تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ومعنى (أَجِئْتَنا) أقصدت واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتّحفّز والتّصلّب ، كقول العرب : ذهب يفعل ، وفي القرآن : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ١ ، ٢] وقال حكاية عن فرعون : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى) [النازعات : ٢٢ ، ٢٣] وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنّما أريد أنّه أعرض واهتمّ ومثله قولهم ذهب يفعل كذا قال النّبهاني :

فإن كنت سيّدنا سدتنا

وإن كنت للخال فاذهب فخل

فقصدوا ممّا دلّ عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه.

و (وَحْدَهُ) حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوحده : إذا اعتقده واحدا ، فقياس المصدر الإيجاد ، وانتصب هذا المصدر على الحال : إمّا من اسم الجلالة بتأويل المصدر باسم المفعول عند الجمهور أي موحّدا أي محكوما له بالوحدانية ، وقال يونس : هو بمعنى اسم الفاعل أي موحّدين له فهو حال من الضّمير في (لِنَعْبُدَ).

وتقدّم معنى : (وَنَذَرَ) عند قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) في سورة الأنعام [٧٠].

والفاء في قوله : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به ، وتحدّيا لهود ، وإشعارا له بأنّهم موقنون بأن لا صدق للوعيد الذي يتوعّدهم فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب. فالأمر في قولهم : (فَأْتِنا) للتّعجيز.

والإتيان بالشّيء حقيقته أن يجيء مصاحبا إيّاه ، ويستعمل مجازا في الإحضار والإثبات كما هنا. والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب ، أو فحقّق لنا ما زعمت من وعيدنا. ونظيره الفعل المشتقّ من المجيء مثل (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود : ٥٣] (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٧١].

وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضا بأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قبل الله تعالى ، لأنّهم يزعمون أنّ الله لا يحبّ منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم ، لأنّه لا تتعلّق إرادته بطلب الضّلال في زعمهم.

والوعد الذي أرادوه وعد بالشرّ ، وهو الوعيد ، ولم يتقدّم ما يفيد أنّه توعّدهم بسوء ، فيحتمل أن يكون وعيدا ضمنيا تضمّنه قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) [الأعراف : ٦٥] لأنّ إنكاره عليهم

١٦١

انتفاء الاتّقاء دليل على أنّ ثمّة ما يحذر منه ، ولأجل ذلك لم يعيّنوا وعيدا في كلامهم بل أبهموه بقولهم (بِما تَعِدُنا) ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضا من قوله : (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] المؤذن بأنّ الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد ، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم.

وعقّبوا كلامهم بالشّرط فقالوا : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استقصاء لمقدرته قصدا منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلّا الاعتراف بأنّه كاذب ، وجواب الشّرط محذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : أتيت به وإلّا فلست بصادق.

فأجابهم بأن أخبرهم بأنّ الله قد غضب عليهم ، وأنّهم وقع عليهم رجس من الله.

والأظهر أنّ : (وَقَعَ) معناه حق وثبت ، من قولهم للأمر المحقّق : هذا واقع ، وقولهم للأمر المكذوب : هذا غير واقع ، فالمعنى حقّ وقدر عليكم رجس وغضب. فالرّجس هو الشّيء الخبيث ، أطلق هنا مجازا على خبث الباطن ، أي فساد النّفس كما في قوله تعالى: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ـ وقوله ـ (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥]. والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه ، وعن ابن عبّاس أنّه فسّر الرّجس هنا باللّعنة ، والجمهور فسّروا الرّجس هنا بالعذاب ، فيكون فعل : (وَقَعَ) من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال ، إشعارا بتحقيق وقوعه؟ ومنهم من فسّر الرّجس بالسّخط ، وفسّر الغضب بالعذاب ، على أنّه مجاز مرسل لأنّ العذاب أثر الغضب ، وقد أخبر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله ، إذ أعلمه بأنّهم إن لم يرجعوا عن الشّرك بعد أن يبلّغهم الحجّة فإنّ عدم رجوعهم علامة على أنّ خبث قلوبهم متمكّن لا يزول ، ولا يرجى منهم إيمان ، كما قال الله لنوح : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ١٣٦].

وغضب الله تقديره : الإبعاد والعقوبة والتّحقير ، وهي آثار الغضب في الحوادث ، لأنّ حقيقة الغضب : انفعال تنشأ عنه كراهيّة المغضوب عليه وإبعاده وإضراره.

وتأخير الغضب عن الرّجس لأنّ الرّجس ، وهو خبث نفوسهم ، قد دلّ على أنّ الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضّلال أمرا جبلّيا ، فدلّ ذلك على أنّ الله غضب عليهم. فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزّمن الماضي بالنّسبة لوقت قول

١٦٢

هود. واقترانه ب (قَدْ) للدّلالة على تقريب زمن الماضي من الحال : مثل قد قامت الصّلاة.

وتقديم : (عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب ، إيقاظا لبصائرهم لعلّهم يبادرون بالتّوبة ، ولأنّ المجرورين متعلّقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه ، ولو ذكرا بعد الفاعل لتوهّم أنّهما صفتان له ، وقدم المجرور الذي هو ضميرهم ، على الذي هو وصف ربّهم لأنّهم المقصود الأوّل بالفعل.

ولمّا قدّم إنذارهم بغضب الله عاد إلى الاحتجاج عليهم بفساد معتقدهم فأنكر عليهم أن يجادلوا في شأن أصنامهم. والمجادلة : المحاجة.

وعبّر عن الأصنام بأنّها أسماء ، أي هي مجرّد أسماء ليست لها الحقائق التي اعتقدوها ووضعوا لها الأسماء لأجل استحضارها ، فبذلك كانت تلك الأسماء الموضوعة مجرّد ألفاظ ، لانتفاء الحقائق التي وضعوا الأسماء لأجلها. فإنّ الأسماء توضع للمسمّيات المقصودة من التّسمية ، وهم إنّما وضعوا لها الأسماء واهتمّوا بها باعتبار كون الإلهيّة جزءا من المسمّى الموضوع له الاسم ، وهو الدّاعي إلى التّسمية ، فمعاني الإلهية وما يتبعها ملاحظة لمن وضع تلك الأسماء ، فلمّا كانت المعاني المقصودة من تلك الأسماء منتفية كانت الأسماء لا مسمّيات لها بذلك الاعتبار ، سواء في ذلك ما كان منها له ذوات وأجسام كالتّماثيل والأنصاب ، وما لم تكن له ذات ، فلعلّ بعض آلهة عاد كان مجرّد اسم يذكرونه بالإلهيّة ولا يجعلون له تمثالا ولا نصبا ، مثل ما كانت العزى عند العرب ، فقد قيل : إنهم جعلوا لها بيتا ولم يجعلوا لها نصبا وقد قال الله تعالى في ذلك : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣].

وذكر أهل الأخبار أنّ عادا اتّخذوا أصناما ثلاثة وهي (صمود) ـ بفتح الصّاد المهملة بوزن زبور. وصداء ـ بضمّ الصّاد المهملة مضبوطا بخط الهمذاني محشي «الكشاف» في نسخة من حاشيته المسمّاة «توضيح المشكلات» ومنسوخة بخطّه ، وبدال مهملة بعدها ألف ولم أقف على ضبط الدّال بالتّشديد أو بالتّخفيف : وقد رأيت في نسخة من «الكشاف» مخطوطة موضوعا على الدّال علامة شدّ ، ولست على تمام الثّقة بصحّة النّسخة ، وبعد الألف همزة كما هو في نسخ «الكشاف» و «تفسير البغوي» ، وكذلك هو في أبيات موضوعة في قصّة قوم عاد في كتب القصص. ووقع في نسخة «تفسير ابن عطيّة» وفي «مروج الذّهب» للمسعودي ، وفي نسخه من شرح ابن بدرون على قصيدة ابن عبدون

١٦٣

الأندلسي بدون همزة بعد الألف). و (الهباء) ـ بالمدّ في آخره مضبوطا بخطّ الهمذاني في نسخة حاشيته على «الكشاف» ، وفي نسخة «الكشاف» المطبوعة ، وفي «تفسيري» البغوي والخازن ، وفي الأبيات المذكورة آنفا. ووقع في نسخة قلمية من «الكشاف» بألف دون مدّ. ولم أقف على ضبط الهاء ، ولم أر ذكر صداء والهباء فيما رأيت من كتب اللّغة.

وعطف على ضمير المخاطبين : (وَآباؤُكُمْ) لأنّ من آبائهم من وضع لهم تلك الأسماء ، فالواضعون وضعوا وسمّوا ، والمقلّدون سمّوا ولم يضعوا ، واشترك الفريقان في أنّهم يذكرون أسماء لا مسمّيات لها.

و (سَمَّيْتُمُوها) معناه : ذكرتموها بألسنتكم ، كما يقال : سمّ الله ، أي ذاكر اسمه ، فيكون سمّى بمعنى ذكر لفظ الاسم ، والألفاظ كلّها أسماء لمدلولاتها ، وأصل اللّغة أسماء قال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] ، وقال لبيد :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

أي لفظه. وليس المراد من التّسمية في الآية وضع الاسم للمسمّى ، كما يقال : سمّيت ولدي كذا ، لأنّ المخاطبين وكثيرا من آبائهم لا حظّ لهم في تسمية الأصنام ، وإنّما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشّرك واتّخذوه دينا وعلّموه أبناءهم وقومهم ، ولأجل هذا المعنى المقصود من التّسمية لم يذكر لفعل «سمّيتم» مفعول ثان ولا متعلّق ، بل اقتصر على مفعول واحد.

والسلطان : الحجّة التي يصدّق بها المخالف ، سمّيت سلطانا لأنّها تتسلّط على نفس المعارض وتقنعه ، ونفى أن تكون الحجّة منزلة من الله لأنّ شأن الحجّة في مثل هذا أن يكون مخبرا بها من جانب الله تعالى ، لأنّ أمور الغيب ممّا استأثر الله بعلمه. وأعظم المغيّبات ثبوت الإلهيّة لأنّها قد يقصر العمل عن إدراكها فمن شأنها أن تتلقى من قبل الوحي الإلهي.

والفاء في قوله : (فَانْتَظِرُوا) لتفريع هذا الإنذار والتّهديد السّابق ، لأنّ وقوع الغضب والرّجس عليهم ، ومكابرتهم واحتجاجهم لما لا حجّة له ، ينشأ عن ذلك التّهديد بانتظار العذاب.

وصيغة الأمر للتّهديد مثل : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]. والانتظار افتعال من النّظر بمعنى التّرقّب ، كأنّ المخاطب أمر بالتّرقّب فارتقب.

١٦٤

ومفعول : (فَانْتَظِرُوا) محذوف دلّ عليه قوله : (رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي فانتظروا عقابا.

وقوله : (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) استيناف بياني لأنّ تهديده إياهم يثير سؤالا في نفوسهم أن يقولوا : إذا كنّا ننتظر العذاب فما ذا يكون حالك ، فبيّن أنّه ينتظر معهم ، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تلقينا لرسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما أدري ما يفعل بي ولا بكم» فهود يخاف أن يشمله العذاب النّازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث : أنّ أمّ سلمة قالت : «أنهلك وفينا الصّالحون» قال : «نعم إذا كثر الخبث». وفي الحديث الآخر : «ثمّ يحشرون على نيّاتهم» ويجوز أن ينزّل بهم العذاب ويراه هود ولكنّه لا يصيبه ، وقد روي ذلك في قصّته ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضا في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب :

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

الفاء للتّعقيب : أي فعجّل الله استيصال عاد ونجّى هودا والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا : فقطعنا دابر الذين كذّبوا ـ إلخ ـ ونجينا هودا إلخ ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمن معه ، على نحو ما قرّرته في قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ٦٤] في قصّة نوح المتقدّمة ، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ). والّذين معه هم من آمن به من قومه ، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين ، وهي معيّة مجازيّة ، قيل إنّ الله تعالى أمر هودا ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعاد ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحجر ولا أحسب هذا ثابتا لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمنا طويلا لأنّه حكى عن شعيب قوله لقومه : (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩] فهو ظاهر في أنّ عادا وثمودا كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزّمان ، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه. والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن عليّ أنّ قبر هود بحضر موت وهذا أقرب.

١٦٥

وقوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الباء فيه للسّببيّة ، وتنكير (بِرَحْمَةٍ) للتّعظيم ، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها ، و (من) للابتداء ، ويجوز أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرّحمة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حلّوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع (منّا) ـ على هذا الوجه ـ موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

وتفسير قوله : (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) نظير قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) في سورة الأنعام [٤٥] ، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبور فأفناهم جميعا ولم يبق منهم أحد. والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل. وأمّا الآية فلا تقتضي إلّا انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصولية تقدّم في قوله : (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ٦٤] في قصّة نوح آنفا ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم.

(وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على (كَذَّبُوا) فهو من الصّلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التّكذيب والإشراك ، تعريضا بمشركي قريش ، ولموعظتهم ذكرت هذه القصص. وقد كان ما حلّ بعاد من الاستيصال تطهيرا أوّل لبلاد العرب من الشّرك ، وقطعا لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها ، أعدادا لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣))

الواو في قوله : (وَإِلى ثَمُودَ) مثلها في قوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [الأعراف: ٦٥] ، وكذلك القول في تفسيرها إلى قوله تعالى : (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

وثمود أمّة عظيمة من العرب البائدة وهم أبناء ثمود بن جاثر ـ بجيم ومثلّثة كما في «القاموس» ـ ابن إرم بن سام بن نوح فيلتقون مع عاد في (إرم) وكانت مساكنهم بالحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ بين الحجاز والشّام ، وهو المكان المسمّى الآن مدائن صالح وسمّي في حديث غزوة تبوك : حجر ثمود.

وصالح هو ابن عبيل ـ بلام في آخره وبفتح العين ـ ابن آسف بن ماشج أو شالخ بن

١٦٦

عبيل بن جاثر ـ ويقال كاثر ـ ابن ثمود. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف في حروفها في كتب التاريخ وغيرها أحسبه من التّحريف وهي غير مضبوطة سوى عبيل فإنّه مضبوط في سميه الذي هو جد قبيلة ، كما في «القاموس».

وثمود هنا ممنوع من الصّرف لأنّ المراد به القبيلة لا جدّها. وأسماء القبائل ممنوعة من الصّرف على اعتبار التّأنيث مع العلميّة وهو الغالب في القرآن ، وقد ورد في بعض آيات القرآن مصروفا كما في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) [هود : ٦٨] على اعتبار الحيّ فينتفي موجب منع الصّرف لأنّ الاسم عربي.

وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) يدلّ على أنّ ثمود كانوا مشركين ، وقد صرح بذلك في آيات سورة هود وغيرها. والظّاهر أنّهم عبدوا الأصنام التي عبدتها عاد لأنّ ثمود وعادا أبناء نسب واحد ، فيشبه أن تكون عقائدهم متماثلة. وقد قال المفسّرون : أنّ ثمود قامت بعد عاد فنمت وعظمت واتسعت حضارتها ، وكانوا موحدين ، ولعلّهم اتّعظوا بما حلّ بعاد ، ثمّ طالت مدّتهم ونعم عيشهم فعتوا ونسوا نعمة الله وعبدوا الأصنام فأرسل الله إليهم صالحا رسولا يدعوهم إلى التّوحيد فلم يتّبعه إلّا قليل منهم مستضعفون ، وعصاه سادتهم وكبراؤهم ، وذكر في آية سورة هود أنّ قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم ، فقد : (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [هود : ٦٢]. وتدلّ آيات القرآن وما فسّرت به من القصص على أنّ صالحا أجّلهم مدّة للتّأمّل وجعل النّاقة لهم آية ، وأنّهم تاركوها ولم يهيجوها زمنا طويلا.

فقد أشعرت مجادلتهم صالحا في أمر الدّين على أنّ التّعقّل في المجادلة أخذ يدبّ في نفوس البشر ، وأنّ غلواءهم في المكابرة أخذت تقصر ، وأنّ قناة بأسهم ابتدأت تلين ، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوم هود ، وبين جواب قوم صالح. ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادّهم لينظروا ويفكّروا فيما يدعوهم إليه نبئهم وليزنوا أمرهم ، وجعل لهم الانكفاف عن مسّ النّاقة بسوء علامة على امتداد الإمهال ؛ لأنّ انكفافهم ذلك علامة على أنّ نفوسهم لم تحنق على رسولهم ، فرجاؤه إيمانهم مستمرّ ، والإمهال لهم أقطع لعذرهم ، وأنهض بالحجّة عليهم ، فلذلك أخّر الله العذاب عنهم إكراما لنبيّهم الحريص على إيمانهم بقدر الطّاقة ، كما قال تعالى لنوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [هود : ٣٦].

١٦٧

وجملة : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) إلخ ، هي من مقول صالح في وقت غير الوقت الذي ابتدأ فيه بالدّعوة ، لأنّه قد طوي هنا جواب قومه وسؤالهم إياه آية كما دلّت عليه آيات سورة هود وسورة الشّعراء ، ففي سورة هود [٦١ ، ٦٢] : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) الآية. وفي سورة الشّعراء [١٥٣ ـ ١٥٥] : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ) الآية.

فجملة : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تعليل لجملة : (اعْبُدُوا اللهَ) ، أي اعبدوه وحده لأنّه جعل لكم آية على تصديقي فيما بلغت لكم ، وعلى انفراده بالتّصرف في المخلوقات.

وقوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) يقتضي أن النّاقة كانت حاضرة عند قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأنّها نفس الآية.

والبيّنة : الحجّة على صدق الدّعوى ، فهي ترادف الآية ، وقد عبّر بها عن الآية في قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١].

و (هذِهِ) إشارة إلى النّاقة التي جعلها الله آية لصدق صالح ولما كانت النّاقة هي البيّنة كانت جملة : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) منزّلة من التي قبلها منزلة عطف البيان.

وقوله : (آيَةً) حال من اسم الإشارة في قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) لأنّ اسم الإشارة فيه معنى الفعل ، واقترانه بحرف التّنبيه يقوي شبهه بالفعل ، فلذلك يكون عاملا في الحال بالاتّفاق ، وتقدّم عند قوله : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ) في سورة آل عمران [٥٨] ، وسنذكر قصّة في هذا عند تفسير قوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) في سورة هود [٧٢].

وأكّدت جملة : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) ، وزادت على التّأكيد إفادة ما اقتضاه قوله (لَكُمْ) من التّخصيص وتثبيت أنّها آية ، وذلك معنى اللّام ، أي هي آية مقنعة لكم ومجعولة لأجلكم.

فقوله : (لَكُمْ) ظرف مستقرّ في موضع الحال من (آيَةً) ، وأصله صفة فلمّا قدم على موصوفه صار حالا ، وتقديمه للاهتمام بأنّها كافية لهم على ما فيهم من عناد.

١٦٨

وإضافة ناقة إلى اسم الله تعالى تشريف لها لأنّ الله أمر بالإحسان إليها وعدم التّعرّض لها بسوء ، وعظّم حرمتها ، كما يقال : الكعبة بيت الله ، أو لأنّها وجدت بكيفية خارقة للعادة ، فلانتفاء ما الشأن أن تضاف إليه من أسباب وجود أمثالها أضيفت إلى اسم الجلالة كما قيل : عيسى ـ عليه‌السلام ـ كلمة الله.

وأمّا إضافة (أَرْضِ) إلى اسم الجلالة فالمقصود منه أنّ للنّاقة حقّا في الأكل من نبات الأرض لأنّ الأرض لله وتلك النّاقة من مخلوقاته فلها الحقّ في الانتفاع بما يصلح لانتفاعها.

وقوله : (هذِهِ) مقدمة لقوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي بسوء يعوّقها عن الرّعي إمّا بموت أو بجرح ، وإمّا لأنّهم لما كذّبوه وكذّبوا معجزته راموا منع النّاقة من الرّعي لتموت جوعا على معنى الإلجاء النّاشئ عن الجهالة.

والأرض هنا مراد بها جنس الأرض كما تقتضيه الإضافة.

وقد جعل الله سلامة تلك النّاقة علامة على سلامتهم من عذاب الاستيصال للحكمة التي قدّمتها آنفا ، وأن ما أوصى الله به في شأنها شبيه بالحرم ، وشبيه بحمى الملوك لما فيه من الدّلالة على تعظيم نفوس القوم لمن تنسب إليه تلك الحرمة ، ولذلك قال لهم صالح : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) لأنّهم إذا مسّها أحد بسوء ، عن رضى من البقيّة ، فقد دلّوا على أنّهم خلعوا حرمة الله تعالى وحنقوا على رسوله عليه‌السلام.

وجزم (تَأْكُلْ) على أنّ أصله جواب الأمر بتقدير : إن تذروها تأكل ، فالمعنى على الرّفع والاستعمال على الجزم ، كما في قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] أي يقيمون وهو كثير في الكلام ، ويشبه أن أصل جزم أمثاله في الكلام العربي على التّوهم لوجود فعل الطّلب قبل فعل صالح للجزم ، ولعلّ منه قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج : ٢٧].

وانتصب قوله : (فَيَأْخُذَكُمْ) في جواب النّهي ليعتبر الجواب للمنهي عنه لأنّ حرف النّهي لا أثر له : أي إن تمسّوها بسوء يأخذكم عذاب.

وأنيط النّهي بالمس بالسّوء لأنّ المس يصدق على أقل اتّصال شيء بالجسم ، فكلّ ما ينالها ممّا يراد منه السّوء فهو منهي عنه ، وذلك لأنّ الحيوان لا يسوؤه إلّا ما فيه ألم لذاته ، لأنّه لا يفقه المعاني النّفسانيّة.

١٦٩

والباء في قوله : (بِسُوءٍ) للملابسة ، وهي في موضع الحال من فاعل تمسوها أي بقصد سوء.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤))

يجوز أن يكون عطفا على قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) [الأعراف : ٧٣] وأن يكون عطفا على قوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) [الأعراف : ٧٣] إلخ. والقول فيه كالقول في قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩].

(وَبَوَّأَكُمْ) معناه أنزلكم ، مشتق من البوء وهو الرّجوع ، لأنّ المرء يرجع إلى منزله ومسكنه ، وتقدّم في سورة آل عمران [١٢١] ، (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ).

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) يجوز أن يكون تعريف الأرض للعهد ، أي في أرضكم هذه ، وهي أرض الحجر ، ويجوز أن يكون للجنس لأنّه لما بوأهم في أرض معيّنة فقد بوّأهم في جانب من جوانب الأرض.

و «السّهول» جمع سهل ، وهو المستوي من الأرض ، وضدّه الجبل.

والقصور : جمع قصر وهو المسكن ، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا يشيّدون القصور ، وآثارهم تنطق بذلك.

و (من) في قوله : (مِنْ سُهُولِها) للظرفيّة ، أي : تتّخذون في سهولها قصورا.

والنّحت : بري الحجر والخشب بآلة على تقدير مخصوص.

والجبال : جمع جبل وهو الأرض النّاتئة على غيرها مرتفعة ، والجبال : ضدّ السّهول.

والبيوت : جمع بيت وهو المكان المحدّد المتّخذ للسكنى ، سواء كان مبنيا من حجر أم كان من أثواب شعر أو صوف. وفعل النّحت يتعلّق بالجبال لأنّ النّحت يتعلّق بحجارة الجبال ، وانتصب (بُيُوتاً) على الحال من الجبال ، أي صائرة بعد النّحت بيوتا ، كما يقال : خط هذا الثّوب قميصا ، وابر هذه القصبة قلما ، لأنّ الجبل لا يكون حاله حال البيوت وقت النّحت ، ولكن يصير بيوتا بعد النّحت.

١٧٠

ومحلّ الامتنان هو أن جعل منازلهم قسمين : قسم صالح للبناء فيه ، وقسم صالح لنحت البيوت ، قيل : كانوا يسكنون في الصّيف القصور ، وفي الشّتاء البيوت المنحوتة في الجبال.

وتفريع الأمر بذكر آلاء الله على قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) تفريع الأعم على الأخصّ ، لأنّه أمرهم بذكر نعمتين ، ثمّ أمرهم بذكر جميع النّعم التي لا يحصونها ، فكان هذا بمنزلة التّذييل.

وفعل : (فَاذْكُرُوا) مشتقّ من المصدر ، الذي هو بضمّ الذّال ، وهو التذكّر بالعقل والنّظر النّفساني ، وتذكّر الآلاء يبعث على الشّكر والطّاعة وترك الفساد ، فلذلك عطف نهيهم عن الفساد في الأرض على الأمر بذكر آلاء الله.

(وَلا تَعْثَوْا) معناه ولا تفسدوا ، يقال : عثي كرضي ، وهذا الأفصح ، ولذلك جاء في الآية ـ بفتح الثّاء ـ حين أسند إلى واو الجماعة ، ويقال عثا يعثو ـ من باب سما ـ عثوا وهي لغة دون الأولى ، وقال كراع ، كأنّه مقلوب عاث. والعثي والعثو كلّه بمعنى أفسد أشدّ الإفساد.

ومفسدين حال مؤكّدة لمعنى (تَعْثَوْا) وهو وإن كان أعمّ من المؤكّد فإنّ التّأكيد يحصل ببعض معنى المؤكّد.

[٧٥ ، ٧٦] (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦))

عدل الملأ الّذين استكبروا عن مجادلة صالح عليه‌السلام إلى اختبار تصلّب الذين آمنوا به في إيمانهم ، ومحاولة إلقاء الشكّ في نفوسهم ، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصودا به إفساد دعوة صالح عليه‌السلام كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح عليه‌السلام ، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصل جمل حكاية المحاورات ، كما قدّمناه غير مرّة آنفا وفيما مضى.

وتقدّم تفسير الملأ قريبا.

ووصفهم بالذين استكبروا هنا لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم

١٧١

إياهم. وللتّنبيه على أنّ الذين آمنوا بما جاءهم به صالح عليه‌السلام هم ضعفاء قومه.

واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصف الآخرين بالذين استضعفوا لما تومئ إليه الصّلة من وجه صدور هذا الكلام منهم ، أي أن استكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيئهم ، وأنّ احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يسغ عندهم سبقهم إياهم إلى الخير والهدى ، كما حكى عن قوم نوح قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [هود : ٢٧] وكما حكى عن كفّار قريش بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١] ، ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود.

والذين استضعفوا هم عامّة النّاس الذين أذلّهم عظماؤهم واستعبدوهم لأنّ زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السّيادة الدّنيوية الخلية عن خلال الفضيلة ، من العدل والرأفة وحبّ الإصلاح ، فلذلك وصف الملأ بالّذين استكبروا ، وأطلق على العامة وصف الذين استضعفوا.

واللّام في قوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) لتعدية فعل القول.

وقوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بإعادة حرف الجرّ الذي جرّ بمثله المبدل منه.

والاستفهام في (أَتَعْلَمُونَ) للتشكيك والإنكار ، أي : ما نظنّكم آمنتم بصالحعليه‌السلام عن علم بصدقه ، ولكنّكم اتّبعتموه عن عمى وضلال غير موقنين ، كما قال قوم نوح عليه‌السلام : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] وفي ذلك شوب من الاستهزاء.

وقد جيء في جواب (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بالجملة الاسميّة للدّلالة على أنّ الإيمان متمكّن منهم بمزيد الثّبات ، فلم يتركوا للذين استكبروا مطمعا في تشكيكهم ، بله صرفهم عن الإيمان برسولهم.

وأكّد الخبر بحرف (إنّ) لإزالة ما توهّموه من شكّ الذين استكبروا في صحّة إيمانهم ، والعدول في حكاية جواب الذين استضعفوا عن أن يكون بنعم إلى أن يكون بالموصول صلته لأن الصلة تتضمن إدماجا بتصديقهم بما جاء به صالح من نحو التوحيد وإثبات البعث ، والدلالة على تمكنهم من الإيمان بذلك كله بما تفيده الجملة الاسمية من

١٧٢

الثبات والدوام وهذا من بليغ الإيجاز المناسب لكون نسج هذه الجملة من حكاية القرآن لا من المحكي من كلامهم إذ لا يظن أن كلامهم بلغ من البلاغة هذا المبلغ ، وليس هو من الأسلوب الحكيم كما فهمه بعض المتأخرين.

ومراجعة الذين استكبروا بقولهم : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) تدلّ على تصلّبهم في كفرهم وثباتهم فيه ، إذ صيغ كلامهم بالجملة الاسميّة المؤكّدة.

والموصول في قولهم : (بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ) هو ما أرسل به صالح عليه‌السلام. وهذا كلام جامع لرد ما جمعه كلام المستضعفين حين (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فهو من بلاغة القرآن في حكاية كلامهم وليس من بلاغة كلامهم.

ثمّ إنّ تقديم المجرورين في قوله : (بِما أُرْسِلَ بِهِ) و (بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ) على عامليهما يجوز أن يكون من نظم حكاية كلامهم وليس له معادل في كلامهم المحكي ، وإنّما هو لتتقوّم الفاصلتان ، ويجوز أن يكون من المحكي : بأن يكون في كلامهم ما دلّ على الاهتمام بمدلول الموصولين ، فجاء في نظم الآية مدلولا عليه بتقديم المعمولين.

وقرأ الجمهور : (قالَ الْمَلَأُ) بدون عطف جريا على طريقة أمثاله في حكاية المحاورات. وقرأه ابن عامر : وقال ـ بحرف العطف ـ وثبتت الواو في المصحف المبعوث إلى الشام خلافا لطريقة نظائرها ، وهو عطف على كلام مقدّر دلّ عليه قوله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) والتّقدير : فآمن به بعض قومه ، وقال الملأ من قومه إلخ ، أو هو عطف على : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) [الأعراف : ٧٣] الآية ، ومخالفة نظائره تفنّن.

[٧٧ ، ٧٨] (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨))

الفاء للتّعقيب لحكاية قول الذين استكبروا : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٧٦] ، أي قالوا ذلك فعقروا ، والتّعقيب في كلّ شيء بحسبه ، وذلك أنّهم حين قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتّكذيب ، وصمّموا عليه ، وعجزوا عن المحاجة والاستدلال ، فعزموا على المصير إلى النّكاية والإغاظة لصالح عليه‌السلام ومن آمن به ، ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على النّاقة التي جعلها صالح عليه‌السلام لهم ، وأقامها ـ بينه وبينهم ـ علامة موادعة ما داموا غير متعرّضين لها بسوء ، ومقصدهم من نيّتهم إهلاك النّاقة أن يزيلوا آية صالح عليه‌السلام لئلا يزيد عدد المؤمنين به ، لأنّ مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في

١٧٣

نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشربها ، ولأنّ في اعتدائهم عليها إيذانا منهم بتحفزهم للإضرار بصالح عليه‌السلام وبمن آمن به بعد ذلك وليروا صالحا عليه‌السلام أنّهم مستخفّون بوعيده إذ قال لهم : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأعراف : ٧٣].

والضّمير في قوله : (فَعَقَرُوا) عائد إلى (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) [الأعراف : ٧٥] ، وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحدا منهم لأنّه كان عن تمالؤ ورضى من جميع الكبراء ، كما دلّ عليه قوله تعالى في سورة القمر [٢٩] : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) ، وهذا كقول النّابغة في شأن بني حنّ :

وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة

وإنّما قتله واحد منهم

وذكر في الأثر : أنّ الذي تولّى عقر النّاقة رجل من سادتهم اسمه (قدار) ـ بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره ـ ابن سالف. وفي حديث البخاري أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال : انبعث لها رجل عزيز عارم (١) منيع في رهطه مثل أبي زمعة (٢).

والعقر : حقيقته الجرح البليغ ، قال امرؤ القيس :

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا إمرأ القيس فانزل

أي جرحته باحتكاك الغبيط في ظهره من ميله إلى جهة ، ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان ، ومنه قولهم ، عقر حمار وحش ، أي ضربه بالرّمح فقطع منه عضوا ، وكانوا يعقرون البعير المراد نحره بقطع عضو منه حتّى لا يستطيع الهروب عند النّحر ، فلذلك أطلق العقر عن النّحر على وجه الكناية قال امرؤ القيس :

ويوم عقرت للعذارى مطيّتي

وما في هذه الآية كذلك.

__________________

(١) العارم ـ بعين مهملة ـ الجبّار.

(٢) أبو زمعة هو الأسود بن المطّلب القرشي مات كافرا.

١٧٤

والعتوّ تجاوز الحد في الكبر ، وتعديته ب (من) لتضمينه معنى الإعراض.

وأمر ربّهم هو ما أمرهم به على لسان صالح عليه‌السلام من قوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [الأعراف : ٧٣] فعبّر عن النّهي بالأمر لأنّ النّهي عن الشّيء مقصود منه الأمر بفعل ضدّه ، ولذلك يقول علماء الأصول إنّ النّهي عن الشّيء يستلزم الأمر بضدّه الذي يحصل به تحقّق الكفّ عن المنهي عنه.

وأرادوا : (بِما تَعِدُنا) العذاب الذي توعّدهم به مجملا. وجيء بالموصول للدّلالة على أنّهم لا يخشون شيئا ممّا يريده من الوعيد المجمل. فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعد.

وقد فرضوا كونه من المرسلين بحرف (إن) الدّال على الشكّ في حصول الشّرط ، أي إن كنت من الرّسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صدق عليهم هذا اللّقب. وهؤلاء لجهلهم بحقيقة تصرّف الله تعالى وحكمته ، يحسبون أنّ تصرّفات الله كتصرّفات الخلق ، فإذا أرسل رسولا ولم يصدّقه المرسل إليهم غضب الله واندفع إلى إنزال العقاب إليهم ، ولا يعلمون أنّ الله يمهل الظّالمين ثمّ يأخذهم متى شاء.

وجملة (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) معترضة بين جملة (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) وبين جملة (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) [الأعراف : ٧٩] أريد باعتراضها التّعجيل بالخبر عن نفاذ الوعيد فيهم بعقب عتوّهم ، فالتّعقيب عرفي ، أي لم يكن بين العقر وبين الرجفة زمن طويل ، كان بينهما ثلاثة أيّام ، كما ورد في آية سورة هود [٦٥] : (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ).

وأصل الأخذ تناول شيء باليد ، ويستعمل مجازا في ملك الشيء ، بعلاقة اللّزوم ، ويستعمل أيضا في القهر كقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) [الأنفال : ٥٢] ، (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [الحاقة : ١٠] وأخذ الرّجفة : إهلاكها إياهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخذ. ولا شكّ أنّ الله نجّى صالحا عليه‌السلام والذين آمنوا معه ، كما في آية سورة هود. وقد روي أنّه خرج في مائة وعشرة من المؤمنين ، فقيل : نزلوا رملة فلسطين ، وقيل : تباعدوا عن ديار قومهم بحيث يرونها ، فلمّا أخذتهم الرّجفة وهلكوا عاد صالح عليه‌السلام ومن آمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : سكنوا مكّة وأنّ صالحا عليه‌السلام دفن بها ، وهذا بعيد كما قلناه في عاد ، ومن أهل الأنساب من يقول : إنّ ثقيفا من بقايا ثمود ، أي من ذرّية من نجا منهم من العذاب ، ولم يذكر القرآن أنّ ثمودا انقطع دابرهم فيجوز أن تكون منهم بقية.

١٧٥

والرّجفة : اضطراب الأرض وارتجاجها ، فتكون من حوادث سماوية كالرّياح العاصفة والصّواعق ، وتكون من أسباب أرضيّة كالزلازل ، فالرّجفة اسم للحالة الحاصلة ، وقد سمّاها في سورة هود بالصّيحة فعلمنا أنّ الذي أصاب ثمود هو صاعقة أو صواعق متوالية رجفت أرضهم وأهلكتهم صعقين ، ويحتمل أن تقارنها زلازل أرضية.

والدّار : المكان الذي يحتلّه القوم ، وهو يفرد ويجمع باعتبارين ، فلذلك قال في آية سورة هود : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ). (فَأَصْبَحُوا) هنا بمعنى صاروا.

والجاثم : المكب على صدره في الأرض مع قبض ساقيه كما يجثو الأرنب ، ولمّا كان ذلك أشدّ سكونا وانقطاعا عن اضطراب الأعضاء استعمل في الآية كناية عن همود الجثّة بالموت ، ويجوز أن يكون المراد تشبيه حالة وقوعهم على وجوههم حين صعقوا بحالة الجاثم تفظيعا لهيئة ميتتهم ، والمعنى أنّهم أصبحوا جثثا هامدة ميّتة على أبشع منظر لميّت.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

والفاء في قوله : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) عاطفة على جملة : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) [الأعراف: ٧٧] والتّولي الانصراف عن فراق وغضب ، ويطلق مجازا على عدم الاكتراث بالشّيء ، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارق ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم ، فيكون التّعقيب لقوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) [الأعراف : ٧٧] لأن ظاهر تعقيب التّولي عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين.

ويحتمل أن يكون مجازا بقرينة الخطاب أيضا ، أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد أصابتها بالصّاعقة ، أو فأعرض عن الحزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

فعلى الوجه الأول يكون قوله : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) إلخ مستعملا في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم ، وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملا في التحسر أو في التّبري منهم ، فيكون النّداء تحسر فلا يقتضي كون أصحاب الاسم المنادى ممّن يعقل النّداء حينئذ ، مثل ما تنادى الحسرة في : يا حسرة.

١٧٦

وقوله : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) تفسيره مثل تفسير قوله في قصّة نوح عليه‌السلام : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) [الأعراف : ٦٢] واللّام في (لقد) لام القسم ، وتقدّم نظيره عند قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) [الأعراف : ٥٩].

والاستدراك ب (لكن) ناشئ عن قوله : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) لأنّه مستعمل في التّبرّؤ من التقصير في معالجة كفرهم ، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ، فلذلك التّبرّؤ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لانعدام ظهور فائدة الإبلاغ والنّصيحة ، فاستدرك بقوله : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ، أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم ، لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة.

واستعمال المضارع في قوله : (لا تُحِبُّونَ) إن كان في حال سماعهم قوله فهو للدّلالة على التّجديد والتّكرير ، أي لم يزل هذا دأبكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقيّة للإقلاع عمّا هم فيه ، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩].

[٨٠ ، ٨١] (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١))

عطف (وَلُوطاً) على (نُوحاً) في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) [الأعراف : ٥٩] فالتّقدير : وأرسلنا لوطا ، وتغيير الأسلوب في ابتداء قصّة لوط وقومه إذ ابتدئت بذكر (لوطا) كما ابتدئت قصّة بذكر نوح لأنه لم يكن لقوم لوط اسم يعرفون به كما لم يكن لقوم نوح اسم يعرفون به. و (إذ) ـ ظرف متعلّق ب (أرسلنا) المقدر يعني أرسلناه وقت قال لقومه وجعل وقت القول ظرفا للإرسال لإفادة مبادرته بدعوة قومه إلى ما أرسله الله به ، والمقارنة التي تقتضيها الظّرفية بين وقت الإرسال ووقت قوله ، مقارنة عرفية بمعنى شدّة القرب بأقصى ما يستطاع من مبادرة التّبليغ.

وقوم لوط كانوا خليطا من الكنعانيين وممّن نزل حولهم. ولذلك لم يوصف بأنّه أخوهم إذ لم يكن من قبائلهم ، وإنّما نزل فيهم واستوطن ديارهم. ولوط عليه‌السلام هو ابن أخي إبراهيمعليه‌السلام كما تقدّم في سورة الأنعام ، وكان لوط عليه‌السلام قد نزل

١٧٧

ببلاد (سدوم) ولم يكن بينهم وبينه قرابة.

والقوم الذين أرسل إليهم لوط عليه‌السلام هم أهل قرية (سدوم) و (عمّورة) من أرض كنعان ، وربّما أطلق اسم سدوم وعمّورة على سكّانهما. وهو أسلاف الفنيقيين وكانتا على شاطئ السديم ، وهو بحر الملح ، كما جاء في التّوراة (١) وهو البحر الميّت المدعو (بحيرة لوط) بقرب أرشليم. وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرّجال بالرّجال ، فأمر الله لوطا عليه‌السلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمّه إبراهيم عليه‌السلام أن ينهاهم ويغلظ عليهم.

فالاستفهام في (أَتَأْتُونَ) إنكاري توبيخي ، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التّلبّس والعمل ، أي أتعملون الفاحشة ، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة.

والفاحشة : الفعل الدّنيء الذّميم ، وقد تقدّم الكلام عليها عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) [الأعراف : ٢٨] : والمراد هنا فاحشة معروفة ، فالتّعريف للعهد.

وجملة : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) مستأنفة استينافا ابتدائيا ، فإنّه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة ، وعبّر عنها بالفاحشة ، وبّخهم بأنّهم أحدثوها ، ولم تكن معروفة في البشر فقد سنّوا سنة سيّئة للفاحشين في ذلك.

ويجوز أن تكون جملة : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) صفة للفاحشة ، ويجوز أن تكون حالا من ضمير : (تَأْتُونَ) أو من : (الْفاحِشَةَ).

السبق حقيقته : وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره ، ويستعمل مجازا في التّقدّم في الزّمان ، أي الأوّلية والابتداء ، وهو المراد هنا ، والمقصود أنّهم سبقوا النّاس بهذه الفاحشة إذ لا يقصد بمثل هذا التّركيب أنّهم ابتدءوا مع غيرهم في وقت واحد.

والباء لتعدية فعل (سبق) لاستعماله بمعنى (ابتدا) فالباء ترشيح للتّبعيّة. و (من) الدّاخلة على (أحد) لتوكيد النّفي للدّلالة على معنى الاستغراق في النّفي. و (من) الداخلة على (الْعالَمِينَ) للتبعيض.

__________________

(١) الإصلاح ١٤ من سفر التّكوين ٢٠

١٧٨

وجملة : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) مبيّنة لجملة (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ، والتّأكيد ـ بإنّ واللّام ـ كناية عن التّوبيخ لأنّه مبني على تنزيلهم منزلة من ينكر ذلك لكونهم مسترسلون عليه غير سامعين لنهي النّاهي. والإتيان كناية عن عمل الفاحشة.

وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : (إِنَّكُمْ) ـ بهمزة واحدة مكسورة ـ بصيغة الخبر ، فالبيان راجع إلى الشيء المنكر بهمزة الإنكار في (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ، وبه يعرف بيان الإنكار ، ويجوز اعتباره خبرا مستعملا في التّوبيخ ، ويجوز تقدير همزة استفهام حذفت للتّخفيف ولدلالة ما قبلها عليها. وقرأه البقيّة : أإنكم بهمزتين على صيغة الاستفهام ـ فالبيان للإنكار ، وبه يعرف بيان المنكر ، فالقراءتان مستويتان.

والشّهوة : الرّغبة في تحصيل شيء مرغوب ، وهي مصدر شهي كرضى ، جاء على صيغة الفعلة وليس مرادا به المرة.

وانتصب (شَهْوَةً) على المفعول لأجله. والمقصود من هذا المفعول تفظيع الفاحشة وفاعليها بأنّهم يشتهون ما هو حقيق بأن يكره ويستفظع.

وقوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) زيادة في التّفظيع وقطع للعذر في فعل هذه الفاحشة ، وليس قيدا للإنكار ، فليس إتيان الرّجال مع إتيان النّساء بأقلّ من الآخر فظاعة ، ولكن المراد أنّ إتيان الرّجال كلّه واقع في حالة من حقّها إتيان النّساء ، كما قال في الآية الأخرى : (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) [الشعراء : ١٦٦].

و (بَلْ) للاضراب الانتقالي ، للانتقال من غرض الإنكار إلى غرض الذمّ والتّحقير والتّنبيه إلى حقيقة حالهم.

والإسراف مجاوزة العمل مقدار أمثاله في نوعه ، أي المسرفون في الباطل والجرم ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) في سورة النّساء [٦] وعند قوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) في سورة الأنعام [١٤١].

ووصفهم بالإسراف بطريق الجملة الاسميّة الدّالة على الثّبات ، أي أنتم قوم تمكّن منهم الإسراف في الشّهوات فلذلك اشتهوا شهوة غريبة لما سئموا الشهوات المعتادة. وهذه شنشنة الاسترسال في الشّهوات حتّى يصبح المرء لا يشفي شهوته شيء ، ونحوه قوله عنهم في آية أخرى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء : ١٦٦].

١٧٩

ووجه تسمية هذا الفعل الشّنيع فاحشة وإسرافا أنّه يشتمل على مفاسد كثيرة : منها استعمال الشّهوة الحيوانية المغروزة في غير ما غرزت عليه ، لأنّ الله خلق في الإنسان الشّهوة الحيوانيّة لإرادة بقاء النّوع بقانون التّناسل ، حتّى يكون الدّاعي إليه قهري ينساق إليه الإنسان بطبعه ، فقضاء تلك الشّهوة في غير الغرض الذي وضعها الله لأجله اعتداء على الفطرة وعلى النّوع ، ولأنّه يغير خصوصية الرجلة بالنّسبة إلى المفعول به إذ يصير في غير المنزلة التي وضعه الله فيها بخلقته ، ولأنّ فيه امتهانا محضا للمفعول به إذ يجعل آلة لقضاء شهوة غيره على خلاف ما وضع الله في نظام الذّكورة والأنوثة من قضاء الشّهوتين معا ، ولأنّه مفض إلى قطع النّسل أو تقليله ، ولأنّ ذلك الفعل يجلب أضرارا للفاعل والمفعول بسبب استعمال محلين في غير ما خلقا له.

وحدثت هذه الفاحشة بين المسلمين في خلافة أبي بكر من رجل يسمّى الفجاءة ، كتب فيه خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصّدّيق أنّه عمل عمل قوم لوط وإذ لم يحفظ عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها حدّ معروف جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستشارهم فيه ، فقال عليّ: أرى أن يحرق بالنّار ، فاجتمع رأي الصّحابة على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه فأحرقه ، وكذلك قضى ابن الزّبير في جماعة عملوا الفاحشة في زمانه ، وهشام بن الوليد ، وخالد القسري بالعراق ، ولعلّه قياس على أنّ الله أمطر عليهم نارا كما سيأتي.

وقال مالك : يرجم الفاعل والمفعول به ، إذا أطاع الفاعل وكانا بالغين ، رجم الزّاني المحصن. سواء أحصنا أم لم يحصنا ، وقاس عقوبتهم على عقوبة الله لقوم لوط إذ أمطر عليهم حجارة ، والذي يؤخذ من مذهب مالك أنّه يجوز القياس على ما فعله الله تعالى في الدّنيا. وروي أنّه أخذ في زمان ابن الزّبير أربعة عملوا عمل قوم لوط ، وقد أحصنوا. فأمر بهم فأخرجوا من الحرم فرجموا بالحجارة حتّى ماتوا ، وعنده ابن عمر وابن عبّاس فلم ينكرا عليه.

وقال أبو حنيفة : يعزّر فاعله ولا يبلغ التّعزير حدّ الزّنى ، كذا عزا إليه القرطبي ، والذي في كتب الحنفيّة أنّ أبا حنيفة يرى فيه التّعزير إلّا إذا تكرّر منه فيقتل ، وقال أبو يوسف ومحمّد : فيه حدّ الزّنى ، فإذا اعتاد ذلك ففيه التّعزير بالإحراق ، أو يهدم عليه جدار ، أو ينكس من مكان مرتفع ويتبع بالأحجار ، أو يسجن حتّى يموت أو يتوب. وذكر الغزنوي في «الحاوي» أنّ الأصح عن أبي يوسف ومحمّد التّعزير بالجلد (أي دون تفصيل بين الاعتياد وغيره) وسياق كلامهم التّسوية في العقوبة بين الفاعل والمفعول به.

١٨٠