رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

وهكذا شرع العقيل يقيمون في الداخل ، وأصبحوا منذ ذلك الوقت سادة لا ينازعهم أحد في ذلك النصف من بغداد. فكانوا ، كاليرماز (١) في كربلاء ومحلة الشيخ عبد القادر الكيلاني في بغداد نفسها ، يتحدون القانون فيحمون جميع المشردين والأشرار المنبوذين الذين يلتجئون إليهم ، ولم يكن بوسع أحد أن يقيم في ذلك الجانب من النهر إلا بعد الحصول على السماح اللازم منهم (٢). والخلاصة ، أنهم كانوا هم حكام محلتهم ومنطقتهم وليس الپاشا بالذات. وقد ظل الپاشا ردحا من الزمن برما بعتوّهم وتجبرهم وعازما على تأديبهم وإيقافهم عند حدهم ولكن من دون أن يجرؤ على تنفيذ ما كان يريد في هذا الشأن ، حتى حصل الحادث الأخير فأثار حفيظته عليهم كما ذكرت من قبل وأقدم على استعمال سلطته بهياج وحنق. إذ بعث من يخبرهم بمغادرة المدينة في الحال ، وإلا فسيضطر إلى طردهم عنوة. غير أنه لم يكن من المعتاد في پاشوية بغداد أن تطاع أوامر الپاشا وتنفذ مطاليبه. ولذلك رفض العقيل أن يتحركوا من مكانهم إلا بشروط لم ير الپاشا من المناسب تنفيذها. وقد حدث هذا في صباح يوم أمس ، فذهب شيخ القبيلة الذي ربما أخافه هذا الإظهار غير المعتاد للقوة في السراي بنفسه لمعاتبة سموه والاعتراض على أوامره. وأخذت القبيلة في الوقت نفسه تتجمع معا ، وتستعد لحدوث الأسوء ، وحينما اجتمعنا في المقيمية اليوم لتناول الفطور لاحظنا من شبابيكها درجة غير معتادة من الاضطراب والهياج في الجانب المقابل من النهر. إذ كان الناس يركضون هنا وهناك ويتجمعون معا على شكل جماعات صغيرة وكبيرة ، وقد لاحظنا بنواظيرنا إنهم كانوا مسلحين.

__________________

(١) لا يخفى أن كلمة يرماز كلمة تركية تعني بالعربية ، الذين لا ينفعون لشيء ، ويقصد بهم هنا الأشرار من طبقات المجتمع.

(٢) كان الناس وما يزالون في بغداد يطلقون على جانب الكرخ اسم «صوب عكيل». ولم يزل قسم غير يسير من سكان المحلات القديمة في الكرخ ينتسبون لهذه القبيلة ، التي تشتهر منها بعض البيوتات المعروفة اليوم مثل بيت الخنيني وبيت الكحيمي وبيت سليمان الصالح وبيت اللاحم ، ولا تزال هناك «قهاوي عكيل» وجامع الخنيني وجامع غنام وما أشبه.

١٨١

وما إن انتهينا من تناول الفطور حتى رأينا الجسر يصبح مزدحما بالناس ، وكانت القفف تعبر النهر بسرعة ذهابا وإيابا. فقد كان هناك على ما اتضح كثير من الهرج والمرج ، واستبان أن بعض الأشخاص كانوا يحاولون قطع الجسر من الجانب الغربي. فتوقع الكولونيل تايلور والدكتور روص أن تحصل معركة في القريب العاجل. «ستراهم يبدأون هناك ، على الجسر في أغلب الاحتمال» ، هذا ما قاله الكولونيل ، ثم أردف يقول «لقد فعلوا مثل هذا تماما في السنة الماضية حينما هاجم الشيخ صفوك المكان». وما كاد ينطق بكلماته حتى انقطع الجسر ودل إطلاق رصاصة من الجانب المقابل على المعركة قد بدأت. فأعقبت ذلك ست إطلاقات أخرى ، وسرعان ما خلا الجسر من الناس عند ما أجيب على النار في الحال من الجانب الذي نقيم فيه. وبعد ذلك خفت ثلة من المشاة النظاميين عبر القسم الباقي من الجسر ، وبعد أن أخذت مواقعها في زوارقه الكبيرة للحماية وجهت وابلا من نارها إلى مقهى في الجهة المقابلة كان الأعراب يطلقون النار منه. وقد استمر إطلاق النار لمدة ساعتين تقريبا ، لم يقع خلالها سوى ضحية واحدة أخبرنا بها وهي امرأة عجوز مسكينة أصابتها رصاصة طائشة حينما كانت تمرّ راكضة فوق الجسر بأقصى ما تستطيع من السرعة.

وقد اختلفت الروايات التي صارت تتداولها الأفواه : فقال بعضهم إن الپاشا قبض على شيخ العقيل ومعه «الكمركچي» التابع له ، وهو وغد معروف ، فأمر بإعدامهما. وادعى آخرون أن الشيخ ما زال سالما في بيته الواقع في الجانب الآخر ، وأن الأعراب هناك ينتظرون أن يتم تجمعهم ليهاجموا جند الحكومة بقوة كبيرة. وقد تناهى إلينا قبل الظهيرة أن الپاشا أعاد الشيخ إلى منصبه ، وسوف لا يحدث شيء أكثر من هذا سوى السلم والصفاء. وقد توقف إطلاق النار تقريبا ، بعد أن كانت تخمد وتعود بين آونة وأخرى. ولكن بينما كان أغا ميناس (١) ، أحد موظفي المقيمية ، يخبرنا بهذه الأنباء السارة سمعت

__________________

(١) المترجم الأول في المقيمية ، ومن نسله ميناس الأرمني الذي كان معروفا ببغداد حتى توفي سنة ١٩٤٨ م.

١٨٢

إطلاقات المدافع وهي تدوي في الجو. فصاح الدكتور روص قائلا «آه لقد أطلقت المدافع ، إنها تعلن الانتهاء السار للمناوشات» لكن القرقعة السريعة المنطلقة من البنادق واستمرار النار المنطلقة من المدافع في إثر ذلك كانت تقص لنا قصة أخرى ، فاندفعنا كلنا إلى سطح الدار للوقوف على الخبر اليقين. على أن أشجار النخيل كانت تخفي المتحاربين عن أنظارنا ، مع أن دخان المدافع وانطلاق الرصاص السريع قد أقنعانا بأن قتالا جديّا كان يقوم على قدم وساق.

وقد علمنا بعد ذلك أن القتال كان قد بدأ أولا على إثر خبر تناهى إلى أسماع عقيل بأن شيخهم قد أعدم بأمر من الپاشا. فقسموا أنفسهم إلى جماعتين ، جاءت إحداهما لتقطع الجسر وتطلق النار على البلدة ، بينما اندفعت الأخرى من الباب الشمالية لتهاجم الجند الذين كانوا يرابطون هناك وتفاجىء مدفعيتهم. وفي الوقت نفسه عمد الپاشا ، مهما كانت نيته بادىء ذي بدء ، بعد أن أخافه الانفجار إلى الإنعام على الشيخ بخلعة الشرف وإعادته لتهدئة أتباعه ، بينما بعث سرّا إلى قائد جيشه الموجود في الجانب الغربي يأمره بأن يهاجم الأعراب من الخلف ـ وقد رأينا في الحقيقة مرور الزوارق وهي تحمل الضباط إلى المعسكر هناك. لكن الأعراب قد توقعوا حدوث هذا بحيث إن الرسول حينما جاء بالأوامر وجد الجند مشتبكين في قتال معهم. فقد كان اندفاعهم مفاجئا بحيث استطاعوا الاستيلاء على أحد المدافع قبل أن يعرف الجند وقائدهم ما إذا كان المتقدمون نحوهم بتلك السرعة من الأصدقاء أم من الأعداء. وعند ذاك قفز الجند إلى سلاحهم فردوا الأعراب على أعقابهم بفعل النار السريعة المنطلقة من المدافع الأخرى ، ومن بنادق الجيش النظامي. ودارت بعد ذلك معركة متنقلة حول الأسوار (١) على مقربة من باب الحلة. وكان هذا هو السبب في تجدد إطلاق النار الذي سمعناه.

__________________

(١) المعروف أن جانب الكرخ ظل من دون سور يحميه مدة من الزمن حتى جاء سليمان باشا الكبير (١٧٨٠ ـ ١٨٠٢ م) فبنى له السور المشار إليه.

١٨٣

وفي الساعة الثانية بعد الظهر ، وبينما كانت هذه المعركة قائمة على قدم وساق ، وصوت المدافع يدوي في الجو بانتظام بالقرب من باب الحلة في الجانب الغربي ، ومن مدفعين كانا منصوبين في الجانب الشرقي لإطلاق النار على الطرف المقابل من الجسر والمقاهي الملأى بالأعراب ، إذ حضر إلى المقيمية ضابط مرسل من الپاشا ليطلب من المقيم أن يعيره يخته الكبير المصنوع في إنكلترة ، لنقل قوة نظامية منجدة ومقدارا من الذخيرة لرجاله الذين كانوا مشتبكين في حرب مع الأعراب في الجانب الآخر. فلم يكن هذا مطلبا مستحسنا على الإطلاق لأنه إذا ما تمت تلبيته فإنه قد يعتبر تدخلا في نزاعات البلد الداخلية. غير أنه لما كانت عقيل في حالة ثورة علنية ضد الپاشا فقد استبان من الأصوب ، بصفتنا أصدقاء ، أن نساعد السلطات الشرعية على قدر الإمكان. وبذلك أعد الزورق ليكون جاهزا للعمل.

والأتراك مخلوقات بطيئة. فقد استغرقوا وقتا طويلا في إدخال رجالهم إلى الزورق ، وحينما تم ذلك وجد أنه مرتطم بالأرض ولا يمكن تحريكه ، غير أنه لما كان مرسى الزورق يقع تحت شبابيك المقيمية مباشرة ، ولما كان الأعراب قد لاحظوا تجمع الجند هناك من الجانب المقابل ، فقد أمطروا الساحل والبنايات المطلة عليه بوابل شديد من نارهم وظلوا يطلقون النار من الجانب المقابل على الزورق وكل شيء من حوله. ولا ينكر أن عرض النهر هنا كان يبلغ مائتين وخمسين ياردة على الأقل ، غير أن القذائف كانت تأتي بخفة عبر الماء ، وتقفز أحيانا ، وتصيب المقيمية أحيانا أخرى. والحقيقة أن واحدة منها قد أصابت جدارا كان يبعد عدة بوصات فقط عن رأس الكولونيل تايلور حينما كان يقف وراء الحاجز ليشاهد المعركة بمنظاره. وكذلك قتل عدة جنود أو جرحوا في الزورق. ولهذا فرحنا جدّا حينما تسنى لنا أن نحتمي وراء الأجزاء البارزة من جدار السطح. وقد كنا على كل حال غير معرضين كثيرا للخطر ، لأننا كان بوسعنا ملاحظة وميض القذيفة قبل أن ننسحب لنتقي خطرها.

وقد استمر هذا النوع من التسلية أكثر من ساعتين ، إذ أمكن في الأخير

١٨٤

تطويق أو تعويم اليخت وحدره مع التيار فأنقذنا بذلك من القصف الذي كان يصبه علينا أصدقاؤنا من الجانب المقابل. ولا بد أن أشير هنا إلى أن الجنود الأتراك ، على ما فيهم من خرق وغلظة بالنسبة للزورق ، لم يبد عليهم أي إجفال أو تخوف حتى حينما كانت تنهال عليهم القذائف بكثرة فتصيب عددا منهم. ويمكنني أن أقول الشيء نفسه بالنسبة لما حدث فوق الجسر ، فقد جرت محاولات عدة لنصب الجسر من جديد وربط أجزائه لغرض العبور بينما كان الجند يطلق النار على الأعراب خلال النهار كله ، من الزوارق التي لم تكن تحميهم حماية كافية.

وأخيرا استطاع اليخت العبور إلى الجانب المقابل ، بعد أن ارتطم بالأرض عدة مرات وانحدر إلى مسافة غير يسيرة. ومن الغريب أنه لم يجد أية مقاومة هناك ، فنزل الجند البالغ عددهم حوالي مئة وخمسين إلى البر واختفوا في بساتين النخيل الكائنة في ذلك الجانب بأسرع ما يمكن. غير أن اطلاق

١٨٥

النار من المدافع والبنادق ، الذي كان قائما على قدم وساق في الجانب الغربي من المدينة ومن الجانب الشرقي عبر النهر ، قد بدأ يخف الآن. ومن المحتمل أن يكون الأعراب قد ضويقوا كثيرا من مدفع كبير في القلعة ، كان قد جيء به ليكون أكثر تسلطا على مواقعهم فأصبحوا أكثر حذرا في تعريض أنفسهم. وكانت الشمس كذلك قد مالت إلى المغيب قبل أن ينزل الجنود من اليخت إلى البر ، فحصلت فترة توقف كانت تعكر سكونها فقط بعض الإطلاقات المنطلقة هنا وهناك وطبول الجند النظامي وأبواقه ، على أن قرقعة إطلاق البنادق العالية وهدير المدافع قد بدأت من جديد بصورة مفاجئة ـ وسمع صوت عال يعلن التحاق النجدة التي عبرت بالجيش المحارب. ووصل الصوت كذلك إلى النهر ، وحينما تطلعنا إلى الجسر وجدنا الجنود محتشدين فوقه أيضا. وبعد دقيقة اندفعوا إلى الأمام وهم يطلقون النار بسرعة ، فقوبلوا من الجانب الآخر بنار حامية استمرت عدة دقائق فقط ثم خمد أوراها. ولكن بالنظر لأن أعمدة الجسر لم تكن على مسافة عشرين ياردة عن بعضها فإن ربطه كان لا بد أن يتطلب عملا كثيرا. وقد شاهدنا قفة صغيرة تعبر الثغرة المتبقية في الجسر فأعيد نصبه كله بعد ذلك بقليل. ولا بد أن يكون القسم الأكبر من الرجال قد عبروا على ما يتضح ، لكن الظلام في ذلك الوقت كان قد خيّم بحيث لم نستطع أن نشاهد أكثر مما رأينا ، وقد حلت كذلك فترة من التوقف العميق للأصوات. على أن هذه لم تدم طويلا. فقد توقف إطلاق النار ، لكن صراخا وحشيا قد تعالى بدلا منه ـ صياح الرجال المختلط بصراخ النساء ، وجميع أصوات الرعب والفوضى واليأس. وفي خلال دقيقة أخرى تغطى وجه الماء بعدد كبير من القفف التي كانت قد التجأت إلى الساحل في بداية المعركة. فكان من الواضح أن الجند قد استولوا على البلدة في الجانب الثاني وأخذوا ينهبون ويسلبون في جميع الجهات. وقد استمر إطلاق النار ، لكن هذا لم يكن سوى إطلاق عابث كان يطلقه الجنود المعربدون لفتح باب مقفلة ، أو قتل يائس كان يقاوم مقاومة غير مجدية. ثم اقترب الضجيج شيئا فشيئا نحو النهر فحسبنا في الحال أكثر من ثلاثين قفة وهي تعبر محملة باللاجئين الهاربين في كل مرة. وسرعان ما ازداد تكاثف الظلام ، لكن الصخب ظل مستمرّا ثلاث

١٨٦

ساعات من دون أن ينقطع مختلطا بالصراخ. وبعد ذلك خيم الصمت على كل شيء وأصبحت المدينة هادئة ، وكأن الموقعة التي شهدناها لم تحدث فتعكر عليها سكونها وهدوءها.

وقد سمعنا أن «التفگنجي باشي (١)» هو الذي حثّ رجاله للقيام بالحركة الهجومية فوق الجسر التي كانت حرية بالجند المنتظم. وحينما وجد الأعراب عزمهم هذا تخلوا عن مكانهم فعبر الجيش. فنهب السوق الكائن بالقرب من الجسر في الحال ، وبدأت أعمال السلب وجمع الغنائم. والمقول إن الشيخ بعث شروطا للپاشا يعرض فيها أنه سيغادر المدينة في اليوم الثاني على أن تتم حماية البعض من العرب ، فوافق على ذلك كما قالوا. ويقول آخرون إنه اتصل

__________________

(١) التفكنجي اسم تركي للجندي من حملة البنادق التابعين لأفواج الجيش النظامي المحلي ، والتفكنجي باشي هو رئيس أولئك الجند أو قائدهم.

١٨٧

بقبيلة عنزة لتساعده على الاحتفاظ بمكانه في البلدة ، وما أشبه هذه الحركة بسياسة المماطلة الغريبة التي اتبعها. لكننا سنرى ما يأتي به الغد.

٥ كانون الأول

كانت الشوارع في ساعة مبكرة من هذا الصباح مكتظة باللاجئين ، الذين كان الكثيرون منهم عراة تقريبا. وكان الآخرون وهم أسعد حظا من هؤلاء يحملون معهم ما استطاعوا حمله من لوازمهم عند أول وقوع الحادث. وكان النسوة يضربن بأيديهن ويولولن ، كما كان الرجال وهم بين عابس مكتئب ، أو صخاب سباب ، يحملون بنادقهم وسائر أسلحتهم. وازداد عدد الحيوانات والماشية في المدينة حتى ازدحم بها كل زقاق ودرب. وقد اختلفت الروايات حول مصير عقيل ، لكنه من المحتمل جدّا أنهم حينما وقع الهجوم فوق الجسر وجدوا أنفسهم بين نارين ففروا هاربين إلى جميع الجهات ، وعادوا وبنادقهم بأيديهم إلى بيوتهم لحماية ممتلكاتهم. وحينما اكتشف الجنود ذلك ، وهم على علم بأنه لم يعد هناك ما يمكن أن يخشوا منه ، تخلوا عن تعقيب العدو وولو وجوههم شطر الأسواق وبيوت الأغنياء التي نظفوها من كل ما كان فيها وأشلعوا النار في الأسواق. وهكذا وقع ثقل الضربة على سكان البلدة ، ولم يكن ذلك ناتجا عن سلامة نية كما يقال لأنهم جميعهم كما هو معروف تمام المعرفة قد اشتركوا مع العقيل في أعمالهم وأطلقوا النار على جند الپاشا.

الساعة التاسعة صباحا

لا تزال الجماعات من بابنا وهي عارية تماما ، ومعظمها يعول ويولول وقد ازدحمت الشوارع بالعرب اللاجئين من الجانب الآخر ، رجالا ونساء ، لكننا لم يتأكد لنا ما حصل بعقيل. فيقول البعض إنهم ما زالوا في بيوتهم والبنادق بأيديهم ، بينما يستمر الجنود على نهب بيوت سكان البلدة الأصليين ـ ويعتقد الآخرون أنهم فروا جميعهم. ويقال كذلك إن الپاشا أصدر أوامره للجنود بالامتناع عن النهب ، وأنه هو نفسه وقف في نقطة ما على باب الجسر

١٨٨

ليمنعهم من نقل غنائمهم إلى الجانب الآخر. لكنه كان يحاول المستحيل بذلك ـ إنهم يضحكون عليه ، فهو لا حول له ولا قوة.

الساعة الثانية بعد الظهر

سمعنا أن العقيل قد فروا بالتأكيد ـ إذ تركوا البلدة مع أسرهم وممتلكاتهم ، ويقال علاوة على ذلك إنهم قصدوا عنزة في خروجهم هذا. لكن شيخهم تخلف عنهم والتجأ للاحتماء بباب حرم الپاشا ، وهو ملجأ حصين لا تنتهك حرمته ، فسمح له بالإقامة في بغداد كرجل عادي بشرط أن يحافظ على الهدوء والسكينة. وقد كنا نرى خلال فترة الصباح والنهار كله أن الناس كانوا يمرون حاملين أسلابهم ـ فكان أحدهم يسحب خروفا وراءه ، وآخر يحمل شدة من الدجاج المشدود إلى بعضه بالأرجل ، وثالث يحمل كثيرا من القدور والأواني والفراش أو السجاد ، وكان الرابع قد وجد طريقه إلى مخادع النساء في البيوت المنهوبة وجاء يمسك بيده حزمة من لوازم النساء وملابسهن. وجاء أحد جنود النظام بفرس للبيع وهو يقول إنه غنمها في المعركة ، فتعجب لا متناعنا عن شراء مثل هذه الصفقة. وكان الآخر يسوق أمامه حمارين أو ثلاثة محملة بأكياس كبيرة تحتوي على خليط من كل شيء. ولا يزال النهر مكتظّا بالقفف.

والظاهر أن الپاشا قد جعل مقره في المقهى الكائن في الطرف الآخر من الجسر ، الذي كان الأعراب يطلقون النار منه في أثناء المعركة ، لغرض إيقاف السلب والنهب عند حدهما على الأقل على ما قيل لنا في الصباح. لكن هذا يعد خطأ منه على ما يقال ، لأنه المزعوم الآن أنه كان يشجع الجنود على التمادي في تجاوزاتهم بتصرفاته هذه وقوله مثلا للسكان المنهوبة بيوتهم على سبيل التقريع وهو يهز كتفيه «هل ترون ماذا فعلتم بأنفسكم؟ إنها غلطتكم وليست غلطتي».

وما زالت أخبار الخسائر مشوشة بحيث لا يمكن الاعتماد عليها. لكن المعركة لا بد أن تكون قد أخذت مأخذها من «النظام» والألبانيين ، لأن أحد

١٨٩

موظفي المقيمية كان في ديوان الپاشا يوم أمس أثناء احتدام المعركة ، فجاء رجل من الجانب الآخر يطالب بقماش قطني لتكفين أربع وعشرين جثة ، وهو عدد القتلى العائد لمفرزة واحدة فقط. وقد تناهى إلينا أن قائد الهجوم الجريء على الجسر قد أصيب برأسه فقتل ، كما قتل وجرح بجروح بليغة عدد من رجاله. ولا بد أن تكون الخسارة في الجنود باهظة بالنسبة لما وقع في باب الحلة ، لأنهم وقفوا هناك معرضين لنيران الأعراب الذين كانوا يقاتلون من وراء أسوار حجرية. فلم يحاول أحد تقدير خسائرهم هذه ، على أن أشد الضرر قد وقع في البلدة نفسها. فإن فظاعات الجنود ، على كونها لا يمكن أن تكون أعظم مما يقترفه الجنود الأوربيون حينما يستولون على بلدة من البلدان بهجوم صاعق ، كانت مفجعة بمقدار غير يسير. فقد أسيئت معاملة النساء بشكل مرعب ، وجيء في هذا اليوم بجثة امرأة أقدم على قتلها وحش ألباني بينما كانت تقاوم تجاوزه عليها بشدة. وقد ألقيت على عتبة مرقد الشيخ ، فأمر النقيب بأن تدفن كما يدفن الشهداء. وبينما كان شرير آخر من هؤلاء الأشرار ينهب حرم أحد بيوت العرب أزعجه صراخ طفل من الأطفال فيه فحمله من مكانه وألقى به في البئر على ما كان يعتقد. وراح يتبجح بفعلته الشنيعة هذه في الخارج ، فوصل الخبر إلى أسماع أمه المسكينة وتجرأت على العودة إلى البيت علها تعثر على جثة طفلها. فنزحوا البئر من أجل ذلك ولكن من دون جدوى ، وبينما كانوا يهمون بالخروج بعد أن يئسوا من العثور على شيء سمعوا صراخا خافتا تعقبوا أثره في كل مكان ، فعثروا على الطفل ملقى في التنور. والظاهر أن الوغد اللئيم قد توهم بالتنور فحسبه بئرا فألقاه فيه. فأخرج الطفل من دون أن يكون قد تضرر بشيء يذكر. وهنا يمكنكم أن تتصوروا مقدار الفرح الذي استولى على الأم المسكينة!

وليس بوسع المرء أن يتصور مقدار النفوس التي كانت تحتشد في الجانب الغربي خلال الأيام الاعتيادية. فإن الأسواق يكاد يستحيل المرور فيها من جراء البغال والحمير الكثيرة التي تمر مع سائقيها محملة بالأثاث ، مع أن الدكاكين ما زالت مغلقة من الرعب والفزع المستولي على أصحابها. أما الجسر فيكوّن من أوله إلى آخره منظرا بالغ الروعة ، إذ تراه مكتظّا بالناس من

١٩٠

جميع الأنواع والأشكال وهم يستعجلون في رواحهم وغدوهم. وقد كان ساحل الضفة الشرقية بأجمعه مغطى بجماعات الناس الذين كانوا يصلون إليه من الجانب المقابل. ويعد الهايتة سواقا سباحين للبغال والحمير التي تساق لتعبر النهر سباحة عند الضرورة ، ولذلك نراهم الآن وهم لا يزالون يسوقون هذه الحيوانات إلى ضفافه في الجانب الآخر. والمنظر في الساحل على جانبي النهر خيط عجيب غريب ، إنه منظر يمكن أن يكون مضحكا إلى آخر حد لو لا الشقاء والبؤس المقترنين به. إذ يرى الرائي هنا رجلا ينقض على خروف فيأخذه بينما يكون صاحب الخروف المسكين قد هرب مع الحمل إلى الجانب الآخر. وقد تسمع امرأة في زاوية من الزوايا وهي تمزق الهواء بصراخها وعويلها من أجل طفلها أو زوجها الذي قتل أو أغرق في النهر ـ لأن كثيرا من القفف قد غرقت فابتلعها النهر بأحمالها. وقد تجد كذلك امرأة أخرى وهي تندب حظها بلهجة لا تقل إيلاما عن صاحبتها الأولى وتتحسر على ضياع ممتلكاتها وأثاث بيتها على يد وغد لئيم سرق بيتها على منظر منها ، وربما يكون واقفا على مقربة منها. والخلاصة ، أن السلب والانتهاك هما اللذان يستوليان على المدينة بأجمعها الآن ، ولا يعاني من ذلك إلا الضعيف في كل مكان.

١٩١
١٩٢

(١٠)

وصول الشيخ وادي وسليمان غنام ـ زيارة لحومة المعركة ـ المنظر هناك ـ مخيم شيخ زبيد ـ اللباس ـ سلاح الأعراب ـ سرقة الخيول وعواقبها ـ معسكر الهايتة ـ رحيل عنزة ـ ترتيبات الباشا ـ شرطة بغداد وعدالتها ـ شيخ وادي ـ الكاظمية.

٦ كانون الأول

وصل في صباح هذا اليوم إلى ضواحي المدينة وادي (١) شيخ زبيد ، مع لفيف من رجال قبيلته ، وسليمان غنام بناء على استدعائهما بمناسبة الحوادث الأخيرة. وسليمان غنام ، الذي كنت قد أشرت من قبل إلى كونه حليفا من حلفاء علي پاشا ، وغد عربي يرجع إلى قبيلة الجربا في أصله. وكان قبل مدة غير يسيرة قد استخدم لحراسة القوافل وتوصيلها عبر البادية إلى دمشق في أثناء شجار حصل مع عقيل. لكن هؤلاء الذين كانوا قد ذاقوا حلاوة هذا الاحتكار

__________________

(١) هو وادي ابن الشيخ شفلح الشلال شيخ زبيد المعروف. وقد ذكر عنه صاحب (عنوان المجد) انه «.. كان أميرا كريما جوادا له من مكارم الأخلاق والأفعال والأقوال ما لا يسعه المقام وكانت عطاياه كعطايا البرامكة ، وهو من حسنات الزمان ..» قارن هذا بما يقوله صاحب هذه الرحلة عن وادي نفسه في رسالة ١٧ كانون الأول. ثم يقول صاحب (عنوان المجد) عن العشيرة أيضا «.. وهم بنو منبه ابن صعب بن سعد العشيرة بن مالك ، وهو مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من القحطانية .. وبنو زبيد بطن من زبيد الأكبر من سعد العشيرة المذكورة .. وعشيرة زبيد التي في نواحي بغداد من زبيد الأصغر ، أما العبيد والجبور والدليم فهم من زبيد الأكبر وكلهم من حمير من القحطانية». وقد كتب هذا الكتاب في ١٢٨٦ للهجرة.

١٩٣

وفوائده اتخذوا الإجراء الذي ذكرته في الرسالة السابقة ، وهو التصدي لقافلة كان مسؤولا عن توصيلها هو والاشتراط على الپاشا بإعادة إشرافهم على توصيل القوافل وحراستها ـ جريا على القاعدة القديمة ، على ما أحسب ، وهي «كلف اللص بالقبض على اللص». أما زبيد فهم عشيرة عربية تملك قسما من البلاد الكائنة في أسفل الطريق الذاهب إلى الحلة. وقد كانوا في يوم من الأيام أقوياء الشكيمة لكنهم أخذوا بالانحطاط والتأخر في الوقت الحاضر لمختلف الأسباب. ولما كان كلا هذين الشيخين من خصوم العقيل فقد لبيا عن طيب خاطر نداء الپاشا الذي صدر إليهما جريا على السياسة التي يتبعها في مثل هذه الظروف عادة ـ والآن بعد أن انتفت الحاجة إلى خدماتهما فإن الجميع باتوا ينتظرون نتيجة التدبير الذي سيتخذه في هذا الشأن.

وقد عبرنا النهر قبل الظهر لنشاهد المنظر الذي خلفه النزاع الأخير. فكانت التأثيرات لأول وهلة أقل ألفاتا للنظر مما كنت أتوقعه ، لأن القسم الغربي من المدينة (الكرخ) كان في الحقيقة قذرا خربا بحيث يندر أن يوجد شيء يمكن أن يجعله على أسوأ مما هو عليه. لكنك حينما تأتي إلى الأسواق والأزقة ـ المناطق المأهولة ـ تجد فيها العبث والضرر الذي حصل في الحقيقة. فقد كسرت كل باب من الأبواب وفتحت ، وخلعت بصورة عامة عن مصاريعها. وكان يجلس على الكثير من هذه الأبواب قليل من العجائز اللواتي كن يضربن على صدورهن وهن ينظرن إلى بيوتهن المنهوبة ـ التي كان منظرها المظلم الخاوي ، يعلم الله ، باعثا على ما يكفي من الانقباض في النفس. كما كان الرجال الذين ظلوا يحومون حول بيوتهم يجلسون على جانبي الطريق من دون حركة وهم يحدقون فيها بفتور وهمة خائرة. وكانت بعض المقاهي ، التي أفرغت مما كان فيها ، يشغلها أناس تمكنت من الحكم عليهم من مظهرهم بأنهم تجار وأصحاب دكاكاين خسروا جميع ما كانوا يملكون. وكانت البغال والحمير المحملة لا تزال تمر في الشوارع ، يسوقها الهايتة في الغالب ، كما كانت الشوارع والأزقة نفسها ملأى بالأثاث المتكسر ، وريش المخاد والوسائد التي انتزعت أوجهها المطرزة ، وبقطن وصوف الحشايا التي يصعب حملها ، وبمقادير غير يسيرة من الحبوب والمؤونة التي رميت في عرض الطريق.

١٩٤

وكانت الأسواق تنم على أكثر أمارات العنف إيلاما وإثارة للحزن. فقد سقطت السقوف المحروقة واختلط رمادها بالحبوب والتمور والعطاريات والرقي والقرع وسائر الخضراوات ـ أي جميع الأشياء غير الثمينة التي لا تستحق الأخذ. وديس حطام ما أتلف خلال النهب بالأقدام أو ترك مع قطع وكسر الأواني والأوعية التي كان يحفظ فيها فأصبح ذلك كله كتلة كريهة واحدة من الوساخة والقذارة التي كان ينبش فيها ويتسكع بينها عشرات من الأطفال العرايا تقريبا ، للعثور على شيء يأكلونه بلا شك. أما الحجر والدكاكين فقد كانت كلها مفتوحة خاوية ، وقد خلعت أبوابها وشبابيكها ـ ومن حسن حظ المدينة أن القسم الأعظم من هذه مبني بالطين والآجر ، ولو لم يكن الأمر كذلك لأتت النار التي أضرمها الجنون الطائش على كل شيء.

ثم ذهبنا لمشاهدة الأماكن المهمة التي وقعت فيها المعارك. فكان التخريب الحاصل في رأس الجسر أقل مما كنت أتوقعه لأن مدفعين كانا يصبان نيرانهما على تلك النقطة طوال النهار. وقد كان باب الحلة يمكن أن تشاهد فيه آثار القتال جميعها ، لأن القتال معظمه كان قد حصل هنا ، وهنا كذلك اختلط الحابل بالنابل ودخل الجنود في قتال مرير مع الأعراب المتقهقرين. إذ توجد هنا فسحة مكشوفة في داخل السور ، فاتخذ الجند مواقعهم فيها مع المدافع بينما هرب الأعراب إلى المنازل والبساتين المحيطة بها ، ومن وراء جدرانها كانوا يمطرون الجنود بنيرانهم الحامية ـ وهو عمل يجيدونه تمام الإجادة. هذا في الوقت الذي كان الجنود قد أطلقوا فيه على ما يقال من مدفعيتهم خمسمئة قذيفة على عدوهم غير المنظور. ولذلك تجد الأسوار والبيوت ملأى بآثار هذه القذائف ، كما امتلأت الباب بآثار الرصاص الذي كانت تمطره عليها البنادق. لكن الجنود هم الذين كابدوا ويلات المعركة في الغالب ، وكانوا على وشك أن يتقهقروا بعد أن استنفدوا ذخيرتهم لو لا أن تصلهم في الوقت المناسب الذخيرة التي نقلها عبر النهر زورق المقيمية مع النجدة من الرجال فزودتهم بوسائل جديدة وشجاعة متجددة.

ومن منظر الخراب هذا ذهبنا لزيارة مخيم زبيد ، الذي كان منظره شيئا

١٩٥

يستحق المشاهدة بالتأكيد. ففي خلال خبرتي كلها مع التركمان والأكراد أو العشائر المتنقلة معظمها لم أجد أناسا متوحشين تبدو عليهم مثل هذه الهيئة الهمجية. إذ يتدلى شعرهم السبط الأسود منتشرا من حول أوجههم الداكنة ، والنقاط الوحيدة التي يمكن أن يرتاح لها المرء في تقاسيمهم الوحشية التي تتجهم عابسة من تحت لباس رأسهم الغريب هي العيون السود النفاذة والأسنان البيض. وقد كان هناك في المخيم ألف من الجياد على الأقل ومثل هذا العدد من الرجال الذين يختلطون كلهم معا لتتكون منهم كتلة هائلة ، من ذوات الأربع وذوات الرجلين ، تبرز من بينها غابة كثة من الرماح. أما لباس هؤلاء الأعراب ، إذا كان من الممكن أن يسمى لباسا ، فقد كان لباس البدو الاعتيادي المألوف في البادية ـ أي الغترة الحمراء أو الصفراء المشدودة حول قمة الرأس بحبل سميك من الوبر ـ و «الدشداشة» المصنوعة من الشعر الخشن أو الخيش (البشت) ـ والعباءة التي تكون عادة من كل جنس ونوعية. وقد كان معظمهم قذرا رثّا. ولم يكن البعض منهم يرتدي «اللباس» ، وبعضهم الآخر لم يكن يملك ما يغطي به نفسه على ما يظهر سوى العباءة الخلقة المشدودة حول المحزم بقطعة من حبل الشعر وكان شعر البعض منهم سبطا منثورا على طبيعته ، وشعر البعض الآخر مضفورا بضفائر طويلة ، كما كانت سيماء الجميع حادة تنم عن كثير من الشموخ. وكانوا كلهم عجفا طوالا ، يبدون وكأنهم جياع للفريسة. لكنه لم يسمح لأي شيء يشتم منه رائحة هذا الاستعداد بالظهور أمامنا ، مع أنهم في لحظة واحدة تجمعوا حولنا بالمئات حالما ظهرنا بينهم. ومع أنهم أبدوا كثيرا من حب الاستطلاع ، فإن ذلك لم يكن مشوبا بالخشونة. لا بل كان الأمر بالعكس ، فحينما كان بعضهم يقترب منا اقترابا زائدا كان الآخرون يعتذرون عنه فيتراجع الجميع ليفسحوا لنا المجال بمشاهدة الشيء الذي كنا نتظاهر بالنظر إليه. وهنا كان يظهر الفرق بين عربي البلدة أو الفلاح وعربي البادية أو البدوي.

فالأول جلف فظ والثاني «جنتلمن». والحقيقة ، انهم على جميع ما في مظهرهم من وحشية وشراسة كان في عملهم وتصرفهم نوع من الأدب

١٩٦

الفطري. ولا شك أن أبرز ما في هذه المقارنة ينشأ عن روحية الاستقلال الجموحة التي تولد نفس التأثير في الهنود الحمر الذين يقطنون أمريكا الشمالية.

وقد تحدثنا حديثا وديّا للغاية ما بيننا لوقت ما ، وسألناهم عن المعاملة التي قد يعاملوننا بها إذا ما شاءت الصدفة أن يعثروا علينا في طريقهم ، وهل يعمدون إلى سلبنا أم لا. فأظهروا أنهم قد صدموا لمجرد الفكرة نفسها ، وصرحوا وهم يضعون أيديهم على رؤوسهم وأعينهم بأننا أعزاء عليهم بقدر أهمية هذه الأعضاء للإنسان.

ومع أن الجو كان باردا ، ولا سيما في الليل ، فقد كان هؤلاء الرجال مخيمين كلهم على الأرض الجرداء من دون غطاء سوى العباءة التي كانوا يرتدونها. ولم تكن هناك أية خيمة سوى خيمة الشيخ ، وهذه كانت صغيرة جدّا. ولذلك كان كل منهم ينام ، أينما اتفق ، فيبدون وكأنهم حزم من الخرق القذرة سوّدت وجه الأرض. وقد كان معظمهم مسلحا بسيوف من نوع السيوف العربية الحدباء والخناجر المعقوفة المعلقة من المحزم. وكان عند بعضهم صوالج حديد ثقيلة ، كما كانت عند الكثيرين منهم حراب يبلغ طولها خمسة أو ستة أقدام للرمي. وهناك الجريد ، أو الحراب الأصغر منه ، المصنوع من الحديد والمعلق بالكثير من السروج بمقدار يصل أحيانا إلى ستة في كل جانب ، وهذا يرمونه عند الحاجة بخفة وقوة عظيمة. وقد كان بعضهم يحمل مطارق صغيرة ، كما كان لقليل منهم أعواد يبلغ طول الواحدة منها ياردة واحدة ، وتجهز بكلاليب من الحديد ، يستطيعون أن يلتقطوا بواسطتها أي شيء يقع على الأرض أو أن ينتزعوا رجلا من سرجه حينما يغيرون بسرعة تامة. وقد كان هناك أيضا عدد قليل من البنادق البالية. لكن سلاحهم الأعظم على كل حال هو الرمح الذي قلت من قبل إنه كانت توجد غابة كثيفة منه تغطي الأرض ، والذي لا يشعر أي أعرابي أنه رجل كامل بدونه. إذ كان كل منهم يغرز رمحه بالقرب من جواده بوجه عام.

أما خيولهم فقد خيبت أملي كثيرا ، فإنني لم أر إلّا في النادر جوادا ذا

١٩٧

منظر أصيل بين جميعها. ولا شك أن أحسنها كان قد ركبها أناس اصطحبهم الشيخ معه حينما ذهب في خدمة الپاشا ، لكنني كنت أتوقع أن أرى مزيدا من الخيول التي تستحق أن ينظر إليها.

فلم تكن هزيلة وصغيرة فحسب ، بل كانت قبيحة الشكل وتنقصها جميع الصفات المهمة التي يتميز بها الجواد العربي. والحقيقة أن قبيلة زبيد لم تكن على ما يبدو مشتهرة بالخيول الأصيلة. وإذا سألتهم عن سبب ذلك يردون عليك بقولهم «إننا إذا أردنا أن نحصل على الأصائل من الخيول نذهب إلى عنزة فننهب منها ما نريد». وقد فعلوا هذا في الحقيقة ذات يوم ، لكنه كاد يكلفهم وجودهم كقبيلة محترمة بين القبائل.

فقد أرادوا في يوم من الأيام على ما يبدو أن يحصلوا على عطف مير آخور الپاشا ، أو رئيس الخيلية التابع للپاشا ، بأن يقدموا له هدية محترمة. لكنهم وقد كانوا لا يملكون أنفسهم الجياد الأصيلة اللائقة ، عمدوا إلى سرقة دزينة من أحسن خيول عنزة التي كانوا على وفاق تام معها في ذلك الوقت. على أن هؤلاء سرعان ما اكتشفوا السرقة ، ولم يفتهم أن يعينوا السراق أنفسهم. فبعثوا إلى زبيد يحملونها وزر الجريمة ، وهم يقولون «لقد كنا إخوانا لكم وهكذا نرغب أن نكون. وقد سرقت خيولنا وأنتم سراقها ـ نحن نعلم ذلك ولا يجديكم الإنكار شيئا ، بل أرجعوها لتكونوا إخوانا لنا كما كنتم من قبل ، وإلا فنحن أعداء لكم منذ الآن». فحلفت زبيد بكل ما هو مقدس بأنهم واهمون فيما ذهبوا إليه ـ وأنها لا تعلم شيئا عن الموضوع ، ودعت عنزة أن تأتي فتفتش عن خيولها عندهم. ولا شك أن العرب لا يجاريهم أحد في إخفاء الخيل المسروقة ، وقد نجحوا نجاحا غير يسير في هذا الحادث بحيث لم تستطع عنزة تمييز خيولها من بين الخيول الأخرى. لكن رجال عنزة ظلوا غير مقتنعين بالنتيجة ، وقال «إن هذا لا يدل على شيء في الحقيقة ، أنتم السراق وليس غيركم. ولما كنتم قد اخترتم أن تؤذوننا وتهينوننا ولا تلتفتون إلينا ، فليكن الأمر كذلك ، ونحن أعداؤكم».

وقد برت عنزة بوعدها هذا. ولما كانت على جانب أكبر من القوة

١٩٨

والمنعة بين القبائل فقد دبرت في الحال أن تضايق زبيدا وتؤذيها حتى أضجرتها ونغصت عليها عيشها ، فقررت أن تحسم المشكل مع عنزة بقدر الإمكان.

ولذلك بعثت زبيد إلى المير آخور ترجوه ان يعيد لها الخيول بأي شرط كان. فتم لها ما أرادت وأعيدت إلى عنزة خيولها المسروقة مع اعتراف متواضع بالخطأ ، ورجاء بإعادة الصداقة إلى ما كانت عليه من قبل بين العشيرتين. فأبت عنزة ذلك قائلا «كلا ، لقد أثبتم أنفسكم بأنكم أناس لا عقيدة لهم ـ أيها الأوغاد والمساكين الذين يعد من الخزى والعار الاتصال بهم. لقد وجدتم من المناسب أن تعيدوا ما نهبتموه ، لكنكم هيهات أن تستعيدوا تقديرنا لكم ـ سنبقى على عدائنا لكم». والحق أن هذا النزاع مع عنزة قد عجل بالقضاء على مكانة زبيد بين العشائر.

ومن مخيم زبيد العاري ذهبنا إلى معسكر الهايته (١) الكائن على بعد غير يسير منه ، فكان هذا منظر طريف آخر ، فقد كان ممتلئا بالمنهوبات التي كان ناهبوها يرزمونها ويؤمنون عليها بقدر ما يمكن. إذ كانت كل خيمة ممتلئة بكميات من الحاجات والأشياء غير المتجانسة ، فالأسرة المصنوعة من جريد النخل والأفرشة والقدور وأواني الطبخ والطسوت والأباريق ، وألبسة النساء

__________________

(١) يقول المرحوم الأب انستاس الكرملي في بعض تعليقاته على كتاب نشره في ١٩٣٦ بعنوان (شعراء بغداد وكتابها في أيام وزارة المرحوم داود باشا والي بغداد) «.. والمشهور على الألسن الهايتة بإسكان الياء .. وهم بمنزلة الضبطية في المئة التاسعة عشرة للميلاد. وكانوا من العساكر الفرسان يخرجون لتحصيل الضرائب أو (الويركو) من سكان القرى ، وكانوا من قساة القلوب يستخرجون الأموال بعنف وشدة فوق المطلوب من الأهالي وكان لا يردعهم رادع. ولهذا جاء في الكلام «صارت الدنيا هايتة» أي أصبحت الناس بلا رادع يردعها. وانقرضت الهايتة في بغداد في أيام مدحت باشا. ويقال إن الهايتة ترقيق الهايطة التركية ومعناها الخارج على الحكومة وقاطع الطريق ... وإذا قال قائل إن الهايتة تصحيف العربية (الهيثة) بمعنى الجماعة المختلطة من الناس المؤلفة من عناصر شتى فلا يكون من المخطئين. ويقال في الهيثة الهيشمة أيضا بشين مثلثة بعد الياء المثناة التحتية».

١٩٩

والرجال وغير ذلك ، كانت كلها مكدسة في كل زاوية ومكان ومجموعة بأكوام في أماكن استراحة الرجال بينما كانت قطع الأشياء المكسورة تغطي الأرض. وكذلك كان عدد كبير من الحيوانات المسروقة يتمرغ في أكداس التبن المنهوب ، الذي كانت تصف إلى جانبه أكياس كبيرة من الحبوب. فلم تطعم تلك الحيوانات بمثل ما أخذت تطعم به الآن. وقد كان أحد الهايتة يسوق عددا من حمير الحمل الحردة ، التي كانت على ما يبدو غير مرتاحة مطلقا لتبدل الأصحاب. وكان آخر قد استحوذ على بغلين كبيرين ، وكان عدد آخر غيرهما يسحبون خيولا يركض وراءها أصحابها المساكين وهم يستعطفون سراقها بإعادتها إليهم ولكن من دون جدوى ، غير أنهم كانوا محظوظين لأن الرد على توسلاتهم لم يكن مصحوبا بضربهم باليطقان.

ولم نلاحظ في هذا المعسكر شيئا يدل على الضبط أو النظام العسكري إلا في النادر. فقد كان كل فرد منصرفا إلى شؤونه الخاصة ، وكان الضباط على ما يبدو لا يمارسون أدنى سلطة على جنودهم. فالحقيقة أن نصفهم كانوا لا يزالون خارج المعسكر يفتشون عن المزيد من النهب ، أو يقومون ببيع ما كانوا قد حصلوا عليه من قبل. وقد كان بوسع أي جماعة قوية فعالة من الأعراب أن تفاجىء هذا المعسكر فتقضي عليه كله ، إذ لم يكن هناك ولا حارس واحد لا هنا ولا في باب المدينة نفسها. وحتى في معسكر قوات «النظام» الذي كان يجري تشييده ، كان هناك شيء مماثل من عدم وجود أي نوع من الحراسة والتيقظ.

وفي خيمة قائد الهايتة تناولنا القهوة ودخنت الشطوب. وقد كان على ما يروي هو نفسه بطل المعركة كلها ، لكن الحقيقة أن كل من تحدثنا إليه كان هو البطل الضرغام أيضا. والظاهر أن صديقنا هذا لم يستسغ الثناء الذي أثنينا به على قوات «النظام» ، ولم يكن يعترف حتى بالبسالة التي أبداها أصدقاؤه هو في الهجوم على طول الجسر. فقد أكد لنا أن رجال «الدستة» التابعة له هم الذين اضطلعوا بالعمل جميعه ، ولذلك أضاع منهم ستة عشر أو ثمانية عشر رجلا خلال المعركة. على أنه اعترف ، كما اعترف كل فرد آخر ، بأن الأحوال كانت

٢٠٠