تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

وقال الشّافعي : يحدّ حدّ الزّاني : فإن كان محصنا فحدّ المحصن ، وإن كان غير محصن فحدّ غير المحصن. كذا حكاه القرطبي. وقال ابن هبيرة الحنبلي ، في كتاب «اختلاف الأئمّة» : إنّ للشّافعي قولين : أحدهما هذا ، والآخر أنّه يرجم بكلّ حال ، ولم يذكر له ترجيحا ، وقال الغزالي ، في «الوجيز» : «للواط يوجب قتل الفاعل والمفعول على قول ، والرّجم بكلّ حال على قول ، والتّعزير على قول ، وهو كالزّنى على قول» وهذا كلام غير محرّر.

وفي كتاب «اختلاف الأئمّة» لابن هبيرة الحنبلي : أن أظهر الرّوايتين عن أحمد أنّ في اللّواط الرّجم بكلّ حال ، أي محصنا كان أو غير محصن ، وفي رواية عنه أنّه كالزّنى ، وقال ابن حزم ، في «المحلى» : إنّ مذهب داود وجميع أصحابه أنّ اللّوطي يجلد دون الحد ، ولم يصرّح ، فيما نقلوا عن أبي حنيفة وصاحبيه ، ولا عن أحد ، ولا الشّافعي بمساواة الفاعل والمفعول به في الحكم إلّا عند مالك ، ويؤخذ من حكاية ابن حزم في «المحلّى» : أنّ أصحاب المذاهب المختلفة في تعزير هذه الفاحشة لم يفرّقوا بين الفاعل والمفعول إلّا قولا شاذا لأحد فقهاء الشّافعيّة رأى أنّ المفعول أغلظ عقوبة من الفاعل.

وروى أبو داود والتّرمذي ، عن عكرمة عن ابن عبّاس ، والتّرمذيّ عن أبي هريرة ، وقال في إسناده ، مقال عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وهو حديث غريب (لم يرو عن غير عكرمة عن ابن عبّاس) وقد علمت استشارة أبي بكر في هذه الجريمة ، ولو كان فيها سند صحيح لظهر يومئذ.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢))

عطفت جملة : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) على جملة : (قالَ لِقَوْمِهِ) [الأعراف : ٨٠]. والتّقدير : وإذ ما كان جواب قومه إلّا أن قالوا إلخ ، والمعنى : أنّهم أفحموا عن ترويج شنعتهم والمجادلة في شأنها ، وابتدروا بالتّآمر على إخراج لوط عليه‌السلام وأهله من القرية ، لأنّ لوطا عليه‌السلام كان غريبا بينهم وقد أرادوا الاستراحة من إنكاره عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم ، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيّئاتهم ، المصمّمين على مداومة ذنوبهم ، فإنّ صدورهم تضيق عن تحمّل الموعظة ، وأسماعهم تصمّ لقبولها ، ولم يزل من شأن المنغمسين في الهوى تجهّم حلول من لا يشاركهم بينهم.

١٨١

والجواب : الكلام الذي يقابل به كلام آخر : تقريرا ، أو ردّا ، أو جزاء.

وانتصب قوله : (جَوابَ) على أنّه خبر (كان) مقدّم على اسمها الواقع بعد أداة الاستثناء المفرغ ، وهذا هو الاستعمال الفصيح في مثل هذا التّركيب ، إذا كان أحد معمولي كان مصدرا منسبكا من (أن) والفعل كما تقدّم في سورة آل عمران وسورة الأنعام ، ولذلك أجمعت القراءات المشهورة على نصب المعمول الأوّل.

والضّمير المنصوب في قوله : (أَخْرِجُوهُمْ) عائد على محذوف علم من السّياق ، وهم لوط عليه‌السلام وأهله : وهم زوجه وابنتاه.

وجملة : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) علّة للأمر بالإخراج ، وذلك شأن (إنّ) إذا جاءت في مقام لا شكّ فيه ولا إنكار ، بل كانت لمجرّد الاهتمام فإنّها تفيد مفاد فاء التّفريع وتدلّ على الربط والتّعليل.

والتّطهر تكلّف الطّهارة ، وحقيقتها النّظافة ، وتطلق الطّهارة ـ مجازا ـ على تزكية النّفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا ، وتلك صفة كمال ، لكن القوم لمّا تمرّدوا على الفسوق كان يعدّون الكمال منافرا لطباعهم ، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال ، ويذمّون ما لهم من الكمالات فيسمّونها ثقلا ، ولذا وصفوا تنزه لوط عليه‌السلام وآله تطهّرا ، بصيغة التكلّف والتصنّع ، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التّهكّم بلوط عليه‌السلام وآله ، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذّميمة ، وأهل المجون والانخلاع ، يسمّون المتعفّف عن سيرتهم بالتّائب أو نحو ذلك ، فقولهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) قصدوا به ذمّهم.

وهم قد علموا هذا التّطهر من خلق لوط عليه‌السلام وأهله لأنّهم عاشروهم ، ورأوا سيرتهم ، ولذلك جيء بالخبر جملة فعليّة مضارعيّة لدلالتها على أنّ التّطهر متكرّر منهم ، ومتجدّد ، وذلك أدعى لمنافرتهم طباعهم والغضب عليهم وتجهّم إنكار لوط عليه‌السلام عليهم.

[٨٣ ، ٨٤] (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ) تعقيب لجملة : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) [الأعراف : ٨٢] أو

١٨٢

لجملة : (قالَ لِقَوْمِهِ) [الأعراف : ٨٠] وهذا التّعقيب يؤذن بأنّ لوطا عليه‌السلام أرسل إلى قومه قبل حلول العذاب بهم بزمن قليل.

و (فَأَنْجَيْناهُ) مقدّم من تأخير. والتّقدير : فأمطرنا عليهم مطرا وأنجيناه وأهله ، فقدم الخبر بإنجاء لوط عليه‌السلام على الخبر بإمطارهم مطر العذاب ، لقصد إظهار الاهتمام بأمر إنجاء لوط عليه‌السلام ، ولتعجيل المسرّة للسّامعين من المؤمنين ، فتطمئنّ قلوبهم لحسن عواقب أسلافهم من مؤمني الأمم الماضية ، فيعلموا أنّ تلك سنّة الله في عباده ، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) في هذه السّورة [٦٤].

وأهل لوط عليه‌السلام هم زوجه وابنتان له بكران ، وكان له ابنتان متزوّجتان ـ كما ورد في التّوراة ـ امتنع زوجاهما من الخروج مع لوط عليه‌السلام فهلكتا مع أهل القرية.

وأمّا امرأة لوط عليه‌السلام فقد أخبر الله عنها هنا أنّ الله لم ينجها ، فهلكت مع قوم لوط ، وذكر في سورة هود ما ظاهره أنّها لم تمتثل ما أمر الله لوطا عليه‌السلام أن لا يلتفت هو ولا أحد من أهله الخارجين معه إلى المدن حين يصيبها العذاب فالتفتت امرأته فأصابها العذاب ، وذكر في سورة التّحريم أنّ امرأة لوط عليه‌السلام كانت كافرة. وقال المفسّرون : كانت تسرّ الكفر وتظهر الإيمان ، ولعلّ ذلك سبب التفاتها لأنّها كانت غير موقنة بنزول العذاب على قوم لوط ، ويحتمل أنّها لم تخرج مع لوط عليه‌السلام وإن قوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) في سورة هود [٨١] ، استثناء من (بِأَهْلِكَ) لا من (أَحَدٌ). لعلّ امرأة لوط عليه‌السلام كانت من أهل (سدوم) تزوّجها لوط عليه‌السلام هنالك بعد هجرته ، فإنّه أقام في (سدوم) سنين طويلة بعد أن هلكت أمّ بناته وقبل أن يرسل ، وليست هي أمّ بنتيه فإنّ التّوراة لم تذكر امرأة لوط عليه‌السلام إلّا في آخر القصّة.

ومعنى (مِنَ الْغابِرِينَ) من الهالكين ، والغابر يطلق على المنقضي ، ويطلق على الآتي ، فهو من أسماء الأضداد ، وأشهر إطلاقيه هو المنقضي ، ولذلك يقال : غبر بمعنى هلك ، وهو المراد هنا : أي كانت من الهالكين ، أي هلكت مع من هلك من أهل (سدوم).

والإمطار مشتقّ من المطر ، والمطر اسم للماء النّازل من السّحاب ، يقال : مطرتهم السّماء ـ بدون همزة ـ بمعنى نزل عليهم المطر ، كما يقال : غاثتهم ووبلتهم ، ويقال : مكان ممطور ، أي أصابه المطر ، ولا يقال : ممطر ، ويقال أمطروا ـ بالهمزة ـ بمعنى نزل عليهم

١٨٣

من الجوّ ما يشبه المطر ، وليس هو بمطر ، فلا يقال : هم ممطرون ، ولكن يقال : هم ممطرون ، كما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢] ـ وقال : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] ، كذا قال الزّمخشري ـ هنا ـ وقال ، في سورة الأنفال : قد كثر الإمطار في معنى العذاب ، وعن أبي عبيدة أنّ التّفرقة بين مطر وأمطر ؛ أن مطر للرّحمة وأمطر للعذاب ، وأمّا قوله تعالى في سورة الأحقاف [٢٤] : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) فهو يعكّر على كلتا التّفرقتين ، ويعين أن تكون التفرقة أغلبيّة.

وكان الذي أصاب قوم لوط حجرا وكبريتا من أعلى القرى كما في التّوراة وكان الدّخان يظهر من الأرض مثل دخان الأتون ، وقد ظنّ بعض الباحثين أنّ آبار الحمر التي ورد في التّوراة أنّها كانت في عمق السديم ، كانت قابلة للالتهاب بسبب زلازل أو سقوط صواعق عليها. وقد ذكر في آية أخرى ، في القرآن : أنّ الله جعل عالي تلك القرى سافلا ، وذلك هو الخسف وهو من آثار الزلازل. ومن المستقرب أن يكون البحر الميّت هنالك قد طغى على هذه الآبار أو البراكين من آثار الزّلزال.

وتنكير : (مَطَراً) للتعظيم والتّعجيب أي : مطرا عجيبا من شأنه أن يهلك القرى.

وتفرّع عن هذه القصّة العجيبة الأمر بالنّظر في عاقبتهم بقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) فالأمر للارشاد والاعتبار. والخطاب يجوز أن يكون لغير معيّن بل لكلّ من يتأتّى منه الاعتبار ، كما هو شأن إيراد التّذييل بالاعتبار عقب الموعظة ، لأنّ المقصود بالخطاب كلّ من قصد بالموعظة ، ويجوز أن يكون الخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له على ما يلاقيه من قومه الذين كذّبوا بأنّه لا ييأس من نصر الله ، وأنّ شأن الرّسل انتظار العواقب.

والمجرمون فاعلو الجريمة ، وهي المعصية والسيّئة ، وهذا ظاهر في أنّ الله عاقبهم بذلك العقاب على هذه الفاحشة ، وأنّ لوطا عليه‌السلام أرسل لهم لنهيهم عنها ، لا لأنّهم مشركون بالله ، إذ لم يتعرّض له في القرآن بخلاف ما قصّ عن الأمم الأخرى ، لكنّ تمالئهم على فعل الفاحشة واستحلالهم إياها يدلّ على أنّهم لم يكونوا مؤمنين بالله ، وبذلك يؤذن قوله تعالى في سورة التّحريم [١٠] : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) ، فيكون إرسال لوط عليه‌السلام بإنكار تلك الفاحشة ابتداء بتطهير نفوسهم ، ثمّ يصف لهم الإيمان ، إذ لا شكّ أنّ لوطا عليه‌السلام بلّغهم الرّسالة عن الله تعالى ، وذلك يتضمّن أنّه دعاهم إلى الإيمان ، إلّا أنّ اهتمامه الأوّل كان بإبطال هذه الفاحشة ، ولذلك وقع الاقتصار في إنكاره عليهم ومجادلتهم إياه على ما يخصّ تلك الفاحشة ، وقد علم أنّ

١٨٤

الله أصابهم بالعذاب عقوبة ، على تلك الفاحشة ، كما قال في سورة العنكبوت : [٣٤] : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) وأنّهم لو أقلعوا عنها لترك عذابهم على الكفر إلى يوم آخر أو إلى اليوم الآخر.

[٨٥ ـ ٨٧] (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

تفسير صدر هذه الآية هو كتفسير نظيرها في قصّة ثمود ، سوى أنّ تجريد فعل (قالَ يا قَوْمِ) من الفاء ـ هنا ـ يترجّح أنّه للدّلالة على أنّ كلامه هذا ليس هو الذي فاتحهم به في ابتداء رسالته بل هو ممّا خاطبهم به بعد أن دعاهم مرارا ، وبعد أن آمن به من آمن منهم كما يأتي.

ومدين أمّة سمّيت باسم جدّها مدين بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، من زوجه الثّالثة التي تزوّجها في آخر عمره وهي سرية اسمها قطورا. وتزوّج مدين ابنة لوط عليه‌السلام وولد له أبناء : هم (عيفة) و (عفر) و (حنوك) و (أبيداع) و (ألدعة) وقد أسكنهم إبراهيم عليه‌السلام في ديارهم ، وسطا بين مسكن ابنه إسماعيل عليه‌السلام ومسكن ابنه إسحاق عليه‌السلام ، ومن ذرّيتهم تفرّعت بطون مدين ، وكانوا يعدّون نحو خمسة وعشرين ألفا ، ومواطنهم بين الحجاز وخليج العقبة بقرب ساحل البحر الأحمر ، وقاعدة بلادهم (وجّ) على البحر الأحمر وتنتهي أرضهم من الشّمال إلى حدود معان من بلاد الشّام ، وإلى نحو تبوك من الحجاز ، وتسمّى بلادهم (الأيكة). ويقال : إنّ الأيكة هي (تبوك) فعلى هذا هي من بلاد مدين ، وكانت بلادهم قرى وبوادي ، وكان شعيب عليه‌السلام من القرية وهي (الأيكة) ، وقد تعرّبوا بمجاورة الأمم العربيّة وكانوا في مدّة شعيب عليه‌السلام تحت ملوك مصر ، وقد اكتسبوا بمجاورة قبائل العرب ومخالطتهم لكونهم في طريق مصر ، عربيّة فأصبحوا في عداد العرب المستعربة ، مثل بني إسماعيل عليه‌السلام ، وقد كان شاعر في

١٨٥

الجاهلية يعرف بأبي الهميسع هو من شعراء مدين وهو القائل :

إن تمنعي صوبك صوب المدمع

يجري على الخدّ كضئب الثّعثع

من طمحة صبيرها جحلنجع

ويقال : إنّ الخطّ العربي أوّل ما ظهر في مدين.

وشعيب عليه‌السلام هو رسول لأهل مدين ، وهو من أنفسهم ، اسمه في العربيّة شعيب عليه‌السلام واسمه في التّوراة : (يثرون) ويسمّى أيضا (رعوئيل) وهو ابن (نويلى أو نويب) بن (رعويل) بن (عيفا) بن (مدين). وكان موسى عليه‌السلام لمّا خرج من مصر نزل بلاد مدين وزوّجه شعيب ابنته المسمّاة (صفوره) وأقام موسى عليه‌السلام عنده عشر سنين أجيرا.

وقد خبط في نسب مدين ونسب شعيب عليه‌السلام جمع عظيم من المفسّرين والمؤرّخين ، فما وجدت ممّا يخالف هذا فانبذه. وعدّ الصفدي شعيبا في العميان ، ولم أقف على ذلك في الكتب المعتمدة. وقد ابتدأ الدّعوة بالإيمان لأنّ به صلاح الاعتقاد والقلب ، وإزالة الزّيف من العقل.

وبيّنة شعيب عليه‌السلام التي جاءت في كلامه : يجوز أن تكون أطلقت على الآية لمعجزة أظهرها لقومه عرفوها ولم يذكرها القرآن ، كما قال ذلك المفسّرون ، والأظهر عندي أن يكون المراد بالبيّنة حجّة أقامها على بطلان ما هم عليه من الشّرك وسوء الفعل ، وعجزوا عن مجادلته فيها ، فقامت عليهم الحجّة مثل المجادلة التي حكيت في سورة هود فتكون البيّنة أطلقت على ما يبيّن صدق الدّعوى ، لا على خصوص خارق العادة ، أو أن يكون أراد بالبيّنة ما أشار إليه بقوله : (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) أي يكون أنذرهم بعذاب يحلّ بهم إن لم يؤمنوا ، كما قال في الآية الأخرى (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] فيكون التّعبير بالماضي في قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ) مرادا به المستقبل القريب ، تنبيها على تحقيق وقوعه ، أو أن يكون عرض عليهم أن يظهر لهم آية ، أي معجزة ليؤمنوا ، فلم يسألوها وبادروا بالتّكذيب ، فيكون المعنى مثل ما حكاه الله تعالى عن موسى عليه‌السلام : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها) [الأعراف : ١٠٥ ، ١٠٦] الآية ، فيكون معنى : (قَدْ جاءَتْكُمْ) قد أعدّت لأنّ تجيئكم إذا كنتم تؤمنون عند مجيئها.

١٨٦

والفاء في قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) للتّفريع على مضمون معنى (بَيِّنَةٌ) لأنّ البيّنة تدلّ على صدقه ، فلمّا قام الدّليل على صدقه وكان قد أمرهم بالتّوحيد بادئ بدء ، لما فيه من صلاح القلب ، شرع يأمرهم بالشّرائع من الأعمال بعد الإيمان ، كما دلّ عليه قوله الآتي : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فتلك دعوة لمن آمن من قومه بأن يكملوا إيمانهم بالتزام الشّرائع الفرعيّة ، وإبلاغ لمن لم يؤمن بما يلزمهم بعد الإيمان بالله وحده. وفي دعوة شعيب عليه‌السلام قومه إلى الأعمال الفرعيّة بعد أن استقرت الدّعوة إلى التّوحيد ما يؤذن بأنّ البشر في ذلك العصر قد تطوّرت نفوسهم تطوّرا هيّأهم لقبول الشّرائع الفرعيّة ، فإنّ دعوة شعيبعليه‌السلام كانت أوسع من دعوة الرّسل من قبله هود وصالح عليهم‌السلام إذ كان فيها تشريع أحكام فرعيّة وقد كان عصر شعيب عليه‌السلام قد أظلّ عصر موسى عليه‌السلام الذي جاء بشريعة عظيمة ماسّة نواحي الحياة كلّها.

والبخس فسّروه بالنّقص ، وزاد الرّاغب في «المفردات» قيدا ، فقال : نقص الشّيء على سبيل الظلم ، وأحسن ما رأيت في تفسيره قول أبي بكر بن العربي في «أحكام القرآن» : «البخس في لسان العرب هو النّقص بالتعييب والتّزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل والنّقصان منه» فلنبن على أساس كلامه فنقول : البخس هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمال في نوعه. ففيه معنى الظلم والتّحيّل ، وقد ذكر ابن سيدة في «المخصص» البخس في باب الذهاب بحقّ الإنسان ، ولكنّه عند ما ذكره وقع فيما وقع فيه غيره من مدوّني اللّغة ، فالبخس حدث يتّصف به فاعل وليس صفة للشّيء المبخوس في ذاته ، إلّا بمعنى الوصف بالمصدر ، كما قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف : ٢٠] أي دون قيمة أمثاله ، (أي تساهل بائعوه في ثمنه لأنّهم حصّلوه بغير عوض ولا كلفة). وأعلم أنّه قد يكون البخس متعلّقا بالكمّية كما يقول المشتري : هذا النّحي لا يزن أكثر من عشرة أرطال ، وهو يعلم أنّ مثله يزن اثني عشر رطلا ، أو يقول : ليس على هذا النّخل أكثر من عشرة قناطير تمرا في حين أنّه يعلم أنّه يبلغ عشرين قنطارا ، وقد يكون متعلّقا بالصّفة كما يقول : هذا البعير شرود وهو من الرّواحل ، ويكون طريق البخس قولا ، كما مثّلنا ، وفعلا كما يكون من بذل ثمن رخيص في شيء من شأنه أن يباع غاليا ، والمقصود من البخس أن ينتفع الباخس الرّاغب في السّلعة المبخوسة بأن يصرف النّاس عن الرّغبة فيها فتبقى كلّا على جالبها فيضطرّ إلى بيعها بثمن زهيد ، وقد يقصد منه إلقاء الشكّ في نفس جالب السّلعة بأنّ سلعته هي دون ما

١٨٧

هو رائج بين النّاس ، فيدخله اليأس من فوائد نتاجه فتكسل الهمم.

وما وقع في «اللّسان» من معاني البخس : أنّه الخسيس فلعلّ ذلك على ضرب من المجاز أو التّوسّع ، وبهذا تعلم أنّ البخس هو بمعنى النّقص الذي هو فعل الفاعل بالمفعول ، لا النّقص الذي هو صفة الشّيء النّاقص ، فهو أخص من النّقص في الاستعمال ، وهو أخص منه في المعنى أيضا.

ثمّ إنّ حقّ فعله أن يتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) [البقرة : ٢٨٢] فإذا عدّي إلى مفعولين كما في قوله هنا : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) فذلك على معنى التّحويل لتحصيل الإجمال ثمّ التّفصيل ، وأصل الكلام : «ولا تبخسوا أشياء النّاس» فيكون قوله : (أَشْياءَهُمْ) بدل اشتمال من قوله : (النَّاسَ) وعلى هذا فلو بني فعل بخس للمجهول لقلت بخس فلان شيئه ـ برفع فلان ورفع شيئه ـ. وقد جعله أبو البقاء مفعولا ثانيا ، فعلى إعرابه لو بني الفعل للمجهول لبقي (أشياءهم) منصوبا. وعلى إعرابنا لو بني الفعل للمجهول لصار أشياؤهم مرفوعا على البدليّة من النّاس ، وبهذا تعلم أنّ بين البخس والتّطفيف فرقا قد خفي على كثير.

وحاصل ما أمر به شعيب عليه‌السلام قومه ، بعد الأمر بالتّوحيد ينحصر في ثلاثة أصول : هي حفظ حقوق المعاملة الماليّة ، وحفظ نظام الأمّة ومصالحها ، وحفظ حقوق حرّية الاستهداء.

فالأوّل قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) فإيفاء الكيل والميزان يرجع إلى حفظ حقوق المشترين ، لأنّ الكائل أو الوازن هو البائع ، وهو الذي يحمله حبّ الاستفضال على تطفيف الكيل أو الوزن ، ليكون باع الشّيء النّاقص بثمن الشّيء الوافي ، كما يحسبه المشتري.

وأمّا النّهي عن بخس النّاس أشياءهم فيرجع إلى حفظ حقوق البائع لأنّ المشتري هو الذي يبخس شيء البائع ليهيّئه لقبول الغبن في ثمن شيئه ، وكلا هذين الأمرين حيلة وخداع لتحصيل ربح من المال.

والكيل مصدر ، ويطلق على ما يكال به ، وهو المكيال كقوله تعالى : (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) [يوسف : ٦٥] وهو المراد هنا : لمقابلته بالميزان ، ولقوله في الآية الأخرى : (وَلا

١٨٨

تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤] ومعنى. إيفاء المكيال والميزان أن تكون آلة الكيل وآلة الوزن بمقدار ما يقدّر بها من الأشياء المقدّرة. وإنّما خصّ هذين التحيلين بالأمر والنّهي المذكورين : لأنّهما كانا شائعين عند مدين ، ولأنّ التّحيلات في المعاملة الماليّة تنحصر فيهما إذ كان التّعامل بين أهل البوادي منحصرا في المبادلات بأعيان الأشياء : عرضا وطلبا.

وبهذا يظهر أنّ النّهي في قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أفاد معنى غير الذي أفاده الأمر في قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ). وليس ذلك النّهي جاريا مجرى العلّة للأمر ، أو التّأكيد لمضمونه ، كما فسّر به بعض المفسّرين.

وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادلة بين الأمّة ، وإنّما تحصل بشيوع الأمانة فيها ، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمنتج يزداد إنتاجا وعرضا في الأسواق ، والطّالب من تاجر أو مستهلك يقبل على الأسواق آمنا لا يخشى غبنا ولا خديعة ولا خلابة ، فتتوفّر السّلع في الأمّة ، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها ، فيقوم نماء المدينة والحضارة على أساس متين ، ويعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك.

وقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) هذا الأصل الثّاني من أصول دعوة شعيب عليه‌السلام للنّهي عن كلّ ما يفضي إلى إفساد ما هو على حالة الصّلاح في الأرض. وقد تقدّم القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) في أوائل هذه السّورة [٥٦].

والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى مجموع ما تضمّنه كلامه ، أي ذلك المذكور ، ولذا أفرد اسم الإشارة. والمذكور : هو عبادة الله وحده ، وإيفاء الكيل والميزان ، وتجنب بخس أشياء النّاس ، وتجنّب الفساد في الأرض. وقد أخبر عنه بأنّه خير لهم ، أي نفع وصلاح تنتظم به أمورهم كقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) [الحج : ٣٦]. وإنّما كان ما ذكر خيرا : لأنّه يوجب هناء العيش واستقرار الأمن وصفاء الودّ بين الأمّة وزوال الإحن المفضية إلى الخصومات والمقاتلات ، فإذا تمّ ذلك كثرت الأمّة وعزّت وهابها أعداؤها وحسنت أحدوثتها وكثر مالها بسبب رغبة

١٨٩

النّاس في التّجارة والزّراعة لأمن صاحب المال من ابتزاز ماله. وفيه خير الآخرة لأنّ ذلك إن فعلوه امتثالا لأمر الله تعالى بواسطة رسوله أكسبهم رضى الله ، فنجوا من العذاب ، وسكنوا دار الثّواب ، فالتّنكير في قوله : (خَيْرٌ) للتعظيم والكمال لأنّه جامع خيري الدّنيا والآخرة.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط مقيّد لقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) والمؤمنون لقب للمتّصفين بالإيمان بالله وحده ، كما هو مصطلح الشّرائع وحمل المؤمنين على المصدّقين لقوله ، ونصحه ، وأمانته : حمل على ما يأباه السّياق ، بل المعنى ، أنّه يكون خيرا إن كنتم مؤمنين بالله وحده ، فهو رجوع إلى الدّعوة للتّوحيد بمنزلة ردّ العجز على الصّدر في كلامه ، ومعناه أنّ حصول الخير من الأشياء المشار إليها لا يكون إلّا مع الإيمان ، لأنّهم إذا فعلوها وهم مشركون لم يحصل منها الخير لأنّ مفاسد الشّرك تفسد ما في الأفعال من الخير ، أمّا في الآخرة فظاهر ، وأمّا في الدّنيا فإنّ الشّرك يدعو إلى أضداد تلك الفضائل كما قال الله تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١] أو يدعو إلى مفاسد لا يظهر معها نفع تلك المصالح. والحاصل أنّ المراد بالتّقييد نفي الخير الكامل عن تلك الأعمال الصّالحة إن لم يكن فاعلوها مؤمنين بالله حقّ الإيمان ، وهذا كقوله تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧] وتأويل الآية بغير هذا عدول بها عن مهيع الوضوح.

وقوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) هذا الأصل الثّالث من دعوته وهو النّهي عن التّعرّض للنّاس دون الإيمان ، فإنّه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلّبه من الأعمال الصّالحة ، وفي ذلك صلاح أنفسهم ، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يرغب في إصلاح نفسه ذلك أنّهم كانوا يصدّون وفود النّاس عن الدّخول إلى المدينة التي كان بها شعيب عليه‌السلام لئلا يؤمنوا به. فالمراد بالصّراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه‌السلام.

والقعود مستعمل كناية عن لازمه وهو الملازمة والاستقرار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) في هذه السّورة [١٦].

و (كلّ) للعموم وهو عموم عرفي ، أي كلّ صراط مبلغ إلى القرية أو إلى منزل شعيب

١٩٠

عليه‌السلام ، ويجوز أن تكون كلمة (كلّ) مستعملة في الكثرة كما تقدّم.

والباء للإلصاق ، أو هي بمعنى (في) كشأنها إذا دخلت على أسماء المنازل. كقول امرئ القيس :

بسقط اللّوى البيت.

وجملة : (تُوعِدُونَ) حال من ضمير (تَقْعُدُوا) والإيعاد : الوعد بالشرّ. والمقصود من الإيعاد الصدّ ، فيكون عطف جملة (وَتَصُدُّونَ) عطف علّة على معلول ، أو أريد توعدون المصمّمين على اتّباع الإيمان ، وتصدّون الذين لم يصمّموا فهو عطف عام على خاص.

و (مَنْ آمَنَ) يتنازعه كل من (تُوعِدُونَ) وتصدّون.

والتّعبير بالماضي في قوله : (مَنْ آمَنَ بِهِ) عوضا عن المضارع ، حيث المراد بمن آمن قاصد الإيمان ، فالتعبير عنه بالماضي لتحقيق عزم القاصد على الإيمان فهو لو لا أنّهم يصدّونه لكان قد آمن.

و (سَبِيلِ اللهِ) الدّين لأنّه مثل الطريق الموصل إلى الله ، أي إلى القرب من مرضاته.

ومعنى (تَبْغُونَها عِوَجاً) تبغون لسبيل الله عوجا إذ كانوا يزعمون أن ما يدعو إليه شعيب باطل ، يقال : بغاه بمعنى طلب له ، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو لتضمين بغى معنى أعطى.

والعوج ـ بكسر العين ـ عدم الاستقامة في المعاني ، وبفتح العين : عدم استقامة الذات ، والمعنى : تحاولون أن تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال ، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم. وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار.

وإنما أخّر النهي عن الصد عن سبيل الله ، بعد جملة (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّه رتّب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد ، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين ، فاعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فاعاد تنبيههم

١٩١

إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال ، وبمناسبة ذكر الإيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه ، فهذا مثل الترتيب في قول امرئ القيس :

كأنّي لم اركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الراح الكميت ولم أقل

لخيلي كري كرّة بعد إجفال

روى الواحدي في «شرح ديوان المتنبي» أن المتنبي لما أنشد سيف الدولة قوله فيه :

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمي حزينة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيتين على صدريهما ، وقال له كان ينبغي أن تجعل العجز الثاني عجزا للأول والعكس وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله :

كأنّي لم أركب جوادا للذة

البيتين ، ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشّعر : أن يكون عجز البيت الأوّل للثّاني وعجز البيت الثّاني للأوّل ؛ ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر ، ويكون سباء الخمر مع تبطّن الكاعب ، فقال أبو الطّيّب : «إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشّعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ، ومولانا الأمير يعلم أنّ الثّوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك ، لأنّ البزّاز لا يعرف إلّا جملته ، والحائك يعرف جملته وتفصيله ، لأنّه أخرجه من الغزليّة إلى الثّوبيّة ، وإنّما قرن امرؤ القيس لذة النّساء بلذّة الرّكوب للصّيد وقرن السّماحة في شراء الخمر للأضياف بالشّجاعة في منازلة الأعداء ، وأنا لمّا ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعته بذكر الردى لتجانسه ، ولمّا كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت : «ووجهك وضّاح وثغرك باسم» لأجمع بين الأضداد في المعنى.

وهو يعني بهذا أن وجوه المناسبة في نظم الكلام تختلف وتتعدّد ، وإنّ بعضا يكون أرجح من بعض.

وذكّرهم شعيب عليه‌السلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلا ، وهي نعمة عليهم ، إذ صاروا أمّة بعد أن كانوا معشرا.

ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوّى فيهم قوّة التّناسل ،

١٩٢

وحفظهم من أسباب الموتان ، ويسّر لنسلهم اليفاعة حتّى كثرت مواليدهم وقلّت وفياتهم ، فصاروا عددا كثيرا في زمن لا يعهد في مثله مصير أمّة إلى عددهم ، فيعد منعهم النّاس من الدّخول في دين الله سعيا في تقليل حزب الله ، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأنّ كثّرهم ، وليقابلوا اعتبار هذه النّعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم ، إذ استأصلهم بعد أن كانوا كثيرا فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها.

فلذلك أعقبه بقوله : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). وفي هذا الكلام جمع بين طريقي التّرغيب والتّرهيب.

وقليل وصف يلزم الإفراد والتّذكير ، مثل كثير ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ) نبيء (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في سورة آل عمران [١٤٦].

والمراد ب (الْمُفْسِدِينَ) الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشّرك وبأعمال الضّلال ، وأفسدوا المجتمع بمخالفة الشّرائع ، وأفسدوا النّاس بإمدادهم بالضّلال وصدّهم عن الهدى ، ولذلك لم يؤت : ل (الْمُفْسِدِينَ) بمتعلّق لأنّه اعتبر صفة ، وقطع عن مشابهة الفعل ، أي الذين عرفوا بالإفساد. وهذا الخطاب مقصود منه الكافرون من قومه ابتداء ، وفيه تذكير للمؤمنين منهم بنعمة الله ، فإنّها تشملهم وبالاعتبار بمن مضوا فإنّه ينفعهم ، وفي هذا الكلام تعريض بالوعد للمسلمين وبالتّسلية لهم على ما يلاقونه من مفسدي أهل الشّرك لانطباق حال الفريقين على حال الفريقين من قوم شعيب عليه‌السلام.

و (إذ) في قوله : (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) اسم زمان ، غير ظرف فهو في محل المفعول به أي اذكروا زمان كنتم قليلا فأعقبه بأن كثّركم في مدّة قريبة.

والطائفة الجماعة ذات العدد الكثير وتقدّمت عند قوله تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في سورة النّساء [١٠٢].

والشّرط في قوله : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ) أفاد تعليق حصول مضمون الجزاء في المستقبل ، أعني ما تضمّنه الوعيد للكافرين به والوعد للمؤمنين ، على تحقّق حصول مضمون فعل الشّرط ، لا على ترقّب حصول مضمونه ، لأنّه معلوم الحصول ، فالماضي الواقع فعلا للشّرط هنا ماض حقيقي وليس مؤولا بالمستقبل ، كما هو الغالب في وقوع الماضي في سياق الشّرط بقرينة كونه معلوم الحصول ، وبقرينة النّفي بلم المعطوف على

١٩٣

الشّرط فإنّ (لم) صريحة في المضيّ ، وهذا مثل قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦] بقرينة. (قد) إذ الماضي المدخول لقد لا يقلب إلى معنى المستقبل. فالمعنى : إن تبيّن أن طائفة آمنوا وطائفة كفروا فسيحكم الله بيننا فاصبروا حتّى يحكم ويؤول المعنى : إن اختلفتم في تصديقي فسيظهر الحكم بأنّي صادق.

وليست (إن) بمفيدة الشكّ في وقوع الشّرط كما هو الشان ، بل اجتلبت هنا لأنّها أصل أدوات الشّرط ، وإنّما يفيد معنى الشكّ أو ما يقرب منه إذا وقع العدول عن اجتلاب (إذا) حين يصحّ اجتلابها ، فأمّا إذا لم يصحّ اجتلاب (إذا) فلا تدلّ (إن) على شكّ وكيف تفيد الشكّ مع تحقّق المضي ، ونظيره قول النّابغة :

لئن كنت قد بلّغت عنّي وشاية

لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب

والصّبر : حبس النّفس في حال التّرقب ، سواء كان ترقب محبوب أم ترقب مكروه ، وأشهر استعماله أن يطلق على حبس النّفس في حال فقدان الأمر المحبوب ، وقد جاء في هذه الآية مستعملا في القدر المشترك لأنّه خوطب به الفريقان : المؤمنون والكافرون ، وصبر كلّ بما يناسبه ، ولعلّه رجح فيه حال المؤمنين ، ففيه إيذان بأنّ الحكم المترقّب هو في منفعة المؤمنين ، وقد قال بعض المفسّرين : إنّه خطاب للمؤمنين خاصة.

و (حَتَّى) تفيد غاية للصّبر ، وهي مؤذنة بأن التّقدير : وإن كان طائفة منكم آمنوا وطائفة لم يؤمنوا فسيحكم الله بيننا فاصبروا حتّى يحكم.

وحكم الله أريد به حكم في الدّنيا بإظهار أثر غضبه على أحد الفريقين ورضاه على الذين خالفوهم ، فيظهر المحقّ من المبطل ، وهذا صدر عن ثقة شعيب عليه‌السلام بأنّ الله سيحكم بينه وبين قومه استنادا لوعد الله إياه بالنّصر على قومه ، أو لعلمه بسنّة الله في رسله ومن كذّبهم بإخبار الله تعالى إياه بذلك ، ولو لا ذلك لجاز أن يتأخر الحكم بين الفريقين إلى يوم الحساب ، وليس هو المراد من كلامه لأنّه لا يناسب قوله : (فَاصْبِرُوا) إذا كان خطابا للفريقين ، فإن كان خطابا للمؤمنين خاصة صحّ إرادة الحكمين جميعا.

وأدخل نفسه في المحكوم بينهم بضمير المشاركة لأنّ الحكم المتعلّق بالفريق الذين آمنوا به يعتبر شاملا له لأنّه مؤمن برسالة نفسه.

١٩٤

وجملة : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) تذييل بالثّناء على الله بأنّ حكمه عدل محض لا يحتمل الظلم عمدا ولا خطأ ، وغيره من الحاكمين يقع منه أحد الأمرين أو كلاهما.

و (خَيْرُ) : اسم تفضيل أصله أخير فخفّفوه لكثرة الاستعمال.

[٨٨ ، ٨٩] (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

كان جوابهم عن حجّة شعيب جواب المفحم عن الحجّة ، الصائر إلى الشدّة ، المزدهي بالقوة ، المتوقّع أن يكثر معاندوه ، فلذلك عدلوا إلى إقصاء شعيب وأتباعه عن بلادهم خشية ظهور دعوته بين قومهم ، وبث أتباعه دعوته بين الناس ، فلذلك قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا).

وتفسير صدر الآية هو كتفسير نظيره من قصّة ثمود.

وإيثار وصفهم بالاستكبار هنا دون الكفر ، مع أنّه لم يحك عنم هنا خطاب المستضعفين ، حتّى يكون ذكر الاستكبار إشارة إلى أمّهم استضعفوا المؤمنين كما اقتضته قصة ثمود ، فاختير وصف الاستكبار هنا لمناسبة مخاطبتهم شعيبا بالإخراج أو الإكراه على اتّباع دينهم ، وذلك من فعل الجبّارين أصحاب القوة.

وكان إخراج المغضوب عليه من ديار قبيلته عقوبة متّبعة في العرب إذا أجمعت القبيلة على ذلك ويسمّى هذا الإخراج عند العرب بالخلع ، والمخرج يسمّى خليعا.

قال امرؤ القيس :

به الذئب يعوي كالخليع المعيل

وأكدوا التوعّد بلام القسم ونون التوكيد : ليوقن شعيب بأنّهم منجزو ذلك الوعيد.

وخطابهم إيّاه بالنداء جار على طريقة خطاب الغضب ، كما حكى الله قول آزر خطابا لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) [مريم : ٤٦].

وقوله : (مَعَكَ) متعلّق ب (لَنُخْرِجَنَّكَ) ، ومتعلّق (آمَنُوا) محذوف ، أي بك ، لأنهم

١٩٥

لا يصفونهم بالإيمان الحقّ في اعتقادهم.

والقرية (المدينة) لأنها يجتمع بها السكان. والتقرّي : الاجتماع. وقد تقدم عند قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩] ، والمراد بقريتهم هنا هي (الأيكة) وهي (تبوك) وقد رددوا أمر شعيب ومن معه بين أن يخرجوا من القرية وبين العود إلى ملة الكفر.

وقد جعلوا عود شعيب والذين معه إلى ملّة القوم مقسما عليه فقالوا : (أَوْ لَتَعُودُنَ) ولم يقولوا : لنخرجنّكم من أرضنا أو تعودن في ملّتنا ، لأنّهم أرادوا ترديد الأمرين في حيز القسم لأنهم فاعلون أحد الأمرين لا محالة وأنّهم ملحّون في عودهم إلى ملّتهم.

وكانوا يظنّون اختياره العود إلى ملّتهم ، فأكدوا هذا العود بالقسم للإشارة إلى أنّه لا محيد عن حصوله عوضا عن حصول الإخراج لأن أحد الأمرين مرض للمقسمين ، وأيضا فإن التوكيد مؤذن بأنّهم إن أبوا الخروج من القرية فإنهم يكرهون على العود إلى ملّة القوم كما دل عليه قول شعيب في جوابهم : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) ولما كان المقام للتوعّد والتّهديد كان ذكر الإخراج من أرضهم أهم ، فلذلك قدموا القسم عليه ثم أعقبوه بالمعطوف بحرف (أو).

والعود : الرجوع إلى ما كان فيه المرء من مكان أو عمل ، وجعلوا موافقة شعيب إياهم على الكفر عودا لأنهم يحسبون شعيبا كان على دينهم ، حيث لم يكونوا يعلمون منه ما يخالف ذلك ، فهم يحسبونه ، موافقا لهم من قبل أن يدعو إلى ما دعا إليه. وشأن الذين أرادهم الله للنبوءة أن يكونوا غير مشاركين لأهل الضلال من قومهم ولكنّهم يكونون قبل أن يوحى إليهم في حالة خلو عن الإيمان حتى يهديهم الله إليه تدريجا ، وقومهم لا يعلمون باطنهم فلا حيرة في تسمية قومه موافقته إيّاهم عودا.

وهذا بناء على أن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوءة ، وذلك قول جميع المتكلمين من المسلمين ، وقد نبّه على ذلك عياض في «الشفاء» في القسم الثالث وأورد قول شعيب : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) [الأعراف : ٨٩] وتأول العود بأنّه المصير ، وذلك تأويل كثير من المفسرين لهذه الآية. ودليل العصمة من هذا هو كمالهم ، والدليل مبني على أن خلاف الكمال قبل الوحي يعد نقصا ، وليس في الشريعة دليل قاطع على ذلك ، وإنّما الإشكال في قول شعيب (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) [الأعراف : ٨٩] فوجهه أنّه أجراه على المشاكلة والتغليب. وكلاهما مصحّح لاستعمال لفظ العود في غير معناه بالنسبة إليه خاصة ، وقد

١٩٦

تولى شعيب الجواب عمّن معه من المؤمنين ليقينه بصدق إيمانهم.

والملّة : الدين ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) في سورة البقرة [١٣٠].

وفصل جملة : (قالَ الْمَلَأُ) لوقوعها في المحاورة على ما بيناه عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

(أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩).

فصل جملة (قالَ ..) لوقوعها في سياق المحاورة.

والاستفهام مستعمل في التعجب تعجبا من قولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) المؤذن ما فيه من المؤكّدات بأنّهم يكرهونهم على المصير إلى ملّة الكفر ، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان ، ليعلم قومه أنّه أحاط خبرا بما أرادوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين : الإخراج أو الرجوع إلى ملّة الكفر ، شأن الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئا مما أراده خصمه في حواره ، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملّتهم بالإكراه ، مع أن شأن المحقّ أن يشرك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكّأ على عصا الضّغط والإكراه ، ولذا قال الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦]. فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب.

والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكره ـ بفتح الكاف وسكون الراء ـ وهو ضد المحبة ، فكاره الشيء لا يدانيه إلّا مغصوبا ويقال للغصب إكراه ، أي ملجئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) في سورة البقرة [٢١٦].

و (لو) وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها ، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب. فالتقدير : أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين.

وقد تقدم تفصيل (لو) هذه عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١]. وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال.

١٩٧

واستأنف مرتقيا في الجواب ، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد ، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر ، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيبا مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل ، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله : (افْتَرَيْنا) و (عُدْنا) و (نَجَّانَا) و (نَعُودَ) و (رَبُّنا) و (تَوَكَّلْنا).

والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف. لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه ، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم ، أي إن يقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذبا ، فالماضي في قوله : (افْتَرَيْنا) ماض حقيقي كما يقتضيه دخول (قَدِ) عليه ، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه (إن) للاستقبال ، أما الماضي الواقع شرطا ل (إن) في قوله : (إِنْ عُدْنا) فهو بمعنى المستقبل لأن (إن) تقلب الماضي للمستقبل عكس (لم).

وقوله : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) على هذا الوجه ، معناه : بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر ، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة ، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية.

وهذه البعدية ليست قيدا ل (افْتَرَيْنا) ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالا على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب (عُدْنا) يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبل الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب.

وانتصاب (كَذِباً) على المفعولية المطلقة تأكيدا ل (افْتَرَيْنا) بنا هو ما سوله أو أعم منه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣].

وقد رتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجة تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) فنفي العود نفيا مؤكدا بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) إلخ

١٩٨

في سورة آل عمران [٧٩].

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) تأدب مع الله وتفويض أمره وأمر المؤمنين إليه ، أي: إلّا أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل ، فأما عود المؤمنين إلى الكفر فممكن في العقل حصوله وليس في الشرع استحالته ، والارتداد وقع في طوائف من أمم.

وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءة فهو مستحيل شرعا لعصمة الله للأنبياء ، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لما ترتّب عليه محال عقلا ، ولكنه غير ممكن شرعا ، وقد علمت آنفا عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى ، قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] على أحد التأويلين.

وفي قول شعيب : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) تقييد عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله ، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله ، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان ، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله ، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨].

ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعة على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه لا يعلم ما يختم له به ، ويضعف قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبئ عن الشك في إيمانه.

وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة ، وابن سحنون وأصحابه من جهة ، في القيروان زمانا طويلا ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما ، وكان أصحاب ابن سحنون يدعون ابن عبدوس وأصحابه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجترءوا على ابن عبدوس وأصحابه اجتراء وافتراء ، كما ذكره مفصلا عياض في «المدارك» في ترجمة محمد بن سحنون ، وترجمة ابن النبّان ، والذي حقّقه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي : فإن كان يقول : إن شاء الله ، وسريرته في الإيمان مثل علانيته فلا بأس بذلك ، وإن كان شكا فهو شك في الإيمان ، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس ، وقد قال المحققون : أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي ، كما حقّقه تاج الدين السبكي في

١٩٩

«منظومته النونية» ، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في «شرحه». ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحّة قول المؤمن : أنا مؤمن إن شاء الله ، وأن قوله ذلك هل ينبئ عن شكه في إيمانه ، وليس الخلاف في أنّه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، عند القائلين بذلك ، بدليل أنهم كثيرا ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين : أنا مؤمن عند الله ، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته ، وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي.

والإتيان بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم المشارك : إظهار لحضرة الإطلاق ، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا.

والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفر والمعاصي خلاف ناشئ عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة ، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر ، والمسألة طفيفة وإن هوّلها الفريقان ، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة ، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف.

وقوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) تفويض لعلم الله ، أي إلّا أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا ، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية ، وتأكيد التعريض المتقدم ، حتى يصير كالتصريح.

وانتصب (عِلْماً) على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام.

وانتصب (كُلَّ شَيْءٍ) على المفعول به ل (وَسِعَ) ، أي : وسع علم ربنا كل شيء.

والسعة : مستعملة مجازا في الإحاطة بكل شيء لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة.

وفي هذه المجادلة إدماج تعليم بعض صفات الله لأتباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة.

ثم أخبر بأنه ومن تبعه قد توكلوا على الله ، والتوكل : تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في آل عمران [١٥٩] ، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير ، أي : رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ونضل ، ورجونا أن يكفينا شر من يضمر لنا شرا وذلك

٢٠٠