تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

لأنّ تعدّد الإماء يفضي إلى كثرة العيال في النفقة عليهنّ وعلى ما يتناسل منهنّ ، ولذلك ردّ جماعة على الشافعي هذا الوجه بين مفرط ومقتصد.

وقد أغلظ في الردّ أبو بكر الجصّاص في أحكامه حتّى زعم أنّ هذا غلط في اللغة ، اشتبه به عال يعيل بعال يعول. واقتصد ابن العربي في ردّ هذا القول في كتاب الأحكام. وانتصر صاحب «الكشاف» للشافعي ، وأورد عليهم أنّ ذلك لا يلاقي قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فإن تعدّد الجواري مثل تعدّد الحرائر فلا مفرّ من الإعالة على هذا التفسير. وأجيب عنه بجواب فيه تكلّف.

وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً)[النساء : ١].

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً(٤))

جانبان مستضعفان في الجاهلية : اليتيم ، والمرأة. وحقّان مغبون فيهما أصحابهما : مال الأيتام ، ومال النساء ، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم ، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة ، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهيّئ لعطف هذا الكلام.

فقوله : (وَآتُوا النِّساءَ) عطف على قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)[النساء:٢] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء. وزاده اتّصالا بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء ، فكان ذلك مناسبة الانتقال. والمخاطب بالأمر في أمثال هذا كلّ من له نصيب في العمل بذلك ، فهو خطاب لعموم الأمّة على معنى تناوله لكلّ من له فيه يد من الأزواج والأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة الحقوق أربابها. والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج ، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح ، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ ، وإلّا فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور ، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب بالحقّ فيترك طلبه ، وخاصّة النساء ذوات الأزواج. وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج ، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعا ، فصار المهر ركنا من أركان النكاح في الإسلام ،

٢١

وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) وغير ذلك [النساء : ٢٤].

والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة ، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالا لولي المرأة ويسمّونه حلوانا ـ بضم الحاء ـ ولا تأخذ المرأة شيئا ، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ).

وقال جماعة : الخطاب للأولياء ، ونقل ذلك عن أبي صالح قال : لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام. وعن الحضرمي : خاطبت الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى ، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريح اللفظ ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات.

والصدقات جمع صدقة ـ بضمّ الدال ـ والصدقة : مهر المرأة ، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي.

والنّحلة ـ بكسر النون ـ العطيّة بلا قصد عوض ، ويقال : نحل ـ بضم فسكون ـ. وانتصب نحلة على الحال من «صدقاتهنّ» ، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها ، ويجوز أن يكون نحلة منصوبا على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاء كرامة.

وسمّيت الصدقات نحلة إبعادا للصدقات عن أنواع الأعواض ، وتقريبا بها إلى الهدية ، إذ ليس الصداق عوضا عن منافع المرأة عند التحقيق ، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة ، وإيجاد آصرة عظيمة ، وتبادل حقوق بين الزوجين ، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي ، ولو جعل لكان عوضها جزيلا ومتجدّدا بتجدّد المنافع ، وامتداد أزمانها ، شأن الأعواض كلّها ، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراما لزوجاتهم ، وإنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح ، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره ، فكان هذا الاختصاص ينال بالقوّة ، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومولياتهم ، ثمّ ارتقى التشريع وكمل عقد النكاح ، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شئونه وبقيت الصدقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعا وعادة ، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها ، فمن ذلك الزنى الموقّت ، ومنه المخادنة ، فهي زنا مستمرّ ، وأشار

٢٢

إليها القرآن في قوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة ، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا)[النور : ٣٣] وهنالك معاشرات أخرى ، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلا خليلا لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها. فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نحلة ، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات ، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي ينتحل أي يتّبع.

وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور. وأفرد ضمير «منه» لتأويله بالمذكور حملا على اسم الإشارة كما قال رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق

فقال له أبو عبيدة : إمّا أن تقول : كأنّها إن أردت الخطوط ، وإما أن تقول : كأنّهما إن أردت السواد والبلق فقال : أردت كأنّ ذلك ، ويلك!! أي أجرى الضمير كما يجرى اسم الإشارة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) في سورة البقرة [٦٨]. وسيأتي الكلام على ضمير (مِثْلَهُ) عند قوله تعالى : (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) في سورة العقود [٣٦].

وجيء بلفظ (نَفْساً) مفردا مع أنّه تمييز نسبة (طِبْنَ إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع. وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني : من الفرق بين واشتعل الرأس شيبا وبين اشتعل شيب رأسي ، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء.

وحقيقة فعل (طابَ) اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس ، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها ، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس : ٢٢] ، ومنه أيضا ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء : ٢] ومنه فعل (طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) هنا أي رضين

٢٣

بإعطائه دون حرج ولا عسف ، فهو استعارة.

وقوله : (فَكُلُوهُ) استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به ، أي في معنى تمام التملّك. وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه ، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلا بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه. ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] فتلك محسّن الاستعارة.

و (هَنِيئاً مَرِيئاً) حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنا وهنئ ـ بفتح النون وكسرها ـ بمعنى ساغ ولم يعقب نغصا. والمريء من مرو الطعام ـ مثلث الراء ـ بمعنى هنيء ، فهو تأكيد يشبه الاتباع. وقيل : الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته. وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحا لاستعارة (فَكُلُوهُ) بمعنى خذوه أخذ ملك ، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم ، أي حلالا مباحا ، أو حلالا لا غرم فيه. وإنّما قال : (عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يعرى العقد عن الصداق ، فلا تسقطه كلّه إلّا ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض ، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذا بأصل العطايا ، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه ، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة ، وإلّا فإنّهم قالوا في مسائل البيع : إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج ، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصا للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع. فدخل التخصيص للآية. وقال جمهور الفقهاء : ذلك للثيّب والبكر ، تمسّكا بالعموم. وهو ضعيف في حمل الأدلّة بعضها على بعض.

واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعض صداقها : فقال الجمهور : لا رجوع لها ، وقال شريح ، وعبد الملك بن مروان : لها الرجوع ، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت. ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته «إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته ، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها» وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريبا ، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة.

٢٤

وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١].

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥))

عطف على قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) [النساء : ٤] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) [النساء : ٢ ، ٤]. أو عطف على قوله : (وَآتُوا الْيَتامى) وما بينهما اعتراض.

والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله ، والحال التي يؤتى فيها ماله ، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول ، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم ، لأنّ الناس أحرص على ضدّه ، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم ، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم ، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء ، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم.

والخطاب في قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) كمثل الخطاب في (وَآتُوا الْيَتامى)(وَآتُوا النِّساءَ) هو لعموم الناس المخاطبين بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [الحج : ١] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال.

والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى ، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة ، فيكون مقابلا لقوله : (وَآتُوا الْيَتامى) لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين ، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع. ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه ، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف ، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطرادا للمناسبة ، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعا. وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) في سورة البقرة [١٣٠].

والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم ، ألا ترى إلى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ

٢٥

فِيها) وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر ، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها ، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة ، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف ، ومتى قلّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة ، فأصبحوا في ضنك وبؤس ، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم ، وامتلاك بلادهم ، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم ، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة.

وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيما من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها. وقد أبعد جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة ، لأنّ الأموال في يد الأولياء ، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة. وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم ، وإن لم تكن أموالهم حقيقة ، وإليه مال الزمخشري. وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالهم أموالهم وإليه مال فخر الدين. وقارب ابن العرب إذ قال : «لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك» وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن. وأبعد فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا ـ يا أصحاب الأموال ـ أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم ، وهذا أبعد الوجوه ، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلّا الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء ، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين ، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجها جائزا يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة.

وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحا وهي قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي ، وإيضاحا لمعنى الإضافة ، فإنّ (قِياماً) مصدر على وزن فعل بمعنى فعال : مثل عوذ بمعنى عياذ ، وهو من الواوي وقياسه قوم ، إلّا أنّه أعلّ بالياء شذوذا كما شذّ جياد في جمع جواد وكما شذّ طيال في لغة ضبّة في جمع طويل ، قصدوا قلب الواو ألفا بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه ، إلّا أنّ ذلك في وزن فعال مطّرد ، وفي غيره شاذّ لكثرة فعال في المصادر ، وقلّة

٢٦

فعل فيها ، وقيم من غير الغالب. كذا قرأه نافع ، وابن عامر : «قيما» بوزن فعل ، وقرأه الجمهور «قياما» ، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضا وعلى القراءتين فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء :

فإنّما هي إقبال وإدبار

والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس. وقيل : قيما جمع قيمة أي التي جعلها الله قيما أي أثمانا للأشياء ، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم.

ومعنى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق ، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة ، ولذلك قال فقهاؤنا : تسلّم للمحجور نفقته وكسوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله ، وعدل عن تعدية (ارْزُقُوهُمْ) و (اكْسُوهُمْ) ب (من) إلى تعديتها ب (في) الدالّة على الظرفية المجازية ، على طريقة الاستعمال في أمثاله ، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء ، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل : تارة من عينه ، وتارة من ثمنه ، وتارة من نتاجه ، وأنّ ذلك يحصل مكرّرا مستمرّا. وانظر ذلك في قول سبرة بن عمرو الفقعسي :

نحابي بها أكفاءنا ونهينها

ونشرب في أثمانها ونقامر

يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم ، أي نشرب بأثمانها ونقامر ، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار ، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا ، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى (في) ، واهتدى إليه صاحب «الكشاف» بعض الاهتداء فقال : أي اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال. فقوله : «لا من صلب المال» مستدرك ، ولو كان كما قال لاقتضى نهيا عن الإنفاق من صلب المال.

وإنّما قال : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى ، فإنّ شأن من يخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال ، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي ، والتي من مال المعطى ، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون ، لقلّة تدبيره ، فلعلّ ذلك يحمل وليّه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة ، فلا ينبغي أن يشتم عليه ، ولأنّ السفيه غالبا يستنكر منع ما يطلبه من واسع المطالب ، فقد يظهر عليه ، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه ، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدءوا محاجيرهم بسيّئ الكلام ، ولا يجيبوهم بما يسوء ، بل يعظون

٢٧

المحاجير ، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا ، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم ، وحفظه حفظ لمصالحهم ، فإنّ في ذلك خيرا كثيرا ، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم ، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال :

إذا نهي السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

وقد شمل القول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله. وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخلق بمصادفته المحزّ ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا).

يجوز أن يكون جملة (وَابْتَلُوا) معطوفة على جملة (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء : ٥] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي. فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال : لما ذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى ، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم ، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم ، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم ، لئلّا يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم ، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى ، وهو الأظهر ، فيتّجه أن يقال : ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء؟ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلّا عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال ، وهو مراهقة البلوغ ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد ، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه.

ويجوز أن تكون جملة (وَابْتَلُوا) معطوفة على جملة (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته ، وعليه فالإظهار في قوله : (الْيَتامى) لبعد ما بين المعاد والضمير ، لو عبّر بالضمير.

٢٨

والابتلاء : الاختبار ، وحتّى ابتدائية ، وهي مفيدة للغاية ، لأنّ إفادتها الغاية بالوضع ، وكونها ابتدائية أو جارّة استعمالات بحسب مدخولها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) في سورة آل عمران [١٥٢]. و (إِذا) ظرف مضمّن معنى الشرط ، وجمهور النحاة على أنّ (حَتَّى) الداخلة على (إِذا) ابتدائية لا جارّة.

والمعنى : ابتلوا اليتامى حتّى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء ، وحيث علم أنّ الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرّر أنّ مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره ، وهو تسليم الأموال. وسيصرّح بذلك في جواب الشرط الثاني.

والابتلاء هنا : هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء ، قال المالكية : يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف ، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهرا كاملا ، وإن كانت بنتا يفوّض إليها ما يفوّض لربّه المنزل ، وضبط أموره ، ومعرفة الجيّد من الرديء ، ونحو ذلك ، بحسب أحوال الأزمان والبيوت. وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين ، قاله الحسن ، وقتادة ، والشافعي. وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال ، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين.

وبلوغ النكاح على حذف مضاف ، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، وللبلوغ علامات معروفة ، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ. ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه ، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح ، والغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر ، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور : يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة ، فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه : هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث ، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور ، وقال : في الجاري سبع عشرة سنة ، وروى غير ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة. والمشهور عن أبي حنيفة : أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات ، وقال الجمهور : خمس عشرة سنة. قاله القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وابن الماجشون ، وبه قال أصبغ ، وابن وهب ، من أصحاب مالك ، واختاره الأبهري من المالكية ، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وهو

٢٩

ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ، وعرضه يوم أحد وهو ابن خمس عشرة فأجازه. ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين ، فصادف أن رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه ملامح الرجال ، فأجازه ، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة. وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن ، فتعجّب من ترك هؤلاء الأئمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة ، والعجب منه أشدّ من عجبه منهم ، فإنّ قضية ابن عمر قضية عين ، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان معلوم ، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود. وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به.

ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة ، وقبل البلوغ : قاله ابن الموّاز عن مالك ، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل ، وقال البغداديون من المالكية : الابتلاء قبل البلوغ. وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي ب (بَلَغُوا النِّكاحَ) ، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها ، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده ، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ ، وأبناءهم أيضا في بعض الأحوال ، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة ، وليس بلوغا من الأبناء أو البنات.

وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من (إِذا بَلَغُوا). وهو وجوابه جواب (إِذا) ، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّا في الجواب ، وتكون (إِذا) نصّا في الشرط ، فإنّ جواب (إِذا) مستغن عن الربط بالفاء لو لا قصد التنصيص على الشرطية.

وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة ، ولكن بشرط أن يعرف من المحجور الرشد ، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها.

ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا ، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة ، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور ، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء ، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر ، فلا دلالة لهما إلّا على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد ، وعلى هذا جرى قول المالكية ، وإمام الحرمين. ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب

٣٠

الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول. ونسبه الزجّاجي في كتاب «الأذكار» إلى ثعلب ، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية : البغوي ، والغزالي في الوسيط ، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ ، ونسبه الشافعية إلى القفّال ، والقاضي الحسين ، والغزالي في «الوجيز» ، والإمام الرازي في «النهاية» ، وبنوا على ذلك فروعا في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان ، وتعليق الطلاق والعتاق ، وقال إمام الحرمين : لا معنى لاعتبار الترتيب ، وهو الحقّ ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر ، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام ، كما هنا ، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان ، وأيمان الطلاق والعتاق ، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيرا. وهو الصواب.

واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطا في الجواب ، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديرا ، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جوابا للشرط الأول ، سواء ارتبطت بالفاء ـ كما في هذه الآية ـ أم لم ترتبط ، كما في قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)[هود : ٣٤]. وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلى قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) [الأحزاب : ٥٠]. فقوله : (إِنْ وَهَبَتْ) شرط في إحلال امرأة مؤمنة له ، وقوله : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُ) شرط في انعقاد النكاح ، لئلّا يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيّن عليه تزوّجها ، فتقدير جوابه : إن أراد فله ذلك ، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلّا أنّها وهبت نفسها.

وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفا دلّ عليه المذكور ، أو جواب أحدهما جوابا للآخر : على الخلاف بين الجمهور والأخفش ، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنّما يتأتّى ذلك في نحو قولك : «إن دخلت دار أبي سفيان ، وإن دخلت المسجد الحرام ، فأنت آمن» وفي نحو قولك : «إن صليت إن صمت أثبت» من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين ، حتّى يصير أحدهما شرطا في الآخر.

هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابن خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب «الوفيات» ، ولم يفصّلها ، وفصّلها ، الدماميني في «حاشية مغني اللبيب».

٣١

وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [القصص : ٢٩] أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية :

آنست نبأة وأفزعها القن

اص عصرا وقد دنا الإمساء

وكأنّ اختيار (آنَسْتُمْ) هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل.

والرشد ـ بضم الراء وسكون الشين ، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل ، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام ، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في (ابْتَلُوا الْيَتامى).

والمخاطب في الآية الأوصياء ، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولّون ذلك ، وقد جعله الفقهاء حكما ، فقالوا : يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عند ما يأنس منه الرشد ، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه.

وقال اللخمي : من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلّا بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشدوهم فيسمحوا لهم بما قبل ذلك. وقال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرئ المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت. إلّا أنّ هذا لم يجر عليه عمل ، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط ، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء ، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلّا بعد ثبوت ذلك لدى القاضي ، وبه جرى العمل.

وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة ، ويتولّى تنفيذه من إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة ، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين ، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي ، ويحصل المطلوب بلا كلفة.

والآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان (حَتَّى) المؤذنة بالانتهاء ، وهو المعروف من المذهب ، وفيه قول أنّه لا يدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ.

٣٢

والآية أيضا صريحة في أنّه إذا لم يحصل الشرطان معا : البلوغ والرشد ، لا يدفع المال للمحجور. واتّفق على ذلك عامّة علماء الإسلام ، فمن لم يكن رشيدا بعد بلوغه يستمرّ عليه الحجر ، ولم يخالف في ذلك إلّا أبو حنيفة. قال : ينتظر سبع سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر. وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط ، وهو أيضا يخالف القياس إذ ليس الحجر إلّا لأجل السفه وسوء التصرّف فأي أثر للبلوغ لو لا أنّه مظنّة الرشد ، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده.

ودلّت الآية بحكم القياس على أنّ من طرأ عليه السفه وهو بالغ أو اختلّ عقله لأجل مرض في فكره ، أو لأجل خرف من شدّة الكبر ، أنّه يحجّر عليه إذ علّة التحجير ثابتة ، وخالف في ذلك أيضا أبو حنيفة. وقال : لا حجر على بالغ.

وحكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغليب : فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دفع مالها إليها.

والتنكير في قوله : (رُشْداً) تنكير النوعية ، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها ، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحال أو تعدّد المتعلّقات ، فرشد زيد غير رشد عمرو ، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة ، وفي الدعوة إلى الحقّ ، قال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] ، وقال عن قوم شعيب (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧]. وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام ، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي ، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس ، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرة ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير (رُشْداً) دليلا لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ ، بدعوى أنّ الله شرط رشدا ما وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة ، ولم يشترط الرّشد كلّه. وهذا ضعف في العربية ، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها. وقد أضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى : لأنّها قوي اختصاصها بهم عند ما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال.

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) عطف على (وَابْتَلُوا الْيَتامى) باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى

٣٣

الذي تقدّم في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشدّهم : وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهيّئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعيانا من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن ، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جشع إلى أكله بالتوسّع في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف ، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شئون اللذات.

وانتصب (إِسْرافاً) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيّا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل.

والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البدر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بدره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقّع الأولياء سرعة إبّانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدّعي عليه ، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه ، فقوله : (أَنْ يَكْبَرُوا) في موضع المفعول لمصدر المفاعلة. ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعلم إذا زاد في السنّ ، وأمّا كبر ـ بضم الموحدة ـ فهو إذا عظم في القدر ، ويقال : كبر عليه الأمر ـ بضم الموحدة ـ شقّ.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).

عطف على (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) إلخ المقرّر به قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم. وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل ، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف ، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته ، لأنّه إذا لم يعط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره.

وفي لفظ المعروف (حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان

٣٤

والأماكن وقد أرشد إلى ذلك حديث أبي داود : أنّ رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إني فقير وليس لي شيء» قال : «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل». وفي «صحيح مسلم» عن عائشة : نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجا أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف ، ولذلك قال المالكية : يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله ، وقال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأبو عبيدة ، وابن جبير ، والشعبي ، ومجاهد : إنّ الله أذن في القرض لا غير. قال عمر : «إني نزّلت نفسي من مال الله منزلة الوصيّ من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت» وقال عطاء ، وإبراهيم : لا قضاء على الوصيّ إن أيسر. وقال الحسن ، والشعبي ، وابن عباس ، في رواية : إنّ معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربي من إبله ويلوط الحوض. وقيل : إنّما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير : روي عن عكرمة ، وابن عباس ، والشعبي ، وهو أضعف الأقوال لأنّ الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار ، وناطه بمال اليتيم ، والاضطرار لا يختصّ بالتسليط على مال اليتيم بل على كلّ مال. وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يأخذ إلّا إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر. واختلف في وصيّ الحاكم هل هو مثل وصيّ الأب. فقال الجمهور : هما سواء ، وهو الحقّ ، وليس في الآية تخصيص.

ثم اختلفوا في الوصيّ الغنيّ هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أنّ الأمر في قوله : (فَلْيَسْتَعْفِفْ) للوجوب أو للندب ، فمن قال للوجوب قال : لا يأكل الغني شيئا ، وهذا قول كلّ من منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل ، وهم جمهور تقدّمت أسماءهم. وقيل : الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة ، أمّا إذا كان عمله مجرّد التفقّد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له.

وهذا كله بناء على أنّ الآية محكمة. ومن العلماء من قال : هي منسوخة بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] الآية ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] وإليه مال أبو يوسف ، وهو قول مجاهد ، وزيد بن أسلم.

ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد فمن كان غنيا أي من اليتامى ، ومن كان فقيرا كذلك ، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغنيّ يعطى كفايته ، والفقير يعطى بالمعروف ، وهو بعيد ، فإنّ فعل (استعفف :

٣٥

يدلّ على الاقتصاد والتعفّف عن المسألة.

وقال النخعي ، وروي عن ابن عباس : من كان من الأوصياء غنيّا فليستعفف بماله ولا يتوسّع بمال محجوره ومن كان فقيرا فإنّه يقتّر على نفسه لئلا يمدّ يده إلى مال يتيمه. واستحسنه النحاس والكيا الطبري (١) في أحكام القرآن.

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

تفريع عن قوله (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وهو أمر بالإشهاد عند الدفع ، ليظهر جليّا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم ، حتى يمكن الرجوع عليهم يوما ما بما يطّلع عليه ممّا تخلّف عند الأوصياء ، وفيه براءة للأوصياء أيضا من دعاوي المحاجير من بعد. وحسبك بهذا التشريع قطعا للخصومات.

والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب ، وبكلّ قالت طائفة من العلماء لم يسمّ أصحابها : فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحقّ الوصيّ كان الإشهاد مندوبا لأنّه حقّه فله أن لا يفعله ، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقع الخصومات ، كان الإشهاد واجبا نظير ما تقدّم في قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة : ٢٨٢] وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأنّ ذلك أقوم لنظام المعاملات. وأياما كان فقد جعل الله الوصيّ غير مصدّق في الدفع إلّا ببينة عند مالك قال ابن الفرس : لو لا أنّه يضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة ، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك ، إلّا أنّ الفخر احتجّ بأنّ ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنّه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتّب حكم الضمان ، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع ، وسببه هو انتفاء الإشهاد ، وأمّا الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب. وقال أبو حنيفة : هو مصدّق بيمينه لأنّه عدّه أمينا ، وقيل: لأنّه رأى الأمر للندب. وقد علمت أنّ محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثّر في حكم الضمان. وجاء بقوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) تذييلا لهذه الأحكام كلها ، لأنّها وصيّات وتحريضات فوكل

__________________

(١) هو علي بن علي الطّبري ـ نسبة إلى طبرستان كورة قرب الري ـ الملقب الكيا الطبري ويقال الكيا الهرّاسي ـ والكيا بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة ، معناه الكبير بلغة الفرس. والهراسي بفتح الهاء وتشديد الراء نسبة إلى الهريسة إمّا إلى بيعها أو صنعها. الشافعي ولد سنة ٤٥٠ وتوفّي في بغداد سنة ٥٠٤.

٣٦

الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى. والحسيب : المحاسب. والباء زائدة للتوكيد.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

استئناف ابتدائي ، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى ، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١].

ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها : أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال ، وحرمان الضعفاء ، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم ، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم ، وكان أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان ، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم ، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم ، فصاروا عالة على الناس.

وأخصّ الناس بذلك النساء فإنّهن يجدن ضعفا من أنفسهنّ ، ويخشين عار الضيعة ، ويتّقين انحراف الأزواج ، فيتّخذن رضى أوليائهنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر ، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم ، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيبا ممّا ترك الوالدان والأقربون.

فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون ، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون ، وذكر النساء هناك تمهيدا لشرع الميراث ، وقد تأيّد ذلك بقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى) [النساء : ٨] فإنّ ذلك يناسب الميراث ، ولا يناسب إيتاء أموال اليتامى.

ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث ، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة ، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يصرف لأبناء الميّت الذكور ، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ ، ولا تعطى بناته شيئا ، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات.

وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلّا إذا كان الأبناء ذكورا ، فلا ميراث للنساء

٣٧

لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف. فإن لم تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة : الأب ثمّ الأخ ثمّ العمّ وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبنّي وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنّي جميع أحكام الأبوّة.

ويورثون أيضا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا ، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يخالف أحكام سكّانها ، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث : بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٣٣] الآية من هاته السورة. وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظا في ذلك فأتمّ الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.

وقد كان قوله تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب.

ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمة ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقل لتسكن النفوس إليها بالتدريج.

روى الواحدي ، في أسباب النزول ، والطبري ، عن عكرمة ، وأحدهما يزيد على الآخر ما حاصله : إنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحّة (١) فجاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : «إنّ زوجي قتل معك يوم أحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمّهما مالهما فما ترى يا رسول الله؟ فو الله ما تنكحان أبدا إلّا ولهما مال» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقضي الله في ذلك». فنزلت سورة النساء وفيها : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١]. قال جابر بن عبد الله : فقال رسول الله «ادع لي المرأة وصاحبها» فقال لعمتهما «أعطهما الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فلك». ويروى : أنّ ابني عمّه

__________________

(١) الكحّة بضمّ الكاف وتشديد الحاء المهملة لغة في القحة وهي الخالصة.

٣٨

سويد وعرفطة ، وروى أنّهما قتادة وعرفجة ، وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا دعا العمّ أو ابني العمّ قال ، أو قالا له «يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكي عدوّا» فقال «انصرف أو انصرفا ، حتّى انظر ما يحدث الله فيهنّ» فنزلت آية (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية. وروي أنّه لمّا نزلت هاته الآية أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وليّ البنتين فقال : «لا تفرّق من مال أبيهما شيئا فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيبا»

والنصيب تقدّم عند قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) في سورة آل عمران [٢٣].

وقوله : بيان ل (مِمَّا تَرَكَ) لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال ، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء ، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن معدّ بن عدنان لأبنائه : مضر ، وربيعة ، وإياد ، وأنمار ، فجعل لمضر الحمراء كلّها ، وجعل لربيعة الفرس ، وجعل لإياد الخادم ، وجعل لأنمار الحمار ، ووكلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجرهمي في نجران ، فانصرفوا إليه ، فقسم بينهم ، وهو الذي أرسل المثل : إنّ العصا من العصيّة.

وقوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) حال من (نَصِيبٌ) في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفردا ولم يراع تعدّده ، فلم يقل : نصيبين مفروضين ، على اعتبار كون المذكور نصيبين ، ولا قيل : أنصباء مفروضة ، على اعتبار كون المذكور موزّعا للرجال وللنساء ، بل روعي الجنس فجيء بالحال مفردا و (مَفْرُوضاً) وصف ، ومعنى كونه مفروضا أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء ، كما قال تعالى في الآية الآتية (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١١]. وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

جملة معطوفة على جملة (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) [النساء : ٧] إلى آخرها. وهذا أمر بعطية تعطى من الأموال الموروثة : أمر الورثة أن يسهموا لمن يحضر القسمة من ذوي قرابتهم غير الذين لهم حقّ في الإرث ، ممّن شأنهم أن يحضروا مجالس الفصل بين الأقرباء.

٣٩

وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) [النساء : ٧] وقوله : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ)[النساء : ٧] يقتضيان مقسوما ، فالتعريف في قوله : (الْقِسْمَةَ) تعريف العهد الذكري.

والأمر في قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) محمول عند جمهور أهل العلم على الندب من أوّل الأمر ، إذ ليس في الصدقات الواجبة غير الزكاة ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأعرابي لمّا قال له : هل عليّ غيرها؟ «لا إلّا أنّ تطوّع» وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وفقهاء الأمصار ، وجعلوا المخاطب بقوله : (فَارْزُقُوهُمْ) الورثة المالكين أمر أنفسهم ، والآية عند هؤلاء محكمة غير منسوخة ، وذهب فريق من أهل العلم إلى حمل الأمر بقوله : (فَارْزُقُوهُمْ) على الوجوب ، فعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، وعطاء ، والحسن ، والشعبي : أن ذلك حقّ واجب على الورثة المالكين أمر أنفسهم فهم المخاطبون بقوله : (فَارْزُقُوهُمْ).

وعن ابن عباس ، وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيّب ، وأبي صالح : أنّ ذلك كان فرضا قبل نزول آية المواريث ، ثم نسخ بآية المواريث ، ومآل هذا القول إلى موافقة قول جمهور أهل العلم.

عن ابن عباس أيضا. وزيد بن أسلم : أنّ الأمر موجّه إلى صاحب المال في الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الميراث واجب عليه أن يجعل في وصيّته شيئا لمن يحضر وصيّته من أولى القربى واليتامى والمساكين غير الذين أوصى لهم ، وأنّ ذلك نسخ تبعا لنسخ وجوب الوصية ، وهذا يقتضي تأويل قوله : (الْقِسْمَةَ) بمعنى تعيين ما لكل موصى له من مقدار.

وعن سعيد بن جبير : أنّ الآية في نفس الميراث وأنّ المقصود منها هو قوله : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال : فقوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) هو الميراث نفسه.

وقوله : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي قولوا لغير الورثة بأن يقال لهم إنّ الله قسم المواريث.

وقد علمت أنّ موقع الآية تمهيد لتفصيل الفرائض ، وأنّ ما ذهب إليه جمهور أهل العلم هو التأويل الصحيح للآية ، وكفاك باضطراب الرواية عن ابن عباس في تأويلها توهينا لتأويلاتهم.

والأمر بأن يقولوا لهم قولا معروفا أي قولا حسنا وهو ضدّ المنكر تسلية لبعضهم

٤٠