تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

مشدودا على خشبة ، وتقدم في قوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) في سورة النساء [١٥٧] ، وعلى هذا يكون توعّدهم بنوعين من العذاب. والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين : فريق يعذب بالقطع من خلاف ، وفريق يعذب بالصلب والقتل ، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم ، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذ ويحتمل أن يراد بالصلب : الصلب دون قتل ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالا ينذعر بهم الناس ، كيلا يقدم أحد على عصيان أمره من بعد ، فتكون (ثم) دالة على الترتيب والمهلة ، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع ، وهذا هو المناسب لظاهر قوله : (أَجْمَعِينَ) المفيد أن الصلب ينالهم كلهم.

وفصلت جملة (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) لوقوعها في سياق المحاورة.

والانقلاب : الرجوع وقد تقدم قريبا. وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم ، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع ، وقد جاء هذا الجواب موجزا إيجازا بديعا لأنه يتضمن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون ، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم ، ويرجون العقاب لفرعون على ذلك ، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين ، كان قولهم : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) تشوقا إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله تعالى ، فإن الله تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه ، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه ، لأنه لم يكن عن جناية تصمهم بل كان على الإيمان بآيات لما ظهرت لهم. أي : فإنك لا تعرف لنا سببا يوجب العقوبة غير ذلك.

والنّقم : بسكون القاف وبفتحها ، الإنكار على الفعل ، وكراهة صدوره وحقد على فاعله ، ويكون باللسان وبالعمل ، وفعله من باب ضرب وتعب ، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع (وَما تَنْقِمُ) ـ بكسر القاف ـ.

والاستثناء في قولهم : (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) متصل ، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم ، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

وجملة (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) من تمام كلامهم ، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى ، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها.

ومعنى قوله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون.

٢٤١

ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبرا قويا ، يفوق المتعارف ، فشبه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس ، على طريقة الاستعارة المكنية ، وشبه خلقه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية ، فإن الإفراغ صبّ جميع ما في الإناء ، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه ، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية.

وتقدم نظيره في قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) في سورة البقرة [٢٥٠].

ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذانا بأنهم غير راغبين في الحياة ، ولا مبالين بوعيد فرعون ، وأن همتهم لا ترجو إلّا النجاة في الآخرة ، والفوز بما عند الله ، وقد انخذل بذلك فرعون ، وذهب وعيده باطلا ، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة.

والقرآن لم يتعرض هنا ، ولا في سورة الشعراء ، ولا في سورة طه ، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة.

وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات [٢٦] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) ، فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية.

والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يرد جوابا.

وذكرهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

والظاهر أن كلمة (مُسْلِمِينَ) تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين ، وهي التي يجمع لفظ الإسلام تفصيلها ، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٢].

[١٢٧ ، ١٢٨] (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ

٢٤٢

لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨))

جملة : (قالَ الْمَلَأُ) عطف على جملة : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) [الأعراف : ١٢٣] أو على حملة (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩]. وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته ، لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون ، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة ، فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامه. وأنه لم يحر جوابا. راموا إيقاظ ذهنه ، وإسعار حميته ، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون ، ولعلهم رأوا منه تأثرا بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده ، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ).

والاستفهام في قوله : (أَتَذَرُ مُوسى) مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه والإنكار على الإبطاء بإتلافهم ، وموسى مفعول (تَذَرُ) أي تتركه متصرفا ولا تأخذ على يده.

والكلام على فعل (تَذَرُ) تقدم في قوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً) في الأنعام [٧٠].

وقوم موسى هم من آمن به ، وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومن آمن من القبط.

واللام في قوله : (لِيُفْسِدُوا) لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللا بالفساد ، وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز : شبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله ، واستعير لذلك المعنى حرف اللام عوضا عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية ، ومغادرة أرض الاستعباد.

و (الْأَرْضِ) مملكة فرعون وهي قطر مصر.

وقوله : (وَيَذَرَكَ) عطف على (لِيُفْسِدُوا) فهو داخلي التعليل المجازي ، لأنّ هذا

٢٤٣

حاصل في بقائهم دون شك ، ومعنى تركهم فرعون ، تركهم تأليهه وتعظيمه ، ومعنى ترك آلهته نبذهم عبادتها ونهيهم الناس عن عبادتها.

والآلهة جمع إله ، ووزنه أفعلة ، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صورا عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار ، أشهرها (فتاح) وهو أعظمها عندهم وكان يعبد بمدينة (منفيس) ، ومنها (رع) وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس ، ومنها (ازيريس) و (إزيس) و (هوروس) وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن ، ومنها (توت) وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة ، ومنها (أمون رع) فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم.

وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل (إيبيس) ومثل الجعران وهو الجعل.

وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعون إلى بنوته وخدمته ، وكان فرعون معدودا ابن الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول ، ففرعون هو المنفذ للدين ، وكان يعد إله مصر ، وكانت طاعته طاعته للآلهة كما حكى الله تعالى عنه : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]. وتوعد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء ، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه ، فالإضافة على معنى (من) التبعيضية.

وقرأ نافع وابن كثير ، وأبو جعفر : (سَنُقَتِّلُ) ـ بفتح النون وسكون القاف وضم التاء ـ وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب.

والاستحياء : مبالغة في الإحياء ، فالسين والتاء فيه للمبالغة ، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه ، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن ، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدما.

وجملة : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه ، أي : هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر : الغالب بإذلال.

و (فَوْقَهُمْ) مستعمل مجازا في التمكن من الشيء وكلمة (فَوْقَهُمْ) مستعارة

٢٤٤

لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره ، فهي تمثيلية.

وجملة : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) واقعة جوابا لقول قومه (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) [الأعراف : ١٢٥] إلى آخرها الذي أجابوا به عن وعيد فرعون ، فكان موسى معدودا في المحاورة ، ولذلك نزل كلامه الذي خاطب به قومه منزلة جواب منه لفرعون ، لأنه في قوة التصريح بقلة الاكتراث بالوعيد ، وبدفع ذلك بالتوكل على الله.

والتوكل هو جماع قوله : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) وقد عبر عن ذلك بلفظ التوكل في قوله : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) في سورة يونس [٨٤] ، فإن حقيقة التوكل أنه طلب نصر الله وتأييده في الأمر الذي يرغب حصوله ، وذلك داخل في الاستعانة وهو يستلزم الصبر على الضر لاعتقاد أنه زائل بإذن الله.

وخاطب موسى قومه بذلك تطمينا لقلوبهم ، وتعليما لهم بنصر الله إياهم لأنه علم لأنه بوحي الله إليه.

وجملة : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) تذييل وتعليل للأمر بالاستعانة بالله والصبر ، أي : افعلوا ذلك لأن حكم الظلم لا يدوم ، ولأجل هذا المعنى فصلت الجملة.

وقوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) كناية عن ترقب زوال استعباد فرعون إياهم ، قصد منها صرف اليأس عن أنفسهم الناشئ عن مشاهدة قوة فرعون وسلطانه ، بأن الله الذي خوله ذلك السلطان قادر على نزعه منه لأن ملك الأرض كلها لله فهو الذي يقدر لمن يشاء ملك شيء منها وهو الذي يقدر نزعه.

فالمراد من الأرض هنا الدنيا لأنه أليق بالتذييل وأقوى في التعليل ، فهذا إيماء إلى أنهم خارجون من مصر وسيملكون أرضا أخرى.

وجملة : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) تذييل ، فيجوز أن تكون الواو اعتراضية ، أي : عاطفة على ما في قوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) من معنى التعليل ، فيكون هذا تعليلا ثانيا للأمر بالاستعانة والصبر ، وبهذا الاعتبار أوثر العطف بالواو على فصل الجملة مع أن مقتضى التذييل أن تكون مفصولة.

والعاقبة حقيقتها نهاية أمر من الأمور وآخره ، كقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) [الحشر : ١٧] ، وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في أول سورة الأنعام [١١] ، فإذا عرفت العاقبة باللام

٢٤٥

كان المراد منها انتهاء أمر الشيء بأحسن من أوله ولعل التعريف فيها من قبيل العلم بالغلبة. وذلك لأن كل أحد يود أن يكون آخر أحواله خيرا من أولها ؛ لكراهة مفارقة الملائم ، أو للرغبة في زوال المنافر ، فلذلك أطلقت العاقبة معرفة على انتهاء الحال بما يسر ويلائم ، كما قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢]. وفي حديث أبي سفيان قول هرقل : «وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة» فلا تطلق المعرفة على عاقبة السوء. فالمراد بالعاقبة هنا عاقبة أمورهم في الحياة الدنيا ليناسب قوله (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وتشمل عاقبة الخير في الآخرة لأنها أهم ما يلاحظه المؤمنون. والمتقون : المؤمنون العاملون.

وجيء في جملتي : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) بلفظين عامين ، وهما : من يشاء من عباده والمتقين ، لتكون الجملتان تذييلا للكلام وليحرص السامعون على أن يكونوا من المتقين.

وقد علم من قوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم ، وأن تمليك الأرض لغيرهم إمّا عارض وإمّا لاستواء أهل الأرض في عدم التقوى.

(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

(قالُوا) حكاية جواب قوم موسى إياه ، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة ، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم.

والإيذاء : الإصابة بالأذى ، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) في سورة آل عمران [١١١] ، وقوله : (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) في سورة الأنعام [٣٤] ، وهو يكون ضعيفا وقويا ، ومرادهم هنا القوي منه ، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء ، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى ، بل جاء بعد طول مدة في الأذى ، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى.

وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته

٢٤٦

مستندا إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى ، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) موقع ، والإتيان والمجيء مترادفان ، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ.

والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ، وهو بعثة موسى بالرسالة ، فجعل الفعل المعبّر عنه حين علق به (قبل) بصيغة المضارع المقترن ب (أن) الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ (قبل) لأن ما يضاف إلى (قبل) مستقبل بالنسبة لمدلولها ، وجعل حين علق به (بعد) بصيغة الماضي المقترن بحرف (ما) المصدرية لأن (ما) المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ (بعد) لأن مضاف كلمة (بعد) ماض بالنسبة لمدلولها.

فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون ملك الأرض والذين تكون لهم العاقبة.

وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدبا مع الله تعالى ، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره. فقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) ناظر إلى قوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) [الأعراف : ١٢٨] وقوله : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ناظر إلى قوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨].

والمراد بالعدو ، فرعون وحزبه ، فوصف عدو يوصف به الجمع قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤].

والمراد بالاستخلاف : الاستخلاف عن الله في ملك الأرض. والاستخلاف إقامة الخليفة ، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ، أي جعلهم أحرارا غالبين ومؤسسين ملكا في الأرض المقدسة.

ومعنى (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى ، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ، تذكيرا لهم بأنه عليم بما يعملونه.

فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ، والمقصود بما (تَعْمَلُونَ) عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ، إلّا بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة

٢٤٧

لها ، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله ، وما أوصى به ، حصل المقصود ، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل.

و (كيف) يجوز كونها استفهاما فهي معلّقة لفعل (ينظر) عن المفعول ، فالتقدير فينظر جواب السؤال ب (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية ، فهي مفعول به ل (فَيَنْظُرَ) كما تقدم في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) في سورة آل عمران [٦] ، وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) في سورة المائدة [٧٥] وقد تقدم.

[١٣٠ ، ١٣١] (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١))

هذا انتقال إلى ذكر المصائب التي أصاب الله بها فرعون وقومه ، وجعلها آيات لموسى ، ليلجئ فرعون إلى الإذن لبني إسرائيل بالخروج ، وقد وقعت تلك الآيات بعد المعجزة الكبرى التي أظهرها الله لموسى في مجمع السحرة ، ويظهر أن فرعون أغضى عن تحقيق وعيده إبقاء على بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقومون بالأشغال العظيمة لفرعون.

ويؤخذ من التوراة أن موسى بقي في قومه مدة يعيد محاولة فرعون أن يطلق بني إسرائيل ، وفرعون يعد ويخلف ، ولم تضبط التوراة مدة مقام موسى كذلك ، وظاهرها أن المدة لم تطل ، وليس قوله تعالى : (بِالسِّنِينَ) دليلا على أنها طالت أعواما لأن السنين هنا جمع سنة بمعنى الجدب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر. فالسنة في كلام العرب إذا عرفت باللام يراد بها سنة الجدب ، والقحط ، وهي حينئذ علم جنس بالغلبة ، ومن ثم اشتقوا منها : أسنت القوم ، إذا أصابهم الجدب والقحط ، فالسنين في الآية مراد بها القحوط وجمعها باعتبار كثرة مواقعها أي : أصابهم القحط في جميع الأرضين والبلدان ، فالمعنى : ولقد أخذناهم بالقحوط العامة في كل أرض.

والأخذ : هنا مجاز في القهر والغلبة ، كقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥]. ويصح أن يكون هنا مجازا في الإصابة بالشدائد ، لأن حقيقة الأخذ : تناول الشيء باليد ، وتعددت إطلاقاته ، فأطلق كناية عن الملك.

وأطلق استعارة للقهر والغلبة ، وللإهلاك. وقد تقدمت معانيه متفرقة في السور

٢٤٨

الماضية.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) في موضع التعليل لجملة (وَلَقَدْ أَخَذْنا) فلذلك فصلت.

ونقص الثمرات قلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم. فتنوين (نَقْصٍ) للتكثير ولذلك نكر (نقص) ولم يضف إلى (الثمرات) لئلا تفوت الدلالة على الكثرة.

فالسنون تنتاب المزارع والحقول ، ونقص الثمرات ينتاب الجنات.

و (لعل) للرجاء ، أي مرجوا تذكرهم ، لأن المصائب والأضرار المقارنة لتذكير موسى إياهم بربهم ، وتسريح عبيده ، من شأنها أن يكون أصحابها مرجوا منهم أن يتذكروا بأن ذلك عقاب على إعراضهم وعلى عدم تذكرهم ، لأن الله نصب العلامات للاهتداء إلى الخفيات كما قدمناه عند قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) من نبيء في هذه السورة [٩٤] ، فشأن أهل الألباب أن يتذكروا ، فإذا لم يتذكروا ، فقد خيبوا ظن من يظن بهم ذلك مثل موسى وهارون ، أما الله تعالى فهو يعلم أنهم لا يتذكرون ولكنه أراد الإملاء لهم ، وقطع عذرهم ، وذلك لا ينافي ما يدل عليه (لعل) من الرجاء لأن دلالتها على الراجي والمرجو منه دلالة عرفية ، وقد تقدم الكلام على وقوع (لعل) في كلام الله تعالى عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في سورة البقرة [٢١].

وفي هذه الآية تنبيه للأمة للنظر فيما يحيط بها من دلائل غضب الله فإن سلب النعمة للمنعم عليهم تنبيه لهم على استحقاقهم إعراض الله تعالى عنهم.

والفاء في قوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) لتفريع هذا الخبر على جملة (أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) أي : فكان حالهم إذا جاءتهم الحسنة إلخ ... والمعنى : فلم يتذكروا ولكنهم زادوا كفرا وغرورا.

والمجيء : الحصول والإصابة ، وإنما عبر في جانب الحسنة بالمجيء لأن حصولها مرغوب ، فهي بحيث تترقب كما يترقب الجائي ، وعبر في جانب السيئة بالإصابة لأنها تحصل فجأة من غير رغبة ولا ترقب.

وجيء في جانب الحسنة بإذا الشرطية لأن الغالب في (إذا) الدلالة على اليقين بوقوع الشرط أو ما يقرب من اليقين كقولك : إذا طلعت الشمس فعلت كذا ، ولذلك غلب أن يكون فعل الشرط مع (إذا) فعلا ماضيا لكون الماضي أقرب إلى اليقين في الحصول من

٢٤٩

المستقبل ، كما في الآية ، فالحسنات أي : النعم كثيرة الحصول تنتابهم متوالية من صحة وخصب ورخاء ورفاهية. وجيء في جانب السيئة بحرف (إن) لأن الغالب أن تدل (إن) على التردد في وقوع الشرط ، أو على الشك ، ولكون الشيء النادر الحصول غير مجزوم بوقوعه ، ومشكوكا فيه ، جيء في شرط إصابة السيئة بحرف (إن) لندرة وقوع السيئات أي: المكروهات عليهم ، بالنسبة إلى الحسنات ، أي : النعم ، وفي ذلك تعريض بأن نعم الله كانت متكاثرة لديهم وأنهم كانوا معرضين عن الشكر ، وتعريض بأن إصابتهم بالسيئات نادرة وهم يعدون السيئات من جراء موسى ومن آمن معه ، فهم في كلتا الحالتين بين كافرين بالنعمة وظالمين لموسى ومن معه ، ولهذين الاعتبارين عرفت الحسنة تعريف الجنس المعروف في علم المعاني بالعهد الذهني ، أي : جاءتهم الحسنات ، لأن هذا الجنس محبوب مألوف كثير الحصول لديهم ، ونكرت (سَيِّئَةٌ) لندرة وقوعها عليهم ، ولأنها شيء غير مألوف حلوله بهم ، أي : وإن تصبهم آية سيئة ، كذا في «الكشاف» و «المفتاح».

واعلم أن التفرقة بين تعريف الجنس والتنكير من لطائف الاستعمال البلاغي ، كما أشرنا إليه في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة [٢] ، وأما من جهة مفاد اللفظ ، فالمعرف بلام الجنس والمنكرة سواء ، فلا تظن أن اللام للعهد لحسنة معهودة ووقوع المعرف بلام الجنس والنكرة في سياق الشرط ، في هذه الآية يعم كل حسنة وكل سيئة. والحسنة والسيئة هنا مراد بهما الحالة الحسنة والحالة السيئة.

واللام في قوله (لَنا) هذه لام الاستحقاق أي : هذه الحسنة حق لنا ، لأنهم بغرورهم يحسبون أنهم أحرياء بالنعم ، أي : فلا يرون تلك الحسنة فضلا من الله ونعمة.

و (يَطَّيَّرُوا) أصله يتطيروا ، وهو تفعّل ، مشتق من اسم الطير ، كأنهم صاغوه على وزن التفعّل لما فيه من تكلف معرفة حظ المرء بدلالة حركات الطير ، أو هو مطاوعة سمي بها ما يحصل من الانفعال من إثر طيران الطير. وكان العرب إذا خرجوا في سفر لحاجة ، نظروا إلى ما يلاقيهم أول سيرهم من طائر ، فكانوا يزعمون أن في مروره علامات يمن وعلامات شؤم ، فالذي في طيرانه علامة بمن في اصطلاحهم يسمونه السانح ، وهو الذي ينهض فيطير من جهة اليمين للسائر والذي علامته الشؤم هو البارح وهو الذي يمر على اليسار ، وإذا وجد السائر طيرا جاثما آثاره لينظر أي جهة يطير ، وتسمى تلك الإثارة زجرا ، فمن الطير ميمون ومنه مشئوم والعرب يدعون للمسافر بقولهم «على الطائر الميمون» ، ثم غلب استعمال لفظ التطير في معنى التشاؤم خاصة ، يقال الطيرة أيضا ، كما في الحديث

٢٥٠

«لا طيرة وإنما الطيرة على من تطيّر» أي : الشؤم يقع على من يتشاءم ، جعل الله ذلك عقوبة له في الدنيا لسوء ظنه بالله ، وإنما غلب لفظ الطيرة على التشاؤم لأن للأثر الحاصل من دلالة الطيران على الشؤم دلالة أشد على النفس ، لأن توقع الضر أدخل في النفوس من رجاء النفع. والمراد به في الآية أنهم يتشاءمون بموسى ومن معه فاستعمل التطير في التشاؤم بدون دلالة من الطير ، لأن قوم فرعون لم يكونوا ممن يزجر الطير فيما علمنا من أحوال تاريخهم ، ولكنهم زعموا أن دعوة موسى فيهم كانت سبب مصائب حلت بهم ، فعبر عن ذلك بالتطير على طريقة التعبير العربي.

والتشاؤم : هو عد الشيء مشئوما ، أي : يكون وجوده. سببا في وجود ما يحزن ويضر ، فمعنى (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) يحسبون حلول ذلك بهم مسببا عن وجود موسى ومن آمن به وذلك أن آل فرعون كانوا متعلقين بضلال دينهم ، وكانوا يحسبون أنهم إذا حافظوا على اتباعه كانوا في سعادة عيش ، فحسبوا وجود من يخالف دينهم بينهم سببا في حلول المصائب والإضرار بهم فتشاءموا بهم ، ولم يعلموا أن سبب المصائب هو كفرهم وإعراضهم ، لأن حلول المصائب بهم يلزم أن يكون مسببا عن أسباب فيهم لا في غيرهم. وهذا من العماية في الضلالة فيبقون منصرفين عن معرفة الأسباب الحقيقية ، ولذلك كان التطير من شعار أهل الشرك لأنه مبني على نسبة المسببات لغير أسبابها ، وذلك من مخترعات الذين وضعوا لهم ديانة الشرك وأوهامها.

في الحديث «الطيرة شرك» (١) وتأويله أنها : من بقايا دين الشرك ، ويقع بعد فعل التطير باء ، وهي باء السببية تدخل على موجب التطير ، وقد يقال أيضا : تطير من كذا.

وعطف (وَمَنْ مَعَهُ) ، أي : من آمنوا به ، لأن قوم فرعون يعدون موجب شؤم موسى هو ما جاء به من الدين لأنه لا يرضي آلهتهم ودينهم ، ولو لا دينه لم يكن مشئوما كما قال ثمود (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٦٢].

و (أَلا) حرف استفتاح يفيد الاهتمام بالخبر الوارد بعده. تعليما للأمة ، وتعريضا بمشركي العرب.

والطائر : اسم للطير الذي يثار ليتيمن به أو يتشاءم ، واستعير هنا للسبب الحق لحلول

__________________

(١) رواه أصحاب السنن.

٢٥١

المصائب بهم بعلاقة المشاكلة لقوله : (يَطَّيَّرُوا) فشبه السبب الحق ، وهو ما استحقوا به العذاب من غضب الله بالطائر.

و (عِنْدَ) مستعملة في التصرف مجازا لأن الشيء المتصرف فيه كالمستقر في مكان ، أي : سبب شؤمهم مقدر من الله ، وهذا كما وقع في الحديث : «ولا طير إلا طيرك» ، فعبر عما قدره الله للناس «بطير» مشاكلة لقوله : «ولا طير» ومن فسر الطائر بالحظ فقد أبعد عن السياق.

والقصر المستفاد من (إِنَّما) إضافي أي : سوء حالهم عقاب من الله ، لا من عند موسى ومن معه ، فلا ينافي أن المؤمنين يعلمون أن سبب حلول المصائب بأهل الشرك المعاندين للرسل ، هو شركهم وتكذيبهم الرسل : يعلمون ذلك بأخبار الرسل ، أو بصدق الفراسة وحسن الاستدلال ، كما قال أبو سفيان ليلة الفتح لما هداه الله «لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا». فأما المشركون وأضرابهم من أهل العقائد الضالة ، فيسندون صدور الضرر والنفع إلى أشياء تقارن حصول ضر ونفع ، فيتوهمون تلك المقارنة تسببا ، ولذلك تراهم يتطلبون معرفة حصول الخير والشر من غير أسبابها ، ومن ذلك الاستقسام بالأزلام كما تقدم في سورة العقود.

وجملة (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معترضة ولذلك فصلت ، والاستدراك المستفاد من (لكِنَ) عما يوهمه الاهتمام بالخبر الذي قبله لقرنه بأداة الاستفتاح ، واشتماله على صيغة القصر : من كون شأنه أن لا يجهله العقلاء ، فاستدرك بأن أكثر أولئك لا يعلمون.

فالضمير في قوله : (أَكْثَرَهُمْ) عائد إلى الذين (قالُوا لَنا هذِهِ) وإنما نفي العلم عن أكثرهم تنبيها على أن قليلا منهم يعلمون خلاف ذلك ولكنهم يشايعون مقالة الأكثرين.

[١٣٢ ، ١٣٣] (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

جملة : (وَقالُوا) معطوفة على جملة (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) [الأعراف : ١٣٠] الآية ، فهم قابلوا المصائب التي أصابهم الله بها ليذكّروا ، بازدياد الغرور فأيسوا من التذكر بها ، وعاندوا موسى حين تحداهم بها فقالوا : مهما تأتنا به من أعمال سحرك العجيبة فما

٢٥٢

نحن لك بمؤمنين ، أي : فلا تتعب نفسك في السحر.

و (مَهْما) اسم مضمن معنى الشرط ، لأن أصله (ما) الموصولة أو النكرة الدالة على العموم ، فركّبت معها (ما) لتصييرها شرطية كما ركبت (ما) مع (أي) و (متى) و (أين) فصارت أسماء شرط ، وجعلت الألف الأولى هاء استثقالا لتكرير المتجانسين ، ولقرب الهاء من الألف فصارت مهما ، ومعناها : شيء ما ، وهي مبهمة فيؤتى بعدها بمن التبيينية ، أي : إن تأتنا بشيء من الآيات فما نحن لك بمؤمنين.

و (مَهْما) في محل رفع بالابتداء ، والتقدير : أيّما شيء تأتينا به ، وخبره الشرط وجوابه ، ويجوز كونها في محل نصب لفعل محذوف يدل عليه (تَأْتِنا بِهِ) المذكور. والتقدير: أي شيء تحضرنا تأتينا به.

وذكّر ضمير (بِهِ) رعيا للفظ (مَهْما) الذي هو في معنى أي شيء ، وأنّث ضمير (بِها) رعيا لوقوعه بعد بيان (مَهْما) باسم مؤنث هو (آيَةٍ).

و (مِنْ آيَةٍ) بيان لإبهام (مَهْما).

والآية : العلامة الدالة ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) في سورة البقرة [٣٩] ، وفي قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في سورة الأنعام [٣٧].

وسموا ما جاء به موسى آية باعتبار الغرض الذي تحداهم به موسى حين الإتيان بها ، لأن موسى يأتيهم بها استدلالا على صدق رسالته ، وهم لا يعدونها آية ولكنهم جاروا موسى في التسمية بقرينة قولهم (لِتَسْحَرَنا بِها) ، وفي ذلك استهزاء كما حكى الله عن مشركي أهل مكة وقالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] بقرينة قولهم : إنك لمجنون.

وجملة (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) مفيدة المبالغة في القطع بانتفاء إيمانهم بموسى لأنهم جاءوا في كلامهم بما حوته الجملة الاسمية التي حكته من الدلالة على ثبوت هذا الانتفاء ودوامه. وبما تفيده الباء من توكيد النفي ، وما يفيده تقديم متعلق مؤمنين من اهتمامهم بموسى في تعليق الإيمان به المنفي باسمه.

والفاء في قوله : (فَأَرْسَلْنا) لتفريع إصابتهم بهذه المصائب على عتوهم وعنادهم.

٢٥٣

والإرسال : حقيقته توجيه رسول أو رسالة فيعدى إلى المفعول الثاني (بإلى) ويضمّن معنى الإرسال من فوق ، فيعدى إلى المفعول الثاني (بعلى) ، قال تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) [الفيل : ٣] ، (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] فحرف (على) دل على أن جملة أرسلنا مفرعة تفريع العقاب لا تفريغ زيادة الآيات.

والطوفان : السيح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع ، قيل هو مشتق من الطواف لأن الماء يطوف بالمنازل ، أي : تتكرر جريته حولها ، ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها بنو إسرائيل وهي أرض (جاسان).

والجراد : الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه ، يكون جنودا كثيرة يسمى الجند منها رجلا. وهو مهلك للزرع والشجر ، يأكل الورق والسنبل وورق الشجر وقشره ، فهو من أسباب القحط. أصاب أرض قوم فرعون ولم يصب أرض بني إسرائيل.

والقمّل : ـ بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة ـ اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحمنان ـ بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين ـ واحدته حمنانة وهو يمتص دم الإنسان (وهو غير القمل ـ بفتح القاف وسكون الميم ـ الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد لوسخه ودسومته ومن تعفن جلد الرأس كثيرا) ، أصاب القبط جند كثير من الحمنان عسر الاحتراز عنه ولعله أصاب مواشيهم.

والضفادع : جمع ضفدع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع ويسحب بطنه على الأرض ويسبح في المياه ، ويكون في الغدران ومناقع المياه ، صوته مثل القراقر يسمى نقيقا ، أصابهم جند كثير منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور ، ويقع في العيون والأسقية وفي البيوت فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرجل الناس فتتقذر به البيوت ، وقد سلمت منه بلاد (جاسان) منزل بني إسرائيل.

والدم معروف ، قيل : أصابهم رعاف متفش فيهم ، وقيل : صارت مياه القبط كالدم في اللون ، كما في التوراة ، ولعل ذلك من حدوث دود أحمر في الماء فشبه الماء بالدم ، وسلمت مياه (جاسان) قرية بني إسرائيل.

وسمى الله هاته (آياتٍ) لأنها دلائل على صدق موسى لاقترانها بالتحدي ، ولأنها

٢٥٤

دلائل على غضب الله عليهم لتظافرها عليهم حين صمموا الكفر والعناد.

وانتصب (آياتٍ) على الحال من الطوفان وما عطف عليه ، و (مُفَصَّلاتٍ) اسم مفعول من فصّل المضاعف الدال على قوة الفصل. والفصل حقيقته التفرقة بين الشيئين بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ، ويستعار الفصل لإزالة اللبس والاختلاط في المعاني ف (مُفَصَّلاتٍ) وصف ل (آياتٍ) ، فيكون مرادا منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس ، لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل ، أي : هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نظر نظر اعتبار.

وقيل : المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان ، أي لم تحدث كلها في وقت واحد ، بل حدث بعضها بعد بعض ، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى ، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمنا كما دل عليه قوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] ، قيل : كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام ، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر ، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل (مُفَصَّلاتٍ) حالا ثانية من الطوفان والجراد ، وأن لا يجعل صفة (آياتٍ).

والفاء في قوله : (فَاسْتَكْبَرُوا) للتفريع والترتب ، أي : فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم ، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورهم بأن ذلك من شؤم موسى ومن معه ، فعلم أن من طبع تفكيرهم فساد الوضع ، وهو انتزاع المدلولات من أضداد أدلتها ، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان ، وبعدهم عن السعادة والتوفيق ، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة.

فالاستكبار : شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء ، أي : عد أنفسهم كبراء ، أي تعاظمهم عن التصديق بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات.

وجملة : (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) معطوفة على جملة (فَاسْتَكْبَرُوا) ، فالمعنى : فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا ، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم ، وتمكنه منهم ، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار ، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم ، ف (كان) دالة على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام.

٢٥٥

والإجرام : فعل الجرم وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) في هذه السورة [٤٠].

[١٣٤ ، ١٣٥] (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥))

الرجز العذاب فالتعريف باللام هنا للعهد أي العذاب المذكور وهو ما في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) ـ إلى قوله ـ (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) [الأعراف : ١٣٣] والرجز من أسماء الطاعون ، وقد تقدم عند قولهم تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) في سورة البقرة [٥٩] ، فيجوز أن يراد بالرجز الطاعون أي أصابهم طاعون ألجأهم إلى التضرع بموسى عليه‌السلام ، فطوي ذكره للإيجاز ، فالتقدير : وأرسلنا عليهم الرجز ولما وقع عليهم إلخ ... وإنما لم يذكر الرجز في عداد الآيات التي في قوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) [الأعراف : ١٣٣] الآية تخصيصا له بالذكر لأن له نبأ عجيبا فإنه كان ملجأهم إلى الاعتراف بآيات موسى ووجود ربه تعالى.

وهذا الطاعون هو الموتان الذي حكي في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج «هكذا يقول الرب إني أخرج نحو نصف الليل في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة ـ ثم قالت في الإصحاح الثاني عشر ـ فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر فقام فرعون ليلا هو وعبيده وجميع المصريين فدعا موسى وهارون ليلا وقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعا واذهبوا اعبدوا ربكم واذهبوا وباركوني» إلخ ... قيل مات سبعون ألف رجل في ذلك اليوم من القبط خاصة ، ولم يصب بني إسرائيل منه شيء.

وليس قولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) بإيمان بالله ورسالة موسى ، ولكنهم كانوا مشركين وكانوا يجوزون تعدد الآلهة واختصاص بعض الأمم وبعض الأقطار بآلهة لهم ، فهم قد خامرهم من كثرة ما رأوا من آيات موسى أن يكون لموسى رب له تصرف وقدرة. وأنه أصابهم بالمصائب لأنهم أضروا عبيده ، فسألوا موسى أن يكف عنهم ربه ويكون جزاؤه الإذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ليعبدوا ربهم ، كما حكت التوراة في الإصحاح

٢٥٦

الثاني عشر عن فرعون ، «فقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعا واذهبوا اعبدوا ربكم» وقد كان عبدة الأرباب الكثيرين يجوز أن تغلب بعض الأرباب على بعض مثل ما يحدث بين الملوك كما تدل عليه أساطير (الميثولوجيا) اليونانية ، وقصة الياذة (هوميروس) ، فبدا لفرعون أن وجه الفصل مع بني إسرائيل أن يعبدوا ربهم في أرض غير أرض مصر التي لها أرباب أخر ولذلك قال (رَبَّكَ) ولم يقل ربنا.

وحذف متعلق فعل الدعاء لظهور المراد ، أي ادع لنا ربك بأن يكف عنا ، كما دل عليه قوله بعد (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) ووقع في التوراة في الإصحاح الثاني عشر قول فرعون لموسى وهارون (واذهبوا وباركوني أيضا).

وقد انبرم حال موسى على فرعون فلم يدر أهو رسول من إله غير آلهة القبط فلذلك قال له (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ، أي : بما عرفك وأودع عندك من الأسرار ، وهذه عبارة متحير في الأمر ملتبسة عليه الأدلة.

والباء في (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) لتعدية فعل الدعاء. و (ما) موصولة مبهمة ، أي ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عند ربك ، وهذا يقتضي أنهم جوزوا أن يكون موسى مبعوثا من رب له بناء على تجويزهم تعدد الآلهة.

وجملة (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن طلبهم من موسى الدعاء بكشف الرجز عنهم مع سابقيّة كفرهم به يثير سؤال موسى أن يقول : فما الجزاء على ذلك.

واللام موطئة للقسم ، وجملة : (لَنُؤْمِنَنَ) جواب القسم.

ووعدهم بالإيمان لموسى وعد بالإيمان بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر ، وليس وعدا باتباع الدين الذي جاء به موسى عليه‌السلام ، لأنهم مكذبون به في ذلك وزاعمون أنه ساحر يريد إخراج الناس من أرضهم ولذلك جاء فعل الإيمان متعلقا بموسى لا باسم الله ، وقد جاء هذا الوعد على حسب ظنهم أن الرب الذي يدعو إليه موسى هو رب خاص به وبقومه ، كما دل عليه قوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) وقد وضحوا مرادهم بقولهم : (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

وجملة (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحا في التوراة ، وحذف هنا للإيجاز.

٢٥٧

وقوله : (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) متعلق ب (كَشَفْنا) باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون ، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله ، وهو الرجز.

وجملة : (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب (لما) ، و (إذا) رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة اسمية ، فلما كان (إذا) حرفا يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجئوا بالنكث ، أي : بادروا به ولم يؤخروه. وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين.

والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غزل ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد ، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] ففي قوله : (يَنْكُثُونَ) استعارة تبعية.

وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض (جاسان) ليلا قال لفرعون بعض خاصته : ما ذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشا للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الربع عشر من سفر الخروج.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))

هذا محل العبرة من القصة ، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة ، فإنه بعد أن وصف عناد فرعون وملئه وتكذيبهم رسالة موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية انقلاب العصا ثعبانا ، وتغيير لون يده ، ورميهم موسى بالسحر ، وسوء المقصد ، ومعارضة السحرة معجزة موسى وتغلب موسى عليهم ، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائب جعلها آيات على صدق موسى ، وكيف كابروا وعاندوا ، حتى ألجئوا إلى أن وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك ، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين ، وتحرير المؤمنين الذين كانوا مستضعفين.

وذلك محل العبرة ، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب ، وقد اتبع

٢٥٨

في هذا الختام الأسلوب التي اختتمت به القصص التي قبل هذا.

والانتقام افتعال ، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنّقم. وهو غضب الحنق على ذنب اعتداء على المنتقم ينكر ويكره فاعله.

وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فعل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد ، ولم يسمع أن قالوا نقمه فانتقم. أي أحفظه وأغضبه فعاقب ، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجرد ، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها ، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله تعالى آنفا : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) [الأعراف : ١٢٦].

وكان إغراقهم انتقاما من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلهية ، أو جحدوا إلهيته أصلا ، وانتقاما أيضا لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلا.

والإغراق : الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر الملقى فلا يترك له تنفسا ، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله ، فالفاء في قوله : (فَأَغْرَقْناهُمْ) للترتيب الذكري ، وهو عطف مفصّل على مجمل كما في قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤].

وحمل صاحب «الكشاف» الفعل المعطوف عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى: فأردنا الانتقام منهم فأغرقناهم ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) في سورة البقرة [٥٤].

واليمّ : البحر والنهر العظيم ، قيل هو كلمة عربية. وهو صنيع «الكشاف» إذ جعله مشتقا من التيمم لأنه يقصد للمنتفعين به ، وقال بعض اللغويين : هو معرب عن السريانية وأصله فيها (يمّا) وقال شيدلة : هو من القبطية ، وقال ابن الجوزي : هو من العبرية ، ولعله موجود في هذه اللغات. ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى ساميّة من العربية والمراد به هنا بحر القلزم ، المسمى في التوراة بحر سوف ، وهو البحر الأحمر. وقد أطلق (اليم) على نهر النيل في قوله تعالى : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) [طه : ٣٩] وقوله : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) [القصص : ٧] ، فالتعريف في قوله : (الْيَمِ) هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة

٢٥٩

اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع.

وقد أغرق فرعون وجنده في البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر ، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) في سورة يونس [٩٠].

والباء في (بِأَنَّهُمْ) للسببية ، أي : أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات.

والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء ، وتقدمت في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) في سورة الأنعام [١٥٦] ، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات ، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى ، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز ، وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودلالة معجزة القرآن ، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) تنبيها للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة.

وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الإعراض ثابت لهم ، وراسخ فيهم ، وأنه هو علة التكذيب المصوغ خبره بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧))

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها).

عطف على (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٣٦]. والمعنى : فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازينا بني إسرائيل بنعمة عظيمة.

وتقدم آنفا الكلام على معنى (أَوْرَثْنَا) عند قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) [الأعراف : ١٠٠] والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم. وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام ، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين

٢٦٠