصنم يجدي صاحبه ، كما لو كان إلهه معه ، وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلّا أنهم خدمة وعبيد.

والتشبيه في قوله : (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أرادوا به حض موسى على إجابة سؤالهم ، وابتهاجا بما رأوا من حال القوم الذين حلّوا بين ظهرانيهم وكفى بالأمة خسّة عقول أن تعد القبيح حسنا ، وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها ، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها.

وما يجوز أن تكون صلة وتوكيدا كافة عمل حرف التشبيه ، ولذلك صار كاف التشبيه داخلا على جملة لا على مفرد ، وهي جملة من خبر ومبتدأ ، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية غير زمانية ، والجملة بعدها في تأويل مصدر ، والتقدير كوجود آلهة لهم ، وإن كان الغالب أن (ما) المصدرية لا تدخل إلّا على الفعل نحو قوله تعالى : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) [آل عمران : ١١٨] فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله : (لَهُمْ) أو يكتفى بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جارا ومجرورا ، كقول نهشل بن جرير التميمي :

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه (١)

وفصلت جملة (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لوقوعها في جواب المحاورة ، أي : أجاب

__________________

(١) أوله : أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد ، قاله : يرثي أخاه مالكا قتل يوم صفين وسيف عمرو وهو سيف عمرو بن معديكرب.

٢٦٥

موسى كلامهم ، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لأن ذلك هو المناسب لحالهم.

والجهل : انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته ، وتقدم في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) في سورة النساء [١٧] ، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام ، وكان وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكدا لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم ، ولو لا ذلك لكان لهم في بادئ النظر زاجر عن مثل هذا السؤال ، فالخبر مستعمل في معنييه : الصريح والكناية ، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم.

وفي الإتيان بلفظ (قَوْمٍ) وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفا لقوم ، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم ، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم ، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم (بإن) لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامع.

وجملة (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) بمعنى التعليل لمضمون جملة (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت اسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها ، وقد عرّف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متبرا أمرهم وباطلا عملهم ، وقدم المسند وهو (مُتَبَّرٌ) على المسند إليه وهو (ما هُمْ فِيهِ) ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي : هم المعرضون للتّبار وأنه لا يعدوهم البتة ، وأنه لهم ضربة لازب ، ولا يصح أن يجعل (مُتَبَّرٌ) مسندا إليه لأن المقصود بالإخبار هو ما هم فيه.

والمتبّر : المدمّر ، والتّبار ـ بفتح التاء ـ الهلاك (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح: ٢٨]. يقال نبر الشيء ـ كضرب وتعب وقتل ـ وتبّره تضعيف للتعدية ، أي أهلكه والتتبير مستعار هنا لفساد الحال ، فيبقى اسم المفعول على حقيقته في أنه وصف للموصوف به في زمن الحال.

ويجوز أن يكون التتبير مستعارا لسوء العاقبة ، شبه حالهم المزخرف ظاهره بحال الشيء البهيج الآئل إلى الدمار والكسر فيكون اسم المفعول مجازا في الاستقبال ، أي صائر إلى السوء.

٢٦٦

و (ما هُمْ فِيهِ) هو حالهم ، وهو عبادة الأصنام وما تقتضيه من الضلالات والسيئات ولذلك اختير في تعريفها طريق الموصولية لأن الصلة تحيط بأحوالهم التي لا يحيط بها المتكلم ولا المخاطبون.

والظرفية مجازية مستعارة للملابسة ، تشبيها للتلبس باحتواء الظرف على المظروف.

والباطل اسم لضد الحق فالإخبار به كالإخبار بالمصدر يفيد مبالغة في بطلانه لأن المقام مقام التوبيخ والمبالغة في الإنكار ، وقد تقدم آنفا معنى الباطل عند قوله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١١٨].

وفي تقديم المسند ، وهو (باطِلٌ) على المسند إليه وهو (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ما في نظيره من قوله : (مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ).

وإعادة لفظ (قالَ) مستأنفا في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ) تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)(١) ـ إلى قوله ـ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) من هذه السورة [٢٤ ، ٢٥].

والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول ، أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم ، وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم ، وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدلي ، أي : لو لم تكن تلك الآلهة باطلا لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الإله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يشاركهم في حماقتهم.

والاستفهام بقوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلها غير الله ، وقد أولي المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلها ، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص ، للمبالغة في الإنكار أي : اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلها.

وهمزة (أَبْغِيكُمْ) همزة المتكلم للفعل المضارع ، وهو مضارع بغى بمعنى طلب ، ومصدره البغاء ـ بضم الباء.

__________________

(١) في المطبوعة : قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [البقرة : ٣٨] ، والمثبت هو المناسب للسياق.

٢٦٧

وفعله يتعدى إلى مفعول واحد ، ومفعوله هو (غَيْرَ اللهِ) لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه.

وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال ، وأصل الكلام : أبغي لكم و (إِلهاً) تمييز ل (غَيْرَ).

وجملة : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) في موضع الحال ، وحين كان عاملها محل إنكار باعتبار معموله ، كانت الحال أيضا داخلة في حيز الإنكار ، ومقررة لجهته.

وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوما عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار ، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق.

ومجيء المسند فعليا : ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي : وهو فضلكم ، لم تفضلكم الأصنام ، فكان الإنكار عليهم تحميقا لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا ينعم.

والمراد بالعالمين : أمم عصرهم ، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياء ، وبأن منهم رسلا وأنبياء ، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه ، وبأنه جعلهم أحرارا بعد أن كانوا عبيدا ، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته ، وبعث فيهم رسولا ليقيم لهم الشريعة. وهذه الفضائل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذ ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم ، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذ أصنام مثلهم ، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول ، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافا بأنه أرجح رأيا وأحسن حالا ، في تلك الناحية.

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

من تتمة كلام موسى عليه‌السلام كما يقتضيه السياق ، ويعضده قراءة ابن عامر : و (إِذْ أَنْجاكُمْ) والمعنى : أأبتغي لكم إلها غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين ، وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي ، فابتغاء إله غيره كفران لنعمته ، فضمير المتكلم المشارك يعود إلى الله وموسى ، ومعاده يدل عليه قوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) [الأعراف : ١٤٠].

٢٦٨

ويجوز أن يكون هذا امتنانا من الله اعترضه بين القصة وعدة موسى عليه‌السلام انتقالا من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة ، فيكون الضمير ضمير تعظيم ، وقرأ الجمهور : (أَنْجَيْناكُمْ) بنون المتكلم المشارك ، وقرأه ابن عامر : وإذ أنجاكم على إعادة الضمير إلى الله في قوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) [الأعراف : ١٤٠] ، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصل المعنيان.

و (إِذْ) اسم زمان ، وهو مفعول به لفعل محذوف تقديره : واذكروا.

واختار الطبري وجماعة أن يكون قوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) خطابا لليهود الموجودين في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون ابتداء خطاب افتتح بكلمة (إذ) ، والتعريض بتذكير المشركين من العرب قد انتهى عند قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٤٠] وسورة الأعراف مكية ولم يكن في المكي من القرآن هو مجادلة مع اليهود.

وقوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) إلى آخر الآية تقدم تفسير مشابهتها في سورة البقرة.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢))

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

عود إلى بقية حوادث بني إسرائيل ، بعد مجاوزتهم البحر ، فالجملة عطف على جملة : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) [الأعراف : ١٣٨].

وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة ، وقرأ أبو عمرو : ووعدنا. وحذف الموعود به اعتمادا على القرينة في قوله : (ثَلاثِينَ لَيْلَةً) إلخ ، و (ثَلاثِينَ) منصوب على النيابة عن الظرف ، لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة ، ودل عليه (واعَدْنا) لأن المواعدة للقاء فالعامل (واعَدْنا) باعتبار المقدر ، أي حضورا مدة ثلاثين ليلة.

وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيرا عليه ، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقا ورغبة في مناجاة الله وعبادته ، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال ، فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة ، وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال ، لم تصح ،

٢٦٩

ولم يزده على أربعين ليلة : إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعده الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه ، وذلك يجنّب عنه المتقون بله الأنبياء ، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار ، كما قيل : إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة ، وسميت زيادة الليالي العشر إتماما إشارة إلى أن الله تعال ى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة ، ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة ، إما لحكمة الاستيناس ، وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب ، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي ؛ لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة.

والنفس في الليل أكثر تجردا للكمالات النفسانية ، والأحوال الملكية ، منها في النهار ، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناس بنور الشمس والنشاط به للشغل ، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات ، وذلك ينحطّ في الليل والظلمة ، وتنعكس تفكرات النفس إلى داخلها ، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى ، قال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] الآية ، وقال : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، وفي الحديث : «ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له» ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في «هياكل النور» «النّفوس الناطقة من عالم الملكوت ، وإنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف».

على أن الغالب في الكلام العربي التوقيت بالليالي ، ويريدون أنها بأيامها ، لأن الأشهر العربية تبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة.

وقوله (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) فذلكة الحساب كما في قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ، فالفاء للتفريع.

والتمام الذي في قوله : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتا أكمل وأفضل كقوله تعالى : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] إلى قوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون

٢٧٠

مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال ، وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة ، ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقا وتيسيرا عليه ، ليكون إقباله على إتمام الأربعين باشتياق وقوة.

وانتصب (أَرْبَعِينَ) على الحال بتأويل : بالغا أربعين.

والميقات قيل : مرادف للوقت ، وقيل هو وقت قدّر فيه عمل ما ، وقد تقدم في قوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) في سورة البقرة [١٨٩].

وإضافته إلى (رَبِّهِ) للتشريف ، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين ، فزعموا أن موسى هلك في الجبل كما رواه ابن جريج ، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج.

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).

أي : قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحده ومعه غلامه يوشع بن نون.

ومعنى (اخْلُفْنِي) كن خلفا عني وخليفة ، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف ، فالخلافة وكالة ، وفعل خلف مشتق من الخلف ـ بسكون اللام ـ وهو ضد الإمام ، لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه ، والغائب يجعل مكانه وراءه.

وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله : (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فإن سياسة الأمة تدور حول محور الإصلاح ، وهو جعل الشيء صالحا ، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحا ، ولا تلبث أن تؤول فسادا على من لاحت عنده صلاحا ، ثم إذا تردد فعل بين كونه خيرا من جهة وشرا من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفر صلاحا ، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكن إلغاؤه وإلّا تخيّر ، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نهي ـ والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه ـ وبين تعليق النهي

٢٧١

باتباع سبيل المفسدين.

والاتباع أصله المشي على حلف ماش ، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسد من كان الفساد صفته ، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ، لأن المفسدين قد يعملون عملا لا فساد فيه ، فنهي عن المشاركة في عمل من عرف بالفساد ، لأن صدوره عن المعروف بالفساد ، كاف في توقع إفضائه إلى فساد. ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد ، وسد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه.

فلا جرم أن كان قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) جامعا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته.

وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ، أو أعلمه ، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين ، وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته ، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه ، كما حكى الله عنه في قوله : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) [الأعراف : ١٥٠] وقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [طه : ٩٤].

فليست جملة : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) مجرد تأكيد لمضمون جملة (وَأَصْلِحْ) تأكيدا للشيء بنفي ضده مثل قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] لأنها لو كان ذلك هو المقصد منها لجرّدت من حرف العطف ، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل : وأصلح لا تفسد ، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة : (وَأَصْلِحْ).

[١٤٣ ، ١٤٤] (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))

٢٧٢

جعل مجيء موسى في الوقت المعين أمرا حاصلا غير محتاج للإخبار عنه ، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك ، وجعل تكليم الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضا حاصلا غير محتاج للإخبار عن حلوله ، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام ، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير ممكنة ، فليس يحصل من شئون المواعدة إلّا الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته ، فلذلك كله جعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطا لحرف (لمّا) لأنه كالمعلوم ، وجعل الإخبار متعلقا بما بعد ذلك ، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله ، فكان الكلام ضربا من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين استغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطا للمّا.

ويجوز أن تجعل الواو في قوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) زائدة في جواب (لَمَّا) كما قاله الأكثر في قول امرئ القيس :

فلمّا أجزنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

أن جواب (لَمَّا) هو قوله وانتحى ، وجوزوه في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُلِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤] الآية ، أن يكون (وَنادَيْناهُ) هو جواب (لما) فيصير التقدير : لما جاء موسى لميقاتنا كلّمه ربه ، فيكون إيجازا بحذف جملة واحدة ، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلّا من لازم المواعدة.

واللام في قوله : (لِمِيقاتِنا) صنف من لام الاختصاص ، كما سماها في «الكشاف» ومثلها بقولهم : أتيته لعشر خلون من الشهر ، يعني أنه اختصاص ما ، وجعلها ابن هشام بمعنى عند ، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر ، والمعنى : فلما جاء موسى مجيئا خاصا بالميقات أي : حاصلا عنده لا تأخير فيه ، كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وفي الحديث سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الأعمال أفضل فقال : «الصلاة لوقتها» أي عند وقتها ومنه (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١].

ويجوز جعل اللام للأجل والعلة ، أي جاء لأجل ميقاتنا ، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة ، أي جاء لأجل مناجاتنا.

والمجيء : انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكان المناجاة.

والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معاني بحسب وضع مصطلح عليه ، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث ، فتعين أن يكون إسناد التكليم

٢٧٣

إلى الله مجازا مستعملا في الدلالة على مراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطب به بكيفية يوقن المخاطب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وفق الإرادة ووفق العلم ، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد ، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما روي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها ، وذلك أول كلام كلّمه الله موسى في أرض مدين في جبل (حوريب) ، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طور سينا ، وهو المراد هنا ، وهو المذكور في الإصحاح ١٩ من سفر الخروج.

والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيدا عن الناس في المناجاة أو نحوها ، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) الآية في سورة الشورى [٥١] ، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلّا بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفا له ، وهو المعبر عنه بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] ، وقد كلم الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء ، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه ، فهي كيفية أخرى ، وذلك بإلقاء الكلام في نفس الملك الذي يبلغه إلى النبي ، والقرآن كله من هذا النوع ، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها : قال الله لموسى.

وقوله : (قالَ رَبِّ أَرِنِي) هو جواب (لَمَّا) على الأظهر ، فإن قدرنا الواو في قوله : (وَكَلَّمَهُ) زائدة في جواب لما كان قوله : (قالَ) واقعا في طريق المحاورة فلذلك فصل.

وسؤال موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي ، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة. وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث ، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم ، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة ، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعل جملة (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) شرطا لحرف (لمّا) لأن (لمّا) تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها ، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) في هذه السورة [٢٢] ، هذا على جعل (وَكَلَّمَهُ) عطفا على شرط لمّا ، وليس جواب لما ، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى ، وهي مثل

٢٧٤

الرؤية الموعود بها في الآخرة ، فكان موسى يحسب أن مثلها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا ، ولا يمتنع على نبي عدم العلم بتفاصيل الشئون الإلهية قبل أن يعلمها الله إياه ، وقد قال الله لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] ، ولذلك كان أئمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم : «بلا كيف».

وكان المعتزلة غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة.

وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحيز ، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى ، وأما ما تبجح به الزمخشري في «الكشاف» فذلك من عدوان تعصبه على مخالفيه على عادته ، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازل لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به ، ولكنه قال فأوجب.

وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلب على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤال الذي سأله بنوا إسرائيل المحكي في سورة البقرة [٥٥] بقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وما تمحل به في «الكشاف» من أنه هو ذلك السؤال تكلف لا داعي له.

ومفعول (أَرِنِي) محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله : (إِلَيْكَ).

وفصل قوله : (قالَ لَنْ تَرانِي) لأنه واقع في طريق المحاورة.

و (لَنْ) يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل ، وهما متقاربان ، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد ، فنفت (لن) رؤية موسى ربّه نفيا لا طمع بعده للسائل في الإلحاح والمراجعة بحيث يعلم أن طلبته متعذرة الحصول ، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة.

والاستدراك المستفاد من (لكِنِ) لرفع توهم المخاطب الاقتصار على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع ، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائل ومنقصة فيه ، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيرفع ، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه ، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيء من شأن الجلال الإلهي ، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم ، فيعلم موسى أنه أحرى

٢٧٥

بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سبحات الله تعالى.

وعلق الشرط بحرف (إن) لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعذره ، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوما لله انتفاؤه ، صح تعليق الأمر المراد تعذر وقوعه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء ، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى ، خلافا لما اعتاد كثير من علمائنا من الاحتجاج بذلك.

وقوله : (فَسَوْفَ تَرانِي) ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سبق قوله : (لَنْ تَرانِي) أزال طماعية السائل الرؤية ، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظره إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجز القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى ، من عدم ثبات قوة الجبل ، فصارت قوة الكلام : أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني ، لأنك لا تستطيع ذلك ، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف (لو) بدلالة قرينة السابق.

والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب ، وهو هنا مجاز ، ولعله أريد به إزالة الحوائل المعتادة التي جعلها الله حجابا بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقادير مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيبا يعلمه الله.

وتقريبه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة ، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثارا لقدرته بدون واسطة ، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيرا خارقا للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالا تظهر له آثار مناسبة لنوع تلك القوة ، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسند إلى الله تعالى تقريبا للإفهام ، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تماثل اتصال الرؤية اندكّ الجبل ، ومما يقرب هذا المعنى ، ما رواه الترمذي وغيره ، من طرق عن أنس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) فوضع إبهامه قريبا من طرف خنصره يقلل مقدار التجلي.

وصعق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فضاضا.

وقرأ الجمهور (دَكًّا) ـ بالتنوين ـ والدك مصدر وهو والدق مترادفان ، وهو الهدّ

٢٧٦

وتفرق الأجزاء كقوله (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠] ، وقد أخبر عن الجبل بأنه جعل دكا للمبالغة ، والمراد أنه مدكوك أي : مدقوق مهدوم. وقرأ الكسائي ، وحمزة ، وخلف (دَكَّاءَ) ـ بمد بعد الكاف وتشديد الكاف ـ والدكاء الناقة التي لا سنام لها ، فهو تشبيه بليغ أي كالدكاء أي ذهبت قنته ، والظاهر أن ذلك الذي اندك منه لم يرجع ولعل آثار ذلك الدك ظاهرة فيه إلى الآن.

والخرور السقوط على الأرض.

والصعق : وصف بمعنى المصعوق ، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها ، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق ، فإذا أصابت جسما أحرقته ، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته ، أو من بعيد غشي عليه من رائحتها ، وسمي خويلد بن نفيل الصعق علما عليه بالغلبة ، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقا من الصعق ؛ لأن أئمة اللغة قالوا : إن الصعق الغشي من صيحة ونحوها ، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجة ، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة.

والإفاقة : رجوع الإدراك بعد زواله بغشي ، أو نوم ، أو سكر ، أو تخبط جنون.

و (سُبْحانَكَ) مصدر جاء عوضا عن فعله أي أسبحك ، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به ، لمناسبة سؤاله منه ما تبين له أنه لا يليق به سؤاله دون استيذانه وتحقق إمكانه كما قال تعالى لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) في سورة هود [٤٦].

وقوله : (تُبْتُ إِلَيْكَ) إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله ، وهذا كقول نوح عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٧] وصيغة ـ الماضي من قوله : (تُبْتُ) مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعت وزوّجت. مبالغة في تحقق العقد.

وقوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أطلق الأول على المبادر إلى الإيمان ، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة ، والمراد به هنا وفي نظائره ـ الكناية عن قوة إيمانه ، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه ، فهو للمبالغة ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) في سورة البقرة [٤١] ، وقوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)

٢٧٧

في سورة الأنعام [١٦٣].

والمراد بالمؤمنين من كان الإيمان وصفهم ولقبهم ، أي الإيمان بالله وصفاته كما يليق به فالإيمان مستعمل في معناه اللقبي ، ولذلك شبه الوصف بأفعال السجايا فلم يذكر له متعلّق ، ومن ذهب من المفسرين يقدر له متعلّقا فقد خرج عن نهج المعنى.

وفصلت جملة : (قالَ يا مُوسى) لوقوع القول في طريق المحاورة والمجاوبة ، والنداء للتأنيس وإزالة الرّوع.

وتأكيد الخبر في قوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) للاهتمام به إذ ليس محلا للإنكار.

والاصطفاء افتعال مبالغة في الاصفاء وهو مشتق من الصّفو ، وهو الخلوص مما يكدر ، وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في سورة آل عمران [٣٣] وضمن اصطفيتك معنى الإيثار والتفضيل فعدي بعلى.

والمراد بالناس : جميع الناس ، أي الموجودين في زمنه ، فالاستغراق في (النَّاسِ) عرفي أي هو مفضل على الناس يومئذ لأنه رسول ، ولتفضيله بمزية الكلام ، وقد يقال إن موسى أفضل جميع الناس الذين مضوا يومئذ ، وعلى الاحتمالين : فهو أفضل من أخيه هارون ، لأن موسى أرسل بشريعة عظيمة ، وكلمه الله ، وهارون أرسله الله معاونا لموسى ولم يكلمه الله ، ولذلك قال : برسالتي وبكلامي وما ورد في الحديث من النهي عن التفضيل بين الأنبياء محمول على التفضيل الذي لا يستند لدليل صريح ، أو على جعل التفضيل بين الأنبياء شغلا للناس في نواديهم بدون مقتض معتبر للخوض في ذلك. وهذا امتنان من الله وتعريف.

ثم فرع على ذلك قوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) والأول تفريع على الإرسال والتكليم. والثاني تفريع على الامتنان ، وما صدق (ما آتَيْتُكَ) قيل هو الشريعة والرسالة ، فالإيتاء مجاز أطلق على التعليم والإرشاد ، والأخذ مجاز في التلقي والحفظ ، والأظهر أن يكون (ما آتَيْتُكَ) إعطاء الألواح بقرينة قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) [الأعراف : ١٤٥] وقد فسر بذلك ، فالإيتاء حقيقة ، والأخذ كذلك ، وهذا أليق بنظم الكلام مع قوله : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) [الأعراف : ١٤٥] ويحصل به أخذ الرسالة والكلام وزيادة.

والإخبار عن (كُنْ) بقوله : (مِنَ الشَّاكِرِينَ) أبلغ من أن يقال كن شاكرا كما تقدم في قوله : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].

٢٧٨

وقرأ نافع : وابن كثير ، وأبو جعفر ، وروح عن يعقوب : برسالتي ، بصيغة الإفراد وقرأ البقية (بِرِسالاتِي) بصيغة الجمع ، وهو على تأويله بتعدد التكاليف والإرشاد التي أرسل بها.

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥))

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها).

عطف على جملة (قالَ يا مُوسى ، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) برسالتي [الأعراف: ١٤٤] إلى آخرها ، لأن فيها : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) [الأعراف : ١٤٤] والذي آتاه هو ألواح الشريعة ، أو هو المقصود من قوله : (ما آتَيْتُكَ).

والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد ، إن كان (ما آتَيْتُكَ) مرادا به الألواح التي أعطيها موسى في المناجاة ، فساغ أن تعرّف تعريف العهد ، كأنه قيل : فخذ ألواحا آتيتكها ، ثم قيل : كتبنا له في الألواح ، وإذا كان ما آتيتك مرادا به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني ، أي : وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح.

والألواح جمع لوح بفتح اللام ، وهو قطعة مربعة من الخشب ، وكانوا يكتبون على الألواح ، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة (وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى).

وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحا مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة ، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج ، فتسميتها الألواح ؛ لأنها على صورة الألواح ، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى ، وكانا لوحين ، كما في التوراة ، فإطلاق الجمع عليها هنا : إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما ، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج ، فكانا بمنزلة أربعة ألواح.

٢٧٩

وأسندت الكتابة إلى الله تعالى ؛ لأنها كانت مكتوبة نقشا في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى ، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين ، كما أسند الكلام إلى الله في قوله : (وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤].

و (من) التي في قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تبعيضية متعلقة ب (كَتَبْنا) ومفعول (كَتَبْنا) محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتوبا ، ويجوز جعل (من) اسما بمعنى بعض فيكون منصوبا على المفعول به بكتبنا ، أي كتبنا له بعضا من كل شيء ، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل [١٦] (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

وكل شيء عام عموما عرفيا أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٣٨] على أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى طريقة قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] أي أصوله.

والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه‌السلام وهي ما في الإصحاح (٢٠) من سفر الخروج ونصها : أنا الرب إلاهك الذي اخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع تمثالا منحوتا ، ولا صورة ما مما في السماء ، من فوق ، وما في الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلاهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ واصنع إحسانا إلى ألوف من محبّي وحافظي وصاياي ، لا تنطق باسم الرب إلاهك باطلا لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا ، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلاهك لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك ؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر ، وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ، أكرم أباك وأمك ؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلاهك ، لا تقتل ، لا تزن لا تسرق ، لا تشهد ، على قريبك شهادة زور ، لا تشته بيت قريبك ، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك ا ه ، واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر ، وبالكلمات العشر أي لجمل العشر.

وقد فصلت (في) من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر

٢٨٠