تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

شر الكفرة المضمر لهم ، وهو الفتنة في الأهل بالإخراج ، وفي الدين بالإكراه على اتباع الكفر.

وتقديم الجار والمجرور على فعل (تَوَكَّلْنا) لإفادة الاختصاص تحقيقا لمعنى التوحيد ونبذ غير الله ، ولما في قوله : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم ، صرح بما يزيد ذلك بقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ). وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم ، وقالوا : هو لغة أزد عمان من اليمن ، أي احكم بيننا وبينهم ، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ، ويحسبون أن النصر حكم الله للغالب على المغلوب.

وقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) هو كقوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [الأعراف : ٨٧] ، أي وأنت خير الناصرين ، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف ، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات. والحكام مراتب كثيرة ، فتبين وجه التفضيل في قوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [الأعراف : ٨٧] وكذلك القياس في قوله : (خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران : ١٥٠] و (خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] وقد تقدم في سورة آل عمران [١٥٠] : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ).

[٩٠ ـ ٩٢] (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢))

عطفت جملة : (وَقالَ الْمَلَأُ) ولم تفصل كما فصلت التي قبلها لانتهاء المحاورة المقتضية فصل الجمل في حكاية المحاورة ، وهذا قول أنف وجه فيه الملأ خطابهم إلى عامة قومهم الباقين على الكفر تحذيرا لهم من اتباع شعيب خشية عليهم من أن تحيك في نفوسهم دعوة شعيب وصدق مجادلته ، فلما رأوا حجته ساطعة ولم يستطيعوا الفلج عليه في المجادلة ، وصمموا على كفرهم ، أقبلوا على خطاب الحاضرين من قومهم ليحذروهم من متابعة شعيب ويهددوهم بالخسارة.

وذكر (الْمَلَأُ) إظهار في مقام الإضمار لبعد المعاد. وإنّما وصف الملأ بالموصول وصلته دون أن يكتفي بحرف التعريف المقتضي أن الملأ الثاني هو الملأ المذكور قبله ،

٢٠١

لقصد زيادة ذم الملأ بوصف الكفر ، كما ذم فيما سبق بوصف الاستكبار.

ووصف (الْمَلَأُ) هنا بالكفر لمناسبة الكلام المحكي عنهم ، الدال على تصلّبهم في كفرهم ، كما وصفوا في الآية السابقة بالاستكبار لمناسبة حال مجادلتهم شعيبا ، كما تقدم ، فحصل من الآيتين أنّهم مستكبرون كافرون.

والمخاطب في قوله : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) هم الحاضرون حين الخطاب لدى الملإ ، فحكي كلام الملأ كما صدر منهم ، والسياق يفسر المعنيين بالخطاب ، أعني عامّة قوم شعيب الباقين على الكفر.

(واللام) موطّئة للقسم. و (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم وهو دليل على جواب الشرط محذوف ، كما هو الشأن في مثل هذا التركيب.

والخسران تقدم عند قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) في سورة الأنعام [١٤٠]. وهو مستعار لحصول الضر من حيث أريد النفع ، والمراد به هنا التحذير من أضرار تحصل لهم في الدنيا من جراء غضب آلهتهم عليهم ، لأن الظاهر أنّهم لا يعتقدون البعث ، فإن كانوا يعتقدونه ، فالمراد الخسران الأعم ، ولكن الأهم عندهم هو الدنيوي.

(والفاء) في : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) للتعقيب ، أي : كان أخذ الرجفة إياهم عقب قولهم لقومهم ما قالوا.

وتقدم تفسير : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) في نظيرها من قصة ثمود.

والرجفة التي أصابت أهل مدين هي صواعق خرجت من ظلة ، وهي السحابة ، قال تعالى في سورة الشعراء [١٨٩]. (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ، وقد عبر عن الرجفة في سورة هود بالصيحة فتعين أن تكون من نوع الأصوات المنشقة عن قالع ومقلوع لا عن قارع ومقروع وهو الزلزال ، والأظهر أن يكون أصابهم زلزال وصواعق فتكون الرجفة الزلزال والصيحة الصاعقة كما يدل عليه قوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).

وجملة : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مستأنفة ابتدائية ، والتعريف بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وهو أن اضمحلالهم وانقطاع دابرهم كان جزاء لهم على تكذيبهم شعيبا.

ومعنى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) تشبيه حالة استيصالهم وعفاء آثارهم بحال من لم

٢٠٢

تسبق لهم حياة ، يقال : غنى بالمكان كرضي أقام ، ولذلك سمي مكان القوم مغنى. قال ابن عطية : «الذي استقريت من أشعار العرب أن غنى معناه : أقام إقامة مقترنة بتنعم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء» أي كأن لم تكن لهم إقامة ، وهذا إنما يعنى به انمحاء آثارهم كما قال : (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : ٢٤] ، وهو يرجح أن يكون أصابهم زلزال مع الصواعق بحيث احترقت أجسادهم وخسف لهم في الأرض وانقلبت ديارهم في باطن الأرض ولم يبق شيء أو بقي شيء قليل. فهذا هو وجه التشبيه ، وليس وجه التشبيه حالة موتهم لأن ذلك حاصل في كل ميت ولا يختص بأمثال مدين ، وهذا مثل قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٨].

وتقديم المسند إليه في قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) إذا اعتبرت (كانُوا) فعلا ، واعتبر المسند فعليا فهو تقديم لإفادة تقوي الحكم ، وإن اعتبرت (كان) بمنزلة الرابطة ، وهو الظاهر ، فالتقوي حاصل من معنى الثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية.

والتكرير لقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) للتعديد وإيقاظ السامعين ، وهم مشركو العرب ، ليتقوا عاقبة أمثالهم في الشرك والتكذيب على طريقة التعريض ، كما وقع التصريح بذلك في قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠].

وضمير الفصل في قوله : (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) يفيد القصر وهو قصر إضافي ، أي دون الذين اتبعوا شعيبا ، وذلك لإظهار سفه قول الملإ للعامة (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) توقيفا للمعتبرين بهم على تهافت أقوالهم وسفاهة رأيهم ، وتحذيرا لأمثالهم من الوقوع في ذلك الضلال.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

تقدم تفسير نظير هذه الآية إلى قوله : (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) من قصة ثمود ، وتقدم وجه التعبير ب (رِسالاتِ) بصيغة الجمع في نظيرها من قصة قوم نوح.

ونداؤه قومه نداء تحسر وتبرئ من عملهم ، وهو مثل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وقعة بدر ، حين وقف على القليب الذي ألقي فيه قتلى المشركين فناداهم بأسماء صناديدهم ثم قال : «لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا» وجاء بالاستفهام

٢٠٣

الإنكاري في قوله : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) مخاطبا نفسه على طريقة التجريد ، إذ خطر له خاطر الحزن عليهم فدفعه عن نفسه بأنهم لا يستحقون أن يؤسف عليهم لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم ، ولأنه لم يترك من تحذيرهم ما لو ألقاه إليهم لأقلعوا عما هم فيه فلم يبق ما يوجب أسفه وندامته كقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

فالفاء في (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) للتفريع على قوله : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) إلخ ... فرع الاستفهام الإنكاري على ذلك لأنه لمّا أبلغهم ونصح لهم وأعرضوا عنه ، فقد استحقوا غضب من يغضب لله ، وهو الرسول ، ويرى استحقاقهم العقاب فكيف يحزن عليهم لما أصابهم من العقوبة.

والأسى : شدة الحزن ، وفعله كرضي ، و «آسى» مضارع مفتتح بهمزة التكلم ، فاجتمع همزتان.

ويجوز أن يكون الاستفهام الإنكاري موجها إلى نفسه في الظاهر ، والمقصود نهي من معه من المؤمنين عن الأسى على قومهم الهالكين ، إذ يجوز أن يحصل في نفوسهم حزن على هلكى قومهم وإن كانوا قد استحقوا الهلاك.

وقوله : (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) إظهار في مقام الإضمار : ليتأتى وصفهم بالكفر زيادة في تعزية نفسه وترك الحزن عليهم.

وقد نجى الله شعيبا مما حلّ بقومه بأن فارق ديار العذاب ، قيل : إنه خرج مع من آمن به إلى مكة واستقروا بها إلى أن توفوا ، والأظهر أنهم سكنوا محلة خاصة بهم في بلدهم رفع الله عنها العذاب ، فإن بقية مدين لم يزالوا بأرضهم ، وقد ذكرت التوراة أن شعيبا كان بأرض قومه حينما مرّت بنو إسرائيل على ديارهم في خروجهم من مصر.

[٩٤ ، ٩٥] (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

عطفت الواو جملة (ما أَرْسَلْنا) على جملة (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [الأعراف:

٢٠٤

٨٥] ، عطف الأعم على الأخص. لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الأعراف : ٥٩] كله ، القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفّار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل ، أو قياس الاستقراء الناقص ، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية ، وهذه الجمل إلى قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) [يونس : ٧٥] كالمعترضة بين القصص ، للتنبيه على موقع الموعظة ، وذلك هو المقصود من تلك القصص ، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام.

وعدّي (أَرْسَلْنا) ب (في) دون (إلى) لأن المراد بالقرية حقيقتها ، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلّا أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩] ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريبا : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الأعراف : ١١١] إذ لا داعي إليه هنا.

و (مِنْ) مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن ، وشهد به تاريخ الأديان ، ينبئ أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة ، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الانحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة ، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبيا في بني عبس ، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة ، وقد قيل : إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضا (فتح) بالمهملة أو (فتخ) بالمعجمة أو (فيج) بتحتية وجيم ، أو فلج (بلام وجيم) من اليمامة.

والاستثناء مفرغ من أحوال ، أي ما أرسلنا نبيّا في قرية في حال من الأحوال إلّا في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء ، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله : (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) فإنه يدل على أنهم لم يضرّعوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلّا كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد إلخ ...

والأخذ : هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه ، وهو معنى

٢٠٥

الغلبة ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) في سورة الأنعام [٤٢].

وقوله : (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) تقدم ما يفسّرها في قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) في سورة الأنعام [٤٢]. ويفسر بعضها أيضا في قوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) في سورة البقرة [١٧٧].

واستغنت جملة الحال الماضوية على الواو و (قد) بحرف الاستثناء ، فلا يجتمع مع (قد) إلّا نادرا ، أي : ابتدأناهم بالتخويف والمصائب لتفل من حدتهم وتصرف تأملهم إلى تطلب أسباب المصائب فيعلموا أنها من غضب الله عليهم فيتوبوا.

والتبديل : التعويض ، فحقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء المفيدة معنى البدلية ويكون ذلك المفعول الثاني المدخول للباء هو المتروك ، والمفعول الأول هو المأخوذ ، كما في قوله تعالى : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) في سورة البقرة [٦١] ، وقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) في سورة النساء [٢] ، لذلك انتصب (الْحَسَنَةَ) هنا لأنها المأخوذة لهم بعد السيّئة فهي المفعول الأول والسيّئة هي المتروكة ، وعدل عن جر السيئة بالباء إلى لفظ يؤدي مؤدى باء البدلية وهو لفظ (مكان) المستعمل ظرفا مجازا عن الخليفة ، يقال خذ هذا مكان ذلك ، أي : خذه خلفا عن ذلك لأن الخلف يحل في مكان المخلوف عنه ، ومن هذا القبيل قول امرئ القيس :

وبدلت قرحا داميا بعد نعمة

فجعل (بعد) عوضا عن باء البدلية.

فقوله : (مَكانَ) منصوب على الظرفية مجازا ، أي : بدلناهم حسنة في مكان السيّئة ، والحسنة اسم اعتبر مؤنثا لتأويله بالحالة والحادثة وكذلك السيئة فهما في الأصل صفتان لموصوف محذوف ، ثم كثر حذف الموصوف لقلة جدوى ذكره فصارت الصفتان كالاسمين ، ولذلك عبر عن الحسنة في بعض الآيات بما يتلمّح منه معنى وصفيّتها نحو قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت : ٣٤] أي : ادفع السيّئة بالحسنة ، فلما جاء بطريقة الموصولية والصلة بأفعل التفضيل تلمح معنى الوصفية فيهما ، وكذلك قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [فصلت : ٣٤]. ومثلهما في هذا المصيبة ، كما في قوله تعالى في سورة براءة [٥٠] : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ

٢٠٦

مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي : بدّلناهم حالة حسنة بحالتهم السيّئة بحالتهم السيّئة وهي حالة البأساء والضراء.

فالتعريف تعريف الجنس ، وهو مشعر بأنهم أعطوا حالة حسنة بطيئة النفع لا تبلغ مبلغ البركة.

و (حَتَّى) غاية لما يتضمنه (بَدَّلْنا) من استمرار ذلك وهي ابتدائية ، والجملة التي بعدها لا محل لها.

و (عَفَوْا) كثروا. يقال : عفا النبات ، إذا كثر ونما ، وعطف (وَقالُوا) على (عَفَوْا) فهو من بقية الغاية.

والسّرّاء : النعمة ورخاء العيش ، وهي ضد الضراء.

والمعنى أنا نأخذهم بما يغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة عسى أن يعلموا أن سلب النعمة عنهم أمارة على غضب الله عليهم من جرّاء تكذيبهم رسولهم فلا يهتدون ، ثم نردهم إلى حالتهم الأولى إمهالا لهم واستدراجا فيزدادون ضلالا ، فإذا رأوا ذلك تعللوا لما أصابهم من البؤس والضر بأن ذلك التغيير إنما هو عارض من عوارض الزمان وأنه قد أصاب أسلافهم من قبلهم ولم يجئهم رسل.

وهذه عادة الله تعالى في تنبيه عباده ، فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب ، كما قال تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة : ١٢٦] لأن الله لما وهب الإنسان العقل فقد أحب منه أن يستعمله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال.

وظاهر الآية : أن هذا القول صادر بألسنتهم وهو يكون دائرا فيما بين بعضهم وبعض في مجادلتهم لرسلهم حينما يعظونهم بما حلّ بهم ويدعونهم إلى التوبة والإيمان ليكشف عنهم الضر.

ويجوز أن يكون هذا القول أيضا : يجيش في نفوسهم ليدفعوا بذلك ما يخطر ببالهم من توقع أن يكون ذلك الضر عقابا من الله تعالى ، وإذ قد كان محكيا عن أمم كثيرة كانت له أحوال متعددة بتعدد ميادين النفوس والأحوال.

وحاصل ما دفعوا به دلالة الضراء على غضب الله أن مثل ذلك قد حل بآبائهم الذين

٢٠٧

لم يدعهم رسول إلى توحيد الله ، وهذا من خطأ القياس وفساد الاستدلال ، وذلك بحصر الشيء ذي الأسباب المتعددة في سبب واحد ، والغفلة عن كون الأسباب يخلف بعضها بعضا ، مع الغفلة عن الفارق في قياس حالهم على حال آبائهم بأن آبائهم لم يأتهم رسل من الله ، وأما أقوام الرسل فإن الرسل تحذرهم الغضب والبأساء والضراء فتحيق بهم ، أفلا يدلهم ذلك على أن ما حصل لهم هو من غضب الله عليهم ، على أن غضب الله ليس منحصر الترتب على معصية الرسول بل يكون أيضا عن الانغماس في الضلال المبين ، مع وضوح أدلة الهدى للعقول ، فإن الإشراك ضلال ، وأدلة التوحيد واضحة للعقول ، فإذا تأيدت الدلالة بإرسال الرسل المنذرين قويت الضلالة باستمرارها ، وانقطاع أعذارها ، ومثل هذا الخطأ يعرض للناس بداعي الهوى وإلف حال الضلال.

والفاء في قوله : (فَأَخَذْناهُمْ) للتعقيب عن قوله : (عَفَوْا) ، و (قالُوا) ، باعتبار كونهما غاية لإبدال الحسنة مكان السيئة ، ولا إشعار فيه بأن قولهم ذلك هو سبب أخذهم بغتة ولكنه دل على إصرارهم ، أي : فحصل أخذنا إياهم عقب تحسن حالهم وبطرهم النعمة.

والتعقيب عرفي فيصدق بالمدة التي لا تعد طولا في العادة لحصول مثل هذه الحوادث العظيمة.

والأخذ هنا بمعنى الإهلاك كما في قوله تعالى : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) في سورة الأنعام [٤٤].

والبغتة : الفجأة ، وتقدمت عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) [الأنعام : ٣١] ، وفي قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) في سورة الأنعام [٤٤] ، وتقدم هنالك وجه نصبها.

وجملة : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال مؤكدة لمعنى (بَغْتَةً).

[٩٦ ـ ٩٩] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))

٢٠٨

عطفت جملة (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) على جملة : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ) نبيء (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأعراف : ٩٤] أي : ما أرسلنا في قرية نبيئا فكذبه أهلها إلّا نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ، ولو أن أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة ، أي : ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم.

وشرط (لو) الامتناعية يحصل في الزمن الماضي ، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف (أنّ) المفيد للتأكيد والمصدرية ، وكان خبر (أنّ) فعلا ماضيا توفر معنى المضي في جملة الشرط. والمعنى : لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات.

والتقوى : هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان.

والتعريف في (الْقُرى) تعريف العهد ، فإضافة (أَهْلُ) إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه ، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) من نبيء (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأعراف : ٩٤] الآية كما تقدم ، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة ، وتعريض ببشارة أهل القرى الذين يؤمنون كأهل المدينة ، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة ، وقيل ، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى ، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط ، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجحفة ، والجحفة يومئذ بلاد شرك.

والفتح : إزالة حجز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان ، يقال : فتح الباب وفتح البيت ، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع ، وأصله فتح للبيت ، وكذلك قوله هنا : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) وقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [فاطر : ٢] ، ويقال : فتح كوة ، أي : جعلها فتحة ، والفتح هنا استعارة للتمكين ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) في سورة الأنعام [٤٤].

وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه ، فهنا استعارتان مكنية وتبعية ، وقرأ ابن عامر : (لَفَتَحْنا) ـ بتشديد التاء ـ وهو يفيد المبالغة.

٢٠٩

والبركات : جمع بركة ، والمقصود من الجمع تعددها ، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة. وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) في سورة الأنعام [٩٢]. وتقدم أيضا في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في سورة آل عمران [٩٦]. وتقدم أيضا في قوله تعالى : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) في هذه السورة [٥٤] ، وجماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة ، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرجين بلفظ (الْحَسَنَةَ) بصيغة الإفراد في قوله : (مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) وفي ج [الأعراف : ٩٥] أنب المؤمنين بالبركات مجموعة.

وقوله : (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) مراد به حقيقته ، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئا من الأرض ، وذلك معظم المنافع ، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة.

وقوله : (وَلكِنْ كَذَّبُوا) استثناء لنقيض شرط (لو) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي.

وجملة : (فَأَخَذْناهُمْ) متسببة على جملة : (وَلكِنْ كَذَّبُوا) وهو مثل نتيجة القياس ، لأنه مساوي نقيض التالي ، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم.

وتقدم معنى الأخذ آنفا في قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأعراف : ٩٥] ، والمراد به أخذ الاستئصال.

والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان.

(والفاء) في قوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) عاطفة أفادت الترتب الذكري ، فإنه لما ذكر من أحوال جميعهم ما هو مثار التعجيب من حالهم أعقبه بما يدل عليه معطوفا بفاء الترتب. ومحل التعجيب هو تواطؤهم على هذا الغرور ، أي يترتب على حكاية تكذيبهم وأخذهم استفهام التعجيب من غرورهم وأمنهم غضب القادر العليم.

وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) في سورة البقرة [٨٧].

وجيء بقوله : (يَأْتِيَهُمْ) بصيغة المضارع لأن المراد حكاية أمنهم الذي مضى من إتيان بأس الله في مستقبل ذلك الوقت.

٢١٠

وقوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) قرأه نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ـ بسكون الواو ـ على أنه عطف بحرف (أو) الذي هو لأحد الشيئين عطفا على التعجيب ، أي : هو تعجيب من أحد الحالين. وقرأه الباقون ـ بفتح الواو ـ على أنه عطف بالواو مقدمة عليه همزة الاستفهام ، فهو عطف استفهام ثان بالواو المفيدة للجمع ، فيكون كلا الاستفهامين مدخولا لفاء التعقيب ، على قول جمهور النحاة ، وأما على رأي الزمخشري فيتعين أن تكون الواو للتقسيم ، أي تقسيم الاستفهام إلى استفهامين ، وتقدم ذكر الرأيين عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) في سورة البقرة [٨٧].

و (بَياتاً) تقدم معناه ووجه نصبه عند قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) في أول هذه السورة [٤].

والضحى بالضم مع القصر هو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرق وارتفع ، وفسره الفقهاء بأن ترتفع الشمس قيد رمح ، ويرادفه الضحوة والضّحو.

والضحى يذكر ويؤنث ، وشاع التوقيت به عند العرب ومن قبلهم ، قال تعالى حكاية عن موسى : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه : ٥٩].

وتقييد التعجيب من أمنهم مجيء البأس ، بوقتي البيات والضحى ، من بين سائر الأوقات ، وبحالي النوم واللعب ، من بين سائر الأحوال ، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما ، لأنهما وقتان للدعة ، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل. والضحى للعب قبل استقبال الشغل ، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل الله أن لا يأمنوا عذابه ، بخاصة في هذين الوقتين والحالين.

وفي هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحل بهم ما حلّ بالأمم الماضية ، فكان ذكر وقت البيات ، ووقت اللعب ، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي ،. تهديدا لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله ، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم وساعة لهوهم نكاية بهم.

وقوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم ، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين ، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضا

٢١١

عنهم ، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه.

والمكر حقيقته : فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفى أو هيئة يحسبها منفعة. وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإنعام في حال الإمهال ، فهي تمثيلية ، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر ، وتقدم في سورة آل عمران [٥٤] عند قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

وقوله : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) مترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله ، والتقدير : أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون.

وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعم المخبر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلا للكلام ، ويدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون ، والتقدير : فهم قوم خاسرون ، إذ لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون.

والخسران ـ هنا ـ هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم ، شبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه ، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة ، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم.

وتقدم قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في سورة الأنعام [١٢] ، وقوله : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في أول السورة [٩].

وتقدم أن إطلاق المكر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم : أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) في سورة آل عمران [٥٤].

واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين ، الذي ابتدئ الحديث عنه من قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ) نبيء (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف : ٩٤] ثم قوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) الآيات ، وهو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشئ عن كفر ، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله.

ومن الأمن من عذاب الله أصناف أخرى تغاير هذا الأمن ، وتتقارب منه ، وتتباعد ،

٢١٢

بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم ، فأما ما كان منها مستندا لدليل شرعي فلا تبعة على صاحبه ، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] ، وإلى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) ـ فقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام : أعوذ بسبحات وجهك الكريم ـ (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) ـ فقال : أعوذ بسبحات وجهك الكريم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) [الأنعام : ٦٥] الآية ـ فقال : هذه أهون» كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل ، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» في قصة حاطب بن أبي بلتعة.

ومثل إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن سلام أنه لا يزال آخذا بالعروة الوثقى ، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك ، وأولياء الله كذلك ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [يونس : ٦٢ ، ٦٣] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا : الأمن من مكر الله كفر لقوله تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

والأمن مجمل ومكر الله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة. وقال الخفاجي : الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية ، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالا على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في «شرح جمع الجوامع» إلى ولي الدين ، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : ما الكبائر فقال : الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله» ، ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة ، وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مراد منه أيضا تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

عطفت على جملة : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٧] لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي ، فانتقل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة ، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها : مثل أهل

٢١٣

نجران ، وأهل اليمن ، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بليّ ، وكعب ، والضجاغم ، وبهراء ، ومن سكنوا ديار مدين مثل جهينة ، وجرم ، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل : مثل قريش ، وطي ، وتميم ، وهذيل. فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي ، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها ، فيشمل عادا وثمودا ، فقد قال لكلّ نبيّهم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) [الأعراف : ٧٤] إلخ ولكن المشركين من العرب يومئذ مقصودون في هذا ابتداء. فالموصول بمنزلة لام الجنس.

والاستفهام في قوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ) مستعمل في التعجيب. مثل الذي في قوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٧] تعجيبا من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم ، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه.

والتعريف في الأرض تعريف الجنس ، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم ، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب ، يقولون هذه أرض طيئ ، وفي حديث الجنازة «من أهل الأرض» أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد ، فتعريفه تعريف الجنس ، وبهذا الإطلاق جمعت على أرضين ، فالمعنى : أو لم يهد للذين يرثون أرضا من بعد أهلها.

والإرث : مصير مال الميت إلى من هو أولى به ، ويطلق مجازا على مماثلة الحي ميتا في صفات كانت له ، من عزّ أو سيادة ، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ، ٦] أي يخلفني في النبوءة ، وقد يطلق على القدر المشترك بين المعنيين ، وهو مطلق خلافة المنقرض. وهو هنا محتمل للإطلاقين ، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي ، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك ، وهو كقوله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] وأيّا ما كان فقيد (مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) تأكيد لمعنى (يَرِثُونَ) ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش ، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل ، تصويرا للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٩].

ومعنى (لَمْ يَهْدِ) لم يرشد ويبين لهم ، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر ، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد : مجازا أو استعارة كقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]. وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين ، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى

٢١٤

الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف : اللام أو (إلى) ، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يبين ، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم : شكرت له ، وقوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] ، ومثل قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) في سورة طه [١٢٨].

و (أَنْ) مخففة من (أنّ) واسمها ضمير الشأن ، وجملة (لَوْ نَشاءُ) خبرها. ولما كانت (أن) ـ المفتوحة الهمزة ـ من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركّبة من (إنّ) المكسورة المشددة ، ومن (أنّ) المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عدّت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولا بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفردا مشتقا ، أو من الكون إن كان خبرها جملة ، فموقع (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) موقع فاعل (يَهْدِ) ، والمعنى : أو لم يبيّن للذين يخلفون في الأرض بعد أهلها كون الشأن المهم وهو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم.

وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والإصابة : نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه. فالمعنى : أن نأخذهم أخذا لا يفلتون منه. والباء في (بِذُنُوبِهِمْ) للسببية ، وليست لتعدية فعل (أَصَبْناهُمْ).

وجملة : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) واقعة موقع مفرد ، هو فاعل (يَهْدِ) ، ف (إن) مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالة التخفيف ، ضمير شأن مقدر ، وجملة شرط (لو) وجوابه خبر (أنّ).

و (لو) حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه : في الماضي ، أو في المستقبل ، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعا كان في معنى الماضي ، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب ، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة ، فتقدير قوله : (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) انتفى أخذنا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم ، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعزّ من الأمم البائدة أو أفضل حالا منهم ، كما قال تعالى : (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) [غافر : ٢١] الآية ، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل ، إذ لا يصده عن ذلك غالب ، والمعنى : أغرهم تأخّر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه ، ولم

٢١٥

يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعه لحكمة ، فما بينهم وبين العذاب إلّا أن نشاء أخذهم ، والمصدر الذي تفيده (أن) المخففة ، إذا كان اسمها ضمير شأن ، يقدر ثبوتا متصيّدا مما في (أن) وخبرها من النسبة المؤكدة ، وهو فاعل (يَهْدِ) فالتقدير في الآية : أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوت هذا الخبر المهم وهو (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).

والمعنى : اعجبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عند ما نشاؤه.

وجملة : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ليست معطوفة على جملة : (أَصَبْناهُمْ) حتى تكون في حكم جواب (لو) لأن هذا يفسد المعنى ، فإن هؤلاء الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طبع على قلوبهم فلذلك لم تجد فيهم دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ بعث إلى زمن نزول هذه السورة ، فلو كان جوابا ل (لو) لصار الطبع على قلوبهم ممتنعا وهذا فاسد ، فتعين : إما أن تكون جملة (وَنَطْبَعُ) معطوفة على جملة الاستفهام برمتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة.

والتقدير : وطبعنا على قلوبهم ، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا ، وإمّا أن تجعل (الواو) للاستئناف والجملة مستأنفة ، أي : ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي ، ويعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ٦] الآية ، فتكون الجملة تذييلا لتنهية القصة ، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول ، وكأن صاحب «المفتاح» يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو.

وجملة : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) معطوفة بالفاء على (نَطْبَعُ) متفرعا عليه ، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان ، بقرينة قوله : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ). وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) في سورة النساء[١٥٥].

[١٠١ ، ١٠٢] (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم ، صارت للسامعين

٢١٦

كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها ، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى ، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق.

وجملة : (تِلْكَ الْقُرى) مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الأعراف : ٥٩] ثم قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ) نبيء [الأعراف : ٩٤] الآية.

و (الْقُرى) يجوز أن يكون خبرا عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع ، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها ، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ٣٥] أي هذا الذي تشاهدونه تكوون به هو كنزكم ، وهم قد علموا أنه كنزهم ، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهار خطإ فعلهم ، ويجوز أن يكون القرى بيانا لاسم الإشارة.

وجملة : (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) إما حال من (الْقُرى) على الوجه الأول.

وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قصصها ، والاستدلال على نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه ، والوعد بالزيادة من ذلك ، لما دل عليه قوله : (نَقُصُ) من التجدد والاستمرار ، والتعريض بالمعرضين عن الاتعاظ بأخبارها.

وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله : (الْقُرى).

و (من) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ.

والأنباء : الأخبار ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤].

والمراد بالقرى وضمير أنبائها : أهلها ، كما دل عليه الضمير في قوله : (رُسُلُهُمْ).

وجملة : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) عطف على جملة : (تِلْكَ الْقُرى) لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجمع «البينات» يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول ، والبينات : الدلائل الدالة

٢١٧

على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في قصة ثمود في هذه السورة [٧٣].

(والفاء) في قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان.

وصيغة (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافيا لحالهم من التصلب في الكفر. وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) الآية في سورة آل عمران [٧٩]. والمعنى : فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه.

و (بِما كَذَّبُوا) موصول وصلته وحذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف ، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية.

وما صدق (ما) الموصولة : ما يدل عليه (كَذَّبُوا) ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث. وشأن (ما) الموصولة أن يراد بها غير العاقل ، فلا يكون ما صدق (ما) هنا الرسل ، بل ما جاءت به الرسل ، فلذلك كان فعل (كَذَّبُوا) هنا مقدرا متعلّقه لفظ (به) كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به ، قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ) [الأعراف : ٦٤] وقال : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) [الأنعام : ٦٦] وحذف المتعلق هنا إيجازا ، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى ، ابتداء من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ) نبيء (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف : ٩٤] وقد سبق في ذلك قوله : (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٩٦] ولهذا لم يحذف متعلق فعل (كَذَّبُوا) في نظير هذه الآية من سورة يونس.

والمعنى : ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بدر منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة ، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء (قَبْلُ) على الضم تقديره : من قبل مجيء البينات.

وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب ، وهو استعمال كثير ، وسيخرج المؤمنون منهم بقوله : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ

٢١٨

لَفاسِقِينَ).

ومعنى قولهن : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) مثل ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر ، والمؤذن به فعل (يَطْبَعُ) ، وقد تقدم نظائره غير مرة ، منها عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) في سورة النساء [١٥٥].

وإظهار المسند إليه في جملة (يَطْبَعُ اللهُ) دون الإضمار : لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذا إلى قلوبهم كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] دون أن يقول : هذا خلقي ، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده.

والقلوب : العقول ، والقلب ، في لسان العرب : من أسماء العقل ، وتقدم عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].

والتعريف في (الْكافِرِينَ) تعريف الجنس ، مفيد للاستغراق ، أي : جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم.

وفي قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) إلى آخر الآية ، تسلية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين ، وأن ذلك ليس لتقصير منه ، ولا لضعف آياته ، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه.

وعطفت جملة : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) على جملة : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) وما رتب عليها من قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) تنبيها على رسوخ الكفر من نفوسهم بحيث لم يقلعه منهم لا ما شاهدوه من البينات ، ولا ما وضعه الله في فطرة الإنسان من اعتقاد وجود إله واحد وتصديق الرسل الداعين إليه ، ولا الوفاء بما عاهدوا عليه الرسل عند الدعوة : إنهم إن أتوهم بالبينات يؤمنون بها.

والوجدان في الموضعين مجاز في العلم ، فصار من أفعال القلوب ، ونفيه في الأول كناية عن انتفاء العهد بالمعنى المقصود ، أي وفائه ، لأنه لو كان موجودا لعلمه من شأنه أن يعلمه ويبحث عنه عند طلب الوفاء به ، لا سيما والمتكلم هو الذي لا تخفى عليه خافية كقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] الآية ، أي لا محرم إلّا ما ذكر ،

٢١٩

فمعنى (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) ما لأكثرهم عهد.

والعهد : الالتزام والوعد المؤكّد وقوعه ، والموثّق بما يمنع من إخلافه : من يمين ، أو ضمان ، أو خشية مسبة ، وهو مشتق من عهد الشيء بمعنى عرفه ، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه.

ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاء بالعهد ، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققه الأمم لرسلهم مثل قولهم : فأننا بآية إن كنت من الصادقين ، فإن معنى ذلك : إن أتيتنا بآية صدقناك. ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلّا الله وهو المذكور في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] الآية ، فكان لازما لأعقابهم.

ويجوز أن يراد به ما وعدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكي في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] الآية. وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيته ، ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية.

ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها.

ومعنى انتفاء وجدانه. هو انتفاء الوفاء به ، لأن أصل الوعد ثابت موجود ، ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلّا في المستقبل ، وهو الوفاء ، جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع ، والمعنى على تقدير مضاف ، أي : ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد.

وإنما عدّي عدم وجدان الوفاء بالعهد في (أَكْثَرَهُمْ) للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم ، والمراد بأكثرهم ، أكثر كل أمة منهم ، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم.

وقوله : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث ، ولكون ذلك معنى زائدا على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيدا للتي قبلها أو بيانا ، لأن الفسق هو عصيان الأمر ، وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر.

و (إن) مخففة من الثقيلة ، وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن ، والجملة خبر عنه

٢٢٠