تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

على ما حرموا منه من مال الميّت كما كانوا في الجاهلية.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

موعظة لكلّ من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة ، في شأن أموال اليتامى وأموال الضعاف من النساء والصبيان ، فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ، ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذرّيتهم بأن ينزّلوا أنفسهم منزلة الموروثين ، الذين اعتدوا هم على أموالهم ، وينزّلوا ذرّياتهم منزلة الذريّة الذين أكلوا هم حقوقهم ، وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفس» وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أنّ المعتدي عليهم خلق ضعاف بقوله : (ضِعافاً) ، ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى ، بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا. فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأنّ نصيب أبناءهم مثل ما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أنّ مفعول (يخش) حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كلّ مذهب محتمل ، فينظر كلّ سامع بحسب الأهم عنده ممّا يخشاه أن يصيب ذرّيّته.

وجملة (لَوْ تَرَكُوا) إلىخافُوا عَلَيْهِمْ) صلة الموصول ، وجملة (خافُوا عَلَيْهِمْ) جواب (لَوْ).

وجيء بالموصول لأنّ الصلة لمّا كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله ، وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كلّ سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له ، إذ هي أمر يتصوّره كلّ الناس.

ووجه اختيار (لَوْ) هنا من بين أدوات الشرط أنّها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرّض لإمكانه ، فيصدق معها الشرط المتعذّر الوقوع والمستبعدة والممكنة : فالذين بلغوا اليأس من الولادة ، ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم ، يدخلون في فرض هذا الشرط لأنّهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم ، والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر.

وفعل (تَرَكُوا) ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) [البقرة : ٢٤٠] وقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [الشعراء : ٢٠١] وقول الشاعر:

٤١

إلى ملك كاد الجبال لفقده

تزول زوال الراسيات من الصخر

أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنّما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت. فالمعنى : لو شارفوا أن يتركوا ذرّيّة ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء.

والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ، ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهن ، ويحرمون صغار إخوتهم أو أبناء إخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم ، كلّ أولئك داخل في الأمر بالخشية ، والتخويف بالموعظة ، ولا يتعلّق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء : ٨] لأنّ تلك الجملة وقعت كالاستطراد ، ولأنّه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف.

وفي الآية ما يبعث الناس كلّهم على أن يغضبوا للحقّ من الظلم ، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء ، وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم ، لأنّهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك ، وأن يأكل قويّهم ضعيفهم ، فإنّ اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ، ويكسب النفوس ضراوة على عمله. وتقدّم تفسير الذرّيّة عند قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في سورة آل عمران [٣٤].

وقوله : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) فرّع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين : لأنّ الأمر الأول لمّا عضّد بالحجّة اعتبر كالحاصل فصحّ التفريع عليه ، والمعنى : فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى ، جرّته مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات ، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم ، فقلّما يخلو ميّت عن ورثة صغار ، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض ، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة.

وقوله : (ظُلْماً) حال من (يَأْكُلُونَ) مقيّدة ليخرج الأكل المأذون فيه بمثل قوله: (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] ، فيكون كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩].

٤٢

ثم يجوز أن يكون (ناراً) من قوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) مرادا بها نار جهنّم ، كما هو الغالب في القرآن ، وعليه ففعل (يَأْكُلُونَ) ناصب (ناراً) المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار ، فأطلق النار مجازا مرسلا بعلاقة الأول أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم ، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم.

وعلى هذا فعطف جملة : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) عطف مرادف لمعنى جملة (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً).

ويجوز أن يكون اسم النار مستعارا للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديدا بعذاب دنيوي أو مستعارا للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه ، والمعنى إنّما يأخذون أموالا هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه ، فيكون هذا تهديدا بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٦] ويكون عطف جملة (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) جاريا على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين ، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا ، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة.

وذكر (فِي بُطُونِهِمْ) على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة (يَأْكُلُونَ) لمعنى يأخذون ويستحوذون.

والسين في (سَيَصْلَوْنَ) حرف تنفيس أي استقبال ، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال ، سوءا كان استقبالا قريبا أو بعيدا ، وهي مرادفة سوف ، وقيل : إنّ سوف أوسع زمانا. وتفيدان في مقام الوعد تحقيق الوعد وكذلك التوعّد.

ويصلون مضارع صلي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة ، كما هنا ، يقال : صلى بالنار ، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض ، قال حميد بن ثور :

لا تصطلي النار إلّا يجمرا أرجا

قد كسّرت من يلنجوج له وقصا

وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد.

وقرأ الجمهور : وسيصلون ـ بفتح التحتية ـ مضارع صلي ، وقرأه ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ـ بضم التحتية ـ مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب.

٤٣

والسعير النار المسعّرة أي الملتهبة ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، بني بصيغة المجرّد ، وهو من المضاعف ، كما بنى السميع من أسمع ، والحكيم من أحكم.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

تتنزّل آية (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) منزلة البيان والتفصيل لقوله (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٧] وهذا المقصد الذي جعل قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) [النساء : ٧] إلخ بمنزلة المقدّمة له فلذلك كانت جملة : (يُوصِيكُمُ) مفصولة لأنّ كلا الموقعين مقتض للفصل.

ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله : (يُوصِيكُمُ) لأنّ الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدّة صلاحه ، ولذلك سمّي ما يعهد به الإنسان ، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت ، وصية.

وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة. ففي «صحيح البخاري» ، عن جابر بن عبد الله : أنّه قال : «مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة فوجداني لا أعقل فدعا رسول الله بماء فتوضّأ ، ثم رشّ عليّ منه فأفقت فقلت «كيف أصنع في مالي يا رسول الله» فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).

وروى الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن جابر ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت لرسول الله «إنّ سعدا هلك وترك ابنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنّما تنكح النساء على أموالهنّ» فلم يجبها في مجلسها ذلك ، ثمّ جاءته فقالت «يا رسول الله ابنتا سعد» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ادع لي أخاه» ، فجاء ، فقال : «ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي» ونزلت آية الميراث.

٤٤

بيّن الله في هذه الآيات فروض الورثة ، وناط الميراث كلّه بالقرابة القريبة ، سواء كانت جبلّية وهي النسب ، أو قريبة من الجبلّية ، وهي عصمة الزوجية ، لأنّ طلب الذكر للأنثى جبليّ ، وكونها المرأة المعيّنة يحصل بالإلف ، وهو ناشئ عن الجبلّة. وبيّن أهل الفروض ولم يبيّن مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضهم ، وذلك لأنّه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميّت ، وقد بيّن هذا المقصد قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر».

ألا ترى قوله تعالى بعد هذا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فلم يبيّن حظّ الأب ، لأنّ الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقرّرة ، وهي احتواء المال فاحتيج إلى ذكر فرض الأم.

وابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنّهم أقرب الناس.

والأولاد جمع ولد بوزن فعل مثل أسد ووثن ، وفيه لغة ولد ـ بكسر الواو وسكون اللام ـ وكأنه حينئذ فعل الذي بمعنى المفعول كالذّبح والسّلخ. والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى ، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد ، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد.

و (فِي) هنا للظرفية المجازية ، جعلت الوصية كأنّها مظروفة في شأن الأولاد لشدّة تعلّقها به كاتّصال المظروف بالظرف ، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه ، لظهور أنّ ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصيّة ، فتعيّن تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء ، وتقديره : في إرث أولادكم ، والمقام يدلّ على المقدّر على حدّ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] فجعل الوصيّة مظروفة في هذا الشأن لشدّة تعلقها به واحتوائه عليها.

وجملة : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) بيان لجملة (يُوصِيكُمُ) لأنّ مضمونها هو معنى مضمون الوصية ، فهي مثل البيان في قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ) وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أوّل الأمر على أنّ الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنّه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلّه ولا حظّ للإناث ، كما تقدّم آنفا في تفسير قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٧].

وقوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ

٤٥

الذكر ، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به ، فعلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم ، وقد كان هذا المراد صالحا لأن يؤدّى بنحو : للأنثى نصف حظّ ذكر ، أو للأنثيين مثل حظّ ذكر ، إذ ليس المقصود إلّا بيان المضاعفة. ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهمّ من حظّ الذكر ، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد علم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات.

وقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) إلخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد ، وهو جمع ولد فهو غير مؤنّث اللفظ ولا المدلول لأنّه صالح للمذكّر والمؤنث ، فلمّا كان ما صدقه هنا النساء خاصّة أعيد عليه الضمير بالتأنيث.

ومعنى : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أكثر من اثنتين ، ومن معاني (فَوْقَ) الزيادة في العدد ، وأصل ذلك مجاز ، ثم شاع حتّى صار كالحقيقة ، والآية صريحة في أنّ الثلثين لا يعطيان إلّا للبنات الثلاث فصاعدا لأنّ تقسيم الأنصباء لا ينتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيد منه إلّا عند انتهاء من يستحقّ المقدار الأول.

والوصف ب (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) يفيد مفهوما وهو أنّ البنتين لا تعطيان الثلثين ، وزاد فقال : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقهما الجمهور بالثلاث لأنّهما أكثر من واحدة ، وأحسن ما وجّه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق «إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلث مع أختها» يعني أنّ كلّ واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظّها مع أخت أنثى أقلّ من حظّها مع أخ ذكر ، فإنّ الذكر أولى بتوفير نصيبه ، وقد تلقّفه المحقّقون من بعده ، وربما نسب لبعض الذين تلقّفوه. وعلّله ووجّهه آخرون : بأنّ الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقلّ منهما. وقال ابن عباس : للبنتين النصف كالبنت الواحدة ، وكأنّه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محملا في الآية ، ولو أريد ذلك لما قال (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ). ومنهم من جعل لفظ (فَوْقَ) زائدا ، ونظّره بقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢]. وشتّان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل. قال ابن عطية : وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أنّ للبنتين الثلثين ، أي وهذا الإجماع مستند لسنّة عرفوها. وردّ القرطبي دعوى

٤٦

الإجماع بأنّ ابن عباس صحّ عنه أنّه أعطى البنتين النصف. قلت : لعلّ الإجماع انعقد بعد ما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أنّ اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه ، أمّا حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدّم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف ، لأنّ في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثا.

وقوله : (فَلَهُنَ) أعيد الضمير إلى نساء ، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة.

وقرأ الجمهور : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) ـ بنصب واحدة ـ على أنّه خبر كانت ، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيده قوله : (فِي أَوْلادِكُمْ) من مفرد ولد ، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة ، وقرأ نافع ، وأبو جعفر ـ بالرفع ـ على أنّ كان تامّة ، والتقدير : وإن وجدت بنت واحدة ، لما دلّ عليه قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً).

وصيغة (أَوْلادِكُمْ) صيغة عموم لأنّ أولاد جمع معرّف بالإضافة ، والجمع المعرّف بالإضافة من صيغ العموم ، وهذا العموم ، خصّصه أربعة أشياء :

الأوّل : خصّ منه عند أهل السنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رواه عنه أبو بكر أنّه قال : «لا نورث ما تركنا صدقة» ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمّهات المؤمنين. وصحّ أنّ عليا رضي‌الله‌عنه وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في «الصحيحين».

الثاني : اختلاف الدين بالإسلام وغيره ، وقد أجمع المسلمون على أنّه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.

الثالث : قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء.

الرابع : قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئا.

(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)

الضمير المفرد عائد إلى الميّت المفهوم من قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إذ قد تقرّر أنّ الكلام في قسمة مال الميّت. وجاء الكلام على طريقة الإجمال والتفصيل ليكون كالعنوان ، فلذلك لم يقل : ولكلّ من أبويه السدس ، وهو كقوله السابق : (فِي أَوْلادِكُمْ

٤٧

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١].

وقوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) زاده للدلالة على الاقتصار أي : لا غيرهما ، ليعلم من قوله: (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أنّ للأب الثلثين ، فإن كان مع الأمّ صاحب فرض لا تحجبه كان على فرضه معها وهي على فرضها. واختلفوا في زوجة وأبوين وزوج وأبوين : فقال ابن عباس : للزوج أو الزوجة فرضهما وللأمّ ثلثها وما بقي للأب ، حملا على قاعدة تعدّد أهل الفروض ، وقال زيد بن ثابت : لأحد الزوجين فرضه وللأمّ ثلث ما بقي وما بقي للأب ، لئلا تأخذ الأمّ أكثر من الأب في صورة زوج وأبوين ، وعلى قول زيد ذهب جمهور العلماء. وفي «سنن ابن أبي شيبة» : أنّ ابن عباس أرسل إلى زيد «أين تجد في كتاب الله ثلث ما بقي» فأجاب زيد «إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا أقول برأيي».

وقد علم أنّ للأب مع الأمّ الثلثين ، وترك ذكره لأنّ مبني الفرائض على أنّ ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب.

وقرأ الجمهور : فلأمّه ـ بضمّ همزة أمّه ـ ، وقرأه حمزة ، والكسائي ـ بكسر الهمزة ـ اتّباعا لكسرة اللام.

وقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أي إن كان إخوة مع الأبوين وهو صريح في أنّ الإخوة يحجبون الأمّ فينقلونها من الثلث إلى السدس. والمذكور في الآية صيغة جمع فهي ظاهرة في أنّها لا ينقلها إلى السدس إلّا جماعة من الإخوة ثلاثة فصاعدا ذكورا أو مختلطين. وقد اختلف فيما دون الجمع ، وما إذا كان الإخوة إناثا : فقال الجمهور الأخوان يحجبان الأمّ ، والأختان أيضا ، وخالفهم ابن عباس أخذا بظاهر الآية. أمّا الأخ الواحد أو الأخت فلا يحجب الأمّ والله أعلم بحكمة ذلك. واختلفوا في السدس الذي يحجب الإخوة عنه الأمّ : هل يأخذه الإخوة أم يأخذه الأب ، فقال بالأوّل ابن عباس رضي‌الله‌عنه وهو أظهر ، وقال بالثاني الجمهور بناء على أنّ الحاجب قد يكون محجوبا. وكيفما كان فقد اعتبر الله للأخوة حظّا مع وجود الأبوين في حالة خاصّة ، ولو كان الإخوة مع الأمّ ولم يكن أب لكان للأمّ السدس وللأخوة بقية المال باتّفاق ، وربما كان في هذا تعضيد لابن عباس.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).

المجرور في موضع الحال ، فهو ظرف مستقرّ ، وهو قيد يرجع إلى الجمل المتقدّمة :

٤٨

أي تقتسمون المال على حسب تلك الأنصباء لكلّ نصيبه حالة كونه من بعد وصيّة أو دين.

وجيء بقوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) بعد ذكر صنفين من الفرائض : فرائض الأبناء ، وفرائض الأبوين ، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر. والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيّة وتقدّمها. وإنّما ذكر الدين بعدها تتميما لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضا لأنّه حقّ سابق في مال الميّت ، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلّا ما هو فاضل عن دين دائنه. فموقع عطف (أَوْ دَيْنٍ) موقع الاحتراس ، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات.

ووصف الوصية بجملة (يُوصِي بِها) لئلا يتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض ، وهي التي في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠]. وقرأ الجمهور : (يُوصِي بِها) في الموضعين في هذه الآية ـ بكسر الصاد ـ والضمير عائد إلى معلوم من الكلام وهو الميّت ، كما عاد ضمير (ما تَرَكَ) [النساء : ٧] وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، في الموضعين أيضا : يوصى ـ بفتح الصاد ـ مبنيا للنائب أي يوصى بها موص.

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين ، وهي أصول الفرائض بقوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) الآية ، فهما إمّا مسند إليهما قدّ ما للاهتمام ، وليتمكّن الخبر في ذهن السامع إذ يلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره ، وإمّا أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه ، على طريقة الحذف المعبّر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال ، وذلك عند ما يتقدّم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر :

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل وزلّت

بعد قوله :

سأشكر عمرا إن تدانت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

أي : المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلك. ثم قال : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فهو إما مبتدأ وإما حال ، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتا

٤٩

يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات. فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه ، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين ، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الاعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم ، فاعتمدوا أحوالا غير منضبطة ولا موثوقا بها ، ولذلك قال تعالى : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة ، ففرض الفريضة لهم نظرا لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء.

والتذييل بقوله : (اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) واضح المناسبة.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ).

هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة ، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين : أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه ، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام ، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كبارا ، فإن كانوا صغارا قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه ، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩]. فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة ، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء : ٢١].

٥٠

والجمع في (أَزْواجُكُمْ) وفي قوله : (مِمَّا تَرَكْتُمْ) كالجمع في الأولاد والآباء ، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة ، وهاهنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال. والمعنى : ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله : (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ).

وقوله : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ. وكذلك قوله : (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام.

وأعقبت فريضة الأزواج بذكر (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية. وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات ، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يستحقّ إلّا بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين.

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ).

بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدين وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين ، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد ، وهو الموروث كلالة ، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين.

والكلالة اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى :

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفى حتّى ألاقي محمّدا

وهو اسم مصدر لا يثنّى ولا يجمع.

ووصفت العرب بالكلالة القرابة غير القربى ، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بعد ، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه :

فإنّ أبا المرء أحمى له

ومولى الكلالة لا يغضب

٥١

ثم أطلقوه على إرث البعيد ، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلّا ما بعد نزول الآية. قال الفرزدق :

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

ومنه قولهم : ورث المجد لا عن كلالة. وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عمر بن الخطاب : «ثلاث لأن يكون رسول الله بيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا : الكلالة ، والربا ، والخلافة». وقال أبو بكر : «أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء ، الكلالة ما خلا الولد والوالد». وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقال به الزهري ، وقتادة والشعبي ، وهو قول الجمهور ، وحكي الإجماع عليه ، وروي عن ابن عباس «الكلالة من لا ولد له» أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضا ثم رجعا عنه ، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء : ١٧٦] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين.

وانتصب قوله : (كَلالَةً) على الحال من الضمير في (يُورَثُ) الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين.

وقوله : (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على (رَجُلٌ) الذي هو اسم (كان) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر (كان) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها.

وقوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يشبه دلالة الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام. وقد أثبت الله بهذا فرضا للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلا ، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفا من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن.

٥٢

وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ. وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها.

(غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

(غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من ضمير (يُوصى) الأخير ، ولمّا كان فعل يوصي تكريرا ، كان حالا من ضمائر نظائره.

و (مُضَارٍّ) الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا ، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرار بالورثة. والإضرار منه ما حدّده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله لسعد بن أبي وقّاص «الثلث والثلث كثير». ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الإضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ). ولمّا كانت نيّة الموصي وقصده الإضرار لا يطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه ، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ) نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.

ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) إلخ ، لأنّ هذه المطلقات متّحدة الحكم والسبب. فيحمل المطلق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول.

وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة. وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه. ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في

٥٣

الوصايا الثاني من «المدوّنة» ، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين. ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار. وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح. وبه الفتوى.

وقوله : (وَصِيَّةٍ) منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله ، والتقدير : يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) [النساء : ١١] وهذا من ردّ العجز على الصدر.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعا مثاره الجهل والقساوة. فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب. فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم.

وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) في سورة الأنفال [٧٥] وقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) في سورة الأحزاب [٦] إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام. وأشار قوله الآتي قريبا (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء : ٣٣] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه ، وبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» وما رواه الخمسة ـ غير النسائي ـ عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليّه» وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ

٥٤

يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

الإشارة إلى المعاني والجمل المتقدّمة.

والحدود جمع حدّ ، وهو ظرف المكان الذي يميز عن مكان آخر بحيث يمنع تجاوزه ، واستعمل الحدود هنا مجازا في العمل الذي لا تحلّ مخالفته على طريقة التمثيل.

ومعنى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أنّه يتابع حدوده كما دلّ عليه قوله في مقابله (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ).

وقوله : (خالِداً فِيها) استعمل الخلود في طول المدّة. أو أريد من عصيان الله ورسوله العصيان الأتمّ وهو نبذ الإيمان ، لأنّ القوم يومئذ كانوا قد دخلوا في الإيمان ونبذوا الكفر ، فكانوا حريصين على العمل بوصايا الإسلام ، فما يخالف ذلك إلّا من كان غير ثابت الإيمان إلّا من تاب.

ولعلّ قوله : (وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) تقسيم ، لأنّ العصيان أنواع : منه ما يوجب الخلود ، ومنه ما يوجب العذاب المهين ، وقرينة ذلك أنّ عطف (وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) على الخلود في النار لا يحتاج إليه إذا لم يكن مرادا به التقسيم ، فيضطرّ إلى جعله زيادة توكيد ، أو تقول إنّ محط العطف هو وصفه بالمهين لأنّ العرب أباة الضيم ، شمّ الأنوف ، فقد يحذرون الإهانة أكثر ممّا يحذرون عذاب النار ، ومن الأمثال المأثورة في حكاياتهم (النار ولا العار). وفي كتاب «الآداب» في أعجاز أبياته «والحرّ يصبر خوف العار للنار».

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ندخله في الموضعين هنا ـ بنون العظمة ، وقرأه الجمهور ـ بياء الغيبة ـ والضمير عائد إلى اسم الجلالة.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

موقع هذه الآية في هذه السورة معضل ، وافتتاحها بواو العطف أعضل ، لاقتضائه اتّصالها بكلام قبلها. وقد جاء حدّ الزنا في سورة النور ، وهي نازلة في سنة ست بعد

٥٥

غزوة بني المطلق على الصحيح ، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا ، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به. فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها ، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى ، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء ، كقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء : ٤] وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور ، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة ، كما يدلّ عليه قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) قال ابن عطية : أجمع العلماء على أنّ هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور. ا ه ، وحكى ابن الفرس في ترتيب النسخ أقوالا ثمانية لا نطيل بها. فالواو عاطفة حكم تشريع عقب تشريع لمناسبة : هي الرجوع إلى أحكام النساء ، فإنّ الله لمّا ذكر أحكاما من النكاح إلى قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) وما النكاح إلّا اجتماع الرجل والمرأة على معاشرة عمادها التأنّس والسكون إلى الأنثى ، ناسب أن يعطف إلى ذكر أحكام اجتماع الرجل بالمرأة على غير الوجه المذكور فيه شرعا ، وهو الزنا المعبّر عنه بالفاحشة.

فالزنا هو أن يقع شيء من تلك المعاشرة على غير الحال المعروف المأذون فيه ، فلا جرم أن كان يختلف باختلاف أحوال الأمم والقبائل في خرق القوانين المجعولة لإباحة اختصاص الرجل بالمرأة.

ففي الجاهلية كان طريق الاختصاص بالمرأة السبي أو الغارة أو التعويض أو رغبة الرجل في مصاهرة قوم ورغبتهم فيه أو إذن الرجل امرأته بأن تستبضع من رجل ولدا كما تقدّم.

وفي الإسلام بطلت الغارة وبطل الاستبضاع ، ولذلك تجد الزنا لا يقع إلّا خفية لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم. وسمّي الزنا الفاحشة لأنّه تجاوز الحدّ في الفساد وأصل الفحش الأمر الشديد الكراهية والذمّ ، من فعل أو قول ، أو حال ولم أقف على وقوع العمل بهاتين الآيتين قبل نسخهما.

ومعنى : (يَأْتِينَ) يفعلن ، وأصل الإتيان المجيء إلى شيء فاستعير هنا الإتيان لفعل شيء لأنّ فاعل شيء عن قصد يشبه السائر إلى مكان حتّى يصله ، يقال : أتى الصلاة ، أي صلاها ، وقال الأعشى :

٥٦

ليعلم كلّ الورى أنّني

أتيت المروءة من بابها

وربما قالوا : أتى بفاحشة وبمكروه كأنّه جاء مصاحبا له.

وقوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) بيان للموصول وصلته. والنساء اسم جمع امرأة ، وهي الأنثى من الإنسان ، وتطلق المرأة على الزوجة فلذلك يطلق النساء على الإناث مطلقا ، وعلى الزوجات خاصّة ويعرف المراد بالقرينة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات : ١١] ثم قال ـ (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [الحجرات : ١١] فقابل بالنساء القوم. والمراد الإناث كلهنّ ، وقال تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) [النساء : ١١] الآية المتقدّمة آنفا والمراد هنا مطلق النساء فيشمل العذارى العزبات.

وضمير جمع المخاطبين في قوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) والضمائر الموالية له ، عائدة إلى المسلمين على الإجمال ، ويتعيّن للقيام بما خوطبوا به من لهم أهلية القيام بذلك. فضمير (نِسائِكُمْ) عامّ مراد به نساء المسلمين ، وضمير (فَاسْتَشْهِدُوا) مخصوص بمن يهمّه الأمر من الأزواج ، وضمير (فَأَمْسِكُوهُنَ) مخصوص بولاة الأمور ، لأنّ الإمساك المذكور سجن وهو حكم لا يتولّاه إلّا القضاة ، وهم الذين ينظرون في قبول الشهادة فهذه عمومها مراد به الخصوص.

وهذه الآية هي الأصل في اشتراط أربعة في الشهادة على الزنى ، وقد تقرّر ذلك بآية سورة النور.

ويعتبر في الشهادة الموجبة للإمساك في البيوت ما يعتبر في شهادة الزنى لإقامة الحدّ سواء.

والمراد بالبيوت البيوت التي يعيّنها ولاة الأمور لذلك. وليس المراد إمساكهن في بيوتهنّ بل يخرجن من بيوتهنّ إلى بيوت أخرى إلّا إذا حوّلت بيت المسجونة إلى الوضع تحت نظر القاضي وحراسته ، وقد دلّ على هذا المعنى قوله تعالى في آية سورة الطلاق عند ذكر العدّة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق : ١].

ومعنى (يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) يتقاضاهن. يقال : توفّى فلان حقّه من فلان واستوفاه حقّه. والعرب تتخيّل العمر مجزّأ. فالأيام والزمان والموت يستخلصه من صاحبه منجّما إلى أن تتوفّاه. قال طرفة :

٥٧

أرى العمر كنزا ناقصا كلّ ليلة

وما تنقص الأيام والدهر ينفد

وقال أبو حيّة النميري :

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة

تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا

ولذلك يقولون توفي فلان بالبناء للمجهول أي توفّى عمره فجعل الله الموت هو المتقاضي لأعمار الناس على استعمالهم في التعبير ، وإن كان الموت هو أثر آخر أنفاس المرء ، فالتوفي في هذه الآية وارد على أصل معناه الحقيقي في اللغة.

ومعنى (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي حكما آخر. فالسبيل مستعار للأمر البيّن بمعنى العقاب المناسب تشبيها له بالطريق الجادّة. وفي هذا إشارة إلى أنّ إمساكهنّ في البيوت زجر موقّت سيعقبه حكم شاف لما يجده الناس في نفوسهم من السخط عليهنّ ممّا فعلن.

ويشمل قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) جميع النساء اللائي يأتين الفاحشة من محصنات وغيرهنّ.

وأمّا قوله (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر ، وقد قوبل به اسم موصول النساء الذي في قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) ولا شكّ أنّ المراد ب (الَّذانِ) صنفان من الرجال : وهما صنف المحصنين ، وصنف غير المحصنين منهم ، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد ، وهو الوجه في تفسير الآية ، وبه يتقوّم معنى بيّن غير متداخل ولا مكرّر. ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين. ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله ، وهو تفسير السدّي وقتادة ، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت ، وللرجال عقوبة على الزنى ، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين ، وهم الأعزبون. وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين : عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس ، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى ، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى. وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين ، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان ، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة (نِسائِكُمْ).

٥٨

وضمير النصب في قوله : (يَأْتِيانِها) عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا. ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك. والإيذاء : الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح ، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ ، فهو أعمّ من الجلد ، والآية أجملته ، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم.

وقد اختلف أئمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية : فقال ابن عباس ، ومجاهد : اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكرا كانت أم ثيّبا ، وقوله : (وَالَّذانِ) تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر ، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم ، فاستفيد التعميم في الحالتين إلّا أن استفادته في الأولى من صيغة العموم ، وفي الثانية من انحصار النوعين ، وقد كان يغني أن يقال : واللاتي يأتين ، والذين يأتون ، إلّا أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين.

وجعل لفظ (اللاتي) للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط.

وجعل لفظ و (الَّذانِ) للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع ، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكّر مثل الشخص ، ونحو ذلك ، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز ، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه.

والأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد ، لأنّه لم يشرع بعد ، فقيل : هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير. وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال ، بناء على تأويله أنّ الآية شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد. واتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور ، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغاية قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهّم ابن العربي ، لأنّ الغاية جعلت مبهمة ، فالمسلمون يترقّبون ورود حكم آخر ، بعد هذا ، لا غنى لهم عن إعلامهم به.

واعلم أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام ، أن تنسخ بأثقل منها ، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة ، وشرع الجلد بآية سورة النور ، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى ، وقد سوّي في الجلد بين المرأة

٥٩

والرجل ، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها ، إذ كلاهما قد خرق حكما شرعيا تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره.

ثم إنّ الجلد المعيّن شرع بآية سورة النور مطلقا أو عامّا على الاختلاف في محمل التعريف في قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [النور : ٢] ؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني : محصنين أو أبكارا ، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم ، وهو ثابت بالعمل المتواتر ، وإن كان الجلد لم يعمل به إلّا في البكرين فقد قيّد أو خصّص بغير المحصنين ، إذ جعل حكمهما الرجم. والعلماء متّفقون على أنّ حكم المحصنين من الرجال والنساء الرجم. والمحصن هو من تزوّج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحا. وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج ، فقد أخرج مالك ، في «الموطأ» ، ورجال الصحيح كلّهم ، حديث عبد الله بن عمر : أنّ اليهود جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا له أنّ رجلا وامرأة زنيا ، فقال رسول الله «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» فقالوا «نفضحهم ويجلدون» فقال عبد الله بن سلام «كذبتم إنّ فيها الرجم» فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام «ارفع يدك» فرفع يده فإذا فيها آية الرجم. فقالوا : «صدق يا محمد فيها آية الرجم» فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجما وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية (٢٢) فقال «إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان ، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوجدا ، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلّقها كلّ ايّامه».

وقد ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خذوا عني خذوا عني. قد جعل الله لهنّ سبيلا ، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم». ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد ، ولا أحسبه إلّا توهّما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه ، وأحسب أنّه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم. ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد. وهو خلاف المعروف من مذهبه. وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم. ولم يصحّ. ثم ثبت من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث : أوّلها قضيّة ماعز بن مالك الأسلمي ، أنّه جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرّات ثم بعث

٦٠