تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

تنويها بشأن هذا الخبر ليعلمه السامعون.

واللام الداخلة في خبر (وَجَدْنا) لام ابتداء ، باعتبار كون ذلك الخبر خبرا من جملة هي خبر عن الاسم الواقع بعد (إن) ، وجلبت اللام للتفرقة بين المخففة والنافية.

وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : ١٦٤].

وأسند حكم النكث إلى أكثر أهل القرى ، تبينا لكون ضمير (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) جرى على التغليب ، ولعل نكتة هذا التصريح في خصوص هذا الحكم أنه حكم مذمة ومسبة ، فناسبت محاشاة من لم تلتصق به تلك المسبة.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣))

انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضّلها الله بفضله فلم توف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار ، فلم يعاملها الله بالاستيصال ولكنه أراها جزاء مختلف أعمالها ، جزاء وفاقا ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة ، والأنباء القيمة ، ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام ، وأرسل رسولها هاديا وشارعا تمهيدا لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها ، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم كانوا فريقين كثيرين اتبع أحدهم موسى وكفر به الآخر ، كما اتّبع محمدا ـ عليه‌السلام ـ جمع عظيم وكفر به فريق كثير ، فأهلك الله من كفر ونصر من آمن.

وقد دلت (ثُمَ) على المهلة : لأن موسى ـ عليه‌السلام ـ بعث بعد شعيب بزمن طويل ، فإنه لما توجه إلى مدين حين خروجه من مصر ، رجا الله أن يهديه فوجد شعيبا ، وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجا له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل ، فإن منها ما بينه وبين موسى قرون مثل قوم نوح ، ومثل عاد وثمود ، وقوم لوط ، فالمهلة التي دلت عليها (ثُمَ) متفاوتة المقدار ، مع ما يقتضيه

٢٢١

عطف الجملة بحرف (ثُمَ) من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل. فحرف (ثم) هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي.

والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) يعود إلى القرى ، باعتبار أهلها ، كما عادت عليهم الضمائر في قوله (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) الآيتين [الأعراف : ١٠١].

والباء في (بِآياتِنا) للملابسة ، وهي في موضع الحال من موسى ، أي : مصحوبا بآيات منا ، والآيات : الدلائل على صدق الرسول ، وهي المعجزات ، قال تعالى : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٠٦ ، ١٠٧].

و (فِرْعَوْنَ) علم جنس لملك مصر في القديم ، أي : قبل أن يملكها اليونان ، وهو اسم من لغة القبط. قيل : أصله في القبطية (فاراه) ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن (رع) اسم الشمس فمعنى (فاراه) نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس ، لأنه يصلح الناس ، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية ، ولعله مما أدخله الإسلام ، وهذا الاسم نظير (كسرى) لملك ملوك الفرس القدماء ، و (قيصر) لملك الروم ، و (نمرود) لملك كنعان ، و (النجاشي) لملك الحبش ، و (تبع) لملك ملوك اليمن ، و (خان) لملك الترك.

واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه : منفطاح الثاني ، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر ، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة ١٤٩١ قبل ميلاد المسيح.

والملأ : الجماعة من علية القوم ، وتقدم قريبا ، وهم وزراء فرعون وسادة أهل مصر من الكهنة وقواد الجند ، وإنما خص فرعون وملأه لأنهم أهل الحل والعقد الذين يأذنون في سراح بني إسرائيل ، فإن موسى بعثه الله إلى بني إسرائيل ليحررهم من الرق الذي كانوا فيه بمصر ، ولما كان خروجهم من مصر متوقفا على أمر فرعون وملئه بعثه الله إليهم ليعلموا أن الله أرسل موسى بذلك ، وفي ضمن ذلك تحصل دعوة فرعون للهدى ، لأن كل نبيء يعلن التوحيد ويأمر بالهدى ، وإن كان المأمور من غير المبعوث إليهم حرصا على الهدى إلّا أنّه لا يقيم فيهم ولا يكرر ذلك ، والفاء في قوله : (فَظَلَمُوا) للتعقيب أي فبادروا بالتكذيب.

٢٢٢

والظلم : الاعتداء على حق الغير ، فيجوز أن يكون (فَظَلَمُوا) هنا على أصل وضعه وتكون الباء للسببية ، وحذف مفعول (ظلموا) لقصد العموم ، والمعنى : فظلموا كل من له حق في الانتفاع بالآيات ، أي منعوا الناس من التصديق بها وآذوا الذين آمنوا بموسى لمّا رأوا آياته ، كما قال تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) ـ إلى قوله ـ (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) [الأعراف : ١٢٣ ، ١٢٤] الآية.

وظلموا أنفسهم إذ كابروا ولم يؤمنوا ، فكان الظلم بسبب الآيات أي بسبب الاعتراف بها.

ويجوز أن يكون ضمّن (فَظَلَمُوا) معنى كفروا فعدّي إلى الآيات بالباء ، والتقدير : فظلموا إذ كفروا بها ، لأن الكفر بالآيات ظلم حقيقة ، إذ الظلم الاعتداء على الحق فمن كفر بالدلائل الواضحة المسماة (آيات) فقد اعتدى على حق التأمل والنظر.

والفاء في قوله : (فَانْظُرْ) لتفريع الأمر على هذا الإخبار ، أي : لا تتريّث عند سماع خبر كفرهم عن أن تبادر بالتدبّر فيما سنقص عليك من عاقبتهم.

والمنظور هو عاقبتهم التي دل عليها قوله : (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) [الأعراف : ١٣٦] وهذا النظر نظر العقل وهو الفكر المؤدّي إلى العلم فهو من أفعال القلوب.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو ومن يبلغه ، أو المخاطب غير معين وهو كل من يتأتى منه النظر والاعتبار عند سماع هذه الآيات ، فالتقدير : فانظر أيها الناظر ، وهذا استعمال شائع في كل كلام موجه لغير معين.

ولما كان ما آل إليه أمر فرعون وملئه حالة عجيبة ، عبر عنه ب (كيف) الموضوعة للسؤال عن الحال ، والاستفهام المستفاد من (كيف) يقتضي تقدير شيء ، أي : انظر عاقبة المفسدين التي يسأل عنها بكيف.

وعلّق فعل النظر عن العمل لمجيء الاستفهام بعده ، فصار التقدير : فانظر ، ثم افتتح كلاما بجملة (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ، والتقدير في أمثاله أن يقدر : فانظر جواب كيف كان عاقبة المفسدين.

والعاقبة : آخر الأمر ونهايته ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في سورة الأنعام [١١].

٢٢٣

والمراد بالمفسدين : فرعون وملأه ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار تنبيها على أنهم أصيبوا بسوء العاقبة لكفرهم وفسادهم ، والكفر أعظم الفساد لأنه فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعمال ، وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب».

[١٠٤ ـ ١٠٨] (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨))

عطف قول موسى بالواو ، ولم يفصل عمّا قبله ، مع أن جملة هذا القول بمنزلة البيان لجملة (بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) [الأعراف : ١٠٣] ، لأنه لما كان قوله : (بِآياتِنا) [الأعراف : ١٠٣] حالا من موسى فقد فهم أن المقصود تنظير حال الذين أرسل إليهم موسى بحال الأمم التي مضى الإخبار عنها في المكابرة على التكذيب ، مع ظهور آيات الصدق ، ليتم بذلك تشابه حال الماضين مع حال الحاضرين المكذبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعلت حكاية محاورة موسى مع فرعون وملئه خبرا مستقلا لأنه لم يحك فيه قوله المقارن لإظهار الآية بل ذكرت الآية من قبل ، بخلاف ما حكي في القصص التي قبلها فإن حكاية أقوال الرسل كانت قبل ذكر الآية ، ولأن القصة هنا قد حكي جميعها باختصار بجمل (بَعَثْنا) [الأعراف : ١٠٣] ، (فَظَلَمُوا) [الأعراف : ١٠٣] ، (فَانْظُرْ) [الأعراف : ١٠٣] ، فصارت جملة : (قالَ) تفصيلا لبعض ما تقدم ، فلا تكون مفصولة لأن الفصل إنما يكون بين جملتين ، لا بين جملة وبين عدة جمل أخرى.

والظاهر أن خطاب موسى فرعون بقوله : (يا فِرْعَوْنُ) خطاب إكرام لأنه ناداه بالاسم الدال على الملك والسلطان بحسب متعارف أمته فليس هو بترفع عليه لأن الله تعالى قال له ولهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] ، والظاهر أيضا أن قول موسى هذا هو أول ما خاطب به فرعون كما دلت عليه سورة طه.

وصوغ حكاية كلام موسى بصيغة التأكيد بحرف (إن) لأن المخاطب مظنة الإنكار أو التردد القوي في صحة الخبر.

واختيار صفة (رَبِّ الْعالَمِينَ) في الإعلام بالمرسل إبطال لاعتقاد فرعون أنه رب

٢٢٤

مصر وأهلها فإنه قال لهم : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] فلما وصف موسى مرسله بأنه رب العالمين شمل فرعون وأهل مملكته فتبطل دعوى فرعون أنه إله مصر بطريق اللزوم ، ودخل في ذلك جميع البلاد والعباد الذين لم يكن فرعون يدعي أنه إلههم مثل الفرس والأشوريين.

وقوله : (حَقِيقٌ عَلى) قرأه نافع بالياء في آخر (علي) فهي ياء المتكلم دخل عليها حرف (على) وتعدية حقيق بحرف (على) معروفة. قال تعالى : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) [الصافات : ٣١] ، ولأن حقيق بمعنى واجب فتعديته بحرف على واضحة ، و (حَقِيقٌ) خبر ثان عن (إِنِّي) ، فليس في ضمير المتكلم من قوله : (علي) على قراءة نافع التفات ، بخلاف ما لو جعل قوله : (حَقِيقٌ) صفة ل (رَسُولٌ) فحينئذ يكون مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الغائب ، فيقول : حقيق عليه ، فيكون العدول إلى التكلم التفاتا ، وفاعل (حَقِيقٌ) هو المصدر المأخوذ من قوله : (أَنْ لا أَقُولَ) أي : حقيق علي عدم قولي على الله غير الحق.

وحقيق فعيل بمعنى فاعل ، وهو مشتق من (حق) بمعنى وجب وثبت أي : متعين وواجب علي قول الحق على الله ، و (على) الأولى للاستعلاء المجازي و (على) الثانية بمعنى عن ، وقرأ الجمهور (على) بألف بعد اللام ، وهي (على) الجارة.

ففي تعلق (على) ومجرورها الظاهر ب (حَقِيقٌ) تأويل بوجوه أحسنها قول الفراء ، وأبي علي الفارسي : أن (على) هنا بمعنى الباء وأن (حَقِيقٌ) فعيل بمعنى مفعول : أي محقوق بأن لا أقول على الله إلّا الحق ، أي : مجعول قول الحق حقّا علي ، كقول الأعشى :

لمحقوقة أن تستجيبي لقوله

أي محقوقة بأن تستجيبي ، وقول سعيد بن زيد «ولو أنّ أحدا انقضّ لما صنعتم بعثمان لكان محقوقا بأن ينقضّ».

ومنها ما قال صاحب «الكشاف» «والأوجه الأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فيقول : أنا حقيق على قول الحق ، أي : أنا واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به». قال شارحوه : فالمعنى لو كان قول الحق شخصا عاقلا لكنت أنا واجبا عليه. أن لا يصدر إلّا عنّي وأن أكون قائله ، وهو على هذا استعارة بالكناية : شبه قول الحق بالعقلاء الذين يختارون مواردهم ومصادرهم.

٢٢٥

ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه ، وهو كون ما يناسبه متعينا عليه.

ومنها ما قيل : ضمن (حَقِيقٌ) معنى حريص فعدّي بعلى إشارة إلى ذلك التضمين وأحسن من هذا أن يضمن (حَقِيقٌ) معنى مكين وتكون (على) استعارة للاستعلاء المجازي.

وجملة (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن مقام الإنكار مما يثير سؤال سائل أن يقول هذه دعوى غريبة تحتاج إلى بينة.

والبينة : الحجة. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) في سورة الأنعام [٥٧]. والحجة هنا يجوز أن يكون المراد بها البراهين العقلية على صدق ما جاء به موسى من التوحيد والهدى ، ويجوز أن تكون المعجزة الدالة على صدق الرسول. فعلى الوجه الأول تكون الباء في قوله : (بِبَيِّنَةٍ) لتعدية فعل المجيء ، وعلى الوجه الثاني تكون الباء للملابسة ، والمراد بالملابسة ملابسة التمكن من إظهار المعجزة التي أظهرها الله له كما في سورة طه [١٧] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى). ويحتمل المعنى الأعم الشامل للنوعين على ما يحتمله كلام موسى المترجم عنه هنا.

والفاء في قوله (فَأَرْسِلْ) لتفريع طلب تسريح بني إسرائيل على تحقق الرسالة عن رب العالمين ، والاستعداد لإظهار البينة على ذلك ، وقد بنى موسى كلامه على ما يثق به من صدق دعوته مع الاستعداد للتبيين على ذلك الصدق بالبراهين أو المعجزة إن طلبها فرعون لأن شأن الرسل أن لا يبتدءوا بإظهار المعجزات صونا لمقام الرسالة عن تعريضه للتكذيب ، كما بيناه عند قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) الآيات في سورة الأنعام [١٠٩].

والإرسال : الإطلاق والتخلية ، كقولهم : أرسلها العراك ، وهو هنا مجاز لغوي في الإذن لبني إسرائيل بالخروج ، المطلوب من فرعون.

وتقييده ب (مَعِيَ) لأن المقصود من إخراجهم من مصر أن يكونوا مع الرسول ليرشدهم ويدبر شئونهم.

وقول فرعون : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها) متعين لأن يكون معناه : إن كنت جئت بمعجزة ، فإن أكثر موارد الآية في القرآن مراد فيه المعجزة ، وأكثر موارد البينة مراد فيه الحجة ، فالمراد بالبينة في قول موسى (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الحجة على إثبات

٢٢٦

الإلهية وعلى حقية ما جاء به من إرشاد لقومه ، فكان فرعون غير مقتنع ببرهان العقل أو قاصرا عن النظر فيه فانتقل إلى طلب خارق العادة ، فالمعنى : إن كنت جئتنا متمكنا من إظهار المعجزات ، لأن فرعون قال ذلك قبل أن يظهر موسى ـ عليه‌السلام ـ معجزته ، فالباء في قوله : (بِآيَةٍ) للمعية التقديرية ، أي : متمكنا من آية ، أو الباء للملابسة ، والملابسة معناها واسع ، أي : لك تمكين من إظهار آية.

وقوله : (فَأْتِ بِها) استعمل الإتيان في الإظهار مجازا مرسلا ، فالباء في قوله : (بِها) لتعدية فعل الإتيان ، وبذلك يتضح ارتباط الجزاء بالشرط ، لأن الإتيان بالآية المذكورة في الجزاء هو غير المجيء بالآية المذكورة في الشرط ، أي : إن كنت جئت متمكنا من إظهار الآية فأظهر هذه الآية.

والإلقاء : الرمي على الأرض أو في الماء أو نحو ذلك ، أي : فرمى عصاه من يده.

و (إذا) للمفاجأة وهي حدوث الحادث عن غير ترقب.

والثعبان : حية عظيمة ، و (مُبِينٌ) اسم فاعل من أبان القاصر المرادف لبان ، أي ظهر ، أي : الظاهر الذي لا شك فيه ولا تخيل.

ونزع : أزال اتصال شيء عن شيء ، ومنه نوع ثوبه ، والمعنى هنا أنه أخرج يده من جيب قميصه بعد أن أدخلها في جيبه كما في سورة النمل وسورة القصص فلما أخرجها صارت بيضاء ، أي بياضا من النور.

وقد دل على هذا البياض قوله : (لِلنَّاظِرِينَ) ، أي بياضا يراه الناظرون رؤية تعجب من بياضها. فالمقصود من ذكر قوله : (لِلنَّاظِرِينَ) تتميم معنى البياض.

واللام في قوله : (لِلنَّاظِرِينَ) لم يعرج المفسرون على بيان معناها وموقعها سوى أن صاحب «الكشاف» قال : «يتعلق للناظرين ببيضاء» دون أن يبين نوع التعلق ولا معنى اللام ، وسكت عليه «شراحه» والبيضاوي ، وظاهر قوله يتعلق أنه ظرف لغو تعلق ببيضاء فلعله لما في بيضاء من معنى الفعل كأنه قيل : ابيضّت للناظرين كما يتعلق المجرور بالمشتق فتعين أن يكون معنى اللام هو ما سماه ابن مالك بمعنى التعدية وهو يريد به تعدية خاصة (لا مطلق التعدية أي تعدية الفعل القاصر إلى ما لا يتعدى له بأصل وضعه لأن ذلك حاصل في جميع حروف الجر ، فلا شك أنه أراد تعدية خاصة لم يبين حقيقتها. وقد مثل لها في «شرح الكافية» بقوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] وجعل في «شرح التسهيل»

٢٢٧

هذا المثال مثالا لمعنى شبه الملك ، واختار ابن هشام أن يمثل للتعدية بنحو ما أضرب زيدا لعمرو.

ولم يفصحوا عن هذه التعدية الخاصة باللام ، ويظهر لي أنها عمل لفظي محض ، أي لا يفيد معنى جزئيا كمعاني الحروف ، فتحصّل أنهم في ارتباك في تحقيق معنى التعدية ، وعندي أن قوله تعالى : (بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أحسن ما يمثل به لكون اللام للتعدية وأن نفسر هذا المعنى بأنه تقريب المتعلّق بكسر اللام لمتعلّق بفتح اللام تقريبا لا يجعله في معنى المفعول به.

وإن شئت إرجاع معنى التعدية إلى أصل من المعاني المشهورة للام ، فالظاهر أنها من فروع معنى شبه الملك كما اقتضاه جعل ابن مالك المثال الذي مثل به للتعدية مثالا لشبه الملك.

وأقرب من ذلك أن تكون اللام بمعنى (عند) ويكون مفاد قوله تعالى : (بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أنها بيضاء بياضا مستقرا في أنظار الناظرين ويكون الظرف مستقرا يجعل حالا من ضمير يده.

[١٠٩ ـ ١١٢] (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

جرت جملة : (قالَ الْمَلَأُ) على طريقة الفصل لأنها جرت في طريق المحاورة الجارية بين موسى وبين فرعون وملئه فإنه حوار واحد.

وتقدم الكلام على الملإ آنفا في القصص الماضية ، فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته ، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٤٣] وقال في هذه الآية : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [الأعراف : ١٠٣] وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة.

وإنما قالوا هذا الكلام على وجه الشورى مع فرعون واستنباط الاعتذار لأنفسهم عن قيام حجة موسى في وجوههم فاعتلوا لأنفسهم بعضهم لبعض بأن موسى إنما هو ساحر

٢٢٨

عليم بالسحر أظهر لهم ما لا عهد لهم بمثله من أعمال السحرة ، وهذا القول قد أعرب عن رأي جميع أهل مجلس فرعون ، ففرعون كان مشاركا لهم في هذا لأن القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنه قال للملإ حوله (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ، وهذه المعذرة قد انتحلوها وتواطئوا عليها تبعوا فيها ملكهم أو تبعهم فيها ، فكل واحد من أهل ذلك المجلس قد وطّن نفسه على هذا الاعتذار ولذلك فالخطاب في قوله : (يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائف يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض.

ووجه استفادتهم أن موسى يريد إخراجهم من أرضهم ، إما أنهم قاسوا ذلك عن قول موسى (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الأعراف : ١٠٥] بقاعدة ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، يعنون أنه ما أظهر إخراج بني إسرائيل إلا ذريعة لإخراج كل من يؤمن به ليتخدهم تبعا ويقيم بهم ملكا خارج مصر. فزعموا أن تلك مكيدة من موسى لثلم ملك فرعون.

وإما أن يكون ملأ فرعون محتويا على رجال من بني إسرائيل كانوا مقربين عند فرعون ومن أهل الرأي في المملكة ، فهم المقصود بالخطاب ، أي : يريد إخراج قومكم من أرضكم التي استوطنتموها أربعة قرون وصارت لكم موطنا كما هي للمصريين ، ومقصدهم من ذلك تذكيرهم بحب وطنهم ، وتقريبهم من أنفسهم ، وإنساؤهم ما كانوا يلقون من اضطهاد القبط واستذلالهم ، شعورا منهم بحراجة الموقف.

وإما إنهم علموا أنه إذا شاع في الأمة ظهور حجة موسى وعجز فرعون وملئه أدخل ذلك فتنة في عامة الأمة فآمنوا بموسى وأصبح هو الملك على مصر فأخرج فرعون وملأه منها.

ويجوز أن يكون الملأ خاطبوا بذلك فرعون. فجرت ضمائر الخطاب في قوله : (أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) على صيغة الجمع تعظيما للملك كما في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] وهذا استعمال مطرد.

والأمر حقيقته طلب الفعل ، فمعنى (فَما ذا تَأْمُرُونَ) ما ذا تطلبون أن نفعل ، وقال جماعة من أهل اللغة : غلب استعمال الأمر في الطلب الصادر من العلي إلى من دونه فإذا التزم هذا كان إطلاقه هنا على وجه التلطف مع المخاطبين ، وأيا ما كان فالمقصود منه الطلب على وجه الإفتاء والاشتوار لأن أمرهم لا يتعين العمل به ، فإذا كان المخاطب

٢٢٩

فرعون على ما تقدم ، كان مرادا من الأمر الطلب الذي يجب امتثاله كما قال ملأ بلقيس : (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) [النمل : ٣٣].

والساحر فاعل السحر ، وتقدم الكلام على السحر عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [١٠٢].

وجملة : (قالُوا أَرْجِهْ) جواب القوم المستشارين ، فتجر يدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة ، أي : فأجاب بعض الملأ بإبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه. ويجوز أن تكون جملة : (قالُوا أَرْجِهْ) بدلا من جملة : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم : (فَما ذا تَأْمُرُونَ).

وفعل (أَرْجِهْ) أمر من الإرجاء وهو التأخير. قرأه نافع ، وعاصم ، والكسائي وأبو جعفر (أَرْجِهْ) ـ بجيم ثم هاء ـ وأصله (أرجئه) بهمزة بعد الجيم فسهلت الهمزة تخفيفا ، فصارت ياء ساكنة ، وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر ، وقرأه الباقون ـ بالهمز ساكنا على الأصل ـ ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات.

والمعنى : أخّر المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره ، وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة ، وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء.

وعدي فعل الإرسال (بفي) دون (إلى) لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسلون خاصة. وهو المفعول الأول. إذ المعنى : وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسّحرة ، فعلم أنهم مرسلون للبحث والجلب. لا للإبلاغ وهذا قريب من قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) في سورة المؤمنين [٣٢] ، قال في «الكشاف» هنالك : «لم يعد الفعل بقي مثل ما يعدى بإلى ، ولكن الأمة جعلت موضعا للإرسال كما قال رؤبة :

أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام (١)

__________________

(١) المصعب بضم الميم وفتح العين (الفحل) الصعب من الإبل وبقية الرجز :

طبّا فقيها بذوات الإيلام

٢٣٠

وقد جاء (بعث) على ذلك في قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) [الفرقان : ٥١] ، وقد تقدم آنفا قريب منه عند قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) [الأعراف : ٩٤].

والمدائن : جمع مدينة ، وهي بوزن فعيلة ، مشتقة من مدن بالمكان إذا أقام ولعل (مدن) هو المشتق من المدينة لا العكس ، وأيّا ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا (صحائف) جمع صحيفة. ولو كانت مفعلة من دانه لقالوا في الجمع مدائن بالياء مثل معايش.

ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) في سورة الشعراء [٥٣]. قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر. والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم.

والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاء أهل سياسة ، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى. وأن فرعون إن سجنه أو عاند ، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت ، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون ، فرأوا أن يلاينوا موسى ، وطمعوا أن يوجد في سحرة مصر من يدافع آيات موسى ، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس.

وجزم (يَأْتُوكَ) على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان ، فالتقدير : إن ترسل يأتوك ، وقد قيل : في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محذوفة ، على أن الجملة بدل من (أَرْسِلْ) بدل اشتمال. أي : أرسلهم آمرا لهم فليأتوك بكل ساحر عليم ، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا.

و (كل) مستعمل في معنى الكثرة ، أي : بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع.

وقرأ الجمهور : (بِكُلِّ ساحِرٍ) وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) ، على المبالغة في معرفة السحر ، فيكون وصف (عَلِيمٍ) تأكيدا لمعنى المبالغة لأن وصف (عَلِيمٍ) الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر ، وحذف متعلق (عَلِيمٍ) لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا. والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له.

[١١٣ ـ ١١٦]

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ

٢٣١

(١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦))

عطفت جملة (وَجاءَ السَّحَرَةُ) على جملة : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) [الأعراف : ١١١ ، ١١٢] وفي الكلام إيجاز حذف. والتقدير : قالوا أرجه وأخاه وأرسل إلخ ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون.

فالتعريف في قوله : (السَّحَرَةُ) تعريف العهد. أي السحرة المذكورون ، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه.

وجملة : (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل : ما ذا صدر من السحرة حين مثلوا بين يدي فرعون؟.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص ، وأبو جعفر (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) ابتداء بحرف (إن) دون همزة استفهام ، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل (إن).

وعلى القراءتين فالمعنى على الاستفهام ، كما هو ظاهر الجواب ب (نَعَمْ) ، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفا على القراءة الأولى ، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضا على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم ، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون ، ويكون جواب فرعون ب (نَعَمْ) تقريرا لما أخبروا به عنه.

وتنكير (لَأَجْراً) تنكير تعظيم بقرينة مقام الملك وعظم العمل ، وضمير (نَحْنُ) تأكيد لضمير (كُنَّا) إشعارا بجدارتهم بالغلب ، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر ، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله ، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر ، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر ، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسىعليه‌السلام.

وقول فرعون (نَعَمْ) إجابة عما استفهموا ، أو تقرير لما توسموا : على الاحتمالين المذكورين في قوله : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) آنفا ، فحرف (نعم) يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به ، فهو تصديق بعد الخبر ، وإعلام بعد الاستفهام ، بحصول الجانب المستفهم عنه ،

٢٣٢

والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه ، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني.

وعطف جملة : (إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) على ما تضمنه حرف الجواب إذ التقدير : نعم لكم أجر وإنكم لمن المقربين ، وليس هو من عطف التلقين : لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلمين لا من متكلم واحد.

وفصلت جملة : (قالُوا يا مُوسى) لوقوعها في طريقة المحاورة بينهم وبين فرعون وموسى ، لأن هؤلاء هم أهل الكلام في ذلك المجمع.

و (إِمَّا) حرف يدل على الترديد بين أحد شيئين أو أشياء ، ولا عمل له ولا هو معمول ، وما بعده يكون معمولا للعامل الذي في الكلام. ويكون (إما) بمنزلة جزء كلمة مثل أل المعرفة ، كقول تأبط شرا :

هما خطّتا إما إسار ومنّة

وإمّا دم والموت بالحر أجدر

وقوله : (أَنْ تُلْقِيَ) وقوله : (أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) يجوز كونهما في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف ، أي إما إلقاؤك مقدم وإما كوننا ملقين مقدم ، وقد دل على الخبر المقام لأنهم جاءوا لإلقاء آلات سحرهم ، وزعموا أن موسى مثلهم. وفي «الكشاف» في سورة طه ، جعل (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا ، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية ، فلا يحسن الإخبار بها مثل : السماء فوقنا ، فتعين أن يكون الكلام مستعملا في معنى غير الإخبار ، وذلك هو التخيير أي : إما أن تبتدئ بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدئ ، فاختير أنت أحد أمرين ومن هنا جاز جعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف ، كما قدره الفراء وجوزه في «الكشاف» في سورة طه ، أي : اختر أن تلقي أو كوننا الملقين ، أي : في الأولية ، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهارا لثقتهم بمقدرتهم وإنهم الغالبون ، سواء ابتدأ السحرة موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين ، ووجه دلالة التخيير على ذلك أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادئ لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها ، فتكون النفوس أشد تأثرا بها من تأثرها بما يأتي بعدها ، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم ، فإن لاستضعاف النفس تأثيرا عظيما في استرهابها وإبطال حيلتها ، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول

٢٣٣

شأنهم في نفسه ، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله : (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).

وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يلقوا سحرهم قبل موسى ، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم ، خلافا لما في «الكشاف» وغيره ، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله : (أَلْقُوا) استخفاف بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم ، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقع حجة وأقطع معذرة ، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى ـ عليه‌السلام ـ إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر ، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغا ، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهورا ، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغا في إقامة الحجة عليهم ، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك ، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها.

وقوله (فَلَمَّا أَلْقَوْا) عطف على محذوف للإيجاز ، والتقدير : فألقوا. لأن قوله : (فَلَمَّا أَلْقَوْا) يؤذن بهذا المحذوف ، وحذف مفعول (أَلْقُوا) لظهوره ، أي : ألقوا آلات سحرهم.

ومعنى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) : جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقوا من التخييلات والشعوذة.

وتعدية فعل (سَحَرُوا) إلى (أَعْيُنَ) مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك ، وهم إنما سحروا العقول ، ولذلك لو قيل : سحروا الناس لأفاد ذلك ، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية ، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى :

كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا

وأقدم إذا ما أعين النّاس تفرق

أي إذا ما الناس تفرق فرقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة.

والاسترهاب : طلب الرهب أي الخوف. وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين ، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم ، وتلك الأمور أقوال وأفعال

٢٣٤

توهم أن سيقع شيء مخيف كأن يقولوا للناس : خذوا حذركم وحاذروا ، ولا تقتربوا ، وسيقع شيء عظيم ، وسيحضر كبير السحرة ، ونحو ذلك من التمويهات ، والخزعبلات ، والصياح ، والتعجيب.

ولك أن تجعل السين والتاء في (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) للتأكيد ، أي : أرهبوهم رهبا شديدا ، كما يقال استكبر واستجاب.

وقد بينت في تفسير قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) من سورة البقرة [١٠٢] أن مبنى السحر على التخييل والتخويف.

ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعا مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة.

[١١٧ ـ ١١٩] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩))

جملة : (وَأَوْحَيْنا) معطوفة على جمل (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] ، فهي في حيز جواب لمّا ، أي : لمّا ألقوا سحروا ، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك.

و (أَنْ) تفسيرية لفعل (أَوْحَيْنا) ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها ، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين ، إذ التقدير : فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعبانا فإذا هي تلقف ، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء ، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان ، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعبانا بدون تبديل شكل.

والتلقف : مبالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد.

و (ما) موصولة والعائد محذوف أي : ما يأفكونه. والإفك : الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكا ، والكذب المصنوع إفكا ، لأن فيه صرفا عن الحق وإخفاء للواقع ، فلا يسمى إفكا إلّا الكذب المصطنع المموه ، وإنما جعل السحر إفكا لأن ما يظهر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب.

وقرأ الجمهور (تَلْقَفُ) ـ بقاف مشددة ـ ، وأصله تتلقف ، أي تبالغ وتتكلف اللقف

٢٣٥

ما استطاعت ، وقرأ حفص عن عاصم : بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد.

والتعبير بصيغة المضارع في قوله : (تَلْقَفُ) و (يَأْفِكُونَ) للدلالة على التجديد والتكرير ، مع استحضار الصورة العجيبة ، أي : فإذا هي يتجدد تلقفها لما يتجدد ويتكرر من إفكهم. وتسمية سحرهم إفكا دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات.

وقوله (فَوَقَعَ الْحَقُ) تفريع على (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ). والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض ، ومنه : وقع الطائر ، إذا نزل إلى الأرض ، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر ، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو ، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض ، وهي استعارة شائعة قال تعالى : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] أي : حاصل وكائن ، والمعنى فظهر الحق وحصل.

ولعل في اختيار لفظ (وقع) ، هنا دون (نزل) مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقى يقع على الأرض فكان وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين.

و (الْحَقُ) : هو الأمر الثابت الموافق للبرهان ، وضده الباطل ، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى ، وأثر قدرته.

و (بَطَلَ) : حقيقته اضمحل. والمراد : اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثر مزعوم لشيء يقال : بطل سعيه ، أي : لم يأت بفائدة ، ويقال : بطل عمله ، أي : ذهب ضياعا وخسر بلا أجر ، ومنه قوله تعالى : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : ٨] أي : يزيل مفعوله وما قصدوه منه ، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه ، أو لا خير فيه ، ومنه سمي ضد الحق باطلا لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو ، وهو القبول لدى العقول المستقيمة. وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد ، مدلوله هو ضد الحق ، ويطلق الباطل اسم فاعل من بطل ، فيساوي المصدر في اللفظ ، ويتعين المراد منهما بالقرينة ، فصوغ فعل بطل يكون مشتقا من المصدر وهو البطلان ، وقد يكون مشتقا من الاسم وهو الباطل. فمعنى (بَطَلَ) حينئذ وصف بأنه باطل مثل فهد وأسد ، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين ، فعلى الأول يكون المعنى : وانتفت حينئذ آثار ما كانوا يعملون ، وعلى الثاني يكون المعنى : واتصف ما يعملون بأنه باطل ، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث ، لأن كون ما يعملونه باطلا وصف ثابت له من قبل أن يلقي موسى عصاه ، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلا ، ويبعّد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى

٢٣٦

ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه ، خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا داع.

وأما من فسر (بَطَلَ) بمعنى : العدم. وفسر (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبو عن الاستعمال ، وعن المقام.

وزيادة قوله : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بعد قوله : (فَوَقَعَ الْحَقُ) تقرير لمضمون جملة (فَوَقَعَ الْحَقُ) لتسجيل ذم عملهم ، ونداء بخيبتهم ، تأنيسا للمسلمين وتهديدا للمشركين وللكافرين أمثالها.

و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) هو السحر ، أي : بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات ، ولم يعبّر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحرا عجيبا تكلفوا له وأتوا بمنتهى ما يعرفونه.

وقد عطف عليه جملة (فَغُلِبُوا) بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم.

و (هُنالِكَ) اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر.

والانقلاب : مطاوع قلب والقلب تغيير الحال وتبدله ، والأكثر أن يكون تغييرا من الحال المعتادة إلى حال غريبة.

ويطلق الانقلاب شائعا على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ولأن الراجع قد عكس حال خروجه.

وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى (صار) وهو المراد هنا أي : صاروا صاغرين. واختيار لفظ (انْقَلَبُوا) دون (رجعوا) أو (صاروا) لمناسبته للفظ غلبوا في الصيغة ، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون ، فكان لفظ (انقلبوا) أدخل في الفصاحة.

والصّغار : المذلة ، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم ، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون.

[١٢٠ ـ ١٢٦] (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)

٢٣٧

قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

عطف على (فَغُلِبُوا وَانْقَلَبُوا) [الأعراف : ١١٩] ، فهو في حيز فاء التعقيب ، أي : حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون ، أي : بدون مهلة ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين ، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم ، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية ، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر ، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق ، فلذلك سجدوا ، وكان هذا خاصا بهم دون بقية الحاضرين ، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم.

والإلقاء : مستعمل في سرعة الهوي إلى الأرض ، أي : لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد.

وبني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل ، وهو أنفسهم ، والتقدير : وألقوا أنفسهم على الأرض.

و (ساجِدِينَ) حال ، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم ، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذ بظهور معجزة موسى ـ عليه‌السلام ـ والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين.

وجملة : (قالُوا) بدل اشتمال من جملة : (أُلْقِيَ السَّحَرَةُ) لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول ، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون ، إذ كانت عادة القبط السجود لفرعون ، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دعا به موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسما علما لله تعالى ، إذ لم يكن لله اسم عندهم ، وقد علم بذلك أنهم كفروا بإلهية فرعون.

وزادوا هذا القصد بيانا بالإبدال من (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) قولهم (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) لئلا يتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين ، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنّها أخصر طريق ، وأوضحه هنا ، لا سيما إذا لم يكونوا يعرفون

٢٣٨

اسما علما على الذات العلية. وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) في سورة طه [١٤]. وفي سفر الخروج وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل (يهوه) إله آبائكم إلخ الإصحاح الثالث.

وفصلت جملة : (قالَ فِرْعَوْنُ) لوقوعها في طريق المحاورة.

وقوله : (آمَنْتُمْ) قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام ـ بهمزتين ـ فمنهم من حققها ، وهم : حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وروح عن يعقوب ، وخلف ، ومنهم من سهل الثانية مدّة ، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان ، وهؤلاء هم : نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأه حفص عن عاصم ـ بهمزة واحدة ـ فيجوز أن يكون إخبارا ، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع.

والاستفهام للإنكار والتهديد مجازا مرسلا مركبا ، والإخبار مستعمل كذلك أيضا لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين صرحوا بذلك وعلموه ، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى ، أي : آمنتم بما قاله ، أو إلى رب موسى.

وجملة : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ) إلخ ... خبر مراد به لازم الفائدة أي : قد علمت مرادكم لأن المخاطب لا يخبر بشيء صدر منه ، كقول عنترة :

إن كنت أزمعت الفراق فإنما

زمّت ركابكم بليل مظلم

أي : إن كنت أخفيت عني عزمك على الفراق فقد علمت أنكم شددتم رحالكم بليل لترحلوا خفية.

وقوله : (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) ترق في موجب التوبيخ ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان ، وفصلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ.

والمكر تقدم عند قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) في سورة آل عمران [٥٤] ، وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) [الأعراف : ٩٩].

والضمير المنصوب في (مَكَرْتُمُوهُ) ضمير المصدر المؤكّد لفعله.

و (فِي) ظرفية مجازية : جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد ، أي : أردتم إضرار أهلها ، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل

٢٣٩

أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة ، وفسره في «الكشاف» بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة ، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله : (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) والمراد ـ هنا ـ بعض أهلها ، وهم بنو إسرائيل ، لأن موسى جاء طلبا لإخراج بني إسرائيل كما تقدم.

وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقا لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة ، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة ، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فاتمروا بأمره ، كما في الآية الأخرى (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١].

ويحتمل أنه قاله تمويها وبهتانا ليصرف الناس عن اتباع السحرة ، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكا في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها ، وأن ذلك مواطاة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة ، وهو موافق في قوله هذا ، لما كان أشار به.

الملأ من قومه حين قالوا : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] وأيّا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة ، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة ، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت.

وفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيد بقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، وحذف مفعول (تَعْلَمُونَ) لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بيّنه بجملة (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ). ووقوع الجمع معرفا بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يد وكل رجل من أيدي وأرجل السحرة.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ خِلافٍ) ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني ، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى : (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) في سورة المائدة [٣٣]. فالمعنى : أنه يقطع من كل ساحر يدا ورجلا متخالفتي الجهة غير متقابلتيها ، أي : إن قطع يده اليمنى قطع رجله اليسرى والعكس ، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكنا من المشي متوكئا على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة.

ودلت (ثُمَ) على الارتقاء في الوعيد بالثلب ، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء

٢٤٠