تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

وجزاء ، أي في معنى جواب لكلام سبقها ولا تختصّ بالسؤال ، فأدخلت في جواب (لو) بعطفها على الجواب تأكيدا لمعنى الجزاء ، فقد أجيبت (لو) في الآية بجوابين في المعنى لأنّ المعطوف على الجواب جواب ، ولا يحسن اجتماع جوابين إلّا بوجود حرف عطف. وقريب ممّا في هذه الآية قول العنبري في الحماسة :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قال المرزوقي : يجوز أن يكون (إذن لقام) جواب : (لو كنت من مازن) في البيت السابق كأنّه أجيب بجوابين. وجعل الزمخشري قوله : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ) جواب سؤال مقدّر ، كأنّه : قيل وما ذا يكون لهم بعد التثبيت ، فقيل : وإذن لآتيناهم. قال التفتازاني : «على أن الواو للاستئناف» ، أي لأنّ العطف ينافي تقدير سؤال. والحقّ أنّ ما صار إليه في «الكشّاف» تكلّف لا داعي إليه إلّا التزام كون (إذن) حرفا لجواب سائل ، والوجه أنّ الجواب هو ما يتلقّى به كلام آخر سواء كان سؤالا أو شرطا أو غيرهما.

وقوله : (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي لفتحنا لهم طرق العلم والهداية ، لأنّ تصدّيهم لامتثال ما أمروا به هو مبدأ تخلية النفوس عن التعلق بأوهامها وعوائدها الحاجبة لها عن درك الحقائق ، فإذا ابتدءوا يرفضون هذه المواقع فقد استعدّوا لتلقّي الحكمة والكمالات النفسانية ففاضت عليهم المعارف تترى بدلالة بعضها على بعض وبتيسير الله صعبها بأنوار الهداية والتوفيق ، ولا شكّ أنّ الطاعة مفتاح المعارف بعد تعاطي أسبابها.

[٦٩ ـ ٧٠] (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

تذييل لجملة : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٦٧] وإنّما عطفت باعتبار إلحاقها بجملة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) على جملة (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) [النساء : ٦٦]. وجيء باسم الإشارة في جملة جواب الشرط للتنبيه على جدارتهم بمضمون الخبر عن اسم الإشارة لأجل مضمون الكلام الذي قبل اسم الإشارة. والمعيّة معيّة المنزلة في الجنة وإن وإن كانت الدرجات متفاوتة.

ومعنى (مَنْ يُطِعِ) من يتّصف بتمام معنى الطاعة ، أي أن لا يعصي الله ورسوله.

١٨١

ودلّت (مع) على أنّ مكانة مدخولها أرسخ وأعرف ، وفي الحديث الصحيح «أنت مع من أحببت». والصديقون هم الذين صدّقوا الأنبياء ابتداء ، مثل الحواريين والسابقين الأوّلين من المؤمنين. وأمّا الشهداء فهم من قتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله. والصالحون الذين لزمتهم الاستقامة.

و (حسن) فعل مراد به المدح ملحق بنعم ومضمّن معنى التعجّب من حسنهم ، وذلك شأن فعل ـ بضم العين ـ من الثلاثي أن يدلّ على مدح أو ذمّ بحسب مادّته مع التعجّب. وأصل الفعل حسن ـ بفتحتين ـ فحوّل إلى فعل ـ بضمّ العين ـ لقصد المدح والتعجّب. و (أُولئِكَ) فاعل (حَسُنَ). و (رَفِيقاً) تمييز ، أي ما أحسنهم حسنوا من جنس الرفقاء. والرفيق يستوي فيه الواحد والجمع ، وفي حديث الوفاة «الرفيق الأعلى». وتعريف الجزأين في قوله : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) يفيد الحصر وهو حصر ادعائيّ لأنّ فضل الله أنواع ، وأصناف ، ولكنّه أريد المبالغة في قوّة هذا الفضل ، فهو كقولهم: أنت الرجل.

والتذييل بقوله : (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) للإشارة إلى أنّ الذين تلبّسوا بهذه المنقبة ، وإن لم يعلمهم الناس ، فإنّ الله يعلمهم والجزاء بيده فهو يوفّيهم الجزاء على قدر ما علم منهم ، وقد تقدّم نظيره في هذه السورة.

[٧١ ـ ٧٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

استئناف وانتقال إلى التحريض على الجهاد بمناسبة لطيفة ، فإنّه انتقل من طاعة الرسول إلى ذكر أشدّ التكاليف ، ثمّ ذكر الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ، وكان الحال أدعى إلى التنويه بشأن الشهادة دون بقية الخلال المذكورة معها الممكنة النوال. وهذه الآية تشير لا محالة إلى تهيئة غزوة من غزوات المسلمين ، وليس في كلام السلف ذكر سبب نزولها ، ولا شكّ أنّها لم تكن أوّل غزوة لأنّ غزوة بدر وقعت قبل نزول هذه السورة ، وكذلك غزوة أحد التي نزلت فيها سورة آل عمران ، وليست نازلة في غزوة الأحزاب لأنّ قوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) يقتضي أنّهم غازون لا مغزوّون ، ولعلّها نزلت لمجرّد التنبيه إلى قواعد الاستعداد لغزو العدوّ ، والتحذير من

١٨٢

العدوّ الكاشح ، ومن العدوّ الكائد ، ولعلّها إعداد لغزوة الفتح ، فإنّ هذه السورة نزلت في سنة ستّ ، وكان فتح مكة في سنة ثمان ، ولا شكّ أنّ تلك المدّة كانت مدّة اشتداد التألّب من العرب كلّهم لنصرة مشركي قريش والذبّ عن آلهتهم ، ويدلّ لذلك قوله بعد (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) [النساء : ٧٥] إلخ ، وقوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) [النساء : ١٤١] فإنّ اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ٢٧].

وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر. وهي أكبر قواعد القتال لاتّقاء خدع الأعداء. والحذر : هو توقّي المكروه.

ومعنى ذلك أن لا يغترّوا بما بيّنهم وبين العدوّ من هدنة صلح الحديبية ، فإنّ العدوّ وأنصاره يتربّصون بهم الدوائر ، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء ، وهم الذين عنوا بقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) ـ إلى ـ (فَوْزاً عَظِيماً).

ولفظ (خُذُوا) استعارة لمعنى شدّة الحذر وملازمته ، لأنّ حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيدا عنك. ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه ، كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقولهم : أخذ عليه عهدا وميثاقا. وليس الحذر مجازا في السلاح كما توهمه كثير ، فإنّ الله تعالى قال في الآية الأخرى (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء : ١٠٢]. فعطف السلاح عليه.

وقوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) تفريع عن أخذ الحذر لأنّهم إذا أخذوا حذرهم تخيّروا أساليب القتال بحسب حال العدوّ. و (انْفِرُوا) بمعنى أخرجوا للحرب ، ومصدره النّفر ، بخلاف نفر ينفر ـ بضمّ العين ـ في المضارع فمصدره النفور.

و (ثبات) بضمّ الثاء جمع ثبة ـ بضمّ الثاء أيضا ـ وهي الجماعة ، وأصلها ثبية أو ثبوة بالياء أو بالواو ، والأظهر أنّها بالواو ، لأنّ الكلمات التي بقي من أصولها حرفان وفي آخرها هاء للتأنيث أصلها الواو نحو عزة وعضة فوزنها فعة ، وأمّا ثبة الحوض ، وهي وسطه الذي يجتمع فيه الماء فهي من ثاب يثوب إذا رجع ، وأصلها ثوبة فخفّفت فصارت بوزن فلة ، واستدلّوا على ذلك بأنّها تصغّر على ثويبة ، وأنّ الثبة بمعنى الجماعة تصغّر على ثبيّة. قال النحّاس : «ربّما توهّم الضعيف في اللغة أنّهما واحد مع أنّ بينهما فرقا» ومع هذا فقد جعلهما صاحب «القاموس» من واد واحد وهو حسن ، إذ قد تكون ثبة الحوض مأخوذة من الاجتماع إلّا إذا ثبت اختلاف التصغير بسماع صحيح.

١٨٣

وانتصب (ثُباتٍ) على الحال ، لأنّه في تأويل : متفرّقين ، ومعنى (جَمِيعاً) جيشا واحدا.

وقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي من جماعتكم وعدادكم ، والخبر الوارد فيهم ظاهر منه أنّهم ليسوا بمؤمنين في خلوتهم ، لأنّ المؤمن إن أبطأ عن الجهاد لا يقول : «قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا» ، فهؤلاء منافقون ، وقد أخبر الله عنهم بمثل هذا صراحة في آخر هذه السورة بقوله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إلى ىقوله : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٣٨ ـ ١٤١]. وعلى كون المراد ب (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) المنافقين حمل الآية مجاهد ، وقتادة ، وابن جريج. وقيل : أريد بهم ضعفة المؤمنين يتثاقلون عن الخروج إلى أن يتّضح أمر النصر. قال الفخر «وهذا اختيار جماعة من المفسرين» وعلى هذا فمعنى و (مِنْكُمْ) أي من أهل دينكم. وعلى كلا القولين فقد أكّد الخبر بأقوى المؤكّدات لأنّ هذا الخبر من شأنه أن يتلقى بالاستغراب. وبطّأ ـ بالتضعيف ـ قاصر ، بمعنى تثاقل في نفسه عن أمر ، وهو الإبطاء عن الخروج إبطاء بداعي النفاق أو الجبن. والإخبار بذلك يستتبع الإنكار عليه ، والتعريض به ، مع كون الخبر باقيا على حقيقته لأنّ مستتبعات التراكيب لا توصف بالمجاز.

وقوله : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) تفريع عن (لَيُبَطِّئَنَ) ، إذ هذا الإبطاء تارة يجرّ له الابتهاج بالسلامة ، وتارة يجرّ له الحسرة والندامة.

و (المصيبة) اسم لما أصاب الإنسان من شرّ ، والمراد هنا مصيبة الحرب أعني الهزيمة من قتل وأسر.

ومعنى (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) الإنعام بالسلامة : فإن كان من المنافقين فوصف ذلك بالنعمة ظاهر ؛ لأنّ القتل عندهم مصيبة محضة إذ لا يرجون منه ثوابا ؛ وإن كان من ضعفة المؤمنين فهو قد عدّ نعمة البقاء أولى من نعمة فضل الشهادة لشدّة الجبن ، وهذا من تغليب الداعي الجبليّ على الداعي الشرعي.

والشهيد على الوجه الأوّل : إمّا بمعنى الحاضر المشاهد للقتال ، وإمّا تهكّم منه على المؤمنين مثل قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)[المنافقون : ٧] ؛ وعلى الوجه الثاني الشهيد بمعناه الشرعي وهو القتيل في الجهاد. وأكّد قوله : (وَلَئِنْ

١٨٤

أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَ) ، باللام الموطّئة للقسم وبلام جواب القسم وبنون التوكيد ، تنبيها على غريب حالته حتّى ينزّل سامعها منزلة المنكر لوقوع ذلك منه. والمراد من الفضل الفتح والغنيمة. وهذا المبطّئ يتمنّى أن لو كان مع الجيش ليفوز فوزا عظيما ، وهو الفوز بالغنيمة والفوز بأجر الجهاد ، حيث وقعت السلامة والفوز برضا الرسول ، ولذلك أتبع (فَأَفُوزَ) بالمصدر والوصف بعظيم. ووجه غريب حاله أنّه أصبح متلهّفا على ما فاته بنفسه ، وأنّه يودّ أن تجري المقادير على وفق مراده ، فإذا قعد عن الخروج لا يصيب المسلمين فضل من الله.

وجملة كأن لم يكن بينكم وبينه مودة معترضة بين فعل القول ومقوله. والمودّة الصحبة والمحبّة ؛ وإمّا أن يكون إطلاق المودّة على سبيل الاستعارة الصورية إن كان المراد به المنافق ، وإمّا أن تكون حقيقة إن أريد ضعفة المؤمنين.

وشبّه حالهم في حين هذا القول بحال من لم تسبق بينه وبين المخاطبين مودّة حقيقية أو صوريّة ، فاقتضى التشبيه أنّه كان بينه وبينهم مودّة من قبل هذا القول.

ووجه هذا التشبيه أنّه لمّا تمنّى أن لو كان معهم وتحسّر على فوات فوزه لو حضر معهم ، كان حاله في تفريطه رفقتهم يشبه حال من لم يكن له اتّصال بهم بحيث لا يشهد ما أزمعوا عليه من الخروج للجهاد ، فهذا التشبيه مسوق مساق زيادة تنديمه وتحسيره ، أي أنّه الذي أضاع على نفسه سبب الانتفاع بما حصل لرفقته من الخير ، أي أنّه قد كان له من الخلطة مع الغانمين ما شأنه أن يكون سببا في خروجه معهم ، وانتفاعه بثواب النصر وفخره ونعمة الغنيمة.

وقرأ الجمهور لم يكن ـ بياء الغيبة ـ وهو طريقة في إسناد الفعل لما لفظه مؤنّث غير حقيقيّ التأنيث ، مثل لفظ (مَوَدَّةٌ) هنا ، ولا سيما إذا كان فصل بين الفعل وفاعله.

وقرأ ابن كثير ، وحفص ، ورويس عن يعقوب ـ بالتاء الفوقية ـ علامة المضارع المسند إلى المؤنّث اعتبارا بتأنيث لفظ مودّة.

[٧٤ ـ ٧٦] (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ

١٨٥

كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

الفاء : إمّا للتفريع ، تفريع الأمر على الآخر ، أي فرّع (فَلْيُقاتِلْ) على (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا) [النساء : ٧١] ، أو هي فاء فصيحة ، أفصحت عمّا دلّ عليه ما تقدّم من قوله : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) وقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [٧٢] لأنّ جميع ذلك اقتضى الأمر بأخذ الحذر ، وهو مهيّئ لطلب القتال والأمر بالنفير والإعلام بمن حالهم حال المتردّد المتقاعس ، أي فإذا علمتم جميع ذلك ، فالذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لا كلّ أحد.

و (يَشْرُونَ) معناه يبيعون ، لأنّ شرى مقابل اشترى ، مثل باع وابتاع وأكرى واكترى ، وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في سورة البقرة [١٦]. فالذين يشرون الحياة الدنيا هم الذين يبذلونها ويرغبون في حظّ الآخرة. وإسناد القتال المأمور بع إلى أصحاب هذه الصلة وهي : (يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) للتنويه بفضل المقاتلين في سبيل الله ، لأنّ في الصلة إيماء إلى علّة الخبر ، أي يبعثهم على القتال في سبيل الله بذلهم حياتهم الدنيا لطلب الحياة الأبدية ، وفضيحة أمر المبطّئين حتى يرتدعوا عن التخلّف ، وحتّى يكشف المنافقون عن دخيلتهم ، فكان معنى الكلام : فليقاتل في سبيل الله المؤمنون حقّا فإنّهم يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، ولا يفهم أحد من قوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ) أنّ الأمر بالقتال مختصّ بفريق دون آخر ، لأنّ بذل الحياة في الحصول على ثواب الآخرة شيء غير ظاهر حتّى يعلّق التكليف به ، وإنّما هو ضمائر بين العباد وربّهم ، فتعيّن أنّ إسناد الأمر إلى أصحاب هذه الصلة مقصود منه الثناء على المجاهدين ، وتحقير المبطّئين ، كما يقول القائل «ليس بعشّك فادرجي». فهذا تفسير الآية بوجه لا يعتريه إشكال. ودخل في قوله : (أَوْ يَغْلِبْ) أصناف الغلبة على العدوّ بقتلهم أو أسرهم أو غنم أموالهم.

وإنّما اقتصر على القتل والغلبة في قوله : (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين ، وهي حالة الأسر ؛ فسكت عنها لئلّا يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضا إذا بذل جهده في الحرب فغلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك ، وليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنّه لا يجدي عنه الاستبسال ، فإنّ من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدوّ.

والخطاب في قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) التفات من طريق الغيبة ، وهو طريق

١٨٦

الموصول في قوله : (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) إلى طريق المخاطبة.

ومعنى (ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) ما يمنعكم من القتال ، وأصل التركيب : أي شيء حقّ لكم في حال كونكم لا تقاتلون ، فجملة (لا تُقاتِلُونَ) حال من الضمير المجرور للدلالة على ما منه الاستفهام.

والاستفهام إنكاري ، أي لا شيء لكم في حال لا تقاتلون ، والمراد أنّ الذي هو لكم هو أن تقاتلوا ، فهو بمنزلة أمر ، أي قاتلوا في سبيل الله لا يصدّكم شيء عن القتال ، وقد تقدّم قريب منه عند قوله تعالى : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في سورة البقرة [٢٤٦].

ومعنى (فِي سَبِيلِ اللهِ) لاجل دينه ولمرضاته ، فحرف (في) للتعليل ، ولأجل المستضعفين ، أي لنفعهم ودفع المشركين عنهم.

و (المستضعفون) الذين يعدّهم الناس ضعفاء ، و (فالسين والتاء للحسبان ، وأراد بهم من بقي من المؤمنين بمكة من الرجال الذين منعهم المشركون من الهجرة بمقتضى الصلح الذي انعقد بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين سفير قريش سهيل بن عمرو ؛ إذ كان من الشروط التي انعقد عليها الصلح : أنّ من جاء إلى مكة من المسلمين مرتدا عن الإسلام لا يردّ إلى المسلمين ، ومن جاء إلى المدينة فارّا من مكة مؤمنا يردّ إلى مكة. ومن المستضعفين الوليد بن الوليد. وسلمة بن هشام. وعيّاش بن أبي ربيعة. وأمّا النساء فهنّ ذوات الأزواج أو ولايى الأولياء المشركين اللائي يمنعهنّ أزواجهنّ وأولياؤهنّ من الهجرة : مثل أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وأمّ الفضل لبابة بنت الحارث زوج العباس ، فقد كنّ يؤذين ويحقّرن. وأمّا الولدان فهم الصغار من أولاد المؤمنين والمؤمنات ، فإنّهم كانوا يألمون من مشاهدة تعذيب آبائهم وذويهم وإيذاء أمّهاتهم وحاضناتهم ، وعن ابن عباس أنّه قال : كنت أنا وأمّي من المستضعفين.

والقتال في سبيل هؤلاء ظاهر ، لإنقاذهم من فتنة المشركين ، وإنقاذ الولدان من أن يشبّوا على أحوال الكفر أو جهل الإيمان.

والقرية هي مكّة. وسألوا الخروج منها لما كدّر قدسها من ظلم أهلها ، أي ظلم الشرك وظلم المؤمنين ، فكراهية المقام بها من جهة أنّها صارت يومئذ دار شرك ومناواة لدين الإسلام وأهله ، ومن أجل ذلك أحلّها الله لرسوله أن يقاتل أهلها ، وقد قال عباس بن مرداس يفتخر باقتحام خيل قومه في زمرة المسلمين يوم فتح مكة :

١٨٧

شهدن مع النبي مسوّمات

حنينا وهي دامية الحوامي

ووقعة خالد شهدت وحكّت

سنابكها على البلد الحرام

وقد سألوا من الله وليّا ونصيرا ، إذ لم يكن لهم يومئذ وليّ ولا نصير فنصرهم الله بنبيئه والمؤمنين يوم الفتح.

وأشارت الآية إلى أنّ الله استجاب دعوتهم وهيّأ لهم النصر بيد المؤمنين فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) ، أي فجنّد الله لهم عاقبة النصر ، ولذلك فرّع عليه الأمر بقوله : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً).

والطاغوت : الأصنام. وتقدّم تفسيره في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) في هذه السورة [٥] ، وقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) [النساء : ٦٠].

والمراد بكيد الشيطان تدبيره. وهو ما يظهر على أنصاره من الكيد للمسلمين والتدبير لتأليب الناس عليهم ، وأكّد الجملة بمؤكّدين (إنّ) (وكان) الزائدة الدالة على تقرّر ووصف الضعف لكيد الشيطان.

[٧٧ ـ ٧٩] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

تهيّأ المقام للتذكير بحال فريق من المسلمين اختلف أول حاله وآخره ، فاستطرد هنا

١٨٨

التعجيب من شأنهم على طريقة الاعتراض في أثناء الحثّ على الجهاد ، وهؤلاء فريق يودّون أن يؤذن لهم بالقتال فلمّا كتب عليهم القتال في إبّانه جبنوا. وقد علم معنى حرصهم على القتال قبل أن يعرض عليهم من قوله : (قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) ، لأنّ كفّ اليد مراد ، منه ترك القتال ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح : ٢٤].

والجملة معترضة بين جملة (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٥] والجمل التي بعدها وبين جملة (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٤] الآية اقتضت اعتراضها مناسبة العبرة بحال هذا الفريق وتقلّبها ، فالذين قيل لهم ذلك هم جميع المسلمين ، وسبب القول لهم هو سؤال فريق منهم ، ومحلّ التعجيب إنّما هو حال ذلك الفريق من المسلمين. ومعنى (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أنّه كتب عليكم في عموم المسلمين القادرين. وقد دلّت (إذا) الفجائية على أنّ هذا الفريق لم يكن تترقّب منهم هذه الحالة ، لأنّهم كانوا يظهرون من الحريصين على القتال. قال جمهور المفسّرين : إنّ هاته الآية نزلت في طائفة من المسلمين كانوا لقوا بمكة من المشركين أذى شديدا ، فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا رسول الله كنّا في عزّ ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة» واستأذنوه في قتال المشركين ، فقال لهم : «أنّي أمرت بالعفو (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فلمّا هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وفرض الجهاد جبن فريق من جملة الذين استأذنوه في القتال ، ففيهم نزلت الآية.

والمرويّ عن ابن عباس أنّ من هؤلاء عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، والمقداد بن الأسود ، وقدامة بن مظعون ، وأصحابهم ، وعلى هذا فقوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) مسوق مساق التوبيخ لهم حيث رغبوا تأخير العمل بأمر الله بالجهاد لخوفهم من بأس المشركين ، فالتشبيه جار على طريقة المبالغة لأنّ حمل هذا الكلام على ظاهر الإخبار لا يلائم حالهم من فضيلة الإيمان والهجرة.

وقال السديّ : «الذين قيل لهم كفّوا أيديكم» قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال وسألوا أن يفرض عليهم القتال فلمّا فرض القتال إذا فريق يخشون الناس. واختلف المفسّرون في المعنيّ بالفريق من قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) فقيل : هم فريق من الذين استأذنوا في مكة في أن يقاتلوا المشركين ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والكلبي ، وهو ظاهر الآية ، ولعلّ الذي حوّل عزمهم أنّهم صاروا في أمن وسلامة من الإذلال والأذى ، فزال عنهم الاضطرار للدفاع عن أنفسهم. وحكى القرطبي : أنّه قيل : إنّ هذا الفريق هم المنافقون. وعلى هذا الوجه يتعيّن تأويل نظم الآية بأن المسلمين الذين

١٨٩

استأذنوا في قتل المشركين وهم في مكة أنّهم لمّا هاجروا إلى المدينة كرروا الرغبة في قتال المشركين ، وأعاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهدئتهم زمانا ، وأنّ المنافقين تظاهروا بالرغبة في ذلك تمويها للنفاق ، فلمّا كتب القتال على المسلمين جبن المنافقون ، وهذا هو الملائم للإخبار عنهم بأنّهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ. وتأويل وصفهم بقوله (مِنْهُمْ) : أي من الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم ، وهذا على غموضه هو الذي ينسجم مع أسلوب بقية الكلام في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وما بعده ، كما سيأتي ، أمّا على قول السدّي فلا حاجة إلى تأويل الآية.

فالاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَ) للتعجيب ، وقد تقدّمت نظائره. والمتعجّب منهم ليسوا هم جميع الذين قيل لهم في مكة : كفّوا أيديكم ، بل فريق آخر من صفتهم أنّهم يخشون الناس كخشية الله. وإنّما علّق التعجيب بجميع الذين قيل لهم باعتبار أنّ فريقا منهم حالهم كما وصف ، فالتقدير : ألم تر إلى فريق من الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم.

والقول في تركيب قوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) كالقول في نظيره ، وهو قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) في سورة البقرة [٢٠٠].

وقولهم : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) إنّما هو قولهم في نفوسهم على معنى عدم الاهتداء لحكمة تعليل الأمر بالقتال وظنّهم أنّ ذلك بلوى. (والأجل القريب) مدّة متأخّرة ريثما يتمّ استعدادهم ، مثل قوله : (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون : ١٠].

وقيل : المراد من (الأجل) العمر ،. بمعنى لو لا أخّرتنا إلى أن تنقضي آجالنا دون قتال ، فيصير تمنّيا لانتفاء فرض القتال ، وهذا بعيد لعدم ملائمته لسياق الكلام ، إذ ليس الموت في القتال غير الموت بالأجل ، ولعدم ملاءمته لوصفه بقريب ، لأنّ أجل المرء لا يعرف أقريب هو أم بعيد إلّا إذا أريد تقليل الحياة كلّها. وعلى كلا الوجهين فالقتال المشار إليه هنا هو أوّل قتال أمروا به ، والآية ذكّرتهم بذلك في وقت نزولها حين التهيّؤ للأمر بفتح مكة. وقال السديّ : أريد بالفريق بعض من قبائل العرب دخلوا في الإسلام حديثا قبل أن يكون القتال من فرائضه وكانوا يتمنّون أن يقاتلوا فلما كتب عليهم القتال جبنوا لضعف إيمانهم ، ويكون القتال الذين خافوه هو غزو مكة ، وذلك أنّهم خشوا بأس المشركين.

وقولهم : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) يحتمل أن يكون قولا في نفوسهم ، ويحتمل أنّه مع ذلك قول بأفواههم ، ويبدو هو المتعيّن إذا كان المراد بالفريق فريق المنافقين ؛ فهم يقولون : ربّنا لم كتبت علينا القتال بألسنتهم علنا ليوقعوا الوهن في قلوب المستعدّين له

١٩٠

وهم لا يعتقدون أنّ الله كتب عليهم القتال ، وقال ابن جرير عن مجاهد : نزلت في اليهود ، وعليه تكون الآية مثالا ضربه الله للمسلمين الذين أوجب عليهم القتال ، تحذيرا لهم في الوقوع في مثل ذلك ، فيكون على طريقة قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) الآية في سورة البقرة [٢٤٦].

والرؤية بصرية ، وهي على بعض الوجوه المرويّة بصرية حقيقية ، وعلى بعضها بصرية تنزيلية ، للمبالغة في اشتهار ذلك.

وانتصب (خَشْيَةً) على التمييز لنسبة (أَشَدَّ) ، كما تقدّم في قوله تعالى : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وقد مرّ ما فيه في سورة البقرة [٢٠٠].

والجواب بقوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) جواب عن قولهم : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) سواء كان قولهم لسانيا وهو بيّن ، أم كان نفسيا ، ليعلموا أنّ الله أطلع رسوله على ما تضمره نفوسهم ، أي أنّ التأخير لا يفيد والتعلّق بالتأخير لاستبقاء الحياة لا يوازي حظّ الآخرة ، وبذلك يبطل ما أرادوا من الفتنة بقولهم : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ).

وموقع قوله : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) موقع زيادة التوبيخ الذي اقتضاه قوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) ، أي ولا تنقصون شيئا من أعماركم المكتوبة ، فلا وجه للخوف وطلب تأخير فرض القتال ؛ وعلى تفسير الأجل في : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) بأجل العمر ، وهو الوجه المستبعد ، يكون معنى (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) تغليطهم في اعتقادهم أنّ القتل يعجّل الأجل ، فيقتضي أن يكون ذلك عقيدة للمؤمنين إن كانوا هم المخاطبين قبل رسوخ تفاصيل عقائد الإسلام فيهم ، أو أنّ ذلك عقيدة المنافقين إن كانوا هم المخاطبين.

وقيل معنى نفي الظلم هنا أنّهم لا يظلمون بنقص ثواب جهادهم ، فيكون موقعه موقع التشجيع لإزالة الخوف ، ويكون نصبه على النيابة عن المفعول المطلق. وقيل : معناه أنّهم لا يظلمون بنقص أقلّ زمن من آجالهم ، ويجيء على هذا التفسير أن يجعل (تُظْلَمُونَ) بمعنى تنقصون ، كقوله تعالى : (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] ، أي كلتا الجنتين من أكلها ، ويكون (فَتِيلاً) مفعولا به ، أي لا تنقصون من أعماركم ساعة ، فلا موجب للجبن.

وقرأ الجمهور : (وَلا تُظْلَمُونَ) ـ بتاء الخطاب ـ على أنّه أمر الرسول أن يقوله لهم. وقرأه ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وروح عن يعقوب ، وخلف ـ بياء

١٩١

الغيبة ـ على أن يكون ممّا أخبر الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلّغه إليهم.

والفتيل تقدم آنفا عند قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٤٩].

وجملة : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) يجوز أن تكون من تمام القول المحكي بقوله: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ). وإنّما لم تعطف على جملة : (مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) لاختلاف الغرضين ، لأنّ جملة (مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) وما عطف عليها تغليط لهم في طلب التأخير إلى أجل قريب ، وجملة : (أَيْنَما تَكُونُوا) إلخ مسوقة لإشعارهم بأنّ الجبن هو الذي جملهم على طلب التأخير إلى أمد قريب ، لأنّهم توهّموا أنّ مواقع القتال تدني الموت من الناس. ويحتمل أن يكون القول قد تمّ ، وأنّ جملة (أَيْنَما تَكُونُوا) توجّه إليهم بالخطاب من الله تعالى ، أو توجّه لجميع الأمّة بالخطاب ، فتكون على كلا الأمرين معترضة بين أجزاء الكلام. و (أينما) شرط يستغرق الأمكنة (ولو) في قوله : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) وصلية ـ وقد تقدّم تفصيل معناها واستعمالها عند قوله : ـ في سورة آل عمران [٩١] : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

والبروج جمع برج ، وهو البناء القويّ والحصن : والمشيّدة : المبنيّة بالشّيد ، وهو الجصّ ، وتطلق على المرفوعة العالية ، لأنّهم إذا أطالوا البناء بنوه بالجصّ ، فالوصف به مراد به المعنى الكنائي. وقد يطلق البروج على منازل كواكب السماء كقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] وقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج : ١]. وعن مالك أنّه قال : البروج هنا بروج الكواكب ، أي ولو بلغتم السماء. وعليه يكون وصف (مُشَيَّدَةٍ) مجازا في الارتفاع ، وهو بصير مجازا في الارتفاع ، وهو بعيد.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩)).

يتعيّن على المختار ممّا روي في تعيين الفريق الذين ذكروا في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) من أنّهم فريق من المؤمنين المهاجرين أن يكون ضمير الجمع في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) عائدا إلى المنافقين لأنّهم معلومون من المقام ، ولسبق ذكرهم في قوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢] وتكون الجملة معطوفة عطف

١٩٢

قصّة على قصّة ، فإنّ ما حكي في هذه الآية لا يليق إلّا بالمنافقين ، ويكون الغرض انتقل من التحريض على القتال إلى وصف الذين لا يستجيبون إلى القتال لأنّهم لا يؤمنون بما يبلّغهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وعد الله بنصر المؤمنين. وأمّا على رواية السدّي فيحتمل أنّ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثا من قبائل العرب كانوا على شفا الشكّ فإذا حلّ بهم سوء أو بؤس تطيّروا بالإسلام فقالوا : هذه الحالة السوأى من شؤم الإسلام. وقد قيل : إنّ بعض الأعراب كان إذا أسلم وهاجر إلى المدينة فنمت أنعامه ورفهت حاله حمد الإسلام ، وإذا أصابه مرض أو موتان في أنعامه تطيّر بالإسلام فارتدّ عنه ، ومنه حديث الأعرابي الذي أصابته الحمّى في المدينة فاستقال من النبي بيعته وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأنه : «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها».

والقول المراد في قوله : (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) هو قول نفسي ، لأنّهم لم يكونوا يجترئون على أن يقولوا ذلك علنا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يظهرون الإيمان به. أو هو قول يقولونه بين إخوانهم من المنافقين ، يقولون : هذه من عند محمد ، فيكون الإتيان بكاف الخطاب من قبيل حكاية كلامهم بحاصل معناه على حسب مقام الحاكي والمحكي له ، وهو وجه مطروق في حكاية كلام الغائب عن المخاطب إذا حكى كلامه لذلك المخاطب. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧]. والمأمور به هو : أن اعبدوا الله ربك وربّهم. وورد أنّ قائل ذلك هم اليهود ، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام السابق ، لأنّ المعنيّ به معروفون في وقت نزول الآية ، وقديما قيل لأسلافهم (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١]. والمراد بالحسنة والسّيئة هنا ما تعارفه العرب من قبل اصطلاح الشريعة أعني الكائنة الملائمة والكائنة المنافرة ، كقولهم : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ، وتعلّق فعل الإصابة بهما دليل على ذلك ، أمّا الحسنة والسّيئة بالاصطلاح الشرعي ، أعني الفعل المثاب عليه والفعل المعاقب عليه ، فلا محمل لهما هنا إذ لا يكونان إصابتين ، ولا تعرف إصابتهما لأنّهما اعتباران شرعيان. وقيل : كان اليهود يقولون : «لمّا جاء محمد المدينة قلّت الثمار ، وغلت الأسعار». فجعلوا كون الرسول بالمدينة هو المؤثّر في حدوث السّيئات ، وأنّه لولاه لكانت الحوادث كلّها جارية على ما يلائمهم ، ولذلك جيء في حكاية كلامهم بما يدلّ على أنّهم أرادوا هذا المعنى ، وهو كلمة (عند) في الموضعين : (هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) ؛ إذ

١٩٣

العندية هنا عندية التأثير التامّ بدليل التسوية في التعبير ، فإذا كان ما جاء من عند الله معناه من تقديره وتأثير قدرته ، فكذلك مساويه وهو ما جاء من عند الرسول. وفي «البخاري» عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء ، وهذا يقتضي أن فعل ذلك من مهاجرة العرب : يقولونه إذا أرادوا الارتداد وهم أهل جفاء وغلظة ، فلعلّ فيهم من شافه الرسول بمثل قولهم : (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ). ومعنى (مِنْ عِنْدِ اللهِ) في اعتقادهم أنّه الذي ساقها إليهم وأتحفهم بها لما هو معتاده من الإكرام لهم ، وخاصّة إذا كان قائل ذلك اليهود. ومعنى (مِنْ عِنْدِكَ) أي من شؤم قدومك ، لأنّ الله لا يعاملهم إلّا بالكرامة ، ولكنّه صار يتخوّلهم بالإساءة لقصد أذى المسلمين فتلحق الإساءة اليهود من جرّاء المسلمين على حدّ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) [الأنفال : ٢٥] الآية.

وقد علّمه الله أن يجيب بأنّ كلا من عند الله ، لأنّه لا معنى لكون شيء من عند الله إلّا أنّه الذي قدّر ذلك وهيّأ أسبابه ، إذ لا يدفعهم إلى الحسنات مباشرة. وإن كان كذلك فكما أنّ الحسنة من عنده ، فكذلك السيّئة بهذا المعنى بقطع النظر عمّا أراده بالإحسان والإساءة ، والتفرقة بينهما من هذه الجهة لا تصدر إلّا عن عقل غير منضبط التفكير ، لأنّهم جعلوا بعض الحوادث من الله وبعضها من غير الله فلذلك قال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي يكادون أن لا يفقهوا حديثا ، أي أن لا يفقهوا كلام من يكلّمهم ، وهذا مدلول فعل (كاد) إذا وقع في سياق النفي ، كما تقدّم في قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].

والإصابة : حصول حال أو ذات ، في ذات يقال : أصابه مرض ، وأصابته نعمة ، وأصابه سهم ، وهي ، مشقّة من اسم الصّوب الذي هو المطر ، ولذلك كان ما يتصرّف من الإصابة مشعرا بحصول مفاجئ أو قاهر.

وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد ، فقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). ووجّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله ، ولأنّ هذا الجواب لإبطال ما نسبه الضالّون إليه من كونه مصدر السيّئات التي تصيبهم.

١٩٤

وأعلم أنّ للحوادث كلّها مؤثّرا. وسببا مقارنا ، وأدلّة تنبئ عنها وعن عواقبها ، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها ، سواء كانت غير اختيارية ، أم اختيارية كأفعال العباد. فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدره وخلق مؤثّراتها وأسبابها ، فهذا الجزء لله وحده لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

والله أقام بالألطاف الموجودات ، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات ، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة ، لولاها لما بقيت الأنواع ، وساق إليها أصول الملاءمة ، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب ، فالله لطيف بعباده. فهذا الجزء لله وحده لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية ، والعقلية ، والعادية ، والشرعية ، وعلّم طرائق الوصول إليها ، وطرائق الحيدة عنها ، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يمانعها ، وبعث الرسل وشرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها ، وعواقب ذلك الظاهرة والخفيّة ، في الدنيا والآخرة ، فأكمل المنّة ، وأقام الحجّة ، وقطع المعذرة ، فهدى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف ، ونمّاها بالتفكيرات والإلهامات ، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم ، فهذا الجزء أيضا لله وحده. وأمّا الأسباب المقارنة للحوادث الحسنة والسيّئة والجانية لجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع ، والجهل بتلك الوسائل ، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد ، وباختياره الصالح لاجتناء الخير ، ومقدارا ضدّ ذلك : من غلبة الجهل ، أو غلبة الهوى ، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر ، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها ، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّا فيه ، ملّكه إيّاه ، فإذا جاءت الحسنة أحدا فإنّ مجيئها إيّاه بخلق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه ، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة ، أي الشيء الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى ، فكانت المنّة فيها لله وحده ، إذ لو لا لطفه وإرشاده وهديه ، لكان الإنسان في حيرة ، فصحّ أنّ الحسنة من الله ، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه.

أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى ، ولكن إصابة معظمها الإنسان يأتي من جهله ، أو تفريطه ، أو سوء نظره في العواقب ، أو تغليب هواه على رشده ، وهنالك

١٩٥

سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسف وأوبئة ، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات ، على أنّ بعضا منه كان جزاء على سوء فعل ، فلا جرم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مباشرة أو بواسطة ، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه ، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ. وقد فسّر هذا المعنى ما ورد في «الصحيح» ، ففي حديث الترمذي «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو ما دونها إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر».

وشملت الحسنة والسيّئة ما كان من الأعيان ، كالمطر والصواعق ، والثمرة والجراد ، وما كان من الأعراض كالصحّة ، وهبوب الصّبا ، والربح في التجارة. وأضدادها كالمرض ، والسّموم المهلكة ، والخسارة. وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية ، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره ، والمعاصي الضارّة به وبالناس ، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : ٥٠] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه.

ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّه الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ، فقوله : (لا يَكادُونَ) يجوز أن يكون جاريا على نظائره من اعتبار القلب ، أي يكادون لا يفقهون ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] فيكون فيه استبقاء عليهم في المذمّة. ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب ، أي لا يقاربون فهم الحديث الذي لا يعقله إلّا الفطناء ، فيكون أشدّ في المذمّة.

والفقه فهم ما يحتاج إلى إعمال فكر. قال الراغب : «هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، وهو أخص من العلم». وعرفه غيره بأنّه «إدراك الأشياء الخفيّة».

والخطاب في قوله : (ما أَصابَكَ) خطاب للرسول ، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر ، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك.

وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب «حزّ الغلاصم» : إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية ، وليستا كذلك.

١٩٦

وأنا أقول : إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلّا قولا بموجب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّرّ على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة ـ كما بيّنته آنفا ـ يجعل الآية صالحة للاستدلال ، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم.

وجيء في حكاية قولهم : (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) بكلمة (عند) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبي عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يفيد جزمهم بذلك الانتساب.

ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) مشاكلة لقولهم ، وإعرابا عن التقدير الأزلي عند الله.

وأمّا قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فلم يؤت فيه بكلمة (عند) ، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيّئة من نفس المخاطب ، ابتداء المتسبّب لسبب الفعل ، وليس ابتداء المؤثّر في الأثر.

وقوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) عطف على قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) للردّ على قولهم : السيئة من عند محمد ، أي أنك بعثت مبلّغا شريعة وهاديا ، ولست مؤثرا في الحوادث ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة. فمعنى (أَرْسَلْناكَ) بعثناك كقوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) [الحجر : ٢٢] ونحوه. و (لِلنَّاسِ) متعلق ب (أَرْسَلْناكَ). وقوله (رَسُولاً) حال من (أَرْسَلْناكَ) ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان : وهو النبي المبلّغ عن الله تعالى ، فهو لفظ لقيي دالّ على هذا المعنى ، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئه حالا مقيّدة ل «أرسلناك» ، لاختلاف المعنيين ، أي بعثناك مبلّغا لا مؤثّرا في الحوادث ، ولا أمارة على وقوع الحوادث السيّئة. وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفيدة إلّا التأكيد ، حتّى احتاجوا إلى جعل المجرور متعلّقا ب (رَسُولاً) ، وأنّه قدّم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف ، كما في «الكشّاف» ، أي لجميع الناس لا لبعضهم ، وهو تكلّف لا داعي إليه ، وليس المقام هذا الحصر.

[٨٠ ، ٨١] (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ

١٩٧

ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))

هذا كالتكملة لقوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء : ٧٩] باعتبار ما تضمّنه من ردّ اعتقادهم أنّ الرسول مصدر السيّئات التي تصيبهم ، ثم من قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩] إلخ ، المؤذن بأنّ بين الخالق وبين المخلوق فرقا في التأثير وأنّ الرسالة معنّى آخر فاحترس بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) عن توهّم السامعين التفرقة بين الله ورسوله في أمور التشريع ، فأثبت أنّ الرسول في تبليغه إنّما يبلّغ عن الله ، فأمره أمر الله ، ونهيه نهي الله ، وطاعته طاعة الله ، وقد دلّ على ذلك كلّه قوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لاشتمالها على إثبات كونه رسولا واستلزامها أنّه يأمر وينهى ، وأنّ ذلك تبليغ لمراد الله تعالى ، فمن كان على بيّنة من ذلك أو كان في غفلة فقد بيّن الله له اختلاف مقامات الرسول ، ومن تولّى أو أعرض واستمرّ على المكابرة (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، أي حارسا لهم ومسئولا عن إعراضهم ، وهذا تعريض بهم وتهديد لهم بأن صرفه عن الاشتغال بهم ، فيعلم أنّ الله سيتولّى عقابهم.

والتولّي حقيقته الانصراف والإدبار ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) [البقرة : ٢٠٥] وفي قوله : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) في سورة البقرة [١٤٢]. واستعمل هنا مجازا في العصيان وعدم الإصغاء إلى الدعوة.

ثم بيّن أنّهم لضعف نفوسهم لا يعرضون جهرا بل يظهرون الطاعة ، فإذا أمرهم الرسول أو نهاهم يقولون له (طاعَةٌ) أي : أمرنا طاعة ، وهي كلمة يدلّون بها على الامتثال ، وربما يقال : سمع وطاعة ، وهو مصدر مرفوع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف ، أي أمرنا أو شأننا طاعة ، كما في قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨]. وليس هو نائبا عن المفعول المطلق الآتي بدلا من الفعل الذي يعدل عن نصبه إلى الرفع للدلالة على الثبات مثل «قال سلام» ، إذ ليس المقصود هنا إحداث الطاعة وإنّما المقصود أنّنا سنطيع ولا يكون منّا عصيان.

ومعنى (بَرَزُوا) خرجوا ، وأصل معنى البروز الظهور ، وشاع إطلاقه على الخروج مجازا مرسلا.

و (بَيَّتَ) هنا بمعنى قدّر أمرا في السّرّ وأضمره ، لأنّ أصل البيات هو فعل شيء في الليل ، والعرب تستعير ذلك إلى معنى الإسرار ، لأنّ الليل أكتم للسرّ ، ولذلك يقولون : هذا

١٩٨

أمر قضي بليل ، أي لم يطّلع عليه أحد ، وقال الحارث بن حلّزة :

أجمعوا أمرهم بليل فلمّا

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

وقال أبو سفيان : هذا أمر قضى بليل. وقال تعالى : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] أي : لنقتلنّهم ليلا. وقال : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٠٨]. وتاء المضارعة في (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) للمؤنث الغائب ، وهو الطائفة ويجوز أن يراد خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي غير الذي تقول لهم أنت ، فيجيبون عنه بقولهم : طاعة. ومعنى (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) التهديد بإعلامهم أنّه لن يفلتهم من عقابه ، فلا يغرّنهم تأخّر العذاب مدّة. وقد دلّ بصيغة المضارع في قوله : (يَكْتُبُ) على تجدّد ذلك ، وأنّه لا يضاع منه شيء.

وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أمر بعدم الاكتراث بهم ، وأنّهم لا يخشى خلافهم ، وأنّه يتوكّل على الله (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي متوكّلا عليه ، ولا يتوكّل على طاعة هؤلاء ولا يحزنه خلافهم.

وقرأ الجمهور (بَيَّتَ طائِفَةٌ) ـ بإظهار تاء (بيّت) من طاء (طائفة) ـ. وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف ـ بإدغام التاء في الطاء ـ تخفيفا لقرب مخرجيهما.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢))

الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلّق بهؤلاء المنافقين أو الكفرة الصرحاء وبتولّيهم المعرض بهم في شأنه بقوله : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء : ٨٠] ، وبقولهم (طاعَةٌ) [النساء : ٨١] ، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه. ولمّا كان ذلك كلّه أثرا من آثار استبطان الكفر ، أو الشكّ ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى ممّا أمروا به ، وكان استمرارهم على ذلك ، مع ظهور دلائل الدّين ، منبئا بقلّة تفهّمهم القرآن ، وضعف استفادتهم ، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلّة تفهمهم. فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفّر أسباب التدبير لديهم.

تحدّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن ، كما تحدّاهم بألفاظه ، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكّوا في أنّ القرآن من عند الله ، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به ، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم ، ويشكّكون ويشكّون إذا بدا لهم شيء من التعارض ، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي

١٩٩

قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) [آل عمران : ٧] الآية.

والتدبّر مشتقّ من الدّبر ، أي الظّهر ، اشتقّوا من الدّبر فعلا ، فقالوا : تدبّر إذا نظر في دبر الأمر ، أي في غائبه أو في عاقبته ، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة. والتدبّر يتعدّى إلى المتأمّل فيه بنفسه ، يقال : تدبّر الأمر. فمعنى (يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتأمّلون دلالته ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين ، أي تدبّر تفاصيله ؛ وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله ، وأنّ الذي جاء به صادق. وسياق هذه الآيات يرجّح حمل التدبّر هنا على المعنى الأول ، أي لو تأمّلوا وتدبّروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم ، ولما بقوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام. وكلا المعنيين صالح بحالهم ، إلّا أنّ المعنى الأول أشدّ ارتباطا بما حكي عنهم من أحوالهم.

وقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) إلخ يجوز أن يكون عطفا على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبّر في تفاصيله ، وأعلموا بما يدلّ على أنّه من عند الله ، وذلك انتفاء الاختلاف منه ، فيكون الأمر بالتدبّر عامّا ، وهذا جزئيّ من جزئيات التدبّر ذكر هنا انتهازا لفرصة المناسبة لغمرهم بالاستدلال على صدق الرسول ، فيكون زائدا على الإنكار المسوق له الكلام ، تعرّض له لأنّه من المهمّ بالنسبة إليهم إذ كانوا في شكّ من أمرهم. وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبّر هنا. ويجوز أن تكون الجملة حالا من «القرآن» ، ويكون قيدا للتدبّر ، أي ألا يتدبّرون انتفاء الاختلاف منه فيعلمون أنّه من عند الله ، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبّر.

وممّا يستأنس به للإعراب الأوّل عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال ، وهي قوله : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) إلى قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٠ ـ ٢٤] وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسّرين.

والاختلاف يظهر أنّه أريد به اختلاف بعضه مع بعض ، أي اضطرابه ، ويحتمل أنّه اختلافه مع أحوالهم : أي لوجدوا فيه اختلافا بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنّه من عند الله ، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصف المطّلع على الغيوب ، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم. ووصف الاختلاف بالكثير في الطرف الممتنع وقوعه بمدلول (لو). ليعلم المتدبّر أنّ انتفاء

٢٠٠