تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧))

استئناف عن قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] الآية ، لأنّه إذا كان الكفر كما علمت ، فما ظنّك بكفر مضاعف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان ، وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق ، فكفره بئس الكفر. وقد قيل : إنّ الآية أشارت إلى اليهود لأنّهم آمنوا بموسى ثم كفروا به إذ عبدوا العجل ، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد ، وعليه فالآية تكون من الذمّ المتوجّه إلى الأمّة باعتبار فعل سلفها ، وهو بعيد ، لأنّ الآية حكم لا ذمّ ، لقوله (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) فإنّ الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل ، ولكنّهم تابوا فما استحقّوا عدم المغفرة وعدم الهداية ، كيف وقد قيل لهم (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) إلى قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، ولأنّ المتأخّرين منهم ما عبدوا العجل حتّى يعدّ عليهم الكفر الأول ، على أنّ اليهود كفروا غير مرّة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان ، وكفروا في زمن بختنصر. والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أنّهم كفروا كفرة أخرى ، بل المراد الإجمال ، أي ثم كفروا بعد ذلك ، كما يقول الواقف : وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث ، ويكون المراد من الآية أنّ الذين عرف من دأبهم الخفّة إلى تكذيب الرسل ، وإلى خلع ربقة الديانة ، هم قوم لا يغفر لهم صنعهم ؛ إذ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله.

وقيل : نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ، ولا قصد حينئذ إلى عدد الإيمانات والكفرات. وعندي : أنّه يعني أقواما من العرب من أهل مكة كانوا يتّجرون إلى المدينة فيؤمنون ، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرّر منهم ذلك ، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨].

وعلى الوجوه كلّها فاسم الموصول من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ) ... (كَفَرُوا) مراد منه فريق معهود ، فالآية وعيد لهم ونذارة بأنّ الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم ، لأنّه حرمهم سبب المغفرة ، ولذلك لم تكن الآية دالّة على أنّ من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده. فقد أجمع المسلمون على أنّ الإيمان يجبّ ما قبله ، ولو كفر المرء مائة مرة ، وأنّ التوبة من الذنوب كذلك ، وقد تقدّم شبه هذه الآية في آل عمران [١٩٠] وهو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

٢٨١

فإن قلت : إذا كان كذلك فهؤلاء القوم قد علم الله أنّهم لا يؤمنون وأخبر بنفي أن يهديهم وأن يغفر لهم ، فإذن لا فائدة في الطلب منهم أن يؤمنوا بعد هذا الكلام ، فهل هم مخصوصون من آيات عموم الدعوة.

قلت : الأشخاص الذين علم الله أنّهم لا يؤمنون ، كأبي جهل ، ولم يخبر نبيئه بأنّهم لا يؤمنون فهم مخاطبون بالإيمان مع عموم الأمّة ، لأنّ علم الله تعالى بعدم إيمانهم لم ينصب عليه أمارة ، كما علم من مسألة (التكليف بالمحال العارض) في أصول الفقه ، وأمّا هؤلاء فلو كانوا معروفين بأعيانهم لكانت هذه الآية صارفة عن دعوتهم إلى الإيمان بعد ، وإن لم يكونوا معروفين بأعيانهم فالقول فيهم كالقول فيمن علم الله عدم إيمانه ولم يخبر به ، وليس ثمة ضابط يتحقّق به أنّهم دعوا بأعيانهم إلى الإيمان بعد هذه الآية ونحوها.

والنفي في قوله : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أبلغ من : لا يغفر الله لهم ، لأنّ أصل وضع هذه الصيغة للدلالة على أنّ اسم كان لم يجعل ليصدر منه خبرها ، ولا شكّ أنّ الشيء الذي لم يجعل لشيء يكون نابيا عنه ، لأنّه ضدّ طبعه ، ولقد أبدع النحاة في تسمية اللام التي بعد كان المنفية (لام الجحود).

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

استئناف ابتدائي ناشئ عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ، فإنّ أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وكان ثمّة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق ، ولمّا كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضربا من التهكّم بالإسلام وأهله ، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكّمهم بالمسلمين ، فجاء به على طريقة التهكّم إذ قال : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) ، فإنّ البشارة هي الخبر بما يفرح المخبر به ، وليس العذاب كذلك ، وللعرب في التهكّم أساليب كقول شقيق ابن سليك الأسدي :

٢٨٢

أتاني من أبي أنس وعيد

فسلى لغيظة الضّحّاك جسمي

وقول النابغة :

فإنّك سوف تحلم أو تناهى

إذا ما شبت أو شاب الغراب

وقول ابن زيّابة :

نبّئت عمرا غارزا رأسه

في سنة يوعد أخواله

وتلك منه غير مأمونة

أن يفعل الشيء إذا قاله

ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم ، أي لأنّهم اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، أي اتّخذوهم أولياء لأجل مضادّة المؤمنين. والمراد بالكافرين مشركو مكة ، أو أحبار اليهود ، لأنّه لم يبق بالمدينة مشركون صرحاء في وقت نزول هذه السورة ، فليس إلّا منافقون ويهود. وجملة (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) استئناف بياني باعتبار المعطوف وهو (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) وقوله : (أَيَبْتَغُونَ) هو منشأ الاستئناف ، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة ، لأنّ معظم المنافقين من اليهود ، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين ، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز ، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ. والاستفهام إنكار وتوبيخ ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي لا عزّة إلّا به ، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل. كما قيل : من اعتزّ بغير الله هان. وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل : كالمستغيث من الرمضاء بالنار. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية.

وجملة (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) إلخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) تذكيرا للمسلمين بما كانوا أعلموا به ممّا يؤكّد التحذير من مخالطتهم ، فضمير الخطاب موجّه إلى المؤمنين ، وضمائر الغيبة إلى المنافقين ، ويجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير (يتّخذون) ، فيكون ضمير الخطاب في قوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) خطابا لأصحاب الصلة من قوله : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [النساء : ١٣٩] على طريقة الالتفات ، كأنّهم بعد أن أجريت عليهم الصلة صاروا معيّنين معروفين ، فالتفت إليهم بالخطاب ، لأنّهم يعرفون أنّهم أصحاب تلك الصلة ، فلعلّهم أن يقلعوا عن موالاة الكافرين. وعليه فضمير الخطاب للمنافقين ، وضمائر الغيبة للكافرين ، والذي نزّل في الكتاب هو آيات نزلت قبل نزول هذه السورة في القرآن : في شأن كفر الكافرين والمنافقين

٢٨٣

واستهزائهم.

قال المفسّرون : إنّ الذي أحيل عليه هنا هو قوله تعالى في سورة [٦٨] الأنعام : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) لأنّ شأن الكافرين يسري إلى الذين يتخذونهم أولياء ، والظاهر أنّ الذي أحال الله عليه هو ما تكرّر في القرآن من قبل نزول هذه السورة نحو قوله في البقرة : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ممّا حصل من مجموعه تقرر هذا المعنى.

و (أن) في قوله : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) تفسيرية ، لأنّ (نزّل) تضمّن معنى الكلام دون حروف القول ، إذ لم يقصد حكاية لفظ (ما نزّل) بل حاصل معناه. وجعلها بعضهم مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوفا ، وهو بعيد.

وإسناد الفعلين : (يُكْفَرُ) و (يُسْتَهْزَأُ) إلى المجهول لتتأتّى ، بحذف الفاعل ، صلاحية إسناد الفعلين إلى الكافرين والمنافقين. وفيه إيماء إلى أنّ المنافقين يركنون إلى المشركين واليهود لأنّهم يكفرون بالآيات ويستهزءون ، فتنثلج لذلك نفوس المنافقين ، لأنّ المنافقين لا يستطيعون أن يتظاهروا بذلك للمسلمين فيشفي غليلهم أن يسمع المسلمون ذلك من الكفّار.

وقد جعل زمان كفرهم واستهزائهم هو زمن سماع المؤمنين آيات الله. والمقصود أنّه زمن نزول آيات الله أو قراءة آيات الله ، فعدل عن ذلك إلى سماع المؤمنين ، ليشير إلى عجيب تضادّ الحالين ، ففي حالة اتّصاف المنافقين بالكفر بالله والهزل بآياته يتّصف المؤمنون بتلقّي آياته والإصغاء إليها وقصد الوعي لها والعمل بها.

وأعقب ذلك بتفريع النهي عن مجالستهم في تلك الحالة حتّى ينتقلوا إلى غيرها ، لئلّا يتوسّل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن ، لأنّ للأخلاق عدوى ، وفي المثل «تعدي الصّحاح مبارك الجرب».

وهذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها. وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى : وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) [الممتحنة : ١].

و (حتّى) حرف يعطف غاية الشيء عليه ، فالنهي عن القعود معهم غايته أم يكفّوا عن الخوض في الكفر بالآيات والاستهزاء بها.

٢٨٤

وهذا الحكم تدريج في تحريم موالاة المسلمين للكافرين ، جعل مبدأ ذلك أن لا يحضروا مجالس كفرهم ليظهر التمايز بين المسلمين الخلّص وبين المنافقين ، ورخّص لهم القعود معهم إذ خاضوا في حديث غير حديث الكفر. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة : ٢٣ ، ٢٤].

وجعل جواب القعود معهم المنهي عنه أنّهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله إذ قال : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) فإنّ (إذن) حرف جواب وجزاء لكلام ملفوظ به أو مقدّر. والمجازاة هنا لكلام مقدّر دلّ عليه النهي عن القعود معهم ؛ فإنّ التقدير : إن قعدتم معهم إذن إنّكم مثلهم. ووقوع إذن جزاء لكلام مقدّر شائع في كلام العرب كقول العنبري :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قال المرزوقي في «شرح الحماسة» : «وفائدة (إذن) هو أنّه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل له : ولو استباحوا ما ذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال : إذن لقام بنصري معشر خشن». قلت : ومنه قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨]. التقدير : فلو كنت تتلو وتخطّ إذن لارتاب المبطلون. فقد علم أنّ الجزاء في قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) عن المنهي عنه لا عن النهي ، كقول الراجز ، وهو من شواهد اللغة والنحو :

لا تتركنّي فيهم شطيرا

أنّي إذن أهلك أو أطيرا

والظاهر أنّ فريقا من المؤمنين كانوا يجلسون هذه المجالس فلا يقدمون على تغيير هذا ولا يقومون عنهم تقية لهم فنهوا عن ذلك. وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف ، ولا يصير المؤمن منافقا بجلوسه إلى المنافقين ، وأريد المماثلة في المعصية لا في مقدارها ، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي.

وقوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) تحذير من أن يكونوا مثلهم ، وإعلام بأنّ الفريقين سواء في عدواة المؤمنين ، ووعيد للمنافقين بعدم جدوى

٢٨٥

إظهارهم الإسلام لهم.

وجملة (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) صفة للمنافقين وحدهم بدليل قوله : (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ).

والتربّص حقيقة في المكث بالمكان ، وقد مرّ قوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) في سورة البقرة [٢٢٨]. وهو مجاز في الانتظار وترقّب الحوادث. وتفصيله قوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) الآيات. وجعل ما يحصل للمسلمين فتحا لأنّه انتصار دائم ، ونسب إلى الله لأنّه مقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بيّنة. والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة ، إذ لا حظّ لليهود في الحرب ، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيبا تحقيرا له ، والمراد نصيب من الفوز في القتال.

والاستحواذ : الغلبة والإحاطة ، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفا بعد الفتحة على خلاف القياس. وهذا أحد الأفعال التي صحّحت على خلاف القياس مثل : استجوب ، وقد يقولون : استحاذ على القياس كما يقولون : استجاب واستصاب.

والاستفهام تقريري. ومعنى (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نتولّ شئونكم ونحيط بكم إحاطة العناية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين ، أي من أن ينالكم بأسهم ، فالمنع هنا إمّا منع مكذوب يخيّلونه الكفار واقعا وهو الظاهر ، وإمّا منع تقديري وهو كفّ النصرة عن المؤمنين ، والتجسّس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين ، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين ، وكلّ ذلك ممّ يضعف بأس المؤمنين إن وقع ، وهذا القول كان يقوله من يندسّ من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات ، وخاصّة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحزاب.

وقوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الفاء للفصيحة ، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمهمّ المؤمنين ، بأن فوّض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى.

وقوله : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) تثبيت للمؤمنين ، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبهم : من عدوّ مجاهر بكفره. وعدو مصانع مظهر للأخوّة ، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة ، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يخيّل لهم مهاوي الخيبة في مستقبلهم. فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب

٢٨٦

ذلك التحذير بالشدّ على العضد ، والوعد بحسن العاقبة ، فوعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين ، وإن تألّبت عصاباتهم. واختلفت مناحي كفرهم ، سبيلا على المؤمنين.

والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة ، بقرينة تعديته بعلى ، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته ، ولو قال لك الحبيب : لا سبيل إليك ، لتحسّرت ؛ ولو قال لك العدوّ : لا سبيل إليك لتهلّلت بشرا ، فإذا عدّي بعلى صار نصا في سبيل الشرّ والأذى ، فالآية وعد محض دنيوي ، وليست من التشريع في شيء ، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين.

فإن قلت : إذا كان وعدا لم يجز تخلّفه. ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصرا بيّنا ، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك ، فكيف تأويل هذا الوعد. قلت : إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل ، لأنّ الله جعل عاقبة النصر أيّامئذ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلا ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبحوا أنصارا للدين ؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه ، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالا ، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالا.

[١٤٢ ، ١٤٣] (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

استئناف ابتدائي ، فيه زيادة بيان لمساويهم. والمناسبة ظاهرة. وتأكيد الجملة بحرف (إنّ) لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ).

وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة [٩] عند قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

وزادت هذه الآية بقوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي فقابلهم بمثل صنيعهم ، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعا لله تعالى ، كان إمهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم ، وإنذاره المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم ، وتقدير أخذه إيّاهم بأخرة ، شبيها

٢٨٧

بفعل المخادع جزءا وفاقا. فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم استعارة تمثيلية ، وحسنتها المشاكلة ؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار. فالمشاكلة ترجع إلى التلميح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقة بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلّا محاكاة اللفظ ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقعمق.

قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت : أطبخوا لي جبّة وقميصا

و «كسالى» جمع كسلان على وزن فعالى ، والكسلان المتّصف بالكسل ، وهو الفتور في الأفعال لسآمة أو كراهية. والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها ، فلذلك كان من شيم المنافقين. ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة ، ففي الحديث «عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا». ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته ، وعن الصلاة عند حضور الطعام ، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بشره وعزم ، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيبا حتّى تتمكّن منها الكراهية ، ولا خطر على النفس مثل أن تكره الخير.

و «كسالى» حال لازمة من ضمير (قامُوا) ، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جوابا ل «إذا» التي شرطها «قاموا» ، لأنّه لو وقع مجرّدا لكان الجواب عين الشرط ، فلزم ذكر الحال ، كقوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] وقول الأحوص الأنصاري :

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

وجملة (يُراؤُنَ النَّاسَ) حال ثانية ، أو صفة ل (كسالى) ، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل : ما ذا قصدهم بهذا القيام للصلاة وهلّا تركوا هذا القيام من أصله ، فوقع البيان بأنّهم يراءون بصلاتهم الناس. و (يُراؤُنَ) فعل يقتضي أنّهم يرون الناس صلاتهم ويريهم الناس. وليس الأمر كذلك ، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة ، وهذا كثير في باب المفاعلة.

وقوله : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) معطوف على (يُراؤُنَ) إن كان (يُراؤُنَ) حالا أو صفة ، وإن كان (يُراؤُنَ) استئناف فجملة (وَلا يَذْكُرُونَ) حال ، والواو واو الحال ، أي : ولا يذكرون الله بالصلاة ألّا قليلا. فالاستثناء إمّا من أزمنة الذكر ، أي إلّا

٢٨٨

وقتا قليلا ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإمّا من مصدر (يَذْكُرُونَ) ، أي إلّا ذكرا قليلا في تلك الصلاة التي يراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسبيح الركوع ، وقراءة ركعات السرّ. ولك أن تجعل جملة (وَلا يَذْكُرُونَ) معطوفة على جملة (وَإِذا قامُوا) ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلّا حالا قليلا أو زمنا قليلا وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره ، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال ، ويكثرون من ذكره ، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه.

ثم جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) وهو حال من ضمير (يُراؤُنَ).

والمذبذب أسن مفعول من الذّبذبة. يقال : ذبذبه فتذبذب. والذبذبة : شدّة الاضطراب من خوف أو خجل ، قيل : إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذبّ إذا طرد ، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب ، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير ، مثل زلزل ولملم بالمكان وصلصل وكبكب ، وفيه لغة بدالين مهملتين ، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم ، يقولون : رجل مدبدب ، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق. فقيل : إنّها مشتقّة من الدبّة ـ بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة ـ أي الطريقة بمعنى أنّه يسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق.

والإشارة بقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) إلى ما استفيد من قوله : (يُراؤُنَ النَّاسَ) لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذبا ، إذ يجد في الناس أصنافا متباينة المقاصد والشهوات. ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور ، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه ، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر.

وجملة (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) صفة ل (مُذَبْذَبِينَ) لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة ، أو هي بيان لقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ). و (هؤُلاءِ أحدهما إشارة إلى المؤمنين ، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين ، إذ ليس في المقام إلّا فريقان فأيّها جعلته مشارا إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك ، ونظيره قوله تعالى «فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه».

٢٨٩

والتقدير لا هم إلى المسلمين ولا هم إلى الكافرين. و (إلى) متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الانتهاء ، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر ، والذهاب الذي دلّت عليه (إلى) ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب ، أي هم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون ، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على (لا) النافية مكرّرة في غرضين : تارة يقصدون به إضاعة الأمرين ، كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع «لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل» وقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) [البقرة : ٧١]. وتارة يقصدون به إثبات حالة وسط بين حالين ، كقوله تعالى : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] ـ (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) [المائدة : ٦٨] ، وقول زهير :

فلا هو أخفاها ولم يتقدّم

وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي ، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر ، لأنّه لا طائل تحت معناه ، فتعيّن أنّه من الاستعمال الأول ، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين. وهم في التحقيق. ، إلى الكافرين. كما دلّ عليه آيات كثيرة. كقوله : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٣٩] وقوله : (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١]. فتعيّن أنّ المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين ، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله ، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب. والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتهم لينبذهم الفريقان.

وقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) الخطاب لغير معيّن ، والمعنى : لم تجد له سبيلا إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤))

أقبل على المؤمنين بالتحذير من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم واستصناعهم للمنافقين لقصد أذى المسلمين ، فعلم السامع أنّه لو لا عداوة الكافرين لهذا الدين لما كان النفاق ، وما كانت تصاريف المنافقين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ، فهي استئناف ابتدائي ، لأنّها توجيه خطاب بعد الانتهاء من الإخبار

٢٩٠

عن المنافقين بطريق الغيبة. وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة الكافرين. فالتحذير من موالاة الكافرين والمنافقين ، ومن الوقوع في النفاق ، لإن المنافقين تظاهروا بالإيمان ووالوا الكافرين تحذير من الاستشعار بشعار النفاق ، وتحذير من موالاة المنافقين الذين هم أولياء الكافرين ، وتشهير بنفاق المنافقين ، وتسجيل عليهم أن لا يقولوا : كنّا نجهل أنّ الله لا يحبّ موالاة الكافرين.

والظاهر أنّ المراد بالكافرين هنا مشركو مكة وأهل الكتاب من أهل المدينة ، لأنّ المنافقين كانوا في الأكثر موالين لأهل الكتاب.

وقوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) استئناف بياني ، لأنّ النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء ممّا يبعث الناس على معرفة جزاء هذا الفعل مع ما ذكرناه من قصد التشهير بالمنافقين والتسجيل عليهم ، أي أنّكم إن استمررتم على موالاة الكافرين جعلتم لله عليكم سلطانا مبيّنا ، أي حجّة واضحة على فساد إيمانكم ، فهذا تعريض بالمنافقين.

فالاستفهام مستعمل في معنى التحذير والإنذار مجازا مرسلا.

وهذا السلطان هو حجّة الرسول عليهم بأنّهم غير مؤمنين فتجري عليهم أحكام الكفر ، لأنّ الله عالم بما في نفوسهم لا يحتاج إلى حجّة عليهم ، أو أريد حجّة افتضاحهم يوم الحساب بموالاة الكافرين ، كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥]. ومن هنا يجوز أيضا أن يكون المراد من الحجّة قطع حجّة من يرتكب هذه الموالاة والإعذار إليه.

[١٤٥ ، ١٤٦] (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦))

عقّب التعريض بالمنافقين من قوله : (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) كما تقدّم بالتصريح بأنّ المنافقين أشدّ أهل النار عذابا. فإنّ الانتقال من النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء إلى ذكر حال المنافقين يؤذن بأنّ الذين اتّخذوا الكافرين أولياء معدودون من المنافقين ، فإنّ لانتقالات جمل الكلام معاني لا يفيدها الكلام لما تدلّ عليه من ترتيب الخواطر في الفكر.

٢٩١

وجملة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، ثانيا إذ هي عود إلى أحوال المنافقين.

وتأكيد الخبر ب (إنّ) لإفادة أنّه لا محيص لهم عنه.

والدّرك : اسم جمع دركة ، ضدّ الدّرج اسم جمع درجة. والدركة المنزلة في الهبوط. فالشيء الذي يقصد أسفله تكون منازل التدليّ إليه دركات ، والشيء الذي يقصد أعلاه تكون منازل الرقيّ إليه درجات ، وقد يطلق الاسمان على المنزلة الواحدة باختلاف الاعتبار وإنّما كان المنافقون في الدرك الأسفل ، أي في أذلّ منازل العذاب ، لأنّ كفرهم أسوأ الكفر لما حفّ به من الرذائل.

وقرأ الجمهور : (فِي الدَّرْكِ) ـ بفتح الراء ـ على أنّه اسم جمع دركة ضدّ الدرجة.

وقرأه عاصم. وحمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بسكون الراء ـ وهما لغتان وفتح الراء هو الأصل ، وهو أشهر.

والخطاب في (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) لكلّ من يصحّ منه سماع الخطاب ، وهو تأكيد للوعيد ، وقطع لرجائهم ، لأنّ العرب ألفوا الشفاعات والنجدات في المضائق. فلذلك كثر في القرآن تذييل الوعيد بقطع الطمع في النصير والفداء ونحوهما.

واستثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين ، وأصلح حاله ، واعتصم بالله دون الاعتزاز بالكافرين ، وأخلص دينه لله ، فلم يشبه بتردّد ولا تربّص بانتظار من ينتصر من الفريقين : المؤمنين والكافرين ، فأخبر أنّ من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين ، وفي لفظ (مع) إيماء إلى فضيلة من آمن من أوّل الأمر ولم يصم نفسه بالنفاق لأنّ (مع) تدخل على المتبوع وهو الأفضل.

وجيء باسم الإشارة في قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) لزيادة تمييز هؤلاء الذين تابوا ، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة.

وقد علم الناس ما أعدّ الله للمؤمنين بما تكرّر في القرآن ، ولكن زاده هنا تأكيدا بقوله : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً). وحرف التنفيس هنا دلّ على أنّ المراد من الأجر أجر الدنيا وهو النصر وحسن العاقبة وأجر الآخرة ، إذ الكلّ مستقبل ، وأن ليس المراد منه الثواب لأنّه حصل من قبل.

٢٩٢

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

تذييل لكلتا الجملتين : جملة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) مع الجملة المتضمنة لاستثناء من يتوب منهم ويؤمن ، وما تضمّنته من التنويه بشأن المؤمنين من قوله : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ١٤٦].

والخطاب يجوز أن يراد به جميع الأمّة ، ويجوز أن يوجّه إلى المنافقين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ارتفاقا بهم.

والاستفهام في قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) أريد به الجواب بالنفي فهو إنكاري ، أي لا يفعل بعذابكم شيئا.

ومعنى (يَفْعَلُ) يصنع وينتفع ، بدليل تعديته بالباء. والمعنى أنّ الوعيد الذي توعّد به المنافقون إنّما هو على الكفر والنفاق ، فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله غفر لهم العذاب ، فلا يحسبوا أنّ الله يعذّبهم لكراهة في ذاتهم أو تشفّ منهم ، ولكنّه جزاء السوء ، لأنّ الحكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الإحسان بالإحسان ، وعلى الإساءة بالإساءة ، فإذا أقلع المسيء عن الإساءة أبطل الله جزاءه بالسوء ، إذ لا ينتفع بعذاب ولا بثواب ، ولكنّها المسبّبات تجري على الأسباب. وإذا كان المؤمنون قد ثبتوا على إيمانهم وشكرهم ،. وتجنّبوا موالاة المنافقين والكافرين ، فالله لا يعذّبهم ، إذ لا موجب لعذابهم.

وجملة (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) اعتراض في آخر الكلام ، وهو إعلام بأنّ الله لا يعطّل الجزاء الحسن عن الذين يؤمنون به ويشكرون نعمه الجمّة ، والإيمان بالله وصفاته أوّل درجات شكر العبد ربّه.

[١٤٨ ، ١٤٩] (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيرا طويلا ، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفورا من النفاق وأحواله ، وبغضا للملموزين به ، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وأنّهم يستهزءون بالقرآن ، ونهى المسلمين عن القعود معهم ، فحذّر الله

٢٩٣

المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق ، فيجاهروهم بقول السوء ، ورخّص لمن ظلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء ، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه.

روى البخاري : أنّ رجالا اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال قائل : أين مالك بن الدّخشم ، فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله ، فقال رسول الله : «لا تقل ذلك ألا تراه قد قال : لا إله إلّا الله ، يريد بذلك وجه الله ، فقال : فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين». الحديث. فظنّ هذا القائل بمالك أنّه منافق ، لملازمته للمنافقين ، فوصفه بأنّه منافق لا يحبّ الله ورسوله. فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقا. وأيضا لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقا فأراد الله تبين الفارق بين الحالين.

وجملة (لا يُحِبُ) مفصولة لأنّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه : الجهر بالسوء من القول ، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى ، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن ، واستنكار القبيح ، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية ، وهما الرضا والغضب.

وصيغة (لا يُحِبُ) ، بحسب قواعد الأصول ، صيغة نفي الإذن. والأصل فيه التحريم. وهذا المراد هنا ؛ لأنّ (لا يُحِبُ) يفيد معنى يكره ، وهو يرجع إلى معنى النهي. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ـ إلى قوله ـ ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها محرّم أو مكروه.

والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ. وتقييده بالقول لأنّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريما.

واستثنى (مَنْ ظُلِمَ) فرخّص له الجهر بالسوء من القول. والمستثنى منه هو فاعل المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي ، المفيد للعموم ، إذ التقدير : لا يحبّ الله جهر أحد بالسوء ، أو يكون المستثنى مضافا محذوفا ، أي : إلّا جهر من ظلم ، والمقصود ظاهر ، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز.

٢٩٤

ورخّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّئ ليشفي غضبه ، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البطش باليد ، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به ، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ). وقد دلّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول ، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه ، أو شكاية ظلمه : أن يقول له : ظلمتني ، أو أنت ظالم ؛ وأن يقول للناس : إنّه ظالم. ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن ، وذلك مخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف ، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لحدّ القذف أو تعزيز الغيبة ، قائمة في الشريعة. فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه ؛ ومنه ما في الحديث «مطل الغنيّ ظلم» أي فللممطول أن يقول : فلان مماطل وظالم. وفي الحديث «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته».

وجملة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) عطف على (لا يُحِبُ) ، والمقصود أنّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها ، عليم بالمقاصد والأمور كلّها ، فذكر «عليما» بعد «سميعا» لقصد التعميم في العلم ، تحذيرا من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم.

وبعد أن نهى ورخّص ، ندب المرخّص لهم إلى العفو وقول الخير ، فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) ، فإبداء الخير إظهاره. وعطف عليه (أَوْ تُخْفُوهُ) لزيادة الترغيب أن لا يظنّوا أنّ الثواب على إبداء الخير خاصّة ، كقوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٧١]. والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة ، فهو أمر عدميّ.

وجملة (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) دليل جواب الشرط ، وهو علّة له ، وتقدير الجواب : يعف عنكم عند القدرة عليكم ، كما أنّكم فعلتم الخير جهرا وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقّكم ، لأنّ المأذون فيه شرعا يعتبر مقدورا للمأذون ، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمّن اقترف ذنبا ؛ فذكر (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) تكملة لما اقتضاه قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) استكمالا لموجبات العفو عن السيّئات ، كما أفصح عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأتبع السيّئة الحسنة تمحها.

٢٩٥

هذا ما أراه في معنى الجواب. وقال المفسّرون : جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أنّ فيه تخلّفا بالكمال ، لأنّ صفات الله غاية الكمالات. والتقدير : إن تبدو خيرا إلخ تكونوا متخلّقين بصفات الله ، فإنّ الله كان عفوّا قديرا ، وهذا التقدير لا يناسب إلّا قوله : (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) ولا يناسب قوله : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) إلّا إذا خصّص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم ، وإخفائه عمّن ظلمهم. وفي الحديث «أن تعفو عمّن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك».

[١٥٠ ـ ١٥٢] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

عادة القرآن عند التعرّض إلى أحوال من أظهروا النّواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين ، أو أهل الكتاب ، أو المشركين إلى صفات الآخرين ، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود والنصارى ، قاله أهل التفسير. والأظهر أنّ المراد به اليهود خاصّة لأنّهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين ، وكان كثير من المنافقين يهودا وعبّر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخير ، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك.

وجمع الرسل لأنّ اليهود كفروا بعيسى ومحمد ـ عليهما‌السلام ـ ، والنصارى كفروا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفّار ، أو أراد بالجمع الاثنين ، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع ، لأنّ المقصود ذمّ من هذه صفتهم بدون تعيين فريق ، وطريق العرب في مثل هذا أن يعبّروا بصيغة الجموع وإن كان المعرّض به واحدا كقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) [النساء : ٥٤] وقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) [النساء : ٣٧] (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤٤] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام يشترطون شروطا».

وجيء بالمضارع هنا للدلالة على أنّ هذا أمر متجدّد فيهم مستمرّ ، لأنّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ.

ومعنى كفرهم بالله : أنّهم لمّا آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم

٢٩٦

واتّخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك ، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمّى ، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمّى ، كما إذا كان أحد يظنّ أنّه يعرف فلانا فقلت له : صفه لي ، فوصفه بغير صفاته ، تقول له : «أنت لا تعرفه» ؛ على أنّهم لمّا كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث ، فقد كفروا بإلهيته الحقّة ، إذ منهم من جسّم ومنهم من ثلّث.

ومعنى قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أنّهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة ، وفيه إيذان بأنّه أمر صعب المنال ، وأنّهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك ، لأنّهم لم يزالوا يحاولونه ، كما دلّ عليه التعبير بالمضارع في قوله : (وَيُرِيدُونَ) ولو بلغوا إليه لقال : وفرّقوا بين الله ورسله.

ومعنى التفريق بين الله ورسله أنّهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله ، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض ، ويزعمون أنّهم يؤمنون بالله ، فقد فرّقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه ، وهذا استعارة تمثيليّة ، شبّه الأمر المتخيّل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب ، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة ، والغرض من التشبيه تشويه المشبّه ، إذ قد علم الناس أنّ التفرقة بين المتّصلين ذميمة.

وهذه الآية في معنى الآيات التي تقدّمت في سورة البقرة : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦] ، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)[البقرة : ٢٨٥] ، وفي سورة آل عمران (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[آل عمران : ٨٤] إلّا أنّ تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل ، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله ، ومآل الجميع واحد : لأنّ التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله. وإضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة ، وهي قوله : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ).

وجملة (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله ، ولكنّها عطفت ؛ لأنّها شأن خاصّ من شئونهم ، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة ، ومدلول (يُرِيدُونَ) هيئة حاصلة من كفرهم ، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة ، ولو فصلت لكان صحيحا.

ومعنى (يَقُولُونَ نُؤْمِنُ) إلخ أنّ اليهود يقولون : نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى

٢٩٧

ومحمد ، والنصارى يقولون : نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد ، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهرا وفرّقوا بينه وبين بعض رسله.

والإرادة في قوله (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) إرادة حقيقية. والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤاخذة في الآخرة توهّما أنّ تلك حيلة تحقّق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين ، أو سبيل التنصّل من الكفر ببعض الرسل ، أو سبيلا بين دينين ، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق ، فكأنّهما تهيئة للنفاق.

وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام ، وهو أن يكون حرف العطف مشرّكا بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه ، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة للذين ، كان ما عطف عليه صلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصّلات كلّها.

ونسب إلى بعض المفسّرين أنّه جعل الواوات فيها بمعنى (أو) وجعل الموصول شاملا لفرق من الكفّار تعدّدت أحوال كفرهم على توزيع الصّلات المتعاطفة ، فجعل المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين ، والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله قوما أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلّها ، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهود والنصارى. وسكت عن المراد من قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ، ولو شاء لجعل أولئك فريقا آخر : وهم المنافقون المتردّدون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر ، بل كانوا بين الحالين ، كما قال تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) [النساء : ١٤٣]. والذي دعاه إلى هذا التأويل أنّه لم يجد فريقا جمع هذه الأحوال كلّها على ظاهرها لأنّ اليهود لم يكفروا بالله ورسله ، وقد علمت أنّ تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يستلزم الكفر بها نفي الإلهية.

وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام ، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال : والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله والذين يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢].

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) الجملة خبر إنّ والإشارة إلى أصحاب تلك الصلة الماضية ، وموقع الإشارة هنا لقصد التنبيه على أنّ المشار إليهم لاستحضارهم بتلك

٢٩٨

الأوصاف أحرياء بما سيحكم عليهم من الحكم المعاقب لاسم الإشارة.

وأفاد تعريف جزأي الجملة والإتيان بضمير الفصل تأكيد قصر صفة الكفر عليهم ، وهو قصر ادّعائي مجازيّ بتنزيل كفر غيرهم في جانب كفرهم منزلة العدم ، كقوله تعالى في المنافقين : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤]. ومثل هذا القصر يدلّ على كمال الموصوف في تلك الصفة المقصورة.

ووجه هذه المبالغة : أنّ كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر ، وعلى سفالة في الخلق ، أو سفاهة في الرأي بمجموع ما حكي عنهم من تلك الصلاة ، فإنّ كلّ خصلة منها إذا انفردت هي كفر ، فكيف بها إذا اجتمعت.

و (حَقًّا) مصدر مؤكّد لمضمون الجملة التي قبله ، أي حقّهم حقّا أيّها السامع بالغين النهاية في الكفر ، ونظير هذا قولهم : (جدّا). والتوكيد في مثل هذا لمضمون الجملة التي قبله على ما أفادته الجملة ، وليس هو لرفع المجاز ، فهو تأكيد لما أفادته الجملة من الدلالة على معنى النهاية لأنّ القصر مستعمل في ذلك المعنى ، ولم يقصد بالتوكيد أن يصير القصر حقيقيّا لظهور أنّ ذلك لا يستقيم ، فقول بعض النحاة ، في المصدر المؤكّد لمضمون الجملة : إنّه يفيد رفع احتمال المجاز ، بناء منهم على الغالب في مفاد التأكيد.

و (أَعْتَدْنا) معناه هيّأنا وقدّرنا ، والتاء في (أَعْتَدْنا) بدل من الدال عند كثير من علماء اللغة ، وقال كثير منهم : التاء أصلية ، وأنّه بناء على حدة هو غير بناء عدّ. وقال بعضهم : إنّ عتد هو الأصل وأنّ عدّ أدغمت منه التاء في الدال ، وقد ورد البناءان كثيرا في كلامهم وفي القرآن.

وجيء بجملة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) إلى آخرها ؛ لمقابلة المسيئين بالمحسنين ، والنذارة بالبشارة على عادة القرآن. والمراد بالذين آمنوا المؤمنون كلّهم وخاصّة من آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام. فهم مقصودون ابتداء لما أشعر به موقع هذه الجملة بعد ذكر ضلالهم ولما اقتضاه تذييل الجملة بقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي غفورا لهم ما سلف من كفرهم ، رحيما بهم.

والقول في الإتيان بالموصول وباسم الإشارة في هذه الجملة كالقول في مقابله. وقوله : (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) تقدّم الكلام على مثله في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٦].

٢٩٩

وقرأ الجمهور : نؤتيهم ـ بنون العظمة. وقرأه حفص عن عاصم ـ بياء الغائب ـ والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

[١٥٣ ، ١٥٤] (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤))

لمّا ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم. والجملة استئناف ابتدائي.

ومجيء المضارع هنا : إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] ، وقوله : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات : ١٢] ، وقوله : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩]. وإمّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألحّوا في هذا السؤال لقصد الإعنات ، كقول طريف بن تميم العنبري :

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم

أي يكرّر التوسّم. والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال ، ولذلك قال بعده : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى). والسّائلون هم اليهود ، سألوا معجزة مثل معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى ، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة. فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود.

والكتاب هنا إمّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى ، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة ، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى.

والفاء في قوله : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) فاء الفصيحة دالّة على مقدّرة دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب ، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا ، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من

٣٠٠