القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

فيه ، والباقي أمور خارجة عنه يمكن نفي ما شكّ في ثبوته من الشرائط الخارجة بأصل العدم كالمعاملات.

وأمّا بناء دفع كلام هذا القائل (١) بالبناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ، بأن يقال بطلان قوله على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، فإنّ الصلاة اسم لهذا المركّب ، وكذا الغسل والوضوء ، فكيف يحملها على الدعاء ، والغسل بفتح الغين؟

وعلى القول بعدمها ، فبعد وجود القرينة الصّارفة عن اللّغويّ لا بدّ أن يحمل على الشّرعيّ لكونه أشهر مجازاته وأشيعها ، فهو غريب لما عرفت من أنّه منكر للحقيقة الشرعيّة ، بل منكر للماهيّات المحدثة.

ثمّ بعد القول ببطلان مذهب هذا النافي والبناء على المشهور من كون تلك العبادات ماهيّات محدثة ، فهل يجوز إجراء أصل العدم فيها ، بمعنى إنّا إذا شككنا في كون شيء جزء لها أو شرطا لصحّتها فهل يمكن نفيه بأصالة العدم ، أو لا بدّ من الإتيان بما يوجب اليقين بحصول الماهيّة في الخارج؟

فيه خلاف ، ولا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمة وهي :

إنّهم اختلفوا في كون العبادات أسامي للصحيحة أو الأعمّ منها ، وهذا الخلاف أيضا لا يتوقّف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية فيها ، بل يكتفى فيه بثبوت الحقيقة المتشرّعة ، ومطلق استعمال الشّارع تلك الألفاظ فيها.

فالنّزاع في الحقيقة في أنّه متى أطلق لفظ دالّ على تلك الماهيّة المحدثة ، فهل

__________________

(١) إشارة الى الدّليل الذي أقامه الوحيد البهبهاني في «فوائده» على ردّ قول القاضي المذكور راجع الفائدة «الثانية» و «الثالثة» و «الرابعة» من «فوائده» ص ٩٥ ـ ١١٠.

١٠١

يراد الصحيحة منها أو الأعم؟

والثمرة في هذا النزاع تظهر فيما لم يعلم فساده ، فهل يحصل الامتثال بمجرّد عدم العلم بالفساد لصدق الماهيّة عليها ، أو لا بدّ من العلم بالصحّة؟

فمع الشكّ في مدخليّة شيء في تلك الماهيّة جزء كان أو شرطا ، فلا يحكم بمجرّد فقدان ذلك بالبطلان على الثاني ، بخلاف الأوّل ، للشكّ في الصحّة.

وما يظهر من كلام بعضهم (١) من التفرقة بين الشكّ في الجزء والشرط ، وأنّ الأوّل مضرّ على القول الثاني أيضا ، فلعلّه مبنيّ على أنّ المركّب لا يتمّ إلّا بتمام الأجزاء ، فكيف يقال يصدق الاسم على الثاني مع الشكّ في جزئية شيء آخر له!

وفيه : أنّ مبنى كلام القوم على العرف (٢) ، وانتفاء كلّ جزء لا يوجب انتفاء المركّب عرفا ، ولا يوجب عدم صدق الاسم في التعارف ، ألا ترى أنّ الإنسان لا ينتفي بانتفاء أذن منه أو إصبع عرفا بخلاف مثل رأسه ورقبته.

والحاصل ، أنّه لا ريب في أنّ الماهيّات المحدثة أمور مخترعة من الشارع ، ولا شكّ أنّ ما أحدثه الشارع متّصف بالصحّة لا غير ، بمعنى أنّه بحيث لو أتى به

__________________

(١) هذا البعض هو الوحيد البهبهاني حيث إنّه فصّل في الثمرة المذكورة على القول بالأعم بين الأجزاء والشرائط فخص الحكم بالامتثال عند عدم العلم بالفساد عملا بالأصل بعد إحراز صدق الاسم بالثاني ، ومنعه في الأوّل لعدم جريان الأصل المذكور فيرجع الى قاعدة الشغل المقتضية للبراءة كما ذكر القزويني في «الحاشية» علما أنّ للوحيد رسالة في الصحيح والأعم.

(٢) يعني انّ موضع نزاع كل من الصحيحي والأعمي إنّما هو في أمر عرفي ، وهو تشخيص مدلول الأسامي وما يفهم فيها عرفا بقرينة تمسّك كلّ منهما في إثبات دعواه بالأمارات العرفية من التبادر وصحة السّلب وعدمه. ويحتمل أيضا أن يكون مراده بمبنى كلامهم نفس الأدلّة القائمة على دعواهم الصحيح أو الأعم وكلّ من التعبيرين يلازم الآخر.

١٠٢

على ما اخترعه الشارع يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهيّة من حيث هو أمر بالماهيّة.

لكنّهم اختلفوا هذا الاختلاف بوجهين :

أحدهما : أن نقول : إذا وضع الشارع أسماء لهذه المركّبات أو استعمل فيها بمناسبة ، فهو يريد تلك الماهيّة على الوجه الصحيح بالمعنى المذكور من الحيثيّة المذكورة.

وهذا القدر متيقّن الإرادة ، ولكنّه لمّا كان الماهيّة عبارة عن المركّب عن الأجزاء بأجمعها من دون مدخليّة الشرائط ، والشرائط خارجة عنها ، ولا مانع من وضع اللّفظ بإزاء الماهيّة مع قطع النظر عن كونها جامعة للشرائط ، ولا من وضعه بإزاء الماهيّة مع ملاحظة اجتماعها لشرائط الصحّة ، فاختلفوا في أنّ الألفاظ هل هي موضوعة للماهيّة مع اجتماع الشرائط أو الماهيّة المطلقة؟

فمراد من يقول : إنّها أسام للصحيحة منها (١) ، أنها أسام للماهيّة مجتمعة لشرائط الصحّة الزّائدة على الصحة الحاصلة من جهة الماهيّة من حيث هي.

__________________

(١) القول بوضعها للصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء المعتبرة وسائر شروط الصحة إليه ذهب جماعة من الخاصة والعامة. فمن الخاصّة السيد والشيخ في ظاهر المحكي عن كلاميهما ، والعلّامة في ظاهر موضع من «النهاية» والسيد عميد الدين في موضع من «المنية» والشهيدان في «القواعد» و «المسالك» واستثنى الأوّل منه الحج لوجوب المضي فيه ومن فضلاء العصر وكما يذكر الشيخ محمّد تقي الاصفهاني : الشريف الأستاذ قدس‌سره الى أكثر المحققين ، والفقيه الأستاذ رفع مقامه وغيرهما ، ومن العامة ابو الحسين البصرى ، وعبد الجبار بن أحمد ، وحكي القول به عن الآمدي والحاجبي وغيرهما ، وحكاه الأسنوي عن الأكثرين ، وحكي في «المحصول» عن الأكثرين القول بحمل النفي الوارد على الأسماء الشرعية لقوله : «لا صلاة إلا بطهور» على نفي الحقيقة ، لإخبار صاحب الشّرع به هذا كما عن «هداية المسترشدين» ١ / ٤٣١.

١٠٣

ومراد من يقول : بأنّها أسام للأعمّ (١) ، أنّها أسام لنفس الماهيّة الصحيحة من حيث هي القابلة للصحّة الزّائدة على هذه الحيثيّة وعدمها.

والحاصل ، أنّ الأوّل : يقول بأنّ الصلاة مثلا اسم للأركان المخصوصة حال كونها جامعة للشرائط ، مثل الطهارة عن الحدث والخبث والقبلة ونحو ذلك ، انّها اسم للأركان المخصوصة (٢) والشرائط معا.

والثاني : يقول بأنّها اسم للصلاة بدون اشتراط اجتماعها للشرائط ولا مع الشرائط ، فحينئذ تظهر الثّمرة فيما لو حصل الشّكّ في شرطيّة شيء لصحّة الماهيّة.

فعلى القول بكونها أسامي للصحيحة الجامعة لشرائط الصحّة ، فلا بدّ من العلم بحصول الموضوع له في امتثال الأمر بها ، ولا يحصل إلّا مع العلم باجتماعه لشرائط الصحّة.

وأمّا على القول الآخر ـ أعني وضعها لنفس الأجزاء المجتمعة مع قطع النظر عن الشرائط ـ فيحصل امتثال الأمر الوارد بالعبادة بمجرّد الإتيان بها وبما علم من شرائطها.

وما يقال : إنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط ، معناه الشكّ في تحقّق الشرط المعلوم الشرطيّة ، لا الشكّ في أنّ لهذا الشيء شرطا يتوقّف صحّته عليه أم لا.

__________________

(١) القول بأنّها موضوعة بإزاء الأعم من الصحيحة والفاسدة من غير مراعاة لاعتبار جميع الأجزاء ولا الشرائط ، بل إنّما يعتبر ما يحصل معه التسمية في عرف المتشرّعة وإليه ذهب من الخاصة العلّامة في غير موضع من «النهاية» ، وولده في «الايضاح» ، والسيد عميد الدين في موضع من «المنية» ، والشهيد الثاني في «تمهيده» و «روضته» ، وشيخنا البهائي وجماعة من الفضلاء المعاصرين ، ومن العامّة القاضي أبو بكر وأبو عبد الله البصري وغيرهم كما عن «هداية المسترشدين» : ١ / ٤٣٧.

(٢) ليعلم أنّ المراد بالأركان هنا هو المعنى الأعم المرادف للأجزاء المطلقة لا الأركان الاصطلاحية المخصوصة بحيث لا تشمل باقي الاجزاء.

١٠٤

والوجه الثاني : أنّ مع قطع النظر عن الشرائط أيضا ، قد يحصل الإشكال بالنّظر الى ملاحظة الأجزاء ، فإنّ النقص في أجزاء المركّب قد لا يوجب سلب اسم المركّب عنه عرفا ، كما ذكرنا في الإنسان المقطوع الأذن أو الأصبع ، فالصلاة إذا كانت في الأصل موضوعة للماهيّة التامّة الأجزاء ولكن لم يصحّ سلبها عنه بمجرّد النّقص في بعض الأجزاء ، فيتمّ القول بكونها اسما للأعمّ من الصّحيحة ، فيرجع الكلام الى وضعها لما يقبل هذا النقص الذي لا يوجب خروجها من الحقيقة عرفا ، وذلك لا يستلزم كون الناقصة مأمورا بها ومطلوبة ، لأنّ مجرّد صدق الإسم عند الشارع لا يوجب كونها مطلوبة له.

ويظهر الثمرة حينئذ (١) فيما لو نذر أحد أن يعطي شيئا بمن رآه يصلّي ، فرأى من صلّى ونقص طمأنينته في إحدى السّجدتين مثلا ، أو لم يقرأ السّورة في إحدى الركعتين ، فبرّ النذر بذلك لا يستلزم كون تلك الصلاة مطلوبة للشارع ومأمورا بها ، فكونها مصداق الإسم معنى وكونها مأمورا ومطلوبا يحصل به الامتثال معنى آخر ، إذ لا بدّ في الامتثال ـ مضافا الى صدق الإسم ـ كونها صحيحة أيضا ، ويتفاوت الأحكام بالنسبة الى الأمرين (٢).

ويظهر الثمرة فيما لو أريد إثبات المطلوبيّة والصحّة حينئذ بمجرد صدق الإسم فيما لو شكّ في جزئيّة شيء للصلاة ولم يعلم فسادها بدونه ، فعلى القول بكونها اسما للأعمّ يتمّ المقصود ، وعلى القول بكونها اسما للصحيحة التامّة الأجزاء

__________________

(١) أي حين صدق الاسم عند الشارع ولم يكن مطلوبا له ، وهذا في الحقيقة ليس ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمي ، بل سيشير فيما بعد الى ثمرته.

(٢) أي كونها مصداق الاسم وكونها مطلوبا يحصل به الامتثال. هذا ويظهر ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمّي بملاحظة الأجزاء في مقابل ملاحظة الشرائط.

١٠٥

الجامعة للشرائط ، فلا ، لعدم معلوميّة تماميّة الأجزاء حينئذ وجامعيّته لشرائط الصحّة من الحيثيّة التي قدّمنا ذكرها ، وغيرها من سائر شرائط الصحّة.

ثمّ إنّ الأظهر عندي (١) هو كونها أسامي للأعمّ بالمعنيين كما يظهر من تتبّع الأخبار (٢) ، ويدلّ عليه عدم صحّة السّلب عمّا لم يعلم فساده وصحّته ، بل وأكثر ما علم فساده أيضا ، وتبادر القدر المشترك منها.

ويلزم على القول بكونها أسامي للصحيحة لزوم القول بألف ماهيّة لصلاة الظهر مثلا ، فصلاة الظهر للمسافر شيء وللحاضر شيء آخر ، وللحافظ شيء وللناسي شيء آخر ، وكذلك للشّاك وللمتوهّم والصحيح والمريض والمحبوس والمضطرّ والغريق الى غير ذلك من أقسام النّاسي في جزئيّات مسائل النسيان والشاكّ في جزئيّات مسائله ، وهكذا الى غير ذلك(٣).

وأمّا على القول بكونها أسامي للأعمّ فلا يلزم شيء من ذلك ، لأنّ هذه أحكام مختلفة ترد على ماهيّة واحدة (٤) ، مع أنّ الصلاة شيء والوضوء والغسل والوقت والسّاتر والقبلة وغيرها أشياء أخر ، وكذلك اتّصاف الصلاة بالتلبّس بها.

__________________

(١) بل الأشهر بين من تقدم أو تأخر أنّ الوضع للأعم أي الماهيّة لا بشرط شيء من الشرائط مطلقا ، وصرّح باختياره فخر الاسلام في بحث المجاز من «الايضاح» ، والثانيان في «الجامع» و «الروضة» ، وسبط ثانيهما أيضا ، وكذا العامليان والكاظمي والحاجبيان في مجمل «المعالم» ، وكذا كثير كما صرح الأصفهاني السيد محمد بن عبد الصمد في «الحاشية».

(٢) وهي أخبار لا تحصى وردت بإسناد الصحة أو الفساد الى مدلول الأسامي مثل انّه لو فعل كذا بطلت صلاته أو صحت ، وأخبار كذلك وردت باسناد الاعادة إليها بمثل انّه لو فعل كذا أعاد الصلاة.

(٣ و ٤) ـ وقد ردّ عليهما صاحب «الفصول» ص ٤٨.

١٠٦

فالظاهر أنّ لكلّ شيء منها أسماء أخر ، ولا دخل في اشتراط شيء بشيء اعتباره في تسميته به (١). وممّا يؤيّد كونها أسامي للأعمّ ، اتّفاق الفقهاء على أنّ أركان الصلاة هي ما تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمدا أو سهوا (٢) ، إذ لا يمكن زيادة الركوع مثلا عمدا إلّا عصيانا ، ولا ريب في كونها منهيّا عنه ، ومع ذلك يعدّ ركوعا.

لا يقال : أنّ مرادهم صورة الركوع ، لا الرّكوع الحقيقي وإن لم يكن صحيحا ، فإنّ من انحنى في الصلاة بمقدار الركوع لأجل أخذ شيء من الأرض سيّما مع وضع اليد على الرّكبة بحيث يحسب الناظر أنّه قد ركع ، فلا يوجب بطلان الصلاة من أجل زيادة الرّكن ، فالمراد إطلاق الإسم في عرف المتشرّعة حقيقة ، وهو لا يتحقّق إلّا مع كون الركوع اسما للأعمّ من الصّحيحة.

واحتجّوا (٣) : بالتبادر وصحّة السّلب عن العاري عن الشرائط. وكون الأصل في مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» الاستعمال في نفي الحقيقة ، لأنّه المعنى الحقيقي ، وفي الأوّلين (٤) منع.

ولعلّ المدّعي لذلك إنّما غفل من جهة الأوامر ، فإنّ الأمر لا يتعلّق بالفاسد ، وهذا فاسد لعدم انحصار محلّ النّزاع في الأوامر ، فالأمر قرينة لإرادة الصّحيحة ، وذلك لا يستلزم وضعها لها.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٥). فيتوجّه المنع فيما ادّعوه في خصوص

__________________

(١ و ٢) وقد ردّهما صاحب «الفصول» ص ٤٩.

(٣) القائلون بالصحيحة.

(٤) أي في التبادر وصحة السلب منع.

(٥) «تهذيب الأحكام» : ١ / ٩٤ الحديث ١٤٤ ، «وسائل الشيعة» : ١ / ٣١٥ الحديث ٨٢٩.

١٠٧

هذا التركيب كما لا يخفى على من لاحظ النظائر كقوله عليه‌السلام : «لا عمل إلّا بنيّة» (١) و «لا نكاح إلّا بوليّ» (٢) ، و «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (٣) ، وغير ذلك (٤). فإنّ القدر المسلّم في أصالة الحقيقة إنّما هو في مثل : لا رجل في الدّار.

وأمّا مثل هذه الهيئات التركيبيّة التي نفس الذّات ، موجودة فيها في الجملة جزما ، وليس المراد فيها إلّا نفي صفة من صفاتها ، فلا يمكن دعوى أصل الحقيقة فيها ، وفيما يشكّ كونه من هذه الجملة مثل ما أقحم (٥) فيه خصوص الصلاة والصيام ونحوهما ممّا يحتمل فيه هذا الاحتمال السّخيف (٦) وهو كونها أسامي للصحيحة ، بحيث يمكن عرفا نفي الذّات بمجرّد انتفاء شرط من شروطها ، بل ومع الشّك في حصول شرط من شروطها فهو لا يخرج هذه الهيئة عمّا هو ظاهر فيه في العرف ، ولذلك تداولها العلماء هذا التداول في مبحث المجمل والمبيّن ، ولم يحتملوا إرادة نفي الحقيقة والذّات إلّا على تقدير هذا القول الضعيف ، وذلك ليس لأنّ الأصل الحمل على الحقيقة ، بل الأصل هنا خلافه ، بل لأنّ دعوى كون هذه الألفاظ أسامي للصحيحة صارت قرينة لحمل هذه العبارة على مقتضى الحقيقة القديمة التي هي الموضوع له لكلمة لا.

__________________

(١) «الكافي» : ٢ / ٦٩ الحديث ١ ، «الوسائل» : ١ / ٤٦ الحديث ٨٣.

(٢) «دعائم الاسلام» : ٢ / ٢١٨ الحديث ٨٠٧ ، «مستدرك الوسائل» : ١٤ / ٣١٧ الحديث ١٦٨١٣.

(٣) «دعائم الاسلام» : ١ / ١٤٨ ، «مستدرك الوسائل» : ٣ / ٣٥٦ ، الحديث ٣٧٦٧.

(٤) نحو «لا قراءة إلّا من مصحف» و «لا علم إلّا ما نفع» و «لا كلام إلّا ما أفاد».

(٥) الإقحام هنا بمعنى الإدخال.

(٦) هذا بيان للموصول الذي ذكره في قوله فيما يشك.

١٠٨

فقالوا : بأنّ حملها على نفي الذّات حينئذ ممكن ، فحينئذ نقول : حمل هذه العبارة على نفي الذّات مع كونها ظاهرة في نفي صفة من صفاتها ، إنّما يمكن إذا ثبت كون الصلاة اسما للصحيحة ، وإلّا فهي منساقة بسياق نظائرها ، سيّما مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد».

فإذا أردنا إثبات كون الصلاة اسما للصحيحة بسبب مقتضى الحقيقة القديمة ، فذلك يوجب الدّور (١) إلّا أن يكون مراد المستدلّ أنّ أصالة الحقيقة يقتضي ذلك ، خرجنا عن مقتضاه في غيرها (٢) بالدليل وبقي الباقي.

فبهذا نقول : إنّ مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٣) ، ممّا كان الفعل المنفي عبادة خارج عن سياق النظائر (٤) ، وبأنّ على مقتضى الأصل ، فلا ريب أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، فإنّ هذه في جنب الباقي ليست إلّا كشعرة سوداء في بقرة بيضاء ، ولذلك لم يتمسّك أحد من العلماء الفحول في ذلك المبحث لإثبات نفي الإجمال بأصالة الحقيقة ، وتمسّكوا بالقول بكونها موضوعة للصحيحة من العبادات ، والإنصاف أنّ كون هذه منساقة بسياق النظائر من الأدلّة على كون العبادات أسامي للأعمّ ، فهو على ذلك أوّل ممّا أراده المستدلّ.

__________________

(١) وذلك لأنّ دلالة «لا صلاة إلّا بطهور» على نفي الحقيقة والذّات بمقتضى الحقيقة القديمة لكلمة لا مع كونها ظاهرة في نفي صفة من الصّفات على سياق نظائرها ، إنّما يمكن إذا ثبت كونها أسامي للصحيحة ، فلو أردنا إثبات كونها صحيحة بمقتضى الحقيقة القديمة لها لزم الدّور المذكور.

(٢) في غير هذه المادة وهي لا صلاة إلّا بطهور او بفاتحة.

(٣) «تهذيب الاحكام» : ١ / ٤٩ الحديث ١٤٤ ، «الوسائل» : ١ / ٣١٥ ، الحديث ٨٢٩.

(٤) أي ليست «لا» فيها لنفي الصفة كما كانت في النظائر له ، وإنّما هو باق على مقتضى الأصل وهو نفي الذّات.

١٠٩

وأيضا نقول بعد التسليم : إنّ هذا إنّما يدلّ على أنّ الصلاة التي لا طهور لها ولا فاتحة فيها ، ليست بصلاة ، ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم للصحيحة كما لا يخفى ، إذ لو حصل الفاتحة والطهور للصلاة وشككنا أنّ السّورة أيضا واجبة مع الفاتحة أم لا. فهذا الحديث لا ينفي كون الصلاة ، الخالية عنها صلاة ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم لكلّ ما جامع جميع الشرائط.

ثمّ اعلم أنّ الشهيد رحمه‌الله قال في «القواعد» : الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصّوم وسائر العقود ، لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة وهو الدخول فيها ، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ويحتمل عدمه لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. وأمّا لو تحرّم (١) في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعا ، انتهى (٢).

والظّاهر أنّ مراده اكتفى بمسمّى الصحّة في الحنث ، يعني لو حلف على ترك الصلاة مثلا في مكان مكروه يحصل الحنث بمجرّد الدخول.

وأقول : يظهر من قوله رحمه‌الله : إلّا الحج لوجوب المضيّ فيه ، أنّ كلامهم في الأوامر والمطلوبات الشرعيّة وأنّ مرادهم أنّ الفاسد لا يكون مطلوبا له إلّا في الحجّ ، فإنّه يجب المضيّ في فاسده لا في مطلق التّسمية والاصطلاح ولو لأغراض أخر مثل كونها علامة للإسلام وموجبا لجواز أكل الذبيحة بمجرّد ذلك حيث قلنا بذلك (٣)

__________________

(١) لو تحرّم أي دخل في الصلاة وذلك يتحقق بتكبيرة الاحرام.

(٢) «القواعد والفوائد» ١ / ١٥٨ فائدة ٢.

(٣) بمجرد تلبس الذابح ولو بالعبادة الفاسدة يجوز أكل ذبيحته مع الجهل بحاله ، أو كون ـ

١١٠

ونحو ذلك ، وذلك لأنّه رحمه‌الله إن كان أراد من الإطلاق أعمّ من الإطلاق الحقيقي ، فلا ريب أنّ إطلاق الصلاة مثلا على الفاسدة واستعمالها فيها في كلام الشارع والمتشرّعة ، فوق حدّ الاحصاء.

وإن أراد منه الإطلاق الحقيقي ، فلا معنى لتخصيص الحقيقة بالحجّ والتفصيل إذ محض الأمر بالمضيّ لا يوجب كون اللّفظ حقيقة فيه. فظهر أنّ مراده الإطلاق على سبيل الطلب والمطلوبية ، فإنّ التسمية في كلام الشارع ممّا لا يقابل بالإنكار.

ولنشر الى بعض ما يفيد ذلك ، وهو ما رواه الكليني في الموثّق كالصّحيح (١) لأبان بن عثمان ، عن الفضل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام قال :«بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه. يعني الولاية» (٢).

فإنّ الظاهر الواضح أنّ المراد بالأربع هو الأربع من الخمس ، والتحقيق أنّ عبادة هؤلاء (٣) فاسدة كما دلّ عليه الأخبار وكلام الأصحاب ، فالأخذ بالأربع على هذا الوجه لا يمكن إلّا مع جعلها أسامي للأعمّ وذلك لا ينافي كون المطلوب في نفس الأمر هو الصحيح ، والاكتفاء في التسمية بالأعمّ كما نشير إليه من أنّ

__________________

ـ الصلاة علامة للإسلام ، إنّما هو في حالة مجهول الحال ، وإلّا فلو صلّى الكافر المعلوم كفره لا يجوز أكل ذبيحته.

(١) فهذا الخبر موثّق من جهة دخول أبان في سلسلة سند الرّواية لكونه فطحي المذهب وقيل أنّه من الناووسية ، وأما كونه مثل الصحيح لأنّه من جملة مما أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

(٢) «الكافي» : ٢ / ١٨ الحديث ٣ ، ومثله في «المحاسن» ٢٨٦ الحديث ٤٢٩ ولكن بذكر «ولم يناد بشيء ...».

(٣) أي الّذين تركوا الولاية.

١١١

التّسمية عرفيّة ، وإن كان المسمّى شرعيّا.

ومن جملة ما ذكرنا (١) قوله عليه‌السلام : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (٢). فإنّ صيرورة الصّلاة صحيحة إنّما يكون بأن لا تكون في أيّام الحيض والتسمية بالصلاة إنّما كانت قبل هذا النّهي ، وليس المعنى أنّ الصلاة التي لا تكون في حال الحيض ، اتركيها في حال الحيض ، بل المعنى : اتركي الصلاة في حال الحيض ، وإدّعاء أنّ التسمية وإثبات الشرط هنا قد حصلا بجعل واحد ، يكذّبه الوجدان السليم ، لتقدّم التسمية وضعا وطبعا.

وما ذكر إنّما يصحّ إذا قيل معناه أنّ الأركان المخصوصة التي هي جامعة الشرائط ولكونها في غير هذه الأيام واسمها صلاة على القول بكونها اسما للصحيحة لا تفعليها في هذه الأيام ، والمفروض أنّ كونها في غير هذه الأيّام إنّما استفيد من قوله : لا تفعليها [فيها] في هذه الأيام.

وأمّا على القول بكونها أسماء للأعمّ فلا يرد شيء من ذلك ، إذ يصحّ المنع عن الصلاة مع قطع النظر عن كونها في هذه الأيام.

وممّا ذكرنا (٣) يظهر ما في قوله رحمه‌الله : لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. ولعلّ نظره ونظر من وافقه (٤) الى أنّ الظاهر من حال المسلم في نذر الفعل

__________________

(١) أي من جملة ما ذكرنا من كونها أسامي للأعم ، وأنّهم اكتفوا في التسمية به واطلقوا الماهيّات على الفاسد أيضا قوله عليه‌السلام : «دعي الصلاة أيام أقرائك».

(٢) «الكافي» : ٣ / ٨٣ الحديث ١ ، «وسائل الشيعة» : ٢ / ٢٨٧ الحديث ٢١٥٦.

(٣) أي ومما ذكرنا من كونها أسامي للأعم يظهر فساد ما ذكره الشهيد رحمه‌الله من نفي التسمية بالنسبة الى الفاسدة في قوله : لأنّه لا يسمى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد.

(٤) لعلّ ربما تكون إشارة الى تصحيح كلام الشهيد ومن تبعه ، وليس بالضرورة أن يكون لبيان وجه اشتباههم كما توهم بعض المحشّين.

١١٢

أو الحلف عليه هو قصد الفعل الصحيح ، فالحنث إنّما هو لأجل الصحّة ، وعدم الصحّة لا لأنّه ليس بصلاة ، فتعدّوا من عدم الصحّة الى نفي الذّات ، فلو نذر أحد أن يصلّي ركعتين في وقت خاصّ ، فالقائلون بكونها اسما للأعمّ أيضا يقولون بأنّ الفاسدة لا تكفي ، وكذا لو نذر أن يعطي مصلّيا شيئا ، فلا يبرّ نذره بإعطائه لمن علم فساد صلاته.

ويظهر الثمرة فيما لو جهل حاله بالخصوص من جهة نفس الأمر لعدم المعرفة بحال المصلّي أو من جهة نفس الحكم للاختلاف الحاصل من جهة الأدلّة في حقيقة العبادة ، ولا مرجّح عنده لاعتبار الصحّة عنده أو عند المصلّي الذي يريد أن يعطيه مثلا.

وعلى هذا ، فلو حلف أن لا يبيع الخمر ، فيحنث ببيعها وإن كان بيعها فاسدا كما ذهب إليه الأكثر (١) لأجل تحقّق البيع.

ولا ينافي ذلك حمل فعل المسلم على الصحّة كما كان ينافيه في المثال المتقدّم (٢). والظاهر أنّ ذلك أيضا لكون البيع اسما للأعمّ ، وسنشير الى جريان الخلاف في المعاملات أيضا.

وممّا يؤيّد كونها أسامي للأعمّ ، أنّه لا إشكال عندهم في صحّة اليمين على ترك الصلاة في مكان مكروه أو مباح مثلا وحصول الحنث بفعلها ، ويلزمهم على ذلك المحال ، لأنّه يلزم حينئذ من ثبوت اليمين نفيها ، فإنّ ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيّا عنها ، والنّهي في العبادة مستلزم للفساد ، وكونها فاسدة مستلزم لعدم تعلّق اليمين بها ، إذ هي إنّما تتعلّق بالصحيحة على مفروضهم ، فيحكم بصحّتها ، وبعد

__________________

(١) بل عليه الاتفاق وإلّا قوله الأكثر يشعر بالخلاف.

(٢) وهو الحلف على ترك الصلاة أو الصوم بخلاف مثال الخمر لأنّه فاسد في أصله إذ ليس له وجه صحة يحمل عليها ، فلزوم الحنث مع كونه فاسدا لا ينافي حمل فعل المسلم على الصحّة.

١١٣

تعلّق اليمين لا يتحقّق الحنث لعدم تحقّق الصلاة الصحيحة.

والقول بأنّ المراد الصلاة الصحيحة لو لا اليمين ، لا يجعلها صحيحة في نفس الأمر حقيقة كما هو مراد القائل.

ويجري هذا الكلام في المعاملات أيضا إن قلنا بدلالة النّهي على الفساد فيها أيضا ، ومما يؤيّده أيضا أنّه يلزم على القول بكونها أسامي للصحيحة أن يفتّش عن أحوال المصلّي إذا أراد أن يعطيه شيئا لأجل النذر إذا لم يعلم مذهبه وصحّة صلاته في نفس الأمر ، فإنّ حمل فعل المسلم على الصحّة لا يكفي هنا ، فإنّ غاية ذلك حمل فعل المسلم على الصّحيح عنده ، والصحّة قد تختلف باختلاف الآراء ، فإذا رأى من نذر شيئا للمصلّي رجلا صالحا يصلّي بجميع الأركان والأجزاء ، ولكن لا يدري أنّه هل صلّى بغسل غير الجنابة بلا وضوء أو مع الوضوء ، وهو يرى بطلان الصلاة به ، وذلك الصالح قد يكون رأيه أو رأي مجتهده الصحّة ، والمفروض أنّ المعتبر في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده المطابق لنفس الأمر بظنّه ، وكذلك ملاحظة غيره من الاختلافات في الأجزاء وسائر الشروط ، ولا ريب أنّ الصحيح من العبادة ليس شيئا واحدا حتى يبنى عليه في المجهول الحال على حمل فعل المسلم على الصحّة ، ولم نقف الى الآن على من التزم هذه التفحّصات والتّدقيقات ، ويعطون على من ظاهره الوفاء ، وليس ذلك إلّا لأجل كونها أسامي للأعمّ ، ولعلّه لأجل ذلك لا يتفحّص المؤمنون في الأعصار والأمصار عن مذهب الإمام في جزئيّات مسائل الصلاة ، مثل أنّه هل يعتقد وجوب السّورة أو ندبها أو وجوب القنوت أو ندبه ، ويأتمّون به بعد ثبوت عدالته.

نعم ، إذا علم المخالفة فلا يصحّ الاقتداء فيما يعتقده باطلا ، مثل ما لو ترك الإمام السّورة أو نحو ذلك ، فما لم يعلم بطلانه ، يجوز الاقتداء به ، ويصحّ صلاته ،

١١٤

لأنّه ائتمّ بمن يحكم بصحّة صلاته شرعا ، والقدر الثابت من المنع هو ما علم بطلانه ، وإن كان صحيحا عند الإمام ، فليس هذا إلّا من جهة كفاية مسمّى الصلاة ما لم يعلم المأموم بطلانها على مذهبه ، لا انّه لا يصحّ الاقتداء حتّى يعلم أنّه صحيح على مذهبه.

بقي الكلام في بيان بعض ما أشار اليه الشهيد رحمه‌الله (١) وهو أمور :

الأوّل : أنّه يستفاد منه أنّ الحقائق الشرعيّة كما تثبت في العبادات ، تثبت في المعاملات أيضا ، وهو كذلك (٢). وقد يظهر (٣) من بعضهم اختصاص ذلك بالعبادات ، وهو ضعيف ، وعلى هذا فيمكن عطف قوله رحمه‌الله : وسائر العقود ، على تالييه إلّا الماهيّات الجعليّة أيضا (٤).

الثاني : أنّ الخلاف في كون الألفاظ أسامي للصحيحة أو الأعمّ ، لا يختصّ بمثل الصلاة والصوم ، بل يجري في سائر العقود أيضا ، وهو أيضا كذلك.

__________________

(١) الشهيد الاوّل في كلامه السّابق.

(٢) تبعا للأكثر ، بل يظهر من كلام السيد في شرح «الوافية» دعوى الاجماع على عدم الفرق بين الصنفين.

(٣) بل صرّح في «الفصول» ص ٤٢ : بأنّه هناك من المتأخّرين من فصّل بين ألفاظ العبادات والمعاملات فأثبتها في الأوّل ونفاها في الثاني.

(٤) في بعض النسخ بدل تالييه ، سابقيه ، ولكن في نسخة الأصل تالييه ، والظاهر أنّه مبني على إرجاع الضمير فيه الى سائر العقود كما كان الأوّل مبني على إرجاعه الى الماهية الجعلية ، مع اعتبار اللّفظ من المرجع باعتبار تذكير الضمير. وكيف كان فالأمر واضح ، يعني كما يمكن أن يكون وسائر العقود في كلامه مرفوعا عطفا على الماهيات الجعلية ، كذلك يمكن أن يكون مجرورا عطفا على الصلاة والصوم أيضا. فعلى الثاني دلّ كلامه على ثبوت الحقيقة الشرعية في المعاملات أيضا هذا كما في حاشية القمي.

١١٥

قال المحقّق رحمه‌الله في «الشرائع» (١) في كتاب الأيمان : إطلاق العقد ينصرف الى العقد الصحيح دون الفاسد ، ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ ، وكذا غيره من العقود.

وقال الشهيد الثاني رحمه‌الله في «شرحه» (٢) : عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى الى ذهن السّامع عند إطلاق قولهم : باع فلان داره وغيره ، ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه حتى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا ، وعدم صحّة السّلب وغير ذلك (٣) من خواصّه (٤) ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما (٥) كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه الى الصّحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة.

أقول : ويمكن حمل كلام المحقّق على ما ذكرنا من أنّ الظاهر والغالب في المسلمين إرادة الصحيح ، فينصرف إليه ، لا لأنّ اللّفظ حقيقة فيه فقط ، فلا ينصرف الى غيره لكونه مجازا.

وأمّا ما ذكره الشّارح من دعوى التبادر ، فإن أراد به ما ذكرنا فلا ينفعه ، وإن أراد كونه المعنى الحقيقي ، ففيه المنع المتقدّم ، وعدم سماع دعوى الفساد في صورة الإقرار أيضا لما ذكرنا كنظائره.

__________________

(١) «شرائع الاسلام» : ٣ / ١٧٧.

(٢) «مسالك الأفهام» : ١١ / ٢٦٣.

(٣) كالاطراد.

(٤) خواص المعنى المشترك.

(٥) أي لو كان البيع مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسير من أقرّ ببيع داره بالفاسد بأن يقال أردت بالبيع المذكور في هذا الإقرار هو الفاسد لا الصحيح كما هو تفسيره في غير البيع من الألفاظ المشتركة بأحد المعنيين ، فعدم سماع التفسير قرينة مرشدة على انّه لا يكون مشتركا بينهما.

١١٦

وأمّا تمسّكه بعدم صحّة السّلب ، فلم أتحقّق معناه ، لأنّا لا ننكر كونه حقيقة ، إنّما الكلام في الاختصاص وهو لا يثبته.

وأمّا قوله رحمه‌الله : وانقسامه الى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة ، فإن أراد أنّ التقسيم ليس بحقيقة في تقسيم المعنى فيما أطلق المقسّم ، بل أعمّ من تقسيم اللّفظ والمعنى.

ففيه : أنّ المتبادر من التقسيم هو تقسيم المفهوم والمعنى ، لا ما يطلق عليه اللّفظ ولو كان مجازا ، وإن أراد أنّ الدّليل لمّا دلّ على كون الفاسد معنى مجازيّا فلا بدّ أن يراد من المقسّم معنى مجازيّ يشملهما ، فهو مع أنّه لا يساعده ، ظاهر كلامه رحمه‌الله أوّل الكلام.

الثالث : أنّ الدّخول في العمل على وجه الصحّة يكفي في كونه صحيحا.

أقول : والأظهر عدم الاكتفاء ، فإنّ الدّخول على وجه الصّحيح غير الإتيان بالفعل الصّحيح ، والمفروض أنّ الحلف إنّما وقع على الثاني ، فإنّ الصلاة والصيام ليسا من باب القرآن المحتمل وضعه للمجموع ، وللكلام المنزل على سبيل الإعجاز المتحقّق في ضمن كلّ من أبعاضه ، بل هما اسمان للمجموع ، وعلى ما ذكره يلزم الحنث وإن لم يتمّها فاسدا أيضا وهو كما ترى ، بل هذا لا يصحّ على المختار أيضا ، بل يمكن أن يقال : إنّه لا يحصل الحنث على المختار لو أتمّه فاسدا أيضا عالما بالفساد لما ذكرناه في توجيه كلامه رحمه‌الله ومن وافقه ، من إرادة الصحيحة في أمثال ذلك وإن بني على المختار.

إذا عرفت هذا (١) ، فاعلم أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في جواز إجراء أصل العدم في ماهيّة العبادات (٢) كنفس الأحكام والمعاملات ، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه

__________________

(١) أي إذا عرفت الخلاف في الأسماء من أنّها أسامي للصحيحة أو الأعم والتحقيق فيه والمختار منه.

(٢) أي في مقام اثباتها.

١١٧

كما يظهر من كلمات الأوائل (١) والأواخر ، ولم نقف على تصريح بخلافه في كلام الفقهاء.

وأمّا ما نراه كثيرا في كلماتهم من التمسّك بالاحتياط واستصحاب شغل الذمّة ، فهو إمّا مبنيّ على مسألة الاحتياط والقول بوجوبه وستعرف ضعفه ، أو تأييد الدّليل به ، فلاحظ «الانتصار» (٢) وقد يتمسّك بالإجماع وطريقة الاحتياط في إثبات أصل الحكم كما تمسّك به (٣) في وجوب صلاة العيدين ، خلافا للشافعي ، وفي مسألة المنع عن صلاة الأضحى (٤) وغير ذلك.

وأمّا استدلالهم بالأصل في ماهيّة العبادات فهو فوق حدّ الإحصاء ، وكيف كان فالمتّبع هو الدّليل ، ولا ينبغي التوحّش مع الانفراد إذا وافقنا الدليل ، فكيف وجلّ الأصحاب إن لم نقل كلّهم متّفقون في عدم الفرق ، فمن يعمل بالأصل لا يفرّق بين العبادات وغيرها.

فنقول : إنّ من اليقينيّات أنّا مكلّفون بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأحكام والشرائع والعبادات ، أو كما أنّ سبيل القطع بمعرفة الأحكام كما وردت منسدّ لنا ، فكذلك بمعرفة ماهيّة العبادات ، وكما يمكن أن يقال : التكليف بالعبادات أمر بشيء غير معلوم لنا ولا يحصل الامتثال بها إلّا بإتيانها بماهيّاتها كما وردت ، وكما أنّ

__________________

(١) وهذه الدعوى غير مسموعة كما في الحاشية.

(٢) للسيّد المرتضى رحمه‌الله.

(٣) بالاجماع وطريقة الاحتياط.

(٤) ونقل في بعض النسخ صلاة الضحى ويمكن أن تكون هي الأصح فلا يرمى حينئذ قائلها بمخالفة الاجماع كما في «كشف اللّثام» ٣ / ٨٩ ، لأنّ صلاة الضحى بدعة بينما الأضحى ليست كذلك.

١١٨

انسداد باب العلم مع بقاء التكليف بالضّرورة ، وقبح تكليف ما لا يطاق يوجب جواز العمل بالظنّ في الأحكام بعد التفحّص والتجسّس عن الأدلّة ، وحصول الظنّ بسبب رجحان الدّليل على المعارضات أو بسبب أصالة عدم معارض آخر ؛ فكذلك في ماهيّة العبادات. وكما لا يمكن في ماهية العبادات التمسّك بالأصل قبل الفحص والتّفتيش واستفراغ الوسع ؛ فكذلك لا يمكن ذلك في نفس الأحكام ، وسيجيء الكلام في ذلك مستقصى في مباحث التخصيص ومباحث الاجتهاد والتقليد.

فنقول : إنّه لا مانع من إجراء أصالة العدم في إثبات ماهيّة العبادات كنفس الأحكام ، إذ لو قيل : إنّ المانع هو أنّ اشتغال الذمّة بالعبادة في الجملة قاطع لأصالة العدم السّابق ، فيصير الأصل بقاء شغل الذمّة حتّى يثبت المبرئ ، فمثله موجود في الأحكام أيضا ، فإنّ اشتغال الذمّة بتحصيل حقيقة كلّ واحد واحد من الأحكام الذي علم إجمالا بالضرورة من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاطع ، ولذلك اشترطوا في إعمال أصل البراءة وأصالة العدم في الأحكام الشرعيّة ، الفحص عن الأدلّة أوّلا ، فنحن نعلم جزما أنّ لغسل الجمعة مثلا حكما من الشارع ولا نعلمه ، فبعد البحث والفحص وعدم رجحان دليل الوجوب نقول : الأصل عدم الوجوب ، والأصل عدم معارض آخر يترجّح على ما ظهر علينا من أدلّة الاستحباب ، ولا يمكننا ذلك قبله ولا يوجب امتزاج أمور متعدّدة (١) وثبوت حكم فيها الفرق في ذلك.

فكما نتفحّص من حكم المفرد وبعد استفراغ الوسع نستريح الى أصل البراءة

__________________

(١) لعلّ هذا جواب سؤال وهو إن امتزج أمور متعددة كما في ماهيّة العبادات حيث ركبت من أجزاء وشرائط لعلّه يوجب الفرق بين الحكم والماهيّة في إجراء الأصل في الأول وعدم إجرائه في الثاني.

١١٩

وأصل العدم في عدم ما يدلّ على خلاف ما فهمناه وظننّاه من قبل الأدلّة ، فكذلك في ماهية العبادات المركّبة ، فإذا حصل لنا من جهة الأخبار والإجماعات المنقولة بانضمام ما وصل إلينا من سلفنا الصالحين يدا بيد ، أنّ ماهيّة الصلاة لا بدّ فيها من النيّة والتكبير والقراءة والرّكوع والسجود وغيرها من الأجزاء المعلومة ، وشككنا في أنّ الاستعاذة قبل القراءة في الرّكعة الأولى مثلا هل هو أيضا من الواجبات ـ كما ذهب إليه بعض العلماء (١) ـ أم لا ، ورأينا أنّ دليله على الوجوب معارض بدليل آخر على الندب ، فمع تعارضهما وتساقطهما ، يبقى احتمال الوجوب ، لإمكان ثبوت دليل آخر يدلّ عليه ، فحينئذ يجوز لنا نفيه بأصل العدم ، وأصالة عدم الوجوب فإنّه يفيد الظنّ بالعدم ، ويحصل من مجموع الأمرين الظنّ بأنّ ماهيّة العبادة هو ما ذكر لا غير.

وإن قلت : بلزوم تحصيل اليقين.

قلنا : بمثله في نفس الحكم ، مع أنّا نقول : لم يثبت انقطاع أصل البراءة السّابقة وعدم اشتغال الذمّة السّابقة إلّا بهذا القدر ، فكيف يحكم بانقطاعه رأسا حتى يقول : لا يمكن التمسّك بالأصل لانقطاعه بالدليل ، مع أنّ ذلك يجري في الحكم الشرعي أيضا ، فإنّ من المعلوم أنّ أصل العدم في الأحكام الشرعية أيضا انقطع بثبوت حكم مجمل لكلّ واحد من الموضوعات ، فكيف يحكم بأنّ الأصل عدم هذا الحكم وثبوت حكم آخر؟ والحاصل ، أنّا إذا بنينا على كفاية الظنّ عند انسداد باب العلم ، فلا فرق بين الحكم وماهيّة العبادات ، هذا مع أنّ لنا أن نقول في الأخبار أيضا ما يدلّ على بيان

__________________

(١) في حاشية صدر الدين الشوشتري كما ذهب إليه بعض الفقهاء هو ولد شيخنا الطوسي.

١٢٠