تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

المريسيع صلّوا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم. هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر ، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّد بنوعه ، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير ، مثل عدد الركعات في الصلوات ، وكأنّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه ، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار ، إلّا أنّ هذا القول لم ينقل عند أحد من السلف ، وهو ما سبق إلى خاطر عمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يكفيك من ذلك الوجه والكفّان». ولأجل هذا أيضا اختلف السلف في حكم التيمّم ، فقال عمر وابن مسعود : لا يقع التيمّم بدلا إلّا عن الوضوء دون الغسل ، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر. وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود : روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود : أرأيت إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع؟ قال عبد الله : لا يصلّي حتّى يجد الماء. فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي : كان يكفيك هكذا ، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه ، قال ابن مسعود : ألم تر عمر لم يقنع منه بذلك ، قال أبو موسى. فدعنا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمّم ، ولا شك أنّ عمر ، وابن مسعود ، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) رخصة لمرور المسجد ، وجعلا (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) مرادا به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي ، وخالف جميع علماء الأمّة عمر وابن مسعود في هذا ، فقال الجمهور : يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نزلة أو نزلة أو حمّى. وقال الشافعي : لا يتيمّم إلّا فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته ، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة ، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول ، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة. وقد تيمّم عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، «فذكروا ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فقال عمرو : إني سمعت الله يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.

وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه

١٤١

واليدين ، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بله أعضاء الغسل ، إذ ليس المقصود منه تطهيرا حسيّا ، ولا تجديد النشاط ، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة ، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزئ منه إلّا مسح سائر الجسد بالصعيد ، فعلّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء ، فقد ثبت في «الصحيح» عن عمّار بن ياسر ، قال : كنت في سفر فأجنبت فتمعّكت في التراب (أي تمرّغت) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال «يكفيك الوجه والكفان» وقد تقدّم آنفا.

والباء للتأكيد مثل : «وهزّي إليك بجذع النخلة» وقول النابغة ـ يرثي النعمان بن المنذر ـ :

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

وأصبح جدّ الناس يظلع عاثرا

أراد إن وارتك الأرض مواراة الدفن. والمعنى : فامسحوا وجوهكم وأيديكم ، وقد ذكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصة على رخصة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض ، ولا ترقّب وجود الماء عند عدمه ، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥))

استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] فإنّه بعد نذارة المشركين وجّه الإنذار لأهل الكتاب ، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة ، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما ، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمر بالطهارة ، لأنّ ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره ، فهم يحسدون المسلمين عليه ، لأنّهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم ، وأرادوا إضلال المسلمين عداء منهم.

وجملة (أَلَمْ تَرَ) ـ الى ـ (الْكِتابِ) جملة يقصد منها التعجيب ، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يودّ المخاطب انتفاءه عنه ، ليكون ذلك محرّضا على الإقرار بأنه

١٤٢

فعل ، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب ، وتقدّم نظيرها في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) في سورة آل عمران [٢٣].

وجملة (يَشْتَرُونَ) حالية فهي قيد لجملة (أَلَمْ تَرَ) ، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزّلت منزلة المشاهد المرئيّ ، لأنّ شهرة الشيء وتحقّقه تجعله بمنزلة المرئيّ.

والنصيب تقدّم عند قوله : و (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) [النساء : ٧] في هذه السورة ، وفي اختياره هنا إلقاء احتمال قلّته في نفوس السامعين ، وإلّا لقيل : أوتوا الكتاب ، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) [النساء : ١٤١] ، أي نصيب من الفتح أو من النصر.

والمراد بالكتاب التوراة ، لأنّ اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة ، ولم يكن فيها أحد من النصارى.

والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء ، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبايعين ، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه ، هكذا اعتبر أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلّا فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشار ، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازا على الاختيار ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في سورة البقرة [١٦]. وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى علمهم عليهم.

وقوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء ، كقوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩]. فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل ، أي يسعون لأن تضلّوا ، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان ، وقد تقدّم آنفا قوله تعالى : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء : ٢٧].

وجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) معترضة ، وهي تعريض ؛ فإنّ إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد.

١٤٣

وجملة (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) [النساء : ٤٥] تذييل لتطمئنّ نفوس المؤمنين بنصر الله ، لأنّ الإخبار عن اليهود بأنّهم يريدون ضلال المسلمين ، وأنّهم أعداء للمسلمين ، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين ، إذ كان اليهود المحاورون للمسلمين ذوي عدد وعدد ، وبيدهم الأموال ، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها : من قينقاع وقريظة والنضير وخيبر ، فعداوتهم ، وسوء نواياهم ، ليسا بالأمر الذي يستهان به ؛ فكان قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) مناسبا لقوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) ، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فالله وليّكم يهديكم ويتولّى أموركم شأن الوليّ مع مولاه ، وكان قوله : (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) مناسبا لقوله : (بِأَعْدائِكُمْ) ، أي فالله ينصركم.

وفعل (كَفى) في قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) مستعمل في تقوية اتّصاف فاعله بوصف يدلّ عليه التمييز المذكور بعده ، أي أنّ فاعل (كَفى) أجدر من يتّصف بذلك الوصف ، ولأجل الدلالة على هذا غلب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل كفى ، وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية ، بحيث يحصل إبهام يشوّق السامع إلى معرفة تفصيله ، فيأتون باسم يميّز نوع تلك النسبة ليتمكّن المعنى في ذهن السامع.

وقد يجيء فاعل (كَفى) غير مجرور بالباء ، كقول عبد بني الحسحاس :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وجعل الزجّاج الباء هنا غير زائدة وقال : ضمّن فعل كفى معنى اكتف ، واستحسنه ابن هشام.

وشذّت زيادة الباء في المفعول ، كقول كعب بن مالك أو حسّان بن ثابت :

فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النبي محمّد إيّانا

وجزم الواحدي في شرح قول المتنبّي :

كفى بجسمي نحولا أنّني رجل

لو لا مخاطبتي إيّاك لم ترني

بأنه شذوذ.

ولا تزاد الباء في فاعل (كَفى) بمعنى أجزأ ، ولا التي بمعنى وقّى ، فرقا بين استعمال كفى المجازي واستعمالها الحقيقي الذي هو معنى الاكتفاء بذات الشيء نحو :

كفاني ولم أطلب قليل من المال

١٤٤

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

يجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا.

و (مِنَ) تبعيضية ، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة (يُحَرِّفُونَ) والتقدير : قوم يحرّفون الكلم.

وحذف المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفا بجملة أو ظرف ، وكان بعض اسم مجرور بحرف (مِنَ) ، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ. ومن كلمات العرب المأثورة قولهم : «منّا ظعن ومنّا أقام» أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام. ومنه قول ذي الرمّة :

فظلّوا ومنهم دمعه غالب له

وآخر يذري دمعة العين بالهمل

أي ومنهم فريق ، بدليل قوله في العطف وآخر. وقول تميم بن مقيل :

وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقد دلّ ضمير الجمع في قوله (يُحَرِّفُونَ) أنّ هذا صنيع فريق منهم ، وقد قيل : إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التّابوت من اليهود ، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق ، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحدا ويؤتى بضمير الجماعة ، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله عليه‌السلام : «ما بال أقوام يشترطون» إلخ.

ويجوز أن يكون (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) صفة للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، وتكون (مِنَ) بيانيّة أي هم الذين هادوا ، فتكون جملة (يُحَرِّفُونَ) حالا من قوله : (الَّذِينَ هادُوا). وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين. والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته ، وسيأتي عند قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) في سورة المائدة [١٣] ، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل ، كما يقال : تنكّب عن الصراط ، وعن الطريق ، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل ، فهو على هذا تحريف مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة ، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن

١٤٥

بالتأويلات الفاسدة. ويجوز أن يكون التحريف مشتقّا من الحرف وهو الكلمة والكتابة ، فيكون مرادا به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتوافق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال. والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم. وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم ، ناظر إلى غالب أحوالهم ، فعلى الاحتمال الأول يكون استعمال (عَنْ) في قوله : (عَنْ مَواضِعِهِ) مجازا ، ولا مجاوزة ولا مواضع ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذ نقل وإزالة.

وقوله : (وَيَقُولُونَ) عطف على (يُحَرِّفُونَ) ذكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم ، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : يقولون سمعنا دعوتك وعصيناك ، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم ، ولذلك لم يروا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) إظهار للتأدب معه.

ومعنى (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أنّهم يقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منّا ، ويعقّبون ذلك بقولهم : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم : غير مسمع ، أي غير مأمور بأن تسمع ، في معنى قول العرب : (افعل غير مأمور). وقيل معناه : غير مسمع مكروها ، فلعلّ العرب كانوا يقولون : أسمعه بمعنى سبّه. والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف. إطلاقا متعارفا ، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمح به تركيبها الوضعي ، أي أن لا يسمع صوتا من متكلّم. لأن يصير أصمّ ، أو أن لا يستجاب دعاؤه. والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا) ـ إلى قوله : ـ (اسْمَعْ وَانْظُرْنا) فأزال لهم كلمة (غير مسمع). وقصدهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يرضوا الرسول والمؤمنين ويرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول ـ عليه‌السلام ـ ويرضوا قومهم ، فلا يجدوا عليهم حجّة.

وقولهم : (وَراعِنا) أتوا بلفظ ظاهره طلب المراعاة ، أي الرفق ، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل ، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفق بالمرعيّ ، وطلب الخصب له ، ودفع العادية عنه. وهم يريدون ب (راعِنا) كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العربية ، وقد روي أنّها كلمة راعونا وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها ، يوهمون أنّهم يعظّمون

١٤٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضمير الجماعة ، ويدلّ لذلك أنّ الله نهى المسلمين عن متابعتهم إيّاهم في ذلك اغترارا فقال في سورة البقرة [١٠٤] : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا).

واللّيّ أصله الانعطاف والانثناء ، ومنه «ولا تلوون على أحد» ، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين : اللّي ، والألسنة ، أي أنّهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبها لغتين بأن يشبعوا حركات ، أو يقصروا مشبعات ، أو يفخّموا مرقّقا ، أو يرقّقوا مفخما ، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبه صورة كلمة أخرى ، فإنّه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة ، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا. ويحتمل أن يراد بلفظ (اللي) مجازه ، وب (الألسنة) مجازه : فالليّ بمعنى تغيير الكلمة ، والألسنة مجاز على الكلام ، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحّض لمعنى الخير.

وانتصب «ليّا» على المفعول المطلق ل (يَقُولُونَ) ، لأنّ الليّ كيفية من كيفيات القول.

وانتصب (طَعْناً فِي الدِّينِ) على المفعول لأجله ، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر ، ولا ضير فيه ، ولك أن تجعلهما معا مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما ، وإنما كان قولهم (طَعْناً فِي الدِّينِ) ، لأنّهم أضمروا في كلامهم قصدا خبيثا فكانوا يقولون لإخوانهم ، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان : لو كان محمّد رسولا لعلم ما أردنا بقولنا ، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها.

وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيرا. وقوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) يشبه أنّه ممّا جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله «سمّع وطاعة» ، أي شأني سمع وطاعة ، وهو ممّا التزم فيه حذف المبتدإ لأنّه جرى مجرى المثل ، وسيجيء في سورة النور [٥١] قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

وقوله : (وَأَقْوَمَ) تفضيل مشتقّ من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور ، كقولهم : قام الدليل على كذا ، وقامت حجّة فلان. وإنّما كان أقوم لأنّه دالّ على معنى لا احتمال فيه ، بخلاف قولهم.

والاستدراك في قوله : (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ناشئ عن قوله : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ، أي ولكن أثر اللّعنة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشح نفوسهم إلّا بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيّئ وقول بذاء لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك.

١٤٧

ومعنى (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أنهم لا يؤمنون أبدا فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه ، وأطلق القلّة على العدم. وفسّر به قول تأبّط شرّا :

قليل التشكّي للمهمّ يصيبه

كثير الهوى شتّى النّوى والمسالك

قال الجاحظ في «كتاب البيان» عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين «كثيرة العقارب قليلة الأقارب» ، يضعون (قليلا) في موضع (ليس)، كقولهم : فلان قليل الحياء. ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قلّ». قلت : ومنه قول العرب : قلّ رجل يقول ذلك ، يريدون أنّه غير موجود. وقال صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى : «أإله مع الله قليلا ما تذكّرون» «والمعنى نفي التذكير. والقلّة مستعمل في معنى النفي». وإنّما استعملت العرب القلّة عوضا عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد ، فكأنّ المتكلّم يخشى أن يتلقّى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وزع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تعنّ من فرص الموعظة والهدى إلّا انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة (١١) إذ قال : «فلمّا ألحدوا الميت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخ من رباوة ، متأبّطا لهراوة ، فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون» إلخ ، لذلك جيء بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) الآية ـ عقب ما تقدّم ـ.

وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٢٣] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه

١٤٨

حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيبا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يؤتوه.

وجيء بالصلتين في قوله : (بِما نَزَّلْنا) وقوله : «بما معكم» دون الاسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : (بِما نَزَّلْنا) من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : (لِما مَعَكُمْ) من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥].

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) تهديد أو وعيد ، ومعنى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ.

والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله وجهه وجه حمار».

وأصل الطمس إزالة الآثار الماثلة. قال كعب :

عرضتها طامس الأعلام مجهول

وقد يطلق الطمس مجازا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه. ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها.

وقوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمس والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرءوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازا وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجر أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة.

والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازا بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي

١٤٩

إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام.

والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معا ، والكلام وعيد ، والوعيد حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات.

وقوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مرادا به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مرادا به الذلّ فاللعن مراد به المسخ.

و (أَصْحابَ السَّبْتِ) هم الذين في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وقد تقدّم في سورة البقرة.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا ، فالكلام مسوق لترغيب اليهود في الإسلام ، وإعلامهم بأنّهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم ، ولو كان عذاب الطمس نازلا عليهم ، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم ، أي يرفع العذاب عنهم. وتتضمّن الآية تهديدا للمشركين بعذاب الدنيا يحلّ بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : ٩٨] الآية. وعلى هذا الوجه يكون حرف (إِنَّ) في موقع التعليل والتسبّب ، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب ، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به ، كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] ، أي ليعذّبهم عذاب الدنيا ، ثم قال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤] ، أي في الدنيا ، وهو عذاب الجوع والسيف. وقوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) [الدخان : ١٠ ، ١١] ، أي دخان عام المجاعة في قريش. ثم قال : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ* يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٥ ، ١٦] أي بطشة يوم بدر ؛ أو يكون المراد بالغفران التسامح ، فإنّ الإسلام قبل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمّة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام ، وذلك حكم الجزية ، ولم يرض من المشركين إلّا بالإيمان دون الجزية ، لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ـ إلى قوله ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا

١٥٠

سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥]. وقال في شأن أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩].

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة ، وقعت اعتراضا بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم ، فيكون حرف (إِنَّ) لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوعيد ، وهو إمّا تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيدا لتشنيع حال الذين فضّلوا الشرك على الإيمان ، وإظهارا لمقدار التعجيب من شأنهم الآتي في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١] ، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه. والمغفرة على هذا الوجه يصحّ حملها على معنى التجاوز الدنيوي ، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال.

وإمّا أن يكون استئناف تعليم حكم في مغفرة ذنوب العصاة : ابتدئ بمحكم وهو قوله : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وذيّل بمتشابه وهو قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ؛ فالمغفرة مراد منها التجاوز في الآخرة. قال القرطبي «فهذا من المتشابه الذي تكلّم العلماء فيه» وهو يريد أنّ ظاهرها يقتضي أمورا مشكلة :

الأول : أنّ يقتضي أنّ الله قد يغفر الكفر الذي ليس بشرك ككفر اليهود.

الثاني : أنّه يغفر لمرتكب الذنوب ولو لم يتب.

الثالث : أنّه قد لا يغفر للكافر بعد إيمانه وللمذنب بعد توبته ، لأنّه وكل الغفران إلى المشيئة ، وهي تلاقي الوقوع والانتفاء. وكلّ هذه الثلاثة قد جاءت الأدلّة المتظافرة على خلافها ، واتّفقت الأمّة على مخالفة ظاهرها ، فكانت الآية من المتشابه عند جميع المسلمين. قال ابن عطية : «وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد. وتلخيص الكلام فيها أن يقال : الناس أربعة أصناف : كافر مات على كفره ، فهذا مخلّد في النار بإجماع ، ومؤمن محسن لم يذنب قط ومات على ذلك فهو في الجنة محتوم عليه حسب الوعد في الله بإجماع وتائب مات على توبته فهذا عند أهل السنّة وجمهور فقهاء الأمّة لا حق بالمؤمنين المحسن ، ومذنب مات قبل توبته فهذا هو موضع الخلاف : فقالت المرجئة : هو في الجنّة بإيمانه ولا تضره سيّئاته ، وجعلوا آيات الوعيد كلّها مخصّصة بالكفار وآيات الوعد عامّة في المؤمنين ؛ وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في

١٥١

النار لا محالة ؛ وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلّد ولا إيمان له ، وجعلوا آيات الوعد كلّها مخصّصة بالمؤمن المحسن والمؤمن التائب ، وجعلوا آيات الوعيد عامّة في العصاة كفارا أو مؤمنين ؛ وقال أهل السنّة : آيات الوعد ظاهرة العموم ولا يصحّ نفوذ كلّها لوجهه بسبب تعارضها كقوله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٥ ، ١٦] وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣] ، فلا بدّ أن نقول : إنّ آيات الوعد لفظها لفظ العموم ، والمراد به الخصوص : في المؤمن المحسن ، وفيمن سبق في علم الله تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة ، وأنّ آيات الوعيد لفظها عموم والمراد به الخصوص في الكفرة ، وفيمن سبق علمه تعالى أنّه يعذّبه من العصاة. وآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) جلت الشكّ وذلك أنّ قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) مبطل للمعتزلة ، وقوله : (لِمَنْ يَشاءُ) رادّ على المرجئة دالّ على أنّ غفران ما دون الشرك لقوم دون قوم». ولعلّه بنى كلامه على تأويل الشرك به بما يشمل الكفر كلّه ، أو بناه على أنّ اليهود أشركوا فقالوا : عزير ابن الله ، والنصارى أشركوا فقالوا : المسيح ابن الله ، وهو تأويل الشافعي فيما نسبه إليه فخر الدين ، وهو تأويل بعيد. فالإشراك له معناه في الشريعة ، والكفر دونه له معناه.

والمعتزلة تأوّلوا الآية بما أشار إليه في «الكشّاف» : بأنّ قوله (لِمَنْ يَشاءُ) معمول يتنازعه (لا يَغْفِرُ) المنفي (وَيَغْفِرُ) المثبت. وتحقيق كلامه أن يكون المعنى عليه : إنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ، ويصير معنى لا يغفر لمن يشاء أنّه لا يشاء المغفرة له إذ لو شاء المغفرة له لغفر له ، لأنّ مشيئة الله الممكن لا يمنعها شيء ، وهي لا تتعلّق بالمستحيل ، فلمّا قال : (لا يَغْفِرُ) علمنا أنّ (لِمَنْ يَشاءُ) معناه لا يشاء أن يغفر ، فيكون الكلام من قبيل الكناية ، مثل قولهم : لا أعرفنّك تفعل كذا ، أي لا تفعل فأعرفك فاعلا ، وهذا التأويل تعسّف بيّن.

وأحسب أنّ تأويل الخوارج قريب من هذا. وأمّا المرجئة فتأوّلوا بما نقله عنهم ابن عطية : أنّ مفعول (لِمَنْ يَشاءُ) محذوف دلّ عليه قوله : (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء الإيمان ، أي لمن آمن ، وهي تعسّفات تكره القرآن على خدمة مذاهبهم. وعندي أنّ هذه الآية ، إن كانت مرادا بها الإعلام بأحوال مغفرة الذنوب فهي آية اقتصر فيها على بيان المقصود ، وهو تهويل شأن الإشراك ، وأجمل ما عداه إجمالا عجيبا ، بأن أدخلت صوره كلّها في قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) المقتضي مغفرة لفريق مبهم ومؤاخذة لفريق

١٥٢

مبهم. والحوالة في بيان هذا المجمل على الأدلّة الأخرى المستقراة من الكتاب والسنّة ، ولو كانت هذه الآية ممّا نزل في أوّل البعثة لأمكن أن يقال : إنّ ما بعدها من الآيات نسخ ما تضمّنته ، ولا يهولنا أنّها خبر لأنّها خبر مقصود منه حكم تكليفي ، ولكنّها نزلت بعد معظم القرآن ، فتعيّن أنّها تنظر إلى كلّ ما تقدّمها ، وبذلك يستغني جميع طوائف المسلمين عن التعسّف في تأويلها كلّ بما يساعد نحلته ، وتصبح صالحة لمحامل الجميع ، والمرجع في تأويلها إلى الأدلّة المبيّنة ، وعلى هذا يتعيّن حمل الإشراك على معناه المتعارف في القرآن والشريعة المخالف لمعنى التوحيد ، خلاف تأويل الشافعي الإشراك بما يشمل اليهودية والنصرانية ، ولعلّه نظر فيه إلى قول ابن عمر في تحريم تزوّج اليهودية والنصرانية بأنّهما مشركتان .. وقال : أيّ شرك أعظم من أن يدعى الله ابن.

وأدلّة الشريعة صريحة في اختلاف مفهوم هذين الوصفين ، وكون طائفة من اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، لا يقتضي جعلهم مشركين إذ لم يدّعوا مع ذلك لهذين إلهية تشارك الله تعالى ، واختلاف الأحكام التكليفية بين الكفرين دليل على أن لا يراد بهذا اللفظ مفهوم مطلق الكفر ، على أنه ما ذا يغني هذا التأويل إذا كان بعض الكفرة لا يقول بإلهية غير الله مثل معظم اليهود.

وقد اتّفق المسلمون كلّهم على أنّ التوبة من الكفر ، أي الإيمان ، يوجب مغفرته سواء كان كفر إشراك أم كفرا بالإسلام ، لا شكّ في ذلك ، إمّا بوعد الله عند أهل السنّة ، أو بالوجوب العقلي عند المعتزلة ؛ وأنّ الموت على الكفر مطلقا لا يغفر بلا شكّ. إمّا بوعيد الله ، أو بالوجوب العقلي ؛ وأنّ المذنب إذا تاب يغفر ذنبه قطعا ، إمّا بوعد الله أو بالوجوب العقلي. واختلف في المذنب إذا مات على ذنبه ولم يتب أو لم يكن له من الحسنات ما يغطّي على ذنوبه ، فقال أهل السنّة : يعاقب ولا يخلّد في العذاب بنصّ الشريعة ، لا بالوجوب ، وهو معنى المشيئة ، فقد شاء الله ذلك وعرّفنا مشيئته بأدلّة الكتاب والسنّة.

وقال المعتزلة والخوارج : هو في النار خالدا بالوجوب العقلي. وقال المرجئة : لا يعاقب بحال ، وكلّ هاته الأقسام داخل في إجمال (لِمَنْ يَشاءُ).

وقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) زيادة في تشنيع حال الشرك. والافتراء : الكذب الذي لا شبهة للكاذب فيه. لأنّه مشتقّ من القرى ، وهو قطع الجلد. وهذا مثل ما أطلقوا عليه لفظ الاختلاق من الخلق. وهو قطع الجلد ، وتقدّم عند قوله

١٥٣

تعالى : (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) في سورة آل عمران. والإثم العظيم : الفاحشة الشديدة.

[٤٩ ، ٥٠] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))

تعجيب من حال اليهود إذ يقولون (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] ونحو ذلك من إدلالهم الكاذب.

وقوله : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) إبطال لمعتقدهم بإثبات ضدّه ، وهو أنّ التزكية شهادة من الله ، ولا ينفع أحدا أن يزكّي نفسه. وفي تصدير الجملة ب (بل) تصريح بإبطال تزكيتهم. وأنّ الذين زكّوا أنفسهم لا حظّ لهم في تزكية الله ، وأنّهم ليسوا ممّن يشاء الله تزكيته ، ولو لم يذكر (بل) فقيل و (اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) لكان لهم مطمع أن يكونوا ممّن زكّاه الله تعالى.

ومعنى (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي أنّ الله لم يحرمهم ما هم به أحرياء ، وأنّ تزكية الله غيرهم لا تعدّ ظلما لهم لأنّ الله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل ولا يظلم أحدا.

والفتيل : شبه خيط في شقّ نواة التمرة. وقد شاع استعارته للقلّة إذ هو لا ينتفع به ولا له مرأى واضح.

وانتصب (فَتِيلاً) على النيابة عن المفعول المطلق ، لأنّه على معنى التشبيه ، إذ التقدير : ظلما كالفتيل ، أي بقدره ، فحذفت أداة التشبيه ، وهو كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠].

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) جعل افتراءهم الكذب ، لشدّة تحقّق وقوعه ، كأنّه أمر مرئيّ ينظره الناس بأعينهم ، وإنّما هو ممّا يسمع ويعقل ، وكلمة (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) نهاية في بلوغه غاية الإثم كما يؤذن به تركيب (كفى به كذا) ، وقد تقدّم القول في (كفى) عند قوله آنفا (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) [الفتح : ٢٨].

[٥١ ، ٥٢] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢))

١٥٤

أعيد التعجيب من اليهود ، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) [النساء : ٤٤] ؛ فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة ، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ). وتقدّم بيان تركيب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) آنفا في سورة آل عمران [٢٣].

والجبت : كلمة معرّبة من الحبشية ، أي الشيطان والسحر ؛ لأنّ مادة : ج ـ ب ـ ت مهملة في العربية ، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة. وقيل : أصلها جبس : وهو ما لا خير فيه ، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم :

يا لعن الله بني السعلات ، وعمرو بن يربوع شرار النّات ، ليسوا أعفّاء ولا أكيات ، أي شرار الناس ولا بأكياس. وكما قالوا : الجتّ بمعنى الجسّ.

والطاغوت : الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس. وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال : للصّنم طاغوت وللأصنام طاغوت ، فهو نظير طفل وفلك. ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب. ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء : ٦٠] فأفرده ، وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] ، وقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) [البقرة : ٢٥٧] إلخ. وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع ، وأصله مصدر بوزن فعلوت للمبالغة ، مثل : رهبوت ، وملكوت ، ورحموت ، وجبروت ، فأصله طغووت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فلعوت ، والقصد من هذا القلب تأتّى إبدال الواو ألفا بتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرءام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفا بعد الأولى المفتوحة ، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل ، وورد في الحديث : «لا تحلفوا بالطواغيت».

وفي كلام ابن المسيّب في «صحيح البخاري» : البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت.

وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن ، لأنّهم يعظّمونه لأجل

١٥٥

أصنامهم ، كما سيأتي في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) في هذه السورة [النساء : ٦٠].

والآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود ، وفيهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، فإنّهم بعد وقعة أحد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين ، فخرجوا إلى مكّة ليحالفوا المشركين على قتال المسلمين ، فنزل كعب عند أبي سفيان ، ونزل بقيّتهم في دور قريش ، فقال لهم المشركون (أنتم أهل كتاب ولعلّكم أن تكونوا أدنى إلى محمّد وأتباعه منكم إلينا فلا نأمن مكركم) فقالوا لهم (إنّ عبادة الأصنام أرضى عند الله ممّا يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلا) فقال لهم المشركون (فاسجدوا لآلهتنا حتّى نطمئنّ إليكم) ففعلوا ، ونزلت هذه الآية إعلاما من الله لرسوله بما بيته اليهود وأهل مكة.

واللام في قوله (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لام العلّة ، أي يقولون لأجل الذين كفروا وليس لام تعدية فعل القول ، وأريد بهم مشركو مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر أنّه الشرك ، والإشارة بقوله : (هؤُلاءِ أَهْدى) إلى الذين كفروا ، وهو حكاية للقول بمعناه ، لأنّهم إنّما قالوا : «أنتم أهدى من محمّد وأصحابه» ، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة (هؤُلاءِ أَهْدى) ، أي حين تناجوا وزوّروا ما سيقولونه ، وكذلك قوله (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم ، لأنّهم إنّما قالوا : «هؤلاء أهدى من محمّد وأتباعه» وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم : إنّ المشركين أهدى من المؤمنين. وهذا محلّ التعجيب.

وعقّب التعجيب بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ). وموقع اسم الإشارة هنا في نهاية الرشاقة ، لأنّ من بلغ من وصف حاله هذا المبلغ صار كالمشاهد ، فناسب بعد قوله (أَلَمْ تَرَ) أن يشار إلى هذا الفريق المدّعى أنه مرئيّ ، فيقال : (أولئك). وفي اسم الإشارة تنبيه على أنّ المشار إليهم جديرون بما سيذكر من الحكم لأجل ما تقدّم من أحوالهم.

والصلة التي في قوله (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) ليس معلوما للمخاطبين اتّصاف المخبر عنهم بها اتّصاف من اشتهر بها ؛ فالمقصود أنّ هؤلاء هم الذين إن سمعتم بقوم لعنهم الله فهم هم.

ويجوز أن يكون المسلمون قد علموا أنّ اليهود ملعونون ، فالمقصود من الصلة هو ما عطف عليها بقوله (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً). والموصول على كلا الاحتمالين فيه إيماء إلى تعليل الإخبار الضمني عنهم : بأنّهم لا نصير لهم ، لأنّهم لعنهم الله ، والذي

١٥٦

يلعنه لا نصير له. وهذا مقابل قوله في شأن المسلمين (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) [النساء : ٤٥].

[٥٣ ـ ٥٥] (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

(أم) للإضراب الانتقالي. وهي تؤذن بهمزة استفهام محذوفة بعدها ، أي : بل ألهم نصيب من الملك فلا يؤتون الناس نقيرا.

والاستفهام إنكاري حكمه حكم النفي. والعطف بالفاء على جملة (لَهُمْ نَصِيبٌ) وكذلك (فَإِذاً) هي جزاء لجملة (لَهُمْ نَصِيبٌ) ، واعتبر الاستفهام داخلا على مجموع الجملة وجزائها معا ؛ لأنّهم ينتفي إعطاؤهم الناس نقيرا على تقدير ثبوت الملك لهم لا على انتفائه. وهذا الكلام تهكّم عليهم في انتظارهم هو أن يرجع إليهم ملك إسرائيل ، وتسجيل عليهم بالبخل الذي لا يؤاتي من يرجون الملك. كما قال أبو الفتح البستي :

إذا ملك لم يكن ذا هبه

فدعه فدولته ذاهبه

وشحّهم وبخلهم معروف مشهور.

والنقير : شكلة في النواة كالدائرة ، يضرب بها المثل في القلّة.

ولذلك عقّب هذا الكلام بقوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

والاستفهام المقدّر بعد (أم) هذه إنكار على حسدهم ، وليس مفيدا لنفي الحسد لأنّه واقع. والمراد بالناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفضل النبوءة ، أو المراد به النبي والمؤمنون ، والفضل الهدى بالإيمان.

وقوله (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) عطف على مقدّر من معنى الاستفهام الإنكاري ، توجيها للإنكار عليهم ، أي فلا بدع فيما حسدوه إذ قد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك.

وآل إبراهيم : أبناؤه وعقبه ونسله ، وهو داخل في هذا الحكم لأنّهم إنّما أعطوه لأجل كرامته عند الله ووعد الله إيّاه بذلك. وتعريف (الكتاب) : تعريف الجنس ، فيصدق بالمتعدّد ، فيشمل صحف إبراهيم ، وصحف موسى ، وما أنزل بعد ذلك. والحكمة :

١٥٧

النبوءة ، والملك : هو ما وعد الله به إبراهيم أن يعطيه ذريّته وما آتى الله داود وسليمان وملوك إسرائيل.

وضمير (مِنْهُمْ) يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (يَحْسُدُونَ). وضمير (بِهِ) يعود إلى الناس المراد منه محمّد ـ عليه‌السلام ـ : أي فمن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من آمن بمحمّد ، ومنهم من أعرض. والتفريع في قوله : (فَمِنْهُمْ) على هذا التفسير ناشئ على قوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ). ويجوز أن يعود ضمير (فَمِنْهُمْ) إلى آل إبراهيم ، وضمير (بِهِ) إلى إبراهيم ، أي فقد آتيناهم ما ذكر. ومن آله من آمن به ، ومنهم من كفر مثل أبيه آزر ، وامرأة ابن أخيه لوط ، أي فليس تكذيب اليهود محمّدا بأعجب من ذلك ، (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) [الإسراء : ٧٧] ، ليكون قد حصل الاحتجاج عليهم في الأمرين في إبطال مستند تكذيبهم ؛ بإثبات أنّ إتيان النبوءة ليس ببدع ، وأن محمّدا من آل إبراهيم ، فليس إرساله بأعجب من إرسال موسى. وفي تذكيرهم بأنّ هذه سنّة الأنبياء حتى لا يعدّوا تكذيبهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلمة في نبوءته ، إذ لا يعرف رسولا أجمع أهل دعوته على تصديقه من إبراهيم فمن بعده.

وقوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) تهديد ووعيد للّذين يؤمنون بالجبت والطاغوت. وتفسير هذا التركيب تقدّم آنفا في قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) من هذه السورة [النساء: ٤٥].

[٥٦ ، ٥٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

تهديد ووعيد لجميع الكافرين ، فهي أعمّ ممّا قبلها ، فلها حكم التذييل ، ولذلك فصلت. والإصلاء : مصدر أصلاه ، ويقال : صلاه صليا ، ومعناه شيّ اللحم على النار ، وقد تقدّم الكلام على (صلى) عند قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠] وقوله : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) في هذه السورة [النساء : ٣٠] ، وتقدّم أيضا الكلام على (سوف) في الآية الأخيرة. و (نُصْلِيهِمْ) ـ بضم النون ـ من الإصلاء. و (نَضِجَتْ) بلغت نهاية الشّيء ، يقال : نضج الشّواء إذا بلغ حدّ الشّيء ، ويقال : نضج الطبيخ إذا بلغ حدّ الطبخ. والمعنى : كلّما احترقت جلودهم ، فلم يبق فيها حياة وإحساس. بدّلناهم ، أي عوّضناهم جلودا غيرها ،

١٥٨

والتبديل يقتضي المغايرة كما تقدّم في قوله في سورة البقرة : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) [البقرة : ٦١]. فقوله : (غَيْرَها) تأكيد لما دلّ عليه فعل التبديل. وانتصب (ناراً) على أنّه مفعول ثان لأنّه من باب أعطى.

وقوله : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) تعليل لقوله : (بَدَّلْناهُمْ) لأنّ الجلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس بحسب عادة خلق الله تعالى ، فلو لم يبدّل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس. وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأنّ الجلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب ، ولأنّه ناشئ عن الجلد الأوّل كما أنّ إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها لا يوجب أن تكون أناسا غير الذين استحقّوا الثواب والعقاب لأنّها لمّا أودعت النفوس التي اكتسبت الخير والشرّ فقد صارت هي هي ولا سيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من أعجاب الأذناب ، حسبما ورد به الأثر ، لأنّ الناشئ عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) واقع موقع التعليل لما قبله ، فالعزّة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترئ على الله ، والحكمة يتأتّى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ذكر هنا للمقابلة وزيادة الغيظ للكافرين. واقتصر من نعيم الآخرة على لذّة الجنّات والأزواج الصالحات ، لأنّهما أحبّ اللذّات المتعارفة للسامعين ، فالزوجة الصالحة آنس شيء للإنسان ، والجنّات محلّ النعيم وحسن المنظر.

وقوله : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) هو من تمام محاسن الجنّات ، لأنّ الظلّ إنّما يكون مع الشمس ، وذلك جمال الجنّات ولذّة التنعّم برؤية النور مع انتفاء حرّه. ووصف بالظليل وصفا مشتقّا من اسم الموصوف للدلالة على بلوغه الغاية في جنسه ، فقد يأتون بمثل هذا الوصف بوزن فعيل : كما هنا ، وقولهم : داء دويّ ، ويأتون به بوزن أفعل : كقولهم : ليل أليل ويوم أيوم ، ويأتون بوزن فاعل : كقولهم : شعر شاعر ، ونصب ناصب.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم ، ونظام الطاعة ،

١٥٩

وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة ، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه ، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى. وهنا مناسبة ، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ ، وافترائهم على الله الكذب ، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين ، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين ، والعلم ، والحقّ ، والنعمة ، وهي أمانات معنويّة ، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع.

وجملة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) صريحة في الأمر والوجوب ، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم». (وإنّ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده ، فهو والإنشاء سواء.

والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء ، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق.

والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها ، يقال : أدّى إليه كذا ، أي دفعه وسلّمه ، ومنه أداء الدّين. وتقدّم في قوله تعالى : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) في سورة آل عمران [٧٥]. وأصل أدّى أن يكون مضاعف أدى ـ بالتخفيف ـ بمعنى أوصل ، لكنّهم أهملوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف.

ويطلق الأداء مجازا على الاعتراف والوفاء بشيء. وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها ، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين ، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدون.

والأمانة : الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعإلىفَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) في سورة البقرة [٢٨٣]. وتطلق الأمانة مجازا على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها ، وضدّها الخيانة في الإطلاقين. والأمر للوجوب.

والأمانات من صيغ العموم ، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء

١٦٠