تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

أثناء وصف عذاب أهل النّار ، والمبيّن به حال نفوسهم في المعاملة بقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨].

والتّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتّنبيه على تحقّق وقوعه ، أي : وننزع ما في صدورهم من غل ، وهو تعبير معروف في القرآن كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

والنّزع حقيقته قلع الشّيء من موضعه وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) في آل عمران [٢٦] ، ونزع الغل من قلوب أهل الجنّة : هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدّنيا من الغلّ عند تلقي ما يسوء من الغير ، بحيث طهّر الله نفوسهم في حياتها الثّانية عن الانفعال بالخواطر الشرّية التي منها الغلّ ، فزال ما كان في قلوبهم من غلّ بعضهم من بعض في الدّنيا ، أي أزال ما كان حاصلا من غلّ وأزال طباع الغلّ التي في النّفوس البشريّة بحيث لا يخطر في نفوسهم.

والغلّ : الحقد والإحنة والضغن ، التي تحصل في النّفس عند إدراك ما يسوؤها من عمل غيرها ، وليس الحسد من الغلّ بل هو إحساس باطني آخر.

وجملة : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) في موضع الحال ، أي هم في أمكنة عالية تشرف على أنهار الجنّة.

وجملة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) معطوفة على جملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٤٢].

والتّعبير بالماضي مراد به المستقبل أيضا كما في قوله : (وَنَزَعْنا) وهذا القول يحتمل أن يكونوا يقولونه في خاصتهم ونفوسهم ، على معنى التّقرب إلى الله بحمده ، ويحتمل أن يكونوا يقولونه بينهم في مجامعهم.

والإشارة في قولهم : (لِهذا) إلى جميع ما هو حاضر من النّعيم في وقت ذلك الحمد ، والهداية له هي الإرشاد إلى أسبابه ، وهي الإيمان والعمل الصّالح ، كما دلّ عليه قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الأعراف : ٤٢] ، وقال تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) [يونس : ٩] الآية ، وجعل الهداية لنفس النّعيم لأنّ الدّلالة على ما يوصل إلى الشّيء إنّما هي هداية لأجل ذلك الشّيء ، وتقدّم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة [٦].

والمراد بهدي الله تعالى إياهم إرساله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتّبعوه ،

١٠١

ولم يعاندوا ، ولم يستكبروا ، ودلّ عليه قولهم : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر ، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها ، وهذا التّيسير هو الذي حرّمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار ، دون النّظر والاعتبار.

وجملة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) في موضع الحال من الضّمير المنصوب ، أي هدانا في هذه الحال حال بعدنا عن الاهتداء ، وذلك ممّا يؤذن بكبر منّة الله تعالى عليهم ، وبتعظيم حمدهم وتجزيله ، ولذلك جاءوا بجملة الحمد مشتملة على أقصى ما تشتمل عليه من الخصائص التي تقدّم بيانها في سورة الفاتحة [٦].

ودلّ قوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) على بعد حالهم السّالفة عن الاهتداء ، كما أفاده نفي الكون مع لام الجحود ، حسبما تقدّم عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة الآية في سورة آل عمران [٧٩] ، فإنّهم كانوا منغمسين في ضلالات قديمة قد رسخت في أنفسهم ، فأمّا قادتهم فقد زيّنها الشّيطان لهم حتى اعتقدوها وسنّوها لمن بعدهم ، وأمّا دهماؤهم وأخلافهم فقد رأوا قدوتهم على تلك الضّلالات. وتأصّلت فيهم ، فما كان من السّهل اهتداؤهم ، لو لا أن هداهم الله ببعثة الرّسل وسياستهم في دعوتهم ، وأن قذف في قلوبهم قبول الدّعوة.

ولذلك عقبوا تحميدهم وثناءهم على الله بقولهم : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فتلك جملة مستأنفة ، استئنافا ابتدائيا ، لصدورها عن ابتهاج نفوسهم واغتباطهم بما جاءتهم به الرّسل ، فجعلوا يتذكّرون أسباب هدايتهم ويعتبرون بذلك ويغتبطون. تلذذا بالتّكلّم به ، لأن تذكّر الأمر المحبوب والحديث عنه ممّا تلذّ به النّفوس ، مع قصد الثّناء على الرّسل.

وتأكيد الفعل بلام القسم وبقد ، مع أنهم غير منكرين لمجيء الرسل : إما لأنّه كناية عن الإعجاب بمطابقة ما وعدهم به الرّسل من النّعيم لما وجدوه مثل قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١] وقول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». وإمّا لأنّهم أرادوا بقولهم هذا الثّناء على الرّسل والشّهادة بصدقهم جمعا مع الثّناء على الله ، فأتوا بالخبر في صورة الشّهادة المؤكّدة التي لا تردّد فيها.

وقرأ ابن عامر : (ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) ـ بدون واو قبل (ما) ـ وكذلك كتبت في المصحف الإمام الموجّه إلى الشّام ، وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة مفصولة عن التي

١٠٢

قبلها ، على اعتبار كونها كالتّعليل للحمد ، والتّنويه بأنّه حمد عظيم على نعمة عظيمة ، كما تقدّم بيانه.

وجملة : (وَنُودُوا) معطوفة على جملة : (وَقالُوا) فتكون حالا أيضا ، لأنّ هذا النّداء جواب لثنائهم ، يدلّ على قبول ما أثنوا به ، وعلى رضى الله عنهم ، والنّداء من قبل الله ، ولذلك بني فعله إلى المجهول لظهور المقصود. والنّداء إعلان الخطاب ، وهو أصل حقيقته في اللّغة ، ويطلق النّداء غالبا على دعاء أحد ليقبل بذاته أو بفهمه لسماع كلام ، ولو لم يكن برفع صوت : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] ولهذا المعنى حروف خاصة تدلّ عليه في العربيّة ، وتقدّم عند قوله تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما) في هذه السّورة [٢٢].

و (أن) تفسير ل (نُودُوا) ، لأنّ النّداء فيه معنى القول. والإشارة إلى الجنّة ب (تِلْكُمُ) ، الذي حقّه أن يستعمل في المشار إليه البعيد ، مع أنّ الجنّة حاضرة بين يديهم ، لقصد رفعة شأنها وتعظيم المنّة بها.

والإرث حقيقته مصير مال الميت إلى أقرب النّاس إليه ، ويقال : أورث الميّت أقرباءه ماله ، بمعنى جعلهم يرثونه عنه ، لأنّه لما لم يصرفه عنهم بالوصيّة لغيره فقد تركه لهم ، ويطلق مجازا على مصير شيء إلى حد بدون عوض ولا غصب تشبيها بإرث الميّت ، فمعنى قوله : (أُورِثْتُمُوها) أعطيتموها عطيّة هنيئة لا تعب فيها ولا منازعة.

والباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سببيّة أي بسبب أعمالكم ، وهي الإيمان والعمل الصّالح ، وهذا الكلام ثناء عليهم بأنّ الله شكر لهم أعمالهم ، فأعطاهم هذا النّعيم الخالد لأجل أعمالهم ، وأنّهم لما عملوا ما عملوه من العمل ما كانوا ينوون بعلمهم إلا السّلامة من غضب ربّهم وتطلب مرضاته شكرا له على نعمائه ، وما كانوا يمتون بأن توصلهم أعمالهم إلى ما نالوه ، وذلك لا ينافي الطّمع في ثوابه والنّجاة من عقابه ، وقد دلّ على ذلك الجمع بين (أُورِثْتُمُوها) وبين باء السّببيّة.

فالإيراث دلّ على أنّها عطيّة بدون قصد تعاوض ولا تعاقد ، وأنّها فضل محض من الله تعالى ، لأنّ إيمان العبد بربّه وطاعته إياه لا يوجب عقلا ولا عدلا إلّا نجاته من العقاب الذي من شأنه أن يترتّب على الكفران والعصيان ، وإلّا حصول رضى ربّه عنه ، ولا يوجب جزاء ولا عطاء ، لأنّ شكر المنعم واجب ، فهذا الجزاء وعظمته مجرّد فضل من الرّب على عبده شكرا لإيمانه به وطاعته ، ولكن لما كان سبب هذا الشّكر عند الرّب الشّاكر هو عمل عبده بما أمره به ، وقد تفضّل الله به فوعد به من قبل حصوله. فمن

١٠٣

العجب قول المعتزلة بوجوب الثّواب عقلا ، ولعلّهم أوقعهم فيه اشتباه حصول الثّواب بالسّلامة من العقاب ، مع أنّ الواسطة بين الحالين بيّنة لأولي الألباب. وهذا أحسن ممّا يطيل به أصحابنا معهم في الجواب.

وباء السّببيّة اقتضت الذي أعطاهم منازل الجنّة أراد به شكر أعمالهم وثوابها من غير قصد تعاوض ولا تقابل فجعلها كالشيء الذي استحقّه العامل عوضا عن عمله فاستعار لها باء السّببيّة.

[٤٤ ، ٤٥] (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥))

جملة : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] إلخ ، عطف القول على القول ، إذ حكي قولهم المنبئ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم ، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم.

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) [الأعراف : ٤٣] عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضهم بعضا ، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار ، ليعبّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله : (أَصْحابَ النَّارِ).

وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة ، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البعد ، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قوله : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) [الأعراف : ٤٦] ، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة. وعلم الله وقدرته لا حدّ لمتعلّقاتهما.

و (أنّ) في قوله : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) تفسيرية للنّداء. والخبر الذي هو (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم ، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم ، والتورك على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم ، وأنّهم حرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي ، وهذه معان متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار ، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازم العقليّة ، وهذه الكناية

١٠٤

جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة ، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك. وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة.

والاستفهام في جملة : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) مستعمل مجازا مرسلا بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم ، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم ، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم. والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية ، وقرينة المجاز هي : ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقا.

والوجدان : الفاء الشّيء ولقيّه ، قال تعالى : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) [القصص : ١٥] وفعله يتعدّى إلى مفعول واحد ، قال تعالى : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) [النور : ٣٩] ويغلب أن يذكر مع المفعول حاله ، فقوله : (وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) معناه ألفيناه حال كونه حقا لا تخلّف في شيء منه ، فلا يدلّ قوله : (وَجَدْنا) على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم ، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازا ، وهو مجاز شائع.

و (ما) موصولة في قوله : (ما وَعَدَنا رَبُّنا) ـ و (ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) ودلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين ، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل ، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم ، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم ، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلّها أو بعضها ، وسمع بعضهم إجمالها : مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم ، فكان للموصولية في قوله : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) إيجاز بديع ، والجواب بنعم تحقيق للمسئول عنه بهل : لأنّ السؤال بهل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسئول عنه ، فهو جواب المقرّ المتحسّر المعترف ، وقد جاء الجواب صالحا لظاهر السّؤال وخفيّه ، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازا ، إذ ليست نعم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة.

وحذف مفعول (وعد) الثّاني في قوله : (ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله : (ما وَعَدَنا رَبُّنا) لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم. فالتّقدير : فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم ، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ.

ودلّت الفاء في قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقا لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم.

١٠٥

والتّأذين : رفع الصّوت بالكلام رفعا يسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن ـ بضمّ الهمزة ـ جارحة السمع المعروفة ، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير ، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله ، زيادة في التّأييس لهم ، أو دعاء عليهم بزيادة البعد عن الرّحمة ، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود ، ووقوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلم منه أنّ المراد بالظّالمين ، وما تبعه من الصّفات والأفعال ، هم أصحاب النّار ، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم ، والنّداء على خبث نفوسهم ، وفساد معتقدهم.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وقنبل عن ابن كثير : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) ـ بتخفيف نون (أن) ـ على أنّها تفسيريّة لفعل (أذّن) ورفع (لعنة) على الابتداء والجملة تفسيرية ، وقرأه الباقون ـ بتشديد النّون وبنصب (لعنة) على (أنّ) الجملة مفعول (أذّن) لتضمنه معنى القول ، والتّقدير : قائلا أنّ لعنة الله على الظّالمين.

والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم ، كما يقال : المؤمنين ، لأهل الإسلام ، فلا ينافي أنّهم حين وصفوا به لم يكونوا ظالمين ، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازا في الاستقبال ، ولا يكون للماضي ، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله : (يَصُدُّونَ) وقوله : (وَيَبْغُونَها) وشأن المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال ، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله ، ولا ببغي عوج السّبيل ، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعا لمعنى التّجدّد ، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي ، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة ، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى ، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد ، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) فإن حقه الدلالة على زمن الحال ، وقد استعمل هنا في الماضي : أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا ، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل ، إذ قد علم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين ، بل تلبّسوا بنقائضها ، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم : (نَعَمْ). وإنّما عرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة

١٠٦

بها في مدّة الحياة الأولى. فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه ، وفي الحديث : «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» رواه مسلم ، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يلعنونهم بها في الدّنيا. فجهروا بها في الآخرة ، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادون بها ، وهذا كما جاء في الحديث : «يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان» مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو : «حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح». وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى.

والمراد بالظّالمين : المشركون ، وبالصدّ عن سبيل الله : إمّا تعرّض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصّرف عن الدّخول في الدّين بوجوه مختلفة ، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام ، فيكون الصدّ مرادا به المتعدي إلى المفعول. وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن ، فيكون الصدّ مرادا به القاصر ، الذي قيل : إنّ مضارعه بكسر الصّاد ، أو إن حق مضارعه كسر الصّاد ، إذ قيل لم يسمع مكسور الصّاد ، وإن كان القياس كسر الصّاد في اللّازم وضمها في المتعدي.

والضّمير المؤنّث في قوله : (وَيَبْغُونَها) عائد إلى (سَبِيلِ اللهِ). لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنّث قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] وقال : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٦].

والعوج : ضدّ الاستقامة ، وهو بفتح العين في الأجسام : وبكسر العين في المعاني. وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر. ولكن الاستعمال خصّص الحقيقة بأحد الوجهين والمجاز بالوجه الآخر ، وذلك من محاسن الاستعمال ، فالإخبار عن السبيل ـ (عوج) إخبار بالمصدر للمبالغة ، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السّبيل عوجاء ، أي يختلقون لها نقائص يموّهونها على النّاس تنفيرا عن الإسلام كقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] ، وتقدّم تفسيره عند قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) في سورة آل عمران [٩٩].

وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم ، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر ، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العوج

١٠٧

فيها ، لأنّ ذينك من الأفعال القابلة للتّكرير ، بخلاف الكفر فإنّه ليس من الأفعال ، ولكنّه من الانفعالات ، ونظير ذلك قوله تعالى : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [الشورى : ١٩].

[٤٦ ، ٤٧] (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

تقديم (وَبَيْنَهُما) وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه. وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة ، والتّنكير للتّعظيم.

وضمير (بَيْنَهُما) يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤] وهما اسما مكان ، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما. وجعل الحجاب فصلا بينهما. وتثنية الضّمير تعيّن هذا المعنى ، ولو أريد من الضّمير فريقا أهل الجنّة وأهل النّار ، لقال : بينهم ، كما قال في سورة الحديد [١٣] (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) الآية.

والحجاب : سور ضرب فاصلا بين مكان الجنّة ومكان جهنّم ، وقد سمّاه القرآن سورا في قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) في سورة الحديد [١٣] ، وسمّي السور حجابا لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سورا باعتبار الإحاطة.

والأعراف : جمع عرف ـ بضمّ العين وسكون الرّاء ، وقد تضمّ الرّاء أيضا ـ وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عرف الفرس ، الشّعر الذي في أعلى رقبته ، وسمّي عرف الدّيك. الرّيش الذي في أعلى رأسه.

و (أل) في (الْأَعْرافِ) للعهد. وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور. ليرقب منها النظّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم. ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد ، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار. أو يجعل (أل) عوضا عن المضاف إليه : أي وعلى أعراف السّور. وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] وأيّا ما كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكانا مخصوصا يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ لا وجه حينئذ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه.

١٠٨

وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة ، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب ، قبل أن يدخلوا الجنّة ، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار ، ويعرفون رجالا من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا ، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة ، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء ، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال ، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر ، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة ، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم ، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لا حظّ للنّساء فيها ، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملا يعمله الرّجال لا حظ للنّساء فيه في الإسلام ، وليس إلّا الجهاد ، فقال بعض المفسرين : هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم ، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة ، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثا كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعا لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها.

وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم استوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم ، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليبا ، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء ، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف : روى بعضها ابن ماجة ، وبعضها ابن مردويه ، وبعضها الطّبري ، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون. وليس المراد منها أنّهم المقصود من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

والذي ينبغي تفسير الآية به : أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكانا يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها ، وذلك ضرب من العقاب خفيف ، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتا يعلم الله أسبابه ومقاديره ، وقد قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالا من

١٠٩

أصحاب الأعراف. ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة. ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم ، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة.

وتنوين (كُلًّا) عوض عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدّم. أي كلّ أهل الجنّة وأهل النّار.

والسيما بالقصر السمة أي العلامة ، أي بعلامة ميّز الله بها أهل الجنّة وأهل النّار ، وقد تقدّم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) في سورة البقرة [٢٧٣].

ونداؤهم أهل الجنّة بالسّلام يؤذن بأنّهم في اتّصال بعيد من أهل الجنّة ، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم. ويعلمون أنّهم صائرون إلى الجنّة ، فلذلك حكى الله حالهم هذه للنّاس إيذانا بذلك وبأن طمعهم في قوله : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه ، فهو من صنف الرّجاء كقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء ٨٢].

و (أَنْ) تفسير للنّداء ، وهو القول (سَلامٌ عَلَيْكُمْ). و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) دعاء تحيّة وإكرام.

وجملة : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) مستأنفة للبيان ، لأنّ قوله (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) يثير سؤالا يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنّة أو إلى غيرها. وجملة : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) حال من ضمير (يَدْخُلُوها) والجملتان معا معترضتان بين جملة : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وجملة (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ).

وجملة : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) معطوفة على جملة : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ).

والصّرف : أمر الحالّ بمغادرة المكان. والصّرف هنا مجاز في الالتفات أو استعارة. وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يتطلّب لها فاعل ، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنّهم لا ينظرون إلى أهل النّار إلّا نظرا شبيها بفعل من يحمله على الفعل حامل ، وذلك أنّ النّفس وإن كانت تكره المناظر السّيئة فإنّ حبّ الاطّلاع يحملها على أن توجّه النّظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها.

والتلقاء : مكان وجود الشّيء ، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللّقاء ، لأنّ

١١٠

محلّ الوجود ملاق للموجود فيه.

[٤٨ ، ٤٩] (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩))

التّعريف في قوله : (أَصْحابُ الْأَعْرافِ) للعهد بقرينة تقدّم ذكره في قوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦] وبقرينة قوله هنا (رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ) إذ لا يستقيم أن يكون أولئك الرّجال يناديهم جميع من كان على الأعراف ، ولا أن يعرفهم بسيماهم جميع الذين كانوا على الأعراف ، مع اختلاف العصور والأمم ، فالمقصود بأصحاب الأعراف هم الرّجال الذين ذكروا في الآية السابقة بقوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦] كأنّه قيل : ونادى أولئك الرّجال الذين على الأعراف رجالا. والتّعبير عنهم هنا بأصحاب الأعراف إظهار في مقام الإضمار ، إذ كان مقتضى الظّاهر أن يقال. ونادوا رجالا ، إلّا أنّه لما تعدّد في الآية السّابقة ما يصلح لعود الضّمائر إليه وقع الإظهار في مقام الإضمار دفعا للالتباس.

والنّداء يؤذن ببعد المخاطب فيظهر أنّ أهل الأعراف لما تطلّعوا بأبصارهم إلى النّار عرفوا رجالا ، أو قبل ذلك لمّا مرّ عليهم بأهل النّار عرفوا رجالا كانوا جبارين في الدّنيا. والسيما هنا يتعيّن أن يكون المراد بها المشخّصات الذاتية التي تتميّز بها الأشخاص ، وليست السيما التي يتميّز بها أهل النّار كلّهم كما هو في الآية السّابقة.

فالمقصود بهذه الآية ذكر شيء من أمر الآخرة ، فيه نذارة وموعظة لجبابرة المشركين من العرب الذين كانوا يحقرون المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم عبيد وفقراء فإذا سمعوا بشارات القرآن للمؤمنين بالجنّة سكتوا عمن كان من أحرار المسلمين وسادتهم. وأنكروا أن يكون أولئك الضّعاف والعبيد من أهل الجنّة ، وذلك على سبيل الفرض ، أي لو فرضوا صدق وجود جنّة ، فليس هؤلاء بأهل لسكنى الجنّة لأنّهم ما كانوا يؤمنون بالجنّة ، وقصدهم من هذا تكذيب النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإظهار ما يحسبونه خطلا من أقواله ، وذلك مثل قولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧] فجعلوا تمزّق الأجساد وفناءها دليلا على إبطال الحشر ، وسكتوا عن حشر الأجساد التي لم تمزّق. وكلّ ذلك من سوء الفهم وضعف الإدراك والتّخليط بين العاديات والعقليات.

١١١

قال ابن الكلبي : «ينادي أهل الأعراف وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان» فهؤلاء من الرّجال الذين يعرفونهم بسيماهم وكانوا من أهل العزّة والكبرياء.

ومعنى (جَمْعُكُمْ) يحتمل أن يكون جمع النّاس ، أي ما أغنت عنكم كثرتكم التي تعتزّون بها ، ويحتمل أن يراد من الجمع المصدر بمعنى اسم المفعول. أي ما جمعتموه من المال والثّروة كقوله تعالى : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) [الحاقة : ٢٨].

و (ما) الأولى نافية ، ومعنى (ما أَغْنى) ما أجزى مصدره الغناء ـ بفتح الغين وبالمدّ ـ.

والخبر مستعمل في الشّماتة والتّوقيف على الخطأ.

و (ما) الثّانية مصدريّة ، أي واستكباركم الذي مضى في الدّنيا ، ووجه صوغه بصيغة الفعل دون المصدر إذ لم يقل استكباركم ليتوسّل بالفعل إلى كونه مضارعا فيفيد أنّ الاستكبار كان دأبهم لا يفترون عنه.

وجملة (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من كلام أصحاب الأعراف. والاستفهام في قوله (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) مستعمل في التّقرير.

والإشارة ب (أَهؤُلاءِ) إلى قوم من أهل الجنّة كانوا مستضعفين في الدّنيا ومحقرين عند المشركين بقرينة قوله : (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) ـ وقوله ـ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) قال المفسّرون هؤلاء مثل سلمان ، وبلال ، وخبّاب ، وصهيب من ضعفاء المؤمنين ، فإما أن يكونوا حينئذ قد استقرّوا في الجنّة فجلاهم الله لأهل الأعراف وللرّجال الذين خاطبوهم ، وإمّا أن يكون ذلك الحوار قد وقع قبل إدخالهم الجنّة. وقسمهم عليهم لإظهار تصلّبهم في اعتقادهم وأنّهم لا يخامرهم شكّ في ذلك كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨].

وقوله : (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) هو القسم عليه ، وقد سلّطوا النّفي في كلامهم على مراعاة نفي كلام يقوله الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أو المؤمنون ، وذلك أنّ بشارات القرآن أولئك الضّعفاء ، ووعده إياهم بالجنّة ، وثناءه عليهم نزل منزلة كلام يقول : إنّ الله ينالهم برحمة ، أي بأن جعل إيواء الله إياهم بدار رحمته ، أي الجنّة ، بمنزلة النّيل وهو حصول الأمر المحبوب المبحوث عنه كما تقدّم في قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ

١١٢

الْكِتابِ) [الأعراف : ٣٧] آنفا ، فأطلق على ذلك الإيواء فعل (ينال) على سبيل الاستعارة. وجعلت الرّحمة بمنزلة الآلة للنّيل كما يقال : نال الثّمرة بمحجن. فالباء للآلة. أو جعلت الرّحمة ملابسة للنّيل فالباء للملابسة. والنّيل هنا استعارة ، وقد عمدوا إلى هذا الكلام المقدّر فنفوه فقالوا : (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ).

وهذا النّظم الذين حكي به قسمهم يؤذن بتهكّمهم بضعفاء المؤمنين في الدّنيا ، وقد أغفل المفسّرون تفسير هذه الآية بحسب نظمها.

وجملة : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) قيل مقول قول محذوف اختصارا لدلالة السّياق عليه ، وحذف القول في مثله كثير ولا سيما إذا كان المقول جملة إنشائيّة ، والتّقدير : قال لهم الله ادخلوا الجنّة فكذّب الله قسمكم وخيّب ظنّكم ، وهذا كلّه من كلام أصحاب الأعراف ، والأظهر أن يكون الأمر في قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) للدّعاء لأنّ المشار إليهم بهؤلاء هم أناس من أهل الجنّة ، لأنّ ذلك الحين قد استقرّ فيه أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار ، كما تقتضيه الآيات السّابقة من قوله : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ـ إلى قوله ـ (الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٦ ، ٤٧] فلذلك يتعيّن جعل الأمر للدّعاء كما في قول المعرّي :

ابق في نعمة بقاء الدّهور

نافذا لحكم في جميع الأمور

وإذ قد كان الدّخول حاصلا فالدّعاء به لإرادة الدّوام كما يقول الدّاعي على الخارج : أخرج غير مأسوف عليك ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

ورفع (خَوْفٌ) مع (لا) لأنّ أسماء أجناس المعاني التي ليست لها أفراد في الخارج يستوي في نفيها بلا الرّفع والفتح ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف : ٣٥].

[٥٠ ، ٥١] (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

١١٣

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

القول في (نادى) وفي (أَنْ) التّفسيريّة كالقول في : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا) [الأعراف : ٤٤] الآية. وأصحاب النّار مراد بهم من كان من مشركي أمّة الدّعوة لأنّهم المقصود كما تقدّم ، وليوافق قوله بعد (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) [الأعراف : ٥٢].

فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوّة ويستعمل مجازا في الكثرة ، ومنه ما في الحديث : «ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد». ويجيء منه مجاز في السّخاء ووفرة العطاء ، ومنه ما في الحديث أنّه قال لطلحة : «أنت الفيّاض». فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النّار طالبين من أصحاب الجنّة أن يصبّوا عليهم ماء ليشربوا منه ، وعلى هذا المعنى حمله المفسّرون ، ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) عطفا على الجملة لا على المفرد. فيقدّر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدا الماء تقديره : أو أعطونا ، ونظّره بقول الشّاعر (أنشده الفراء) :

علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شبت همّالة عيناها

تقديره : علفتها وسقيتها ماء باردا ، وعلى هذا الوجه تكون (من) بمعنى بعض ، أو صفة لموصوف محذوف تقديره : شيئا من الماء ، لأنّ : (أَفِيضُوا) يتعدّى بنفسه.

ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي ، وهو سعة العطاء والسّخاء ، من الماء والرزق ، إذ ليس معنى الصبّ بمناسب بل المقصود الإرسال والتّفضل ، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف. ويكون سؤلهم من الطّعام مماثلا لسؤلهم من الماء في الكثرة ، فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنّة أهل سخاء ، وتكون (من) على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة ، ويكون فعل (أَفِيضُوا) منزلا منزلة اللّازم ، فتتعلّق من بفعل (أَفِيضُوا).

والرّزق مراد به الطّعام كما في قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ) [البقرة : ٢٥] الآية.

وضمير (قالُوا) لأصحاب الجنّة ، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النّار ، ولذلك فصل على طريقة المحاورة.

١١٤

والتّحريم في قوله : (حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) مستعمل في معناه اللّغوي وهو المنع كقول عنترة :

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

وقوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥].

والمراد بالكافرين المشركون ، لأنّهم قد عرفوا في القرآن بأنّهم اتّخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وعرفوا بإنكار لقاء يوم الحشر.

وقد تقدّم القول في معنى اتّخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرّتهم الحياة الدّنيا عند قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) في سورة الأنعام [٧٠].

وظاهر النّظم أنّ قوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) ـ إلى قوله ـ (الْحَياةُ الدُّنْيا) هو من حكاية كلام أهل الجنّة ، فيكون : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً) إلخ صفة للكافرين.

وجوز أن يكون : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً) مبتدأ على أنّه من كلام الله تعالى ، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) داخلة على خبر المبتدأ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشّرط ، كقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦] وقد جعل قوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) ـ إلى قوله ـ (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعيّن.

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

اعتراض حكي به كلام يعلن به ، من جانب الله تعالى ، يسمعه الفريقان. وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلّم ، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنّة.

والفاء للتّفريع على قول أصحاب الجنّة : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) الآية ، وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمّى بعطف التّلقين الممثّل له غالبا بمعطوف بالواو فهو عطف كلام. متكلّم على كلام متكلّم آخر ، وتقدير الكلام : قال الله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) ، فحذف فعل القول ، وهذا تصديق لأصحاب الجنّة ، ومن جعلوا قوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) كلاما مستأنفا من قبل الله تعالى تكون

١١٥

الفاء عندهم تفريعا في كلام واحد.

والنّسيان في الموضعين مستعمل مجازا في الإهمال والتّرك لأنّه من لوازم النّسيان ، فإنّهم لم يكونوا في الدّنيا ناسين لقاء يوم القيامة ، فقد كانوا يذكرونه ويتحدّثون عنه حديث من لا يصدّق بوقوعه.

وتعليق الظّرف بفعل : (نَنْساهُمْ) لإظهار أنّ حرمانهم من الرّحمة كان في أشدّ أوقات احتياجهم إليها. فكان لذكر اليوم أثر في إثارة تحسّرهم وندامتهم ، وذلك عذاب نفساني.

ودلّ معنى كاف التّشبيه في قوله : (كَما نَسُوا) على أنّ حرمانهم من رحمة الله كان مماثلا لإهمالهم التّصديق باللّقاء ، وهي مماثلة جزاء العمل للعمل ، وهي مماثلة اعتباريّة ، فلذلك يقال : إنّ الكاف في مثله للتّعليل ، كما في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] وإنّما التّعليل معنى يتولّد من استعمال الكاف في التّشبيه الاعتباري ، وليس هذا التّشبيه بمجاز ، ولكنّه حقيقة خفيّة لخفاء وجه الشّبه.

وقوله : (كَما نَسُوا) ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لموصوف محذوف دلّ عليه (نَنْساهُمْ) أي نسيانا كما نسوا.

و (ما) في : (كَما نَسُوا) وفي (وَما كانُوا) مصدريّة أي كنسيانهم اللّقاء وكجحدهم بآيات الله. ومعنى جحد الآيات تقدّم عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) في سورة الأنعام [٣٣].

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

الواو في (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) عاطفة هذه الجملة على جملة (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠] ، عطف القصّة على القصّة ، والغرض على الغرض ، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدّنيا ، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة ، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنّة في قوله : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١] لأنّ قوله هنا (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] إلخ ، يقتضي أنّه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدّنيا ، فضمير الغائبين في قوله : (جِئْناهُمْ) عائد إلى الذين كذّبوا في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ)

١١٦

[الأعراف : ٤٠] الآية.

والمراد بالكتاب القرآن. والباء في قوله : (بِكِتابٍ) لتعدية فعل (جِئْناهُمْ) ، مثل الباء في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] فمعناه : أجأناهم كتابا ، أي جعلناه جاء يا إياهم ، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم.

وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و (قد) إمّا باعتبار صفة (كتاب) ، وهي جملة (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً) فيكون التّأكيد جاريا على مقتضى الظّاهر ، لأنّ المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفا بتلك الأوصاف ، وإمّا تأكيد لفعل (جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجا على خلاف مقتضى الظاهر ، بتنزيل المبلّغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم ، لأنّهم في إعراضهم عن النّظر والتّدبر في شأنه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب ، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد : (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٥٣].

وتنكير (كتاب) ، وهو معروف ، قصد به تعظيم الكتاب ، أو قصد به النّوعيّة ، أي ما هو إلّا كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل ، كما تقدّم في قوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في طالع هذه السّورة [٢].

و (فَصَّلْناهُ) أي بيّناه أي بيّنّا ما فيه ، والتّفصيل تقدّم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأنعام [٥٥].

و (عَلى عِلْمٍ) ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل (فَصَّلْناهُ) أي حال كوننا على علم ، و (على) للاستعلاء المجازي ، تدلّ على التّمكّن من مجرورها ، كما في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وقوله : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) في سورة الأنعام [٥٧]. ومعنى هذا التّمكن أن علم الله تعالى ذاتي لا يعزب عنه شيء من المعلومات.

وتنكير (عِلْمٍ) للتّعظيم ، أي عالمين أعظم العلم ، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته ، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علما ذاتيا لا يتخلّف عنّا ولا يختلف في ذاته ، أي لا يحتمل الخطأ ولا التّردّد.

و (هُدىً وَرَحْمَةً) حال من (بِكِتابٍ). أو من ضميره في قوله : (فَصَّلْناهُ). ووصف الكتاب بالمصدرين (هُدىً وَرَحْمَةً) إشارة إلى قوّة هديه النّاس وجلب الرّحمة لهم.

١١٧

وجملة (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الذين توصّلوا للاهتداء به والرحمة. وأن من لم يؤمنوا قد حرموا الاهتداء والرّحمة. وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة [٢] : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

جملة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) مستأنفة استينافا بيانيا ، لأنّ قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يثير سؤال من يسأل : فما ذا يؤخّرهم عن التّصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصّفات؟ وهل أعظم منه آية على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فكان قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) كالجواب عن هذا السّؤال ، الذي يجيش في نفس السّامع. والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء.

ومعنى (يَنْظُرُونَ) ينتظرون من النّظرة بمعنى الانتظار ، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات ، والمراد المنتظرات من هذا النّوع وهو الآيات ، أي ما ينتظرون آية أعظم إلّا تأويل الكتاب ، أي إلّا ظهور ما توعّدهم به ، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكميّة : شبه حال تمهّلهم إلى الوقت الذي سيحلّ عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين ، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه ، وهذا مثل قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) [محمد : ١٨] ـ وقوله ـ (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [يونس : ١٠٢] والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه لأنّ المجاز في فعل (يَنْظُرُونَ) فقط.

والقصر إضافي ، أي بالنّسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات ، وقد مضى القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) في سورة الأنعام [١٥٨].

والتّأويل توضيح وتفسير ما خفي ، من مقصد كلام أو فعل ، وتحقيقه ، قال تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨] وقال : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٠٠] وقال : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] وقد تقدّم اشتقاقه ومعناه في المقدّمة الأولى من مقدّمات هذا التّفسير. وضمير (تَأْوِيلَهُ) عائد إلى (كتاب) من

١١٨

قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف : ٥٢].

وتأويله وضوح معنى ما عدّوه محالا وكذبا ، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب ، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة ، وما بعد العيان بيان.

وقد بيّنته جملة (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ) إلخ ، فلذلك فصلت ، لأنّها تتنزل من التي قبلها منزّلة البيان للمراد من تأويله ، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة ، فالمراد باليوم يوم القيامة ، بدليل تعلّقه بقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) الآية فإنّهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلّا يوم القيامة. وإتيان تأويله مجاز في ظهوره وتبيّنه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان. والتّأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدّالة على صدق القرآن. فيما أخبرهم وما توعّدهم.

و (الَّذِينَ نَسُوهُ) هم المشركون ، وهم معاد ضمير (يَنْظُرُونَ) فكان مقتضى الظّاهر أن يقال : يقولون ، إلّا أنّه أظهر بالموصولية لقصد التّسجيل عليهم بأنّهم نسوه وأعرضوا عنه وأنكروه ، تسجيلا مرادا به التّنبيه على خطئهم والنّعي عليهم بأنّهم يجرّون بإعراضهم سوء العاقبة لأنفسهم.

والنّسيان مستعمل في الإعراض والصدّ ، كما تقدّم في قوله : (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١].

والمضاف إليه المقدّر المنبئ عنه بناء (قبل) على الضم : هو التّأويل ، أو اليوم ، أي من قبل تأويله ، أو من قبل ذلك اليوم ، أي في الدّنيا. والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد ، لأنّ الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر ، أي يتبيّن لهم الحقّ ويصرّحون به.

وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافا بخطئهم في تكذيبهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أخبر به عن الرّسل من قبله ، ولذلك جمع الرّسل هنا ، مع أنّ الحديث عن المكذّبين محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب لهم الأمثال بالرّسل السابقين ، وهم لما كذّبوه جرّأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرّسل إذ قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] أو لأنّهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السّابقة على تكذيب رسلهم ، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثّر بجميع ما شاهدوه من التّهديد الشّامل لهم ولمن عداهم من الأمم.

وقولهم : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) خبر مستعمل في الإقرار بخطئهم في تكذيب

١١٩

الرّسل ، وإنشاء للحسرة على ذلك ، وإبداء الحيرة فيما ذا يصنعون. ولذلك رتّبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) إلى آخره.

والاستفهام يجوز أن يكون حقيقيا يقوله بعضهم لبعض ، لعلّ أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة ، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهدّدهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشّفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ، ١٠١] ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التّمني ، ويجوز أن يكون مستعملا في النّفي. على معنى التّحسّر والتّندم. و (مِنْ) زائدة للتّوكيد. على جميع التّقادير. فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه ، ليفيد أنّهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم ، إذ قد يئسوا منهم. كما قال تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) [الأعراف : ٩٤] بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم. ولو يكون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام الذي ناصبوه العداء في الحياة الدّنيا. ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمن [١١] (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).

وانتصب (فَيَشْفَعُوا) على جواب الاستفهام ، أو التّمنّي ، أو النّفي.

«والشفعاء» جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشّفاعة ، وهم يسمّون أصنامهم شفعاء قال تعالى : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) في سورة البقرة [٤٨]. وعند قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) في سورة البقرة [٢٥٤] وعند قوله : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) في سورة النّساء [٨٥].

وعطف فعل (نُرَدُّ) ب (أو) على مدخول الاستفهام ، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين ، لأنّ أحدهما لا يجتمع مع الآخر ، فإذا حصلت الشّفاعة فلا حاجة إلى الردّ ، وإذا حصل الردّ استغني عن الشّفاعة.

وإذ كانت جملة (لَنا مِنْ شُفَعاءَ) واقعة في حيز الاستفهام ، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام ، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة ، ورفعه بتجرّده عن عامل النّصب وعامل الجزم ، فوقع موقع الاسم كما قدّره الزمخشري تبعا للفراء ، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله ، بردّها إلى جملة

١٢٠