تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم ، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة.

وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالة على جراءتهم ، وإظهار أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء ، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء ، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامّة والخاصّة ، وهذا ممّا يحطّ من مقدار الرسالة.

وفي إنجيل متّى : أنّ قوما قالوا للمسيح : نريد أن نرى منك آية فقال : «جيل شرّير يطلب آية ولا تعطى له آية». وتكرّر ذلك في واقعة أخرى. وقد يقبل ذلك من المؤمنين ، كما حكى الله عن عيسى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) ـ إلى قوله ـ (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٢ ، ١١٥] ، وقال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩].

وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله ، ولا التنعّم بالمشاهدة ، ولكنّهم أرادوا عجبا ينظرونه ، فلذلك قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، ولم يقولوا : ليتنا نرى ربّنا. و (جَهْرَةً) ضدّ خفية ، أي علنا ، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من (أرنا) ، ويجوز أن يكون حالا من المرفوع في (أرنا) : أي حال كونك مجاهرا لنا في رؤيته غير مخف رؤيته.

واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) ، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة [٥٥] بقوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). وكان ذلك إرهابا لهم وزجرا ، ولذلك قال : (بِظُلْمِهِمْ).

والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة ، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية ؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى : حكاه الله عنه بقوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) الآية

٣٠١

في سورة الأعراف [١٤٣]. وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتّخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف (ثمّ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى. فإنّ اتّخاذهم العجل إلها أعظم جرما ممّا حكي قبله ، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطانا مبينا ، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم ، فصار يزجرهم ويؤنّبهم. ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلها.

ثم ذكر آيات أخرى أظهرها الله لهم وهي : رفع الطور ، والأمر بقتال أهل أريحا ، ودخولهم بابها سجّدا. والباب يحتمل أنّه باب مدينة أريحا ، ويحتمل أنّه باب الممرّ بين الجبال ونحوها ، كما سيأتي عند قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) ـ إلى قوله ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) في سورة العقود [٢٣] ؛ وتحريم صيد البحر عليهم في السبت. وقد مضى الكلام عليها جميعا في سورة البقرة.

وأخذ الميثاق عليهم : المراد به العهد ، ووصفه بالغليظ. أي القويّ ، والغلظ من صفات الأجسام ، فاستعير لقوّة المعنى وكنّى به عن توثّق العهد لأنّ الغلظ يستلزم القوّة ، والمراد جنس الميثاق الصادق بالعهود الكثيرة التي أخذت عليهم ، وقد ذكر أكثرها في آي سورة البقرة ، والمقصود من هذا إظهار تأصّلهم في اللجاج والعناد ، من عهد أنبيائهم ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لقي منهم ، وتمهيدا لقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥].

وقوله : (لا تَعْدُوا) قرأه نافع في أصحّ الروايات ، وهي لورش عنه ولقالون في إحدى روايتيه عنه ـ بفتح العين وتشديد الدال المضمومة ـ أصله : لا تعتدوا ، والاعتداء افتعال من العدو ، يقال : اعتدى على فلان ، أي تجاوز حدّ الحقّ معه ، فلمّا كانت التاء قريبة من مخرج الدال ووقعت متحرّكة وقبلها ساكن ، تهيّأ إدغامها ، فنقلت حركتها إلى العين الساكنة قبلها ، وأدغمت في الدال إدغاما لقصد التخفيف ، ولذلك جاز في كلام العرب إظهارها ؛ فقالوا : تعتدوا وتعدّوا ، لأنّها وقعت قبل الدال ، فكانت غير مجذوبة إلى مخرجه ، ولو وقعت بعد الدال لوجب إدغامها في نحو أدّان. وقرأ الجمهور ، وقالون في إحدى روايتين عنه : «لا تعدوا» ـ بسكون العين وتخفيف الدال ـ مضارع مجزوم من العدو ، وهو العدوان ، كقوله : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) في سورة الأعراف [١٦٣] ؛ وفي إحدى روايتين عن قالون : ـ باختلاس الفتحة ـ ، وقرأه أبو جعفر : ـ بسكون العين وتشديد الدال ـ ، وهي رواية عن نافع أيضا ، رواها ابن مجاهد. قال أبو علي ، في «الحجّة» : وكثير من

٣٠٢

النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذ كان الثاني منهما مدغما ولم يكن الأول منهما حرف لين ، نحو دابّة ، يقولون : المدّ يصير عوضا عن الحركة ، قال : وإذا جاز نحو دويبّة مع نقصان المدّ الذي فيه لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو : تعدوا. لأنّ ما بين حرف اللين وغيره يسير ، أي مع عدم تعذّر النطق به.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥))

التفريع على قوله : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء : ١٥٤] والباء للسببية جارّة ل (نَقْضِهِمْ) ، و (وما) مزيدة بعد الباء لتوكيد التسبّب. وحرف (ما) المزيد بعد الباء لا يكفّ الباء عن عمل الجرّ وكذلك إذا زيد (ما) بعد (من) وبعد (عن). وأمّا إذا زيد بعد كاف الجرّ وبعد ربّ فإنّه يكفّ الحرف عن عمل الجرّ.

ومتعلّق قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) : يجوز أن يكون محذوفا ، لتذهب نفس السامع في مذاهب الهول ، وتقديره : فعلنا بهم ما فعلنا. ويجوز أن يتعلّق ب (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] ، وما بينهما مستطردات ، ويكون قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) [النساء : ١٦٠] كالفذلكة الجامعة لجرائمهم المعدودة من قبل. ولا يصلح تعليق المجرور ب (طَبَعَ) لأنّه وقع ردّا على قولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وهو من جملة المعطوفات الطالبة للتعلّق ، لكن يجوز أن يكون «طبع» دليلا على الجواب المحذوف.

وتقدّم تفسير هذه الأحداث المذكورة هنا في مواضعها. وتقدّم المتعلّق لإفادة الحصر : وهو أن ليس التحريم إلّا لأجل ما صنعوه ، فالمعنى : ما حرمنا عليهم طيّبات إلّا بسبب نقضهم ، وأكّد معنى الحصر والسّبب بما الزائدة ، فأفادت الجملة حصرا وتأكيدا.

وقوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) اعتراض بين المعاطيف. والطبع : إحكام الغلق بجعل طين ونحوه على سدّ المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرج ما فيه إلّا بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به ، وقد يسمون على ذلك الغلق بسمة تترك رسما في ذلك المجعول ، وتسمى الآلة الواسمة طابعا ـ بفتح الباء ـ فهو يرادف الختم. ومعنى (بِكُفْرِهِمْ) بسببه ، فالكفر المتزايد يزيد تعاصي القلوب عن تلقّي الإرشاد ، وأريد بقوله : (بِكُفْرِهِمْ) كفرهم المذكور في قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ).

والاستثناء في قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) من عموم المفعول المطلق : أي لا يؤمنون إيمانا

٣٠٣

إلّا إيمانا قليلا ، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه إذ الإيمان لا يقبل القلّة والكثرة ، فالقليل من الإيمان عدم ، فهو كفر. وتقدّم في قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)[البقرة : ٨٨]. ويجوز أن يكون قلّة الإيمان كناية عن قلّة أصحابه مثل عبد الله بن سلام.

[١٥٦ ـ ١٥٨] (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨))

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ).

عطف (وَبِكُفْرِهِمْ) مرّة ثانية على قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ولم يستغن عنه بقوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) [النساء : ١٥٥] وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرف العطف قصدا للتأكيد ، واعتبر العطف لأجل بعد ما بيّن اللفظين ، ولأنّه في مقام التهويل لأمر الكفر ، فالمتكلّم يذكره ويعيده : يتثبّت ويرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به ، ونظير هذا التكرير قول لبيد :

فتنازعا سبطا يطير ظلاله

كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مشمولة غلثت بنابت عرفج

كدخان نار ساطع أسنامها

فأعاد التشبيه بقوله : (كدخان نار) ليحقّق معنى التشبيه الأوّل. وفي «الكشاف» «تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد ـ صلوات الله عليهم ـ فعطف بعض كفرهم على بعض» ، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفا للذي قبله باعتبار عطف قوله : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً). ونظيره قول عويف القوافي :

اللؤم أكرم من وبر ووالده

واللؤم أكرم من وبر وما ولدا

إذ عطف قوله : (واللؤم أكرم من وبر) باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قوله : (وما ولدا).

والبهتان مصدر بهته إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا ، والذي يتعمّد

٣٠٤

ذلك بهوت ، وجمعه : بهت وبهت. وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم ـ عليها‌السلام ـ. أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ، فمحلّ المؤاخذة عليهم منه : هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين.

والمسيح كان لقبا لعيسى ـ عليه‌السلام ـ لقّبه به اليهود تهكّما عليه : لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى الملك ، كما تقدّم في قوله تعالى : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) في سورة آل عمران [٤٥] ، وهو لقب قصدوا منه التهكّم ، فصار لقبا له بينهم. وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيما له. ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسم مذمّم ، قالت امرأة أبي لهب : مذمّما عصينا ، وأمره أبينا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم ، يشتمون ويلعنون مذمّما وأنا محمد (١).

وقوله : (رَسُولَ اللهِ) إن كان من الحكاية : فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك ، فيكون نصب (رَسُولَ اللهِ) على المدح ، وإن كان من المحكي : فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم ، كقول المشركين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وقول أهل مدين لشعيب (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] فيكون نصب «رسول الله» على النعت للمسيح.

وقوله (وَما قَتَلُوهُ) إلخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال ، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه ، وليس خبرا عن نفي القتل لأنّه لو كان خبرا لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويّة ، ولكنّه لمّا كان حالا من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم ، على أنّه يجوز كونه خبرا معطوفا على الجمل المخبر بها عنهم ، ويكون تجريده من المؤكّدات : إمّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون ، وإمّا لاعتبار هذا الخبر غنيّا عن التأكيد ، فيكون ترك التأكيد تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر ، وإمّا لكونه لم يتلقّ إلّا من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد.

وعطف (وَما صَلَبُوهُ) لأنّ الصلب قد يكون دون القتل ، فقد كانوا ربما صلبوا

__________________

(١) عن أبي هريرة في «صحيح البخاري» في باب ما جاء في أسماء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من كتاب المناقب.

٣٠٥

الجاني تعذيبا له ثم عفوا عنه ، وقال تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ... (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) [المائدة : ٣٣]. والمشهور في الاستعمال : أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم ، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه.

وجملة (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) استدراك ، والمستدرك هو ما أفاده (وَما قَتَلُوهُ) من كون هذا القول لا شبهة فيه. وأنّه اختلاق محض ، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه ، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح ، وهي ما رأوه ظاهرا من وقوع قتل وصلب على ذات يعتقدونها ذات المسيح ، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيّة معنى الشبه.

وقوله : (شُبِّهَ لَهُمْ) يحتمل أن يكون معناه : أنّ اليهود الّذين زعموا قتلهم المسيح في زمانهم قد شبّه لهم مشبّه بالمسيح فقتلوه ، ونجّى الله المسيح من إهانة القتل ، فيكون قوله: (شُبِّهَ) فعلا مبنيّا للمجهول ، مشتقّا من الشبه ، وهو المماثلة في الصورة. وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل (شبّه) للدلالة فعل (شبّه) عليه ؛ فالتقدير : شبّه مشبّه فيكون «لهم» نائبا عن الفاعل. وضمير (لهم) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وهم يهود زمانه ، أي وقعت لهم المشابهة ، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول : حصل لي ظنّ بكذا. والاستدراك بيّن على هذا الاحتمال. ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح ، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق ، فيكون من باب قول العرب : خيّل إليك ، واختلط على فلان. وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق ، واللام على هذا لام الأجل : أي ليس الخبر كذبه بالصدق لأجلهم ، أي لتضليلهم ، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحنق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم. أو تكون اللام بمعنى ـ على ـ للاستعلاء المجازي ، كقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧]. ونكتة العدول عن حرف ـ على ـ تضمين فعل شبّه معنى صنع ، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم.

وفي الأخبار أنّ (يهوذا الاسخريوطي) أحد أصحاب المسيح ، وكان قد ضلّ ونافق ، هو الذي وشى بعيسى ـ عليه‌السلام ـ وهو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى ، وأنّه الذي صلب ، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين ، وهذا يلائم الاحتمال الأول.

٣٠٦

ويقال : إنّ (بيلاطس) ، والي فلسطين ، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وصلبه فأجاب بأنّه لا علم له بشيء من هذه القضية ، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه ، ولم يقع ، وإنّما اختلق اليهود خبره ، وهذا يلائم الاحتمال الثاني.

والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن : أنّ المسيح لم يقتل ، ولا صلب ، وأنّ الله رفعه إليه ونجّاه من طالبيه ، وأمّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل. وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) في سورة آل عمران [٥٥].

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح. والخلاف فيه موجود بين المسيحيين : فجمهورهم يقولون : قتلته اليهود ، وبعضهم يقول : لم يقتله اليهود ، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح ، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي ـ الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتابا محرّفا ـ فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه ، بل يخالج أنفسهم الشكّ ، ويتظاهرون باليقين ، وما هو باليقين ، فما لهم به من علم قاطع إلّا اتّباع الظنّ. فالمراد بالظنّ هنا : معنى الشكّ ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب ، وفي القرآن (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] ، وفي الحديث الصحيح : «إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» ؛ فالاستثناء في قوله (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) منقطع ، كقول النابغة :

حلفت يمينا غير ذي مثنوية

ولا علم إلّا حسن ظنّ بصاحب

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٥٨).

يجوز أن يكون معطوفا على قوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ويجوز أن يعطف على قوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ).

واليقين : العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ ، فهو اسم مصدر ، والمصدر اليقن بالتحريك ، يقال : يقن كفرح ييقن يقنا ، وهو مصدر قليل الاستعمال ، ويقال : أيقن يوقن إيقانا ، وهو الشائع.

وقوله (يَقِيناً) يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكّد لمضمون جملة قبله : لأنّ مضمون : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) بعد قوله : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) إلى قوله (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن ، فصحّ أن يكون يقينا مؤكّدا لهذا المضمون. ويصحّ أن يكون في موضع الحال من

٣٠٧

الواو في (قَتَلُوهُ) ، أي ما قتلوه متيقّنين قتله ، ويكون النفي منصبّا على القيد والمقيّد معا ، بقرينة قوله قبله (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ، أي : هم في زعمهم قتله ليسوا بموقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حين إمساك من أمسكوه ، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته. وضمير النصب في (قَتَلُوهُ) عائد إلى عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ.

ويجوز أن يكون القتل مستعملا مجازا في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم : قتل الخمر إذا مزجها حتّى أزال قوّتها ، وقولهم : قتل أرضا عالمها ، ومن شعر «الحماسة» في باب الهجاء :

يروعك من سعد ابن عمرو جسومها

وتزهد فيها حين تقتلها خبرا

وقول الشاعر :

كذلك تخبر عنها العالمات بها

وقد قتلت بعلمي ذلكم يقنا

وقول الآخر :

قتلتني الأيام حين قتلتها

خبرا فأبصر قاتلا مقتولا

وضمير النصب في (قَتَلُوهُ) عائد إلى العلم من قوله تعإلىما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) ، فيكون (يَقِيناً) على هذا تمييزا لنسبة (قتلوه).

ولذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي فلم يظفروا به. والرفع:إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات ، و (إلى) إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف ، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى.

وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع ، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ بقي حيّا أو أماته الله ، عند قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) في سورة آل عمران [٥٥].

والتذييل بقوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يعزّ أولياءه ، ولمّا كان حكيما فقد أتقن صنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين ، وتبصرة للمؤمنين ، وعقوبة ليهوذا الخائن.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ

٣٠٨

شَهِيداً (١٥٩))

عطف على جملة (وَما قَتَلُوهُ) [النساء : ١٥٧]. وهذا الكلام إخبار عنهم ، وليس أمرا لهم ، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية. و (إِنْ) نافية و (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) صفة لموصوف محذوف تقديره : أحد.

والضمير المجرور عائد لعيسى : أيّ ليومننّ بعيسى ، والضمير في (مَوْتِهِ) يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب ، أي قبل أن يموت الكتابيّ ، ويؤيّده قراءة أبي بن كعب (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى ؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل ، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلّا وهو يؤمن بنبوّته قبل موته ، أي ينكشف له ذلك عند الاحتضار قبل انزهاق روحه ، وهذه منّة منّ الله بها على عيسى ، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلّا وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم ، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّة تتبعه. وقيل : كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله.

وعندي أنّ ضمير (بِهِ) راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل (رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨] ، ويعمّ قوله (أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود ، والنّصارى ، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب.

والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب ، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقا لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفى الصلب عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

وقيل : الضمير في قوله (مَوْتِهِ) عائد إلى عيسى ، أي قبل موت عيسى ، ففرّع القائلون بهذا تفاريع : منها أنّ موته لا يقع إلّا آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت ، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلا وجعله قبل موته ، فلزم أن يكون موته مستقبلا ؛ ومنها ما ورد في الحديث : أنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب ، ولا يخفى أنّ عموم قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يبطل هذا التفسير : لأنّ الّذين يؤمنون به ـ على حسب هذا التأويل ـ هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم.

والشهيد : الشاهد ؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا ، وبأنّ النّصارى بدّلوا ،

٣٠٩

ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) الآيات في سورة العقود [١٠٩].

[١٦٠ ـ ١٦٢] (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

إن كان متعلّق قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] محذوفا على أحد الوجهين المتقدّمين كان قوله : (فَبِظُلْمٍ) مفرّعا على مجموع جرائمهم السالفة. فيكون المراد بظلمهم ظلما آخر غير ما عدّد من قبل ، وإن كان قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] متعلّقا بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) فقوله : (فَبِظُلْمٍ) إلخ بدل مطابق من جملة (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل. وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلّقه بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) إذ بعد ما بينه وبين متعلّقه ، وهو قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] ليقوى ارتباط الكلام. وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه : لأنّ نقض الميثاق ، والكفر ، وقتل الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وقولهم على مريم بهتانا ، وقولهم قتلنا عيسى : كلّ ذلك ظلم. فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدّم ، كأنّه قيل : فبذلك كلّه حرّمنا عليهم ، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنّه أحسن تفنّنا ، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة. وقد مرّ بيان ذلك قريبا عند قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥]. ويجوز أن يكون ظلما آخر أجمله القرآن.

وتنكير (ظلم) للتعظيم ، والعدول عن أن يقول «فبظلمهم» ، حتّى تأتي الضمائر متتابعة من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ) إلى آخره ، إلى الاسم الظاهر وهو (الَّذِينَ هادُوا) لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها : وهي (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥]. ولأنّ في الموصول وصلته ما يقتضي التنزّه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم ، فقالوا : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] ؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محلّ استغراب.

والآية اقتضت : أنّ تحريم ما حرّم عليهم إنّما كان عقابا لهم ، وأنّ تلك المحرّمات ليس فيها من المفاسد ما يقتضي تحريم تناولها ، وإلّا لحرّمت عليهم من أوّل مجيء

٣١٠

الشريعة. وقد قيل : إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) ـ إلى قوله ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) في سورة الأنعام [١٤٦] ، فهذا هو الجزاء على ظلمهم.

نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنّه قال : «نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان ، فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم. قال الفخر : والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم».

وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تخصّ بالمجرمين ثمّ تنسخ. فالذي يظهر لي في الجواب : إمّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوة صار ذلك طبعا في أمزجتهم فاقتضى أن يلطّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع ، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم ، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقابا للذين ظلموا وبغوا ثمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذكرى ويكون للأوّلين سوء ذكر من باب قوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نفس تقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها». ذلك لأنّه أوّل من سنّ القتل. وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي ، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك.

وصدّهم عن سبيل الله : إن كان مصدر صدّ القاصر الذي مضارعه يصدّ ـ بكسر الصاد ـ فالمعنى بإعراضهم عن سبيل الله ؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قياس مضارعه ـ بضمّ الصاد ـ ، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى ، ويقولون : سيغفر لنا ، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات. أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيرا ، وعاندوا الأنبياء ، وحاولوهم على كتم المواعظ ، وكذّبوا عيسى ، وعارضوا دعوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوّلوا لكثير من النّاس ، جهرا أو نفاقا ، البقاء على الجاهليّة ، كما تقدّم في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء : ٥١] الآيات. ولذلك وصف ب (كَثِيراً) حالا منه.

وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصّة ويسوغ لهم أخذه من

٣١١

غير الإسرائيليّين كما في الإصحاح ٢٣ من سفر التثنية «لا تقرض أخاك بربا ربا فضّة أو ربا طعام أو ربا شيء ما ممّا يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا». والربا محرّم عليهم بنصّ التوراة في سفر الخروج في الإصحاح ٢٢ «أن أقرضت فضّة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا» وأكلهم أموال النّاس بالباطل أعمّ من الربا فيشمل الرشوة المحرّمة عندهم ، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم ، وغير ذلك.

والاستدراك بقوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) إلخ ناشئ على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) [النساء : ١٥٣] من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح ، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهّم ، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.

والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي ، لا يتزلزل ؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) في سورة آل عمران [٧]. والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت ، فليس بينه وبين الحقّ حاجب ، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات.

وعطف (الْمُؤْمِنُونَ) على (الرَّاسِخُونَ) ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارق للعادة. فلذلك قال (يُؤْمِنُونَ) ، أي جميعهم بما أنزل إليك ، أي القرآن ، وكفاهم به آية ، وما أنزل من قبلك على الرسل ، ولا يعادون رسل الله تعصّبا وحميّة. والمراد بالمؤمنين في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب ، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم ، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به.

وعطف (الْمُقِيمِينَ) بالنصب ثبت في المصحف الإمام ، وقرأه المسلمون في الأقطار دون نكير ؛ فعلمنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامد ، على أمثالها ، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح ، والرفع على الاستئناف للاهتمام ، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة ، سواء كانت بدون عطف أم بعطف ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) ـ إلى قوله ـ (وَالصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٧٧]. قال سيبويه في «كتابه» «باب ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول ، وإن شئت قطعته فابتدأته». وذكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال : «فلو

٣١٢

كان كلّه رفعا كان جيّدا» ، ومثله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [البقرة : ١٧٧] ، ونظيره قول الخرنق :

لا يبعدن قومي الذي همو

سمّ العداة وآفة الجزر

النازلون بكلّ معترك

والطيّبين معاقد الأزر

في رواية يونس عن العرب : برفع (النازلون) ونصب (الطيّبين) ، لتكون نظير هذه الآية. والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات ، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية ، وفي قوله : و (الصَّابِئُونَ) في سورة المائدة [٦٩].

وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب (الْمُقِيمِينَ) خطأ ، من كاتب المصحف وقد عدّت من الخطأ هذه الآية. وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ـ إلى قوله ـ (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) [البقرة : ١٧٧] وقوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣]. وقوله : (الصَّابِئُونَ) في سورة المائدة [٦٩]. وقرأتها عائشة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، والحسن ، ومالك بن دينار ، والجحدري ، وسعيد بن جبير ، وعيسى بن عمر ، وعمرو بن عبيد : والمقيمون ـ بالرفع ـ. ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة.

ومن النّاس من زعم أنّ نصب (الْمُقِيمِينَ) ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم : «أحسنتم وأجملتم وأرى لحنا قليلا ستقيمه العرب بألسنتها». وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نسبت إليهم. ومن البعيد جدّا أن يخطئ كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطإ دون سابقتها أو تابعتها ، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّه. ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحا. وقد علمت وجه عربيّته في المتعاطفات ، وأمّا وجه عربية (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) فيأتي عند الكلام في سورة طه [٦٣].

والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألفات المحذوفة. قال صاحب «الكشاف» : «وهم كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم». وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) في سورة البقرة [١٧٧].

٣١٣

والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ورد في الحديث الصّحيح : أنّ لهم أجرين ، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنّهم سبقوا غيرهم بالإيمان.

وقرأ الجمهور : (سَنُؤْتِيهِمْ) ـ بنون العظمة ـ وقرأه حمزة وخلف ـ بياء الغيبة ـ والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

[١٦٣ ـ ١٦٥] (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥))

استأنفت هذه الآيات الردّ على سؤال اليهود أن ينزّل عليهم كتابا من السماء ، بعد أن حمقوا في ذلك بتحميق أسلافهم : بقوله : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) [النساء : ١٥٣] ، واستطردت بينهما جمل من مخالفة أسلافهم ، وما نالهم من جرّاء ذلك ، فأقبل الآن على بيان أنّ إنزال القرآن على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن بدعا ، فإنّه شأن الوحي للرسل ، فلم يقدح في رسالتهم أنّهم لم ينزّل عليهم كتاب من السماء.

والتأكيد (بإنّ) للاهتمام بهذا الخبر أو لتنزيل المردود عليهم منزلة من ينكر كيفيّة الوحي للرسل غير موسى ، إذ لم يجروا على موجب علمهم حتّى أنكروا رسالة رسول لم ينزل إليه كتاب من السماء.

والوحي إفادة المقصود بطريق غير الكلام ، مثل الإشارة قال تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ١١]. وقال داود بن جرير :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحي اللواحظ خيفة الرقباء

والتشبيه في قوله : (كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) تشبيه بجنس الوحي وإن اختلفت أنواعه ، فإنّ الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بأنواع من الوحي ورد بيانها في حديث عائشة في الصحيح عن سؤال الحارث بن هشام النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يأتيك الوحي ـ بخلاف الوحي إلى غيره ممّن

٣١٤

سمّاهم الله تعالى فإنّه يحتمل بعض من الأنواع ، على أنّ الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان منه الكتاب القرآن ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب. وعدّ الله هنا جمعا من النبيئين والمرسلين وذكر أنّه أوحي إليهم ولم يختلف العلماء في أنّ الرسل والأنبياء يوحى إليهم.

وإنّما اختلفت عباراتهم في معنى الرسول والنبي. ففي كلام جماعة من علمائنا لا نجد تفرقة ، وأنّ كلّ نبيء فهو رسول لأنّه يوحى إليه بما لا يخلو من تبليغه ولو إلى أهل بيته. وقد يكون حال الرسول مبتدأ بنبوة ثمّ يعقبها إرساله ، فتلك النبوة تمهيد الرسالة كما كان أمر مبدإ الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّه أخبر خديجة ، ونزل عليه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤]. والقول الصحيح أنّ الرسول أخصّ ، وهو من أوحي إليه مع الأمر بالتبليغ ، والنبي لا يؤمر بالتبليغ وإن كان قد يبلّغ على وجه الأمر بالمعروف والدعاء للخير ، يعني بدون إنذار وتبشير. وورد في بعض الأحاديث : الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وعدّ الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا. وقد ورد في حديث الشفاعة ، في الصحيح : أنّ نوحا ـ عليه‌السلام ـ أوّل الرسل. وقد دلّت آيات القرآن على أنّ الدّين كان معروفا في زمن آدم وأنّ الجزاء كان معلوما لهم ، فقد قرّب ابنا آدم قربانا ، وقال أحدهما للآخر (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ، وقال له : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٢٨ ، ٢٩]. ودلّ على أنّه لم يكن يومئذ بينهم من يأخذ على يد المعتدي وينتصف للضعيف من القويّ ، فإنّما كان ما تعلّموه من طريقة الوعظ والتعليم وكانت رسالة عائلية.

ونوح هو أوّل الرسل ، وهو نوح بن لامك ، والعرب تقول : لمك بن متوشالح بن أخنوخ. ويسمّيه المصريون هرمس ، ويسمّيه العرب إدريس بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ، حسب ـ قول التّوراة ـ. وفي زمنه وقع الطّوفان العظيم. وعاش تسعمائة وخمسين سنة ، وقيل تسعمائة وتسعين سنة ، والقرآن أثبت ذلك. وقد مات نوح قبل الهجرة بثلاثة آلاف سنة وتسعمائة سنة وأربع وسبعين سنة على حسب حساب اليهود المستمدّ من كتابهم.

وإبراهيم هو الخليل ، إبراهيم بن تارح ـ والعرب تسمّيه آزر ـ بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح. ولد سنة ٢٨٩٣ قبل الهجرة ، في بلد أور الكلدانيين ، ومات في بلاد الكنعانيين ، وهي سوريا ، في حبرون حيث مدفنه الآن المعروف ببلد الخليل سنة ٢٧١٨ قبل الهجرة.

٣١٥

وإسماعيل هو ابن إبراهيم من الجارية المصرية هاجر. توفّي بمكة سنة ٢٦٨٦ قبل الهجرة تقريبا. وكان إسماعيل رسولا إلى قومه الذين حلّ بينهم من جرهم وغيرهم ، وإلى أبنائه وأهله ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) [مريم : ٥٤].

وإسحاق هو ابن إبراهيم من سارة ابنة عمّه ، توفّي قبل الهجرة سنة ٢٦١٣ ، وكان إسحاق نبيّا مؤيّدا لشرع أبيه إبراهيم ولم يجىء بشرع.

ويعقوب هو ابن إسحاق ، الملقّب بإسرائيل. توفّي سنة ٢٥٨٦ قبل الهجرة. وكان يعقوب نبيّا مؤيّدا لشرع إبراهيم ، قال تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة:١٣٢] ولم يجىء بشرع جديد.

والأسباط هم أسباط إسحاق ، أي أحفاده ، وهم أبناء يعقوب اثنا عشر ابنا : روبين ، وشمعون ، وجاد ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ويوسف ، وبنيامين ، ومنسّى ، ودان ، وأشير ، وثفتالي. فأمّا يوسف فكان رسولا لقومه بمصر. قال تعالى خطابا لبني إسرائيل على لسان مؤمن بني إسرائيل ، أو خطابا من الله (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً)[غافر : ٣٤]. وأمّا بقية الأسباط فكان كلّ منهم قائما بدعوة شريعة إبراهيم في بنيه وقومه. والوحي إلى هؤلاء متفاوت.

وعيسى هو عيسى ابن مريم ، ولد من غير أب قبل الهجرة سنة ٦٢٢. ورفع إلى السماء قبلها سنة ٥٨٩. وهو رسول بشرع ناسخ لبعض أحكام التّوراة. ودامت دعوته إلى الله ثلاث سنين.

وأيوب هو نبيء. قيل : إنّه عربي الأصل من أرض عوص ، في بلاد أدوم ، وهي من بلاد حوران ، وقيل : هو أيوب بن ناحور أخي إبراهيم ، وقيل : اسمه عوض ، وقيل : هو يوباب ابن حفيد عيسو. وقيل : كان قبل إبراهيم بمائة سنة. والصحيح أنّه كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح ، أي في القرن الحادي والعشرين قبل الهجرة. ويقال : إنّ الكتاب المنسوب إليه في كتب اليهود أصله مؤلف باللغة العربيّة وأنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ نقله إلى العبرانيّة على سبيل الموعظة ، فظنّ كثير من الباحثين في التّاريخ أنّ أيوب من قبيلة عربيّة. وليس ذلك ببعيد. وكان أيوب رسولا نبيّا. وكان له صاحب اسمه اليفاز اليماني هو الّذي شدّ أزره في الصبر ، كما سنذكره في موضعه. وإنّما

٣١٦

منع اسمه من الصرف إذ لم يكن من عرب الحجاز ونجد ؛ لأنّ العرب اعتبرت القبائل البعيدة عنها عجما ، وإن كان أصلهم عربيا ، ولذلك منعوا ثمود من الصرف إذ سكنوا الحجر.

ويونس هو ابن متّى من سبط زبولون من بني إسرائيل ، بعثه الله إلى أهل نينوى عاصمة الأشوريين ، بعد خراب بيت المقدس ، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة.

وهارون أخو موسى بن عمران توفّي سنة ١٩٧٢ قبل الهجرة وهو رسول مع موسى إلى بني إسرائيل.

وسليمان هو ابن داود. كان نبيّا حاكما بالتّوراة وملكا عظيما. توفّي سنة ١٥٩٧ قبل الهجرة. وممّا أوحى الله به إليه ما تضمّنه كتاب «الجامعة» وكتاب «الأمثال من الحكمة والمواعظ» ، وهي منسوبة إلى سليمان ولم يقل فيها إنّ الله أوحاها إليه ؛ فعلمنا أنّها كانت موحى بمعانيها دون لفظها.

وداود أبو سليمان هو داود بن يسي ، توفّي سنة ١٦٢٦ قبل الهجرة ، بعثه الله لنصر بني إسرائيل. وأنزل عليه كتابا فيه مواعظ وأمثال ، كان بنو إسرائيل يترنّمون بفصوله ، وهو المسمّى بالزبور. وهو مصدر على وزن فعول مثل قبول. ويقال فيه : زبور ـ بضم الزاي ـ أي مصدرا مثل الشّكور ، ومعناه الكتابة ويسمّى المكتوب زبورا فيجمع على الزّبر ، قال تعالى : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) [آل عمران : ١٨٤]. وقد صار علما بالغلبة في لغة العرب على كتاب داود النبي ، وهو أحد أسفار الكتاب المقدّس عند اليهود.

وعطفت جملة (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) على (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). ولم يعطف اسم داود على بقيّة الأسماء المذكورة قبله للإيماء إلى أنّ الزبور موحى بأن يكون كتابا.

وقرأ الجمهور (زَبُوراً) ـ بفتح الزاي ـ ، وقرأه حمزة وخلف ـ بضمّ الزاي ـ.

وقوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني في آي القرآن مثل : هود ، وصالح ، وشعيب ، وزكرياء ، ويحيى ، وإلياس ، واليسع ، ولوط ، وتبّع. ومعنى قوله : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) لم يذكرهم الله تعالى في القرآن ، فمنهم من لم يرد ذكره في السنّة : مثل حنظلة بن صفوان نبيء أصحاب الرسّ ، ومثل بعض حكماء اليونان عند بعض علماء الحكمة. قال السهروردي في «حكمة الإشراق» : «منهم أهل السفارة». ومنهم من

٣١٧

ذكرته السنّة : مثل خالد بن سنان العبسي.

وإنّما ذكر الله تعالى هنا الأنبياء الذين اشتهروا عند بني إسرائيل لأنّ المقصود محاجّتهم. وإنّما ترك الله أن يقصّ على النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصّهم عليه ، لأنّ المذكورين هم أعظم الرسل والأنبياء قصصا ذات عبر.

وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) غيّر الأسلوب فعدل عن العطف إلى ذكر فعل آخر ، لأنّ لهذا النّوع من الوحي مزيد أهمّيّة ، وهو مع تلك المزيّة ليس إنزال كتاب من السماء ، فإذا لم تكن عبرة إلّا بإنزال كتاب من السماء حسب اقتراحهم ، فقد بطل أيضا ما عدا الكلمات العشر المنزّلة في الألواح على موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وكلام الله تعالى صفة مستقلّة عندنا ، وهي المتعلّقة بإبلاغ مراد الله إلى الملائكة والرسل ، وقد تواتر ذلك في كلام الأنبياء والرسل تواترا ثبت عند جميع الملّيّين ، فكلام الله صفة له ثبتت بالشرع لا يدلّ عليها الدليل العقليّ على التحقيق إذ لا تدلّ الأدلّة العقلية على أنّ الله يجب له إبلاغ مراده الناس بل يجوز أن يوجد الموجودات ثم يتركها وشأنها ، فلا يتعلّق علمه بحملها على ارتكاب حسن الأفعال وتجنّب قبائحها. ألا ترى أنّه خلق العجماوات فما أمرها ولا نهى ، فلو ترك النّاس فوضى كالحيوان لما استحال ذلك. وأنّه إذا أراد حمل المخلوقات على شيء يريده فطرها على ذلك فانساقت إليه بجبلّاتها ، كما فطر النحل على إنتاج العسل ، والشجر على الإثمار. ولو شاء لحمل النّاس أيضا على جبلّة لا يعدونها ، غير أنّنا إذ قد علمنا أنّه عالم ، وأنّه حكيم ، والعلم يقتضي انكشاف حقائق الأشياء على ما هي عليه عنده ، فهو إذ يعلم حسن الأفعال وقبحها ، يريد حصول المنافع وانتفاء المضارّ ، ويرضى بالأولى ، ويكره الثّانية ، وإذ اقتضت حكمته وإرادته أن جعل البشر قابلا للتعلّم والصلاح ، وجعل عقول البشر صالحة لبلوغ غايات الخير ، وغايات الشرّ ، والتفنّن فيهما ، بخلاف الحيوان الذي يبلغ فيما جبل عليه من خير أو شرّ إلى غاية فطر عليها لا يعدوها ، فكان من المتوقّع طغيان الشرّ على الخير بعمل فريق الأشرار من البشر كان من مقتضى الحكمة أن يحمل النّاس على فعل الخير الذي يرضاه ، وترك الشرّ الذي يكرهه ، وحملهم على هذا قد يحصل بخلق أفاضل النّاس وجبلهم على الصلاح والخير ، فيكونون دعاة للبشر ، لكنّ حكمة الله وفضله اقتضى أن يخلق الصالحين القابلين للخير ، وأن يعينهم على بلوغ ما جبلوا عليه بإرشاده وهديه ، فخلق النّفوس القابلة للنبوّة والرسالة وأمدّها بالإرشاد الدالّ على مراده المعبّر عنه بالوحي ، كما اقتضاه قوله

٣١٨

تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] فأثبت رسالة وتهيئة المرسل لقبولها ومن هنا ثبتت صفة الكلام. فعلمنا بأخبار الشريعة المتواترة أنّ الله أراد من البشر الصلاح وأمرهم به ، وأن أمره بذلك بلغ إلى البشر في عصور ، كثيرة وذلك يدلّ على أنّ الله يرضى بعض أعمال البشر ولا يرضى بعضها وأنّ ذلك يسمّى كلاما نفسيا ، وهو أزلي.

ثمّ إنّ حقيقة صفة الكلام يحتمل أن تكون من متعلّقات صفة العلم ، أو من متعلّقات صفة الإرادة ، أو صفة مستقلّة متميّزة عن الصفتين الأخريين ؛ فمنهم من يقول : علم حاجة النّاس إلى الإرشاد فأرشدهم ، أو أراد هدي الناس فأرشدهم. ونحن نقول : إنّ الإلهية تقتضي ثبوت صفات الكمال الّتي منها الرضا والكراهيّة والأمر والنهي للبشر أو الملائكة ، فثبتت صفة مستقلّة هي صفة الكلام النفسي ؛ وكلّ ذلك متقارب ، وتفصيله في علم الكلام.

أمّا تكليم الله تعالى بعض عباده من الملائكة أو البشر فهو إيجاد ما يعرف منه الملك أو الرسول أنّ الله يأمر أو ينهى أو يخبر. فالتكليم تعلّق لصفة الكلام بالمخاطب على جعل الكلام صفة مستقلّة ، أو تعلّق العلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب ، أو تعلّق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب. فالأشاعرة قالوا : تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكا من جهة السمع يتحصّل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات. وقد ورد تمثيله بأنّ موسى سمع مثل الرعد علم منه مدلول الكلام النفسي. قلت : وقد مثّله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة «أنّ الله تعالى إذا قضى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ما ذا قال ربّكم ، قالوا للّذي قال «الحقّ وهو العليّ الكبير» ، فعلى هذا القول لا يلزم أن يكون المسموع للرسول أو الملك حروفا وأصواتا بل هو علم يحصل له من جهة سمعه يتّصل بكلام الله ، وهو تعلّق من تعلّقات صفة الكلام النفسي بالمكلّم فيما لا يزال ، فذلك التعلّق حادث لا محالة كتعلّق الإرادة. وقالت المعتزلة : يخلق الله حروفا وأصواتا بلغة الرسول فيسمعها الرسول ، فيعلم أنّ ذلك من عند الله ، بعلم يجده في نفسه ، يعلم به أنّ ذلك ورد إليه من قبل الله ، إلّا أنّه ليس بواسطة الملك ، فهم يفسّرونه بمثل ما نفسّر به نحن نزول القرآن ؛ فإسناد الكلام إلى الله مجاز في الإسناد ، على قولهم ، لأنّ الله منزّه عن الحروف والأصوات. والكلام حقيقة حروف وأصوات ، وهذه سفسطة في الدليل لأنّه لا يقول أحد بأنّ الحروف والأصوات تتّصف بها الذات العليّة. وهو عندنا وعندهم غير الوحي الذي يقع في قلب الرسول ، وغير التبليغ الذي يكون بواسطة جبريل ، وهو المشار إليه بقوله

٣١٩

تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١].

أمّا كلام الله الوارد للرسول بواسطة الملك وهو المعبّر عنه بالقرآن وبالتّوراة والإنجيل وبالزّبور : فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلّمها الله للملك بكيفية لا نعلمها ، يعلم بها الملك أنّ الله يدلّ ، بالألفاظ المخصوصة الملقاة للملك ، على مدلولات تلك الألفاظ فيلقيها الملك على الرسول كما هي قال تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١] وقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥]. وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدّين. ولكن أمسك بعض أئمّة الإسلام عن التصريح بحدوثه ، أو بكونه مخلوقا ، في مجالس المناظرة التي غشيتها العامّة ، أو ظلمة المكابرة ، والتحفّز إلى النبز والأذى : دفعا للإيهام ، وإبقاء على النسبة إلى الإسلام ، وتنصّلا من غوغاء الطعام ، فرحم الله نفوسا فتنت ، وأجسادا أوجعت ، وأفواها سكتت ، والخير أرادوا ، سواء اقتصدوا أم زادوا. والله حسيب الذين ألّبوا عليهم وجمعوا ، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا.

وقوله (تَكْلِيماً) مصدر للتوكيد. والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسبة وتحقيقها مثل (قد) و (إنّ) ، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز ، ولذلك أكّدت العرب بالمصدر أفعالا لم تستعمل إلّا مجازا كقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فإنّه أراد أنّه يطهّرهم الطهارة المعنوية ، أي الكمال النفسي ، فلم يفد التأكيد رفع المجاز. وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذمّ زوجها روح بن زنباع :

بكى الخزّ من روح وأنكر جلده

وعجّت عجيجا من جذام المطارف

وليس العجيج إلّا مجازا ، فالمصدر يؤكّد ، أي يحقّق حصول الفعل الموكّد على ما هو عليه من المعنى قبل التّأكيد.

فمعنى قوله : (تَكْلِيماً) هنا : أنّ موسى سمع كلاما من عند الله ، بحيث لا يحتمل أنّ الله أرسل إليه جبريل بكلام ، أو أوحى إليه في نفسه. وأمّا كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفرق ، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الّذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف. وقد حكى ابن عرفة أنّ المازري قال في «شرح التلقين» : إنّ هذه الآية حجّة على المعتزلة في قولهم : إنّ الله لم يكلّم موسى مباشرة بل بواسطة خلق الكلام لأنّه أكّده بالمصدر ، وأنّ ابن عبد السلام التّونسي ، شيخ ابن عرفة ، ردّه بأنّ التأكيد بالمصدر لإزالة

٣٢٠