تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الدّابة.

واللّام في قوله : (لِبَلَدٍ) لام العلّة ، أي لأجل بلد ميّت ، وفي هذه اللّام دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية (سقناه) بحرف (إلى).

والبلد : السّاحة الواسعة من الأرض.

والميّت : مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات ، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضا مجاز عقلي ، لأنّ الميّت إنّما هو نباته وثمره ، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى).

والضّمير المجرور بالباء في قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) يجوز أن يعود إلى البلد ، فيكون الباء بمعنى (في) ويجوز أن يعود إلى الماء فيكون الباء للآلة.

والاستغراق في (كُلِّ الثَّمَراتِ) استغراق حقيقي ، لأنّ البلد الميّت ليس معيّنا بل يشمل كلّ بلد ميّت ينزل عليه المطر ، فيحصل من جميع أفراد البلد الميّت جميع الثّمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء ، والبلد الواحد يخرج ثمراته المعتادة فيه ، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كلّ الثّمرات استغراقا عرفيا ، أي من كلّ الثّمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف (من) للتبعيض.

وجملة : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) معترضة استطرادا للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه ، والإشارة ب (كذلك) إلى الإخراج المتضمّن له فعل (فَأَخْرَجْنا) باعتبار ما قبله من كون البلد ميّتا ، ثمّ إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزّرع والثّمر ، فوجه الشّبه هو إحياء بعد موت ، ولا شكّ أنّ لذلك الإحياء كيفيّة قدّرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصوّرها.

وجملة : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) مستأنفة ، والرّجاء ناشئ عن الجمل المتقدّمة من قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) لأنّ المراد التذكّر الشّامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيمانا ، والذي من شأنه أن يقلع من المشرك اعتقاد الشّرك ومن منكر البعث إنكاره.

وقرأ الجمهور (تَذَكَّرُونَ) ـ بتشديد الذال ـ على إدغام التّاء الثّانية في الذّال بعد قلبها ذالا ، وقرأ عاصم في رواية حفص (تَذَكَّرُونَ) ـ بتخفيف الذال ـ على حذف إحدى التاءين.

١٤١

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

جملة معترضة بين جملة : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) [الأعراف : ٥٧] وبين جملة : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) [الأعراف : ٥٩] تتضمّن تفصيلا لمضمون جملة : (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [الأعراف : ٥٧] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب ، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مثّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج الموتى منها يوم البعث تذكيرا بذلك للمؤمنين ، وإبطالا لإحالة البعث عند المشركين ، مثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلاف حال النّاس الأحياء في الانتفاع برحمة هدى الله ، فموقع قوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) كموقع قوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) [الأعراف : ٥٧] ولذلك ذيل هذا بقوله : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) كما ذيل ما قبله بقوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٥٧].

والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهدي من خلقت فطرته طيّبة قابلة للهدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتا نافعا ، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل ، وليس المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين : العبرة بصنع الله ، والموعظة بما يماثل أحواله. فالمعنى : كما أنّ البلد الطّيّب يخرج نباته سريعا بهجا عند نزول المطر ، والبلد الخبيث لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبتا خبيثا لا خير فيه.

والطيب وصف على وزن فيعل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل : قيّم ، وهو المتّصف بالطّيب ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) في سورة المائدة [٤] ، وعند قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) في سورة البقرة [١٦٨].

والبلد الطّيب الأرض الموصوفة بالطّيب ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّة.

(وَالَّذِي خَبُثَ) ضدّ الطّيب.

وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِ) في موضع الحال من (نَباتُهُ) والإذن : الأمر ، والمراد به أمر

١٤٢

العناية به كقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطّيب يخرج نباته طيّبا زكيا مثله ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذن خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببيانه في مثل هذا المقام.

(وَالَّذِي خَبُثَ) حمله جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلّا نباتا لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يخرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا (يخرج) نباته إلّا نكدا ، فحذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستتر في فعل يخرج.

والذي يظهر لي : أن يكون (الَّذِي) صادقا على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلّا نكدا ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كلا الضدّين على الآخر. والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّبا بإذن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكدا من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ.

وقرأ الجميع (لا يَخْرُجُ) ـ بفتح التّحتيّة وضمّ الراء ـ إلّا ابن وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء ـ على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم.

والنّكد وصف من النكد ـ بفتح الكاف وهو مصدر نكد الشّيء إذا كان غير صالح يجرّ على مستعمله شرا. وقرأ أبو جعفر (إِلَّا نَكِداً) ، بفتح الكاف.

وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع بها الله النّاس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع لذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

١٤٣

والإشارة بقوله : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة ، والدّالة أيضا على وقوع البعث بعد الموت ، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضح البيّن المقرّب في جميع ذلك ، فلذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل.

والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيها على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب ، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩))

استئناف انتقل به الغرض من إقامة الحجّة والمنّة (المبتدئة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٠] ، وتنبيه أهل الضّلالة أنّهم غارقون في كيد الشّيطان ، الذي هو عدوّ نوعهم ، من قوله : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ـ إلى قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٦ ـ ٣٣] ، ثمّ بالتّهديد بوصف عذاب الآخرة وأحوال النّاس فيه ، وما تخلّل ذلك من الأمثال والتّعريض) ؛ إلى غرض الاعتبار والموعظة بما حلّ بالأمم الماضية. فهذا الاستئناف له مزيد اتّصال بقوله في أوائل السّورة [٤] : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) الآية ، وقد أفيض القول فيه في معظم السّورة وتتبع هذا الاعتبار أغراض أخرى : وهي تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعليم أمّته بتاريخ الأمم التي قبلها من الأمم المرسل إليهم ، ليعلم المكذّبون من العرب أنّ لا غضاضة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا على رسالته من تكذيبهم ، ولا يجعله ذلك دون غيره من الرّسل ، بله أن يؤيّد زعمهم أنّه لو كان صادقا في رسالته لأيّده الله بعقاب مكذّيبه (لما قالوا على سبيل التّهكّم أو الحجاج : «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم»). وليعلم أهل الكتاب وغيرهم أنّ ما لقيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه هو شنشنة أهل الشّقاوة تلقاء دعوة رسل الله. وأكّد هذا الخبر بلام القسم وحرف التّحقيق لأنّ الغرض من هذه الأخبار تنظير أحوال الأمم المكذّبة رسلها بحال مشركي العرب في تكذيبهم رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكثر في الكلام اقتران جملة جواب القسم : بقد لأنّ القسم يهيئ نفس السّامع

١٤٤

لتوقع خبر مهم فيؤتى بقد لأنّها تدلّ على تحقيق أمر متوقّع ، كما أثبته الخليل والزّمخشري ، والتّوقّع قد يكون توقعا للمخبر به ، وقد يكون توقعا للخبر كما هنا.

وتقدّم التّعريف بنوح عند قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في سورة آل عمران [٣٣]. وكان قوم نوح يسكنون الجزيرة والعراق ، حسب ظن المؤرّخين. وعبر عنهم القرآن بطريق القومية المضافة إلى نوح إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم يعرفون به ، فالتّعريف بالإضافة هنا لأنّها أخصر طريق.

وعطف جملة (فَقالَ يا قَوْمِ) على جملة (أَرْسَلْنا) بالفاء إشعارا بأنّ ذلك القول صدر منه بفور إرساله ، فهي مضمون ما أرسل به.

وخاطب نوح قومه كلّهم لأنّ الدّعوة لا تكون إلّا عامة لهم ، وعبّر في ندائهم بوصف القوم لتذكيرهم بآصرة القرابة ، ليتحقّقوا أنّه ناصح ومريد خيرهم ومشفق عليهم ، وأضاف (القوم) إلى ضميره للتحبيب والتّرقيق لاستجلاب اهتدائهم.

وقوله لهم : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) إبطال للحالة التي كانوا عليها ، وهي تحتمل أن تكون حالة شرك كحالة العرب ، وتحتمل أن تكون حالة وثنيّة باقتصارهم على عبادة لأصنام دون الله تعالى ، كحالة الصّابئة وقدماء اليونان ، وآيات القرآن صالحة للحالين ، والمنقول في القصص : أنّ قوم نوح كانوا مشركين ، وهو الذي يقتضيه ما في «صحيح البخاري» عن ابن عبّاس أنّ آلهة قوم نوح أسماء جماعة من صالحيهم فلمّا ماتوا قال قومهم : لو اتّخذنا في مجالسهم أنصابا فاتّخذوها وسمّوها بأسمائهم حتّى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت.

وظاهر ما في سورة نوح أنّهم كانوا لا يعبدون الله لقوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) [نوح : ٣] وظاهر ما في سورة فصّلت أنّهم يعترفون بالله لقولهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] مع احتمال أنّه خرج مخرج التّسليم الجدلي فإن كانوا مشركين كان أمره إياهم بعبادة الله مقيّدا بمدلول قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي أفردوه بالعبادة ولا تشركوا معه الأصنام ، وإن كانوا مقتصرين على عبادة الأوثان كان قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تعليلا للاقبال على عبادة الله ، أي هو الإله لا أوثانكم.

وجملة : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) على الوجه الأوّل بيان للعبادة التي أمرهم بها ، أي أفردوه بالعبادة دون غيره ، إذ ليس غيره لكم بالإله.

١٤٥

وعلى الوجه الثّاني يكون استئنافا بيانيا للأمر بالإقلاع عن عبادة غيره.

وقرأ الجمهور (غَيْرُهُ) بالرّفع على الصّفة (لإله) باعتبار محلّه لأنّه في محلّ رفع إذ هو مبتدأ وإنّما جرّ لدخول حرف الجرّ الزائد ولا يعتد بجرّه ، وقرأه الكسائي ، وأبو جعفر : بجرّ غير على النّعت للّفظ (إلاه) نظرا لحرف الجر الزّائد.

وجملة : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ) يجوز أن تكون في موقع التّعليل ، كما في «الكشاف» : أي لمضمون قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) كأنّه قيل : اتركوا عبادة غير الله خوفا من عذاب يوم عظيم ، وبني نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم ، دلالة على إمحاضه النّصح لهم وحرصه على سلامتهم ، حتّى جعل ما يضر بهم كأنّه يضرّ به ، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم ، وذلك لأنّ قوله هذا كان في مبدأ خطابهم بما أرسل به ، ويحتمل أنّه قاله بعد أن ظهر منهم التّكذيب : أي إن كنتم لا تخافون عذابا فإنّي أخافه عليكم ، وهذا من رحمة الرّسل بقومهم.

وفعل الخوف يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المخوف منه ، ويتعدّى إلى مفعول ثان بحرف (على) إذا كان الخوف من ضر يلحق غير الخائف ، كما قال الأحوص :

فإذا تزول تزول على متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

ويجوز أن تكون مستأنفة ثانية بعد جملة (اعْبُدُوا اللهَ) لقصد الإرهاب والإنذار ، ونكتة بناء نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم هي هي.

والعذاب المخوف ويومه يحتمل أنّهما في الآخرة أو في الدّنيا ، والأظهر الأوّل لأنّ جوابهم بأنّه في ضلال مبين يشعر بأنّهم أحالوا الوحدانية وأحالوا البعث كما يدلّ عليه قوله في سورة نوح [١٧ ، ١٨] : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) فحالهم كحال مشركي العرب لأنّ عبادة الأصنام تمحّض أهلها للاقتصار على أغراض الدّنيا.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠))

فصلت جملة (قالَ) على طريقة الفصل في المحاورات ، واقترن جوابهم بحرف التّأكيد للدّلالة على أنّهم حقّقوا وأكّدوا اعتقادهم أنّ نوحا منغمس في الضّلالة. (الْمَلَأُ) مهموز بغير مدّ : الجماعة الذين أمرهم واحد ورأيهم واحد لأنّهم يمالئ بعضهم بعضا ،

١٤٦

أي يعاونه ويوافقه ، ويطلق الملأ على أشراف القوم وقادتهم لأنّ شأنهم أن يكون رأيهم واحدا عن تشاور ، وهذا المعنى هو المناسب في هذه الآية بقرينة (من) الدّالة على التّبعيض أي أنّ قادة القوم هم الذين تصدّوا لمجادلة نوح والمناضلة عن دينهم بمسمع من القوم الذين خاطب جميعهم ، والرّؤية قلبيّة بمعنى العلم ، أي أنّا لنوقن أنّك في ضلال مبين ولم يوصف الملأ هنا بالذين كفروا ، أو بالذين استكبروا كما وصف الملأ في قصّة هود بالذين كفروا استغناء بدلالة المقام على أنّهم كذّبوا وكفروا.

وظرفية (فِي ضَلالٍ) مجازية تعبيرا عن تمكّن وصف الضّلال منه حتّى كأنّه محيط به من جوانبه إحاطة الظرف بالمظروف.

«والضّلال» اسم مصدر ضلّ إذا أخطأ الطّريق الموصّل ، «والمبين» اسم فاعل من أبان المرادف بان ، وذلك هو الضّلال البالغ الغاية في البعد عن طريق الحقّ ، وهذه شبهة منهم فإنّهم توهّموا أنّ الحقّ هو ما هم عليه ، فلا عجب إذا جعلوا ما بعد عنه بعدا عظيما ضلالا بيّنا لأنّه خالفهم ، وجاء بما يعدّونه من المحال ، إذ نفى الإلهية عن آلهتهم ، فهذه مخالفة ، وأثبتها لله وحده ، فإن كانوا وثنيين فهذه مخالفة أخرى ، وتوعدهم بعذاب على ذلك وهذه مخالفة أيضا ، وإن كان العذاب الذي توعدهم به عذاب الآخرة فقد أخبرهم بأمر محال عندهم وهو البعث ، فهي مخالفة أخرى ، فضلاله عندهم مبين ، وقد يتفاوت ظهوره ، وادّعى أنّ الله أرسله وهذا في زعمهم تعمد كذب وسفاهة عقل وادعاء محال كما حكي عنهم في قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [الأعراف : ٦٦] ـ وقوله هنا ـ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٦٣] الآية.

[٦١ ـ ٦٣] (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١))

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣))

فصلت جملة : (قالَ) على طريقة فصل المحاورات. والنّداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر ، ولم يخصّ خطابه بالذين جاوبوه ، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلّهم ، لأنّ جوابه مع كونه مجادلة للملإ من قومه هو أيضا يتضمّن دعوة عامة ، كما هو بيّن ، وتقدّم آنفا نكتة التّعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره ، فأعاد ذلك مرّة ثانية

١٤٧

استنزالا لطائر نفوسهم ممّا سيعقب النّداء من الرد عليهم وإبطال قولهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠].

والضّلالة مصدر مثل الضّلال ، فتأنيثه لفظي محض ، والعرب يستشعرون التّأنيث غالبا في أسماء أجناس المعاني ، مثل الغواية والسّفاهة ، فالتّاء لمجرّد تأنيث اللّفظ وليس في هذه التّاء معنى الوحدة لأنّ أسماء أجناس المعاني لا تراعى فيها المشخّصات ، فليس الضّلال بمنزلة اسم الجمع للضّلالة ، خلافا لما في «الكشاف» ، وكأنّه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) [الأعراف : ٦٠] ، وقوله هو : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) وتبعه فيه الفخر ، وابن الأثير في «المثل السّائر» ، وقد تكلّف لتصحيحه التفتازانيّ ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنّ التّخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التّفنّن حيث سبق لفظ ضلال ، وموجب سبقه إرادة وصفه ب (مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠] ، فلو عبّر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبيّنة غير مألوف الاستعمال ، ولما تقدّم لفظ (ضَلالٍ) [الأعراف : ٦٠] استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السّورة دفعا لثقل الإعادة ؛ فقوله : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ردّ لقولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠] بمساويه لا بأبلغ منه.

والباء في قوله : (بِي) للمصاحبة أو الملابسة ، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم (فِي ضَلالٍ) [الأعراف : ٦٠] فإنّهم جعلوا الضّلال متمكّنا منه ، فنفى هو أن يكون للضّلال متلبّس به.

وتجريد (لَيْسَ) من تاء التّأنيث مع كون اسمها مؤنّث اللّفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التّأنيث ، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التّأنيث ، ولمكان الفصل بالمجرور.

والاستدراك الذي في قوله (وَلكِنِّي رَسُولٌ) لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم ، أي هو في حال رسالة عن الله ، مع ما تقتضي الرّسالة من التّبليغ والنّصح والإخبار بما لا يعلمونه ، وذلك ما حسبوه ضلالا ، وشأن (لكن) أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها ، ولا تدلّ عليه الجملة السّابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعة له (لكنّ) فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين : إما في المسند نحو (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) [الأنفال : ٤٣] أو في المسند إليه نحو (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] فلا يحسن أن تقول : ما سافرت ولكنّي مقيم ، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية ، لأنّ النّفي معنى واسع ، فيكثر أن

١٤٨

يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان ، فيأتي بالاستدراك ، ومن قال : إنّ حقيقة الاستدراك هو رفع ما يتوهّم السّامع ثبوته أو نفيه فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ ، وليس مرادهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تتقوم إلّا بذلك.

واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسل : لما تؤذن به من تفخيم المضاف ومن وجوب طاعته على جميع النّاس ، تعريضا بقومه إذ عصوه.

وجملة : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) صفة لرسول ، أو مستأنفة ، والمقصود منها إفادة التّجدّد ، وأنّه غير تارك التّبليغ من أجل تكذيبهم تأييسا لهم من متابعته إياهم ، ولو لا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلا من معنى قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ) ، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلّغه ، ثمّ إن اعتبرت جملة : (أُبَلِّغُكُمْ) صفة ، يكن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التّكلّم في قوله : (أُبَلِّغُكُمْ) وقوله : (رَبِّي) التفاتا ، باعتبار كون الموصوف خبرا عن ضمير المتكلّم ، وإن اعتبرت استينافا ، فلا التفات.

والتّبليغ والإبلاغ : جعل الشّيء بالغا ، أي واصلا إلى المكان المقصود ، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمه ، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان.

وقرأ الجمهور : (أُبَلِّغُكُمْ) ـ بفتح الموحّدة وتشديد اللّام ـ وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب : بسكون الموحدة وتخفيف اللّام من الإبلاغ والمعنى واحد.

ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (رِسالاتِ رَبِّي) هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته ، وأنّه لا يسعه إلّا تبليغ ما أمره بتبليغه ، وإن كره قومه.

والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة ، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قول أو عمل ، وفي الحديث : «الدّين النّصيحة» ـ وأن تناصحوا من ولّاه الله أمركم. ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر.

وضدّه الغشّ. وأصل معناه أن يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، ويكثر أن يعدّى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدّلالة على أنّ النّاصح أراد من نصحه ذات المنصوح ، لا جلب خير لنفس النّاصح ، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنّها وقعت خالصة للمنصوح ، مقصودا بها جانبه لا غير ، فربّ نصيحة ينتفع

١٤٩

بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعا ، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيرا أو إجحافا بنفع المنصوح.

وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم ، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم.

وعقب ذلك بقوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) جمعا لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييدا لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمّن هذا الإجمال البديع تهديدا لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيها للتّأمّل فيما أتاهم به ، وفتحا لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبول ما جاءهم به.

و (مِنَ) ابتدائية أي : صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يسلّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم.

وانتقل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) مفتتحا الجملة بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنّهم أحالوا أن يكون رسولا ، مستدلّين بأنّه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ٢٤].

واختير الاستفهام دون أن يقول : لا عجب ، إشارة إلى أنّ احتمال وقوع ذلك منهم ممّا يتردّد فيه ظن العاقل بالعقلاء. فقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ) بمنزلة المنع لقضية قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠] لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمة دليل على بطلان ما يدعوهم إليه.

وحقيقة العجب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوف ، وقد يكون العجب مشوبا بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته ، كما في قوله تعالى : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٢ ، ٣] وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) [الرعد : ٥] والذي في هذه الآية كناية

١٥٠

عن الإنكار كما في قوله تعالى : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٧٣] أنكروا عليها أنّها عدت ولادتها ولدا ، وهي عجوز ، محالا.

وتنكير (ذِكْرٌ) و (رَجُلٍ) للنّوعية إذ لا خصوصية لذكر دون ذكر ولا لرجل دون رجل ، فإنّ النّاس سواء ، والذّكر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حرم التّوفيق ، أي هذا الحديث الذي عظمتموه وضججتم له ما هو إلّا ذكر من ربّكم على رجل منكم. ووصف (رَجُلٍ) بأنّه منهم ، أي من جنسهم البشري فضح لشبهتهم ، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضا ردّ لها بأنّهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استبعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان ، إذ الشأن أن ينظروا في الذّكر الذي جاءهم من ربّهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به ، وأن يعلموا أن كون المذكّر رجلا منهم أقرب إلى التّعقّل من كون مذكّرهم من جنس آخر من ملك أو جنّي ، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل ، وهو يتنزّل منزلة سند المنع في علم الجدل.

ومعنى (على) من قوله (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) يشعر بأنّ (جاءَكُمْ) ضمّن معنى نزل : أي نزل ذكر من ربّكم على رجل منكم ، وهذا مختار ابن عطيّة ، وعن الفرّاء أنّ (على) بمعنى مع.

والمجرور في قوله : (لِيُنْذِرَكُمْ) ظرف مستقر في موضع الحال من رجل ، أو هو ظرف لغو متعلّق بقوله : (جاءَكُمْ) وهو زيادة في تشويه خطئهم إذ جعلوا ذلك ضلالا مبينا ، وإنّما هو هدى واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة ، وإرشادكم إلى تقوى الله ، وتقريبكم من رحمته.

وقد رتّبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود ، فإنّ الإنذار مقدّم لأنّه حمل على الإقلاع عمّا هم عليه من الشّرك أو الوثنية ، ثمّ يحصل بعده العمل الصّالح فترجى منه الرّحمة.

والإنذار تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩].

والتّقوى تقدّم عند قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في أوّل سورة البقرة [٢].

ومعنى (لعلّ) تقدّم في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في سورة البقرة [٢١].

١٥١

والرّحمة تقدّمت عند قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في سورة الفاتحة [٣].

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

وقع التّكذيب من جميع قومه : من قادتهم ، ودهمائهم ، عدا بعض أهل بيته ومن آمن به عقب سماع قول نوح ، فعطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلّغ وينصح ويعلم ما لا يعلمون ، فصار تكذيبا أعم من التّكذيب الأوّل ، فهو بالنّسبة للملإ يؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب ، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنف ، بعد سماع قول قادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح ، فليس الفعل مستعملا في الاستمرار كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] إذ لا داعي إليه هنا ، وضمير الجمع عائد إلى القوم ، والفاء في قوله : (فَأَنْجَيْناهُ) للتّعقيب ، وهو تعقيب عرفي : لأنّ التّكذيب حصل بعده الوحي إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن ، ولا يرجى زيادة مؤمن آخر ، وأمره بأن يدخل الفلك ويحمل معه من آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود.

وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلا لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين ، فلذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة ، وإلّا فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلّا بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقّب به التّكذيب ابتداء هو الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء.

وقوله : (فِي الْفُلْكِ) متعلّق بمعنى قوله : (مَعَهُ) لأنّ تقديره : استقرّوا معه في الفلك ، وبهذا التّعليق علم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشرا ، وأنّهم كانوا مصدّقين له ، فكان هذا التّعليق إيجازا بديعا.

والفلك تقدّم في قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة البقرة [١٦٤].

١٥٢

(وَالَّذِينَ مَعَهُ) هم الذين آمنوا به ، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصّته في سورة هود.

والإتيان بالموصول في قوله : (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) دون أن يقال : وأغرقنا سائرهم ، أو بقيتهم ، لما تؤذن به الصّلة من وجه تعليل الخبر في قوله : (وَأَغْرَقْنَا) أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم.

وجملة : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) تتنزل منزلة العلّة لجملة (أَغْرَقْنَا) كما دلّ عليه حرف (إن) لأنّ حرف (إن) هنا لا يقصد به ردّ الشكّ والتّردّد ، إذ لا شكّ فيه ، وإنّما المقصود من الحرف الدّلالة على الاهتمام بالخبر ، ومن شأن (إن) إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فاء التّفريع ، وتفيد التّعليل وربط الجملة بالتي قبلها. ففصل هذه الجملة كلا فصل.

و (عَمِينَ) جمع عم جمع سلامة بواو ونون. وهو صفة على وزن فعل مثل أشر ، مشتق من العمى ، وأصله فقدان البصر ، ويطلق مجازا على فقدان الرأي النّافع ، ويقال : عمى القلب ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصّفة المشبّهة لدلالتها على ثبوت الصّفة ، وتمكّنها بأن تكون سجية وإنّما يصدّق ذلك في فقد الرّأي ، لأنّ المرء يخلق عليه غالبا ، بخلاف فقد البصر ، ولذلك قال تعالى هنا (عَمِينَ) ولم يقل عميا كما قال في الآية الأخرى (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧] ومثله قول زهير:

ولكنّني عن علم ما في غد عم

والذين كذّبوا كانوا عمين لأنّ قادتهم داعون إلى الضّلالة مؤيّدونها ، ودهماؤهم متقبّلون تلك الدّعوة سمّاعون لها.

وقد دلّت هذه القصّة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطوّر الخلق الإنساني : فإنّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له الحسّ الظاهر والحسّ الباطن ، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسيّة في إدراك أوائل العلوم ، ولكنّه استعمل بعض ذلك فيما جلب إليه الضرّ والضّلال ، وذلك باستعمال القواعد الحسيّة فيما غاب عن حسّه وإعانتها بالقوى الوهميّة والمخيّلة ، ففكّر في خالقه وصفاته فتوهّم له أندادا وأعوانا وعشيرة وأبناء وشركاء في ملكه ، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتّى عاد عليه بنسيان خالقه ، إذ لم يدخل العلم به تحت حواسه الظّاهرة ، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتّخذ لها

١٥٣

صورا محسوسة ، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيب إدراكهم ، فأرسل إليهم نوحا فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم ، فأراد الله انتخاب الصّالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى ، وهم نوح ومن آمن به ، واستيصال الذين تمكّنت الضّلالة من عقولهم لينشئ من الصّالحين ذريّة صالحة ويكفي الإنسانيّة فساد الضّالين ، كما قال نوح : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] ، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديدا لصلاح البشر وانتخابا للأصلح.

[٦٥ ، ٦٦] (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦))

يجوز أن يكون العطف من عطف الجمل بأن يقدّر بعد واو العطف «أرسلنا» لدلالة حرف (إلى) عليه ، مع دلالة سبق نظيره في الجملة المعطوف عليها ، والتّقدير وأرسلنا إلى عاد ، فتكون الواو لمجرّد الجمع اللّفظي من عطف القصّة على القصّة وليس من عطف المفردات ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات : عطفت الواو (هُوداً) على (نُوحاً) [الأعراف : ٥٩] ، فتكون الواو نائية عن العامل وهو (أَرْسَلْنا) [الأعراف: ٥٩] ، والتّقدير : «لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وهودا أخا عاد إليهم وقدمت (إلى) فهو من العطف على معمولي عامل واحد ، وتقديم (إلى) اقتضاه حسن نظم الكلام في عود الضّمائر ، والوجه الأوّل أحسن.

وقدّم المجرور على المفعول الأصلي ليتأتى الإيجاز بالإضمار حيث أريد وصف هود بأنّه من إخوة عاد ومن صميمهم ، من غير احتياج إلى إعادة لفظ عاد ، ومع تجنّب عود الضّمير على متأخر لفظا ورتبة ، فقيل وإلى عاد أخاهم هودا و (هُوداً) بدل أو بيان من (أَخاهُمْ).

وعاد أمّة عظيمة من العرب العاربة البائدة ، وكانوا عشر قبائل ، وقيل ثلاث عشرة قبيلة وهم أبناء عاد بن عوص ، وعوص هو ابن إرم بن سام بن نوح ، كذا اصطلح المؤرّخون.

وهود اختلف في نسبه ، فقيل : هو من ذرّية عاد ، فقال القائلون بهذا : هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد ، وقيل : هو من ذرّية سام جدّ عاد ، وليس من ذرّية عاد ،

١٥٤

والقائلون بهذا قالوا هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وذكر البغوي عن علي : أنّ قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر ، وعن عبد الرّحمن بن سابط : أنّ قبر هود بين الرّكن والمقام وزمزم.

وعاد أريد به القبيلة وساغ صرفه لأنه ثلاثي ساكن الوسط ، وكانت منازل عاد ببلاد العرب بالشّحر ـ بكسر الشّين المعجمة وسكون الحاء المهملة ـ من أرض اليمن وحضر موت وعمان والأحقاف ، وهي الرّمال التي بين حضر موت وعمان.

والأخ هنا مستعمل في مطلق القريب ، على وجه المجاز المرسل ومنه قولهم يا أخا العرب ، وقد كان هود من بني عاد ، وقيل : كان ابن عم إرم ، ويطلق الأخ مجازا أيضا على المصاحب الملازم ، كقولهم : هو أخو الحرب ، ومنه (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء : ٢٧] ـ وقوله ـ (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف : ٢٠٢]. فالمراد أنّ هودا كان من ذوي نسب قومه عاد ، وإنّما وصف هود وغيره بذلك ، ولم يوصف نوح بأنّه أخ لقومه : لأنّ النّاس في زمن نوح لم يكونوا قد انقسموا شعوبا وقبائل ، والعرب يقولون : للواحد من القبيلة : أخو بني فلان ، قصدا لعزوه ونسبته تمييزا للنّاس إذ قد يشتركون في الأعلام ، ويؤخذ من هذه الآية ونظائرها أنّ نظام القبائل ما حدث إلّا بعد الطّوفان.

وفصلت جملة : (قالَ يا قَوْمِ) ولم تعطف بالفاء كما عطف نظيرها المتقدّم في قصّة نوح ؛ لأنّ الحال اقتضى هنا أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا لأنّ قصّة هود لما وردت عقب قصّة نوح المذكور فيها دعوته قومه صار السّامع مترقبا معرفة ما خاطب به هود قومه حيث بعثه الله إليهم ، فكان ذلك مثار سؤال في نفس السّامع أن يقول : فما ذا دعا هود قومه وبما ذا أجابوا؟ فيقع الجواب بأنّه قال : يا قوم اعبدوا الله إلخ مع ما في هذا الاختلاف من التّفنّن في أساليب الكلام ، ولأنّ الفعل المفرع عنه القول بالعطف لما كان محذوفا لم يكن التّفريع حسنا في صورة النّظم.

والرّبط بين الجمل حاصل في الحالتين لأنّ فاء العطف رابط لفظي للمعطوف بالمعطوف عليه ، وجواب السؤال رابط جملة الجواب بجملة مثار السؤال ربطا معنويا.

وجملة : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) مستأنفة ابتدائية. وقد شابهت دعوة هود قومه دعوة نوح قومه في المهم من كلامها : لأنّ الرّسل مرسلون من الله والحكمة من الإرسال واحدة ، فلا جرم أن تتشابه دعواتهم ، وفي الحديث : «الأنبياء أبناء علّات» وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى

١٥٥

وَعِيسى) [الشورى : ١٣].

وجملة : (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهامية إنكارية معطوفة بفاء التّفريع على جملة : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). والمراد بالتّقوى الحذر من عقاب الله تعالى على إشراكهم غيره في العبادة واعتقاد الإلهيّة. وفيه تعريض بوعيدهم إن استمروا على ذلك. وإنّما ابتدأ بالإنكار عليهم إغلاظا في الدّعوة وتهويلا لفظاعة الشّرك ، إن كان قال ذلك في ابتداء دعوته ، ويحتمل أنّ ذلك حكاية قول من أقواله في تكرير الدّعوة بعد أن دعاهم المرّة بعد المرة ووعظهم ، كما قال نوح (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [نوح : ٥] كما اقتضاه بعض توجيهات تجريد حكاية كلامه عن فاء التّفريع المذكور آنفا.

ووصف الملإ ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا ، دون ما في قصّة نوح ، وصف كاشف وليس للتّقييد تفنّنا في أساليب الحكاية ألا ترى أنّه قد وصف ملأ قوم نوح ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) في آية سورة هود ، والتّوجيه الذي في «الكشاف» هنا غفلة عمّا في سورة هود.

والرّؤية قلبيّة ، أي أنّا لنعلم أنّك في سفاهة.

والسّفاهة سخافة العقل ، وقد تقدّم القول في هذه المادة عند قوله تعالى : (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٣] ـ وقوله ـ (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) في سورة البقرة [١٣٠]. جعلوا قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) كلاما لا يصدر إلّا عن مختل العقل لأنّه من قول المحال عندهم.

وأطلقوا الظنّ على اليقين في قولهم : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وهو استعمال كثير كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) وقد تقدّم في سورة البقرة [٤٦] ، وأرادوا تكذيبه في قوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، وفيما يتضمّنه قوله ذلك من كونه رسولا إليهم من الله.

وقد تشابهت أقوال قوم هود وأقوال قوم نوح في تكذيب الرّسول لأنّ ضلالة المكذّبين متّحدة ، وشبهاتهم متّحدة ، كما قال تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨] فكأنّهم لقّن بعضهم بعضا كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣].

[٦٧ ، ٦٨] (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨))

١٥٦

فصلت جملة : (قالَ) لأنّها على طريقة المحاورة ، وقد تقدّم القول فيها آنفا وفيما مضى.

وتفسير الآية تقدّم في نظيرها آنفا في قصّة نوح ، إلّا أنّه قال في قصّة نوح (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) [الأعراف : ٦٢] وقال في هذه (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) فنوح قال ما يدلّ على أنّه غير مقلع عن النّصح للوجه الذي تقدّم ، وهود قال ما يدلّ على أنّ نصحه لهم وصف ثابت فيه متمكّن منه ، وأن ما زعموه سفاهة هو نصح.

وأتبع (ناصِحٌ) ب (آمِّينَ) وهو الموصوف بالأمانة لردّ قولهم له : (لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [الأعراف : ٦٦] لأنّ الأمين هو الموصوف بالأمانة ، والأمانة حالة في الإنسان تبعثه على حفظ ما يجب عليه من حقّ لغيره ، وتمنعه من إضاعته ، أو جعله لنفع نفسه ، وضدّها الخيانة.

والأمانة من أعزّ أوصاف البشر ، وهي من أخلاق المسلمين ، وفي الحديث : «لا إيمان لمن لا أمان له» وفي الحديث : «إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرّجال ثم علموا من القرآن ثمّ علموا من السّنّة ـ ثمّ قال ـ ينام الرجل النّومة فتقبض الأمانة من قلبه ـ إلى أن قال ـ فيقال : إنّ في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرّجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان» فذكر الإيمان في موضع الأمانة. والكذب من الخيانة ، والصّدق من الأمانة ، لأنّ الكذب الخبر بأمر غير واقع في صورة توهم السّامع واقع ، فذلك خيانة للسّامع ، والصّدق إبلاغ الأمر الواقع كما هو فهو أداء لأمانة ما علمه المخبر ، فقوله في الآية (أَمِينٌ) وصف يجمع الصّفات التي تجعله بمحلّ الثّقة من قومه ، ومن ذلك إبطال كونه من الكاذبين.

وتقديم (لَكُمْ) على عامله للإيذان باهتمامه بما ينفعهم.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩))

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ).

هذا مماثل قول نوح لقومه وقد تقدّم آنفا سبب المماثلة. وتقدّم من قبل تفسير نظيره.

١٥٧

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

يجوز أن يكون قوله : (لِيُنْذِرَكُمْ) عطفا على قوله : (اعْبُدُوا) [الأعراف : ٦٥] ويكون ما بينهما اعتراضا حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي قاطعوه بها عقب قوله لهم (اعْبُدُوا اللهَ) [الأعراف : ٦٥] ، فلمّا أتمّ جوابهم عمّا قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته ، فيكون رجوعا إلى الدّعوى ، ويجوز أن يكون عطفا على قوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربّكم واذكروا نعمته عليكم ، فيكون تكملة للاستدلال ، وأيّا ما كان فالمآل واحد ، وانتقل من أمرهم بالتّوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنّها من نعم الله دون غيره ، لأنّ الخلق والأمر لله لا لغيره. تذكيرا من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة. وإنّما أمرهم بالذّكر (بضمّ الذّال) لأنّ النّفس تنسى النّعم فتكفر المنعم ، فإذا تذكّرت النّعمة رأت حقا عليها أن تشكر المنعم ، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهمّ مسائل التّكليف ، والاكتفاء بحسنه عقلا عند المتكلّمين سواء منهم من اكتفى بالحس العقلي ومن لم يكتف به واعتبر التوقّف على الخطاب الشّرعي.

و (إِذْ) اسم زمان منصوب على المفعول به ، وليس ظرفا لعدم استقامة المعنى على

الظّرفية ، والتّحقيق أن (إذ) لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرّف ، وهو مختار صاحب «الكشاف» ، والمعنى : اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم ، فإنّ عادا كانوا ذوي قوّة ونعمة عظيمة (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥].

فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء ، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخر ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠] ، فالمراد : جعلكم خلفاء في تعمير الأرض ، ولما قال : (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) علم أنّ المقصود أنّهم خلفاء قوم نوح ، فعاد أوّل أمّة اضطلعت بالحضارة بعد الطّوفان ، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض ، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب ، وكانوا أمما كثيرة ، أو كانت عاد عظم تلك الأمم وأصحاب السّيادة على سائر الأمم ، وليس المراد أنّهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأنّ منازل عاد غير منازل قوم نوح عند المؤرّخين ، وهذا التّذكير تصريح بالنّعمة ، وتعريض بالنّذارة والوعيد بأنّ قوم نوح إنّما استأصلهم

١٥٨

وأبادهم عذاب من الله على شركهم ، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحلّ به عذاب أيضا.

و (الْخَلْقِ) يحتمل أن يكون مصدرا خالصا ، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول ، وهو يستعمل في المعنيين.

وقوله : (بَصْطَةً) ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة الذي هو ـ بسين ـ قبل الطاء. ووقع في آيات أخرى. وأهمل الراغب (بصطة) الذي بالصاد. وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية ـ بسين ـ وليس كذلك.

والبصطة : الوفرة والسعة في أمر من الأمور.

فإن كان (الخلق) بمعنى المصدر فالبصطة الزّيادة في القوى الجبلية أي زادهم قوّة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء ، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الرّاجحة إلى عاد ، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النّابغة :

أحلام عاد وأجسام مطهّرة

من المعقة والآفات والإثم

وقال ودّاك بن ثميل المازني في «الحماسة» :

وأحلام عاد لا يخاف جليسهم

ولو نطق العوّار غرب لسان

وقال قيس بن عبادة :

وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه

سراويل عادّي نمته ثمود

وعلى هذه الوجه يكون قوله : (فِي الْخَلْقِ) متعلّقا ب (بَصْطَةً) ، وإن كان الخلق بمعنى النّاس فالمعنى : وزادكم بصطة في النّاس بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلّها ، فيشمل رجحان العقول وقوّة الأجسام وسلامتها من العاهات والآفات وقوّة البأس ، وقد نسبت الدّروع إلى عاد فيقال لها : العاديّة ، وكذلك السّيوف العاديّة ، وقد قال الله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] وحكى عن هود أنّه قال لهم : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء : ١٢٩ ـ ١٣٤] وعلى هذا الوجه يكون قوله : (فِي الْخَلْقِ) ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير المخاطبين.

١٥٩

والفاء في قوله : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) فصيحة ، أي : إن ذكرتم وقت جعلكم الله خلفاء في الأرض ووقت زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلا ، فالكلام جاء على طريقه القياس من الاستدلال بالجزئي على إثبات حكم كلي ، فإنّه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاء ونعم مجملة وهي زيادة بصطتهم ، ثمّ ذكّرهم بقية النّعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف.

والآلاء جمع (إلى) ، والإلى : النّعمة ، وهذا مثل جمع عنب على أعناب ، ونظيره جمع إنى بالنّون ، وهو الوقت ، على آناء قال تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] أي وقته ، وقال (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) [طه : ١٣٠].

ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأنّ ذكر النّعم يؤدّي إلى تكرير شكر المنعم ، فيحمل المنعم عليه على مقابلة النّعم بالطّاعة.

[٧٠ ، ٧١] (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١))

جاوبوا هودا بما أنبأ عن ضياع حجّته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم ، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتّوحيد ، وهذا الجواب أقلّ جفوة وغلظة من جوابهم الأوّل ، إذ قالوا : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [الأعراف : ٦٦] كأنّهم راموا استنزل نفس هود ومحاولة إرجاعه عمّا دعاهم إليه ، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بأنّ الأمر الذي أنكره هو دين آباء الجميع تعريضا بأنّه سفّه آباءه ، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التّعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم : (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه ، كما قال الملأ من قريش لأبي طالب حين دعاه النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : «لا إله إلا الله» عند احتضاره فقالوا لأبي طالب : «أترغب عن ملّة عبد المطّلب».

واجتلاب (كان) لتدلّ على أن عبادتهم أمر قديم مضت عليه العصور.

والتّعبير بالفعل وكونه مضارعا في قوله : (يَعْبُدُ) ليدلّ على أنّ ذلك متكرّر من آبائهم ومتجدّد وأنّهم لا يفترون عنه.

١٦٠