رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

وأهل بربر فيما يبدو قوم صحاح الأبدان يندر بينهم معلول أو مهزول. وهواء البلدة صحى من غير شك لوقوعها على أطراف الصحراء. وذكروا لى نبأ حمى يسمونها الوردة ، يلوح أنها مرض وبائى لأنها تفتك بالمرضى فى أغلب الأحيان. ويستهدف الدناقلة لهذه الحمى ، وتتفشى فى الفيضان ، ولكنها لا تظهر كل عام. أما الطاعون فلا يعرفونه ، ويحملنى ما جمعت من أخبار فى رحلتى السابقة للنوبة على الاعتقاد بأن هذا الوباء لا يتجاوز شلال أسوان. أما الجدرى فيفتك بالقوم فتكا ذريعا حيثما حلّ ، وقد جاءهم خلال مجاعة العام الماضى فكان ضغثا على إبالة ، وازداد عدد الضحايا زيادة كبيرة. وقد جلبه إلى بربر قوم من التاكة نقله إليهم تجار سواكن. ثم انتشر فى أعالى النيل طولا وعرضا ، وكان يصاب به الكبار والصغار على السواء ، بل إنه فى الصغار كان أخف وطأة وأسلم عاقبة. وشفى من المصابين به ثلثهم ، ولكنهم ظلوا يحملون سماته على جلدهم ، فكنت ترى أذرعهم ووجوههم تكسوها البقع والندوب التى لا حصر لها. وقل أن يعير الوباء غارة خفيفة يترفق فيها بوجوه ضحاياه فلا يشوهها. والتطعيم أو «دق الجدرى» معروف فى هذه الأرجاء ، ولكنهم لا يقبلون عليه لأنهم ضعيفو الثقة فى جدواه ، فإذا دقوا ففى الساق غالبا. وقد فتك الجدرى فى شهور قليلة باثنين وخمسين شخصا من أسرة تمساح التى ضيفتنا. وأنبائى بعض التجار بالقاهرة وأنا أكتب هذا (فى ديسمبر ١٨١٥) أن وباء آخر قد ظهر هناك فأهلك الأسرة كلها تقريبا ومنهم إدريس نفسه. وعلاح الجدرى عندهم أن يدهن الجسم كله بالسمن مرتين فى اليوم أو ثلاثا ، وأن يلزم المريض غرفته لا يبرحها. ويظهر الوباء بينهم مرة كل ثمانية أعوام أو عشرة ، وهم يفزعون منه أشد من فزع المشارقة من الطاعون ، فيهرب الكثيرون من عدواه إلى الجبال. وقيل لى فى مصر إن الجدرى أشد خطرا فى بلاد الزنج منه فى سواها لما فى جلودهم من غلظ ، فقد تشتد الحمى لأن الجلد الصفيق يقاوم جهود السم فى اختراقه. وقد يكون هذا صحيحا فى حالة العبيد الزنوج ، ولكنه ليس صحيحا فى بربر حيث جلد القوم فى رقة جلد البيض ونعومته. ولم أر من حالات الإصابة بالرمد إلا قليلا ، ويقال إن الأمراض السرية منتشرة بين

١٨١

أهل بربر فإذا صحّ هذا فإن آثارها هنا ليست وبيلة كآثارها فى مصر ، لأننى لم أر بينهم ما رأيت فى شمال وادى النيل من وجوه مقروحة وأنوف شائهة.

وعرب الميرفاب رعاة زراع ، إذا انحسر الفيضان زرعوا الأرض ذرة وقليلا من الشعير. وقبل أن يزرعوها يعزقونها بالفئوس ، أما المحراث فلا يستعملونه ، وقد استعمل مصرى محراثا للمرة الأولى فى العام الماضى. وسواقيهم تعدّ على الأصابع ، فليس فى قريتى النخيرة والحصا أكثر من أربع أو خمس منها. ويزرعون الأرض مرة فى السنة ، ولا يغمر ماء الفيضان الكثير من الأرض الزراعية لأن ضفاف النيل تصل إلى ارتفاع كبير يجاوز ارتفاعها فى مصر على العموم ، ولا يعوض القوم فى الغالب هنا العجز بالرى الصناعى كما يفعل أهل مصر حتى يأخذوا من الأرض عدة محاصيل ، ومن هذا يسهل على القارىء أن يدرك السر فى كثرة تعرضهم للقحط ، فقد بلغ سعر مدّ الذرة فى العام السابق لرحلتى نصف ريال إسبانى. على أنه يلوح أن البلاد كانت إلى عهد غير بعيد أزهى حضارة منها اليوم ، فقد تبينت فى الحقول آثار ترع عميقة تركت مهملة مع أنه قد يستعان بها حتى فى زرع السهل الصحراوى المجاور للأرض الزراعية. وأهم المحاصيل الذرة ، وهى قوام غذاء الناس والبهائم ، أما القمح فلا يزرع فى بربر ، وقليل منه يزرع فيما جاورها من بلاد. والذرة هنا من فصيلة الذرة الصعيدية ، ولكن سيقانها أطول وأقوى ، وقد تعلو ست عشرة قدما أو عشرين. أما الخضر فلا يزرعون منها سوى البصل واللوبيا والبامية (١) والملوخية ، وكلها معروف فى مصر. وهم لا يزرعون من الفاكهة شيئا ، والنبق البرى هو الفاكهة الوحيدة التى يعرفونها فيما رووه لى.

ويربى أهل بربر الماشية الكثيرة من خير الفصائل ، وينتجعون بها الكلا الذى ينمو فى جبال البشاريين شتاء وربيعا عقب هطول المطر ، وهناك يعيش رعاتها فى أكواخ وخيام كالبدو سواء بسواء. وفى أخريات الربيع تأكل الماشية الأعشاب البرية التى تنمو بين أعقاب الذرة غزيرة كأنها الحشيش فى المروج.

__________________

(*) واسمها الويكه فى هذه البلاد كلها.

١٨٢

فإذا جاء الصيف وجف العشب وعز الكلأ فى الجبل علفت فى البيوت بسيقان الذرة الجافة وأوراقها. وأبقار الرعاة وإبلهم هى عماد ثروتهم ، ويملكون فضلا عنها الغنم والماعز ، ولكن أكثره استهلك فى أثناء المجاعة. وأبقارهم متوسطة الحجم ضعيفة الجسم ، ولها قرون صغيرة وسنام من الشحم قرب الكتف. ولا تعرف هذه الفصيلة فى مصر ، وهى تبدأ فى دنقلة ولا ترى غيرها على ضفاف النيل حتى تبلغ سنار. وهذا السنام بعينه تلحظه فى الأبقار المرسومة فى صور المعارك الحربية على المعابد القديمة بصعيد مصر ، وقد رأيت هذه الفصيلة نفسها فى الحجاز. وهم يربون البقر للبنه ، وأهم من لبنه عندهم لحمه ، وقليل منه يستخدم لإدارة السواقى.

أما إبلهم فمن أنجب الفصائل ، بل إنها لتفضل إبل الصعيد المشهورة صلابة واحتمالا. وهجنهم تفوق ما رأيت فى صحارى الشام وبلاد العرب. ولإبلهم وبر قصير جدا ، وجسمها خلو من الخصل. ولا تختلف الهجن عن إبل الحمل فصيلة ، ولكن القوم هنا أحرص الناس على نقاء السلالة ، وإن العربى منهم ليتجشم السفر أياما كثيرة فى سبيل الوصول إلى بكر أصيل معروف يغشى ناقته. وقد تكاثر اليوم الطلب على الإبل للسوق المصرية ، ويبتاعها الباشا ليرسلها إلى شبه جزيرة العرب لتنقل ذخيرة الجيش ، ويسوقون منها كل شهر عبر الصحراء ثلاثمائة أو أربعمائة. ومع ذلك فثمن الجمل هنا لا يزيد على ثمانية ريالات إلى اثنى عشر ، وإن كان يباع فى دراو بثلاثين أو أربعين ، وفى القاهرة بخمسين أو ستين.

وأغنام هذه الأقطار الجنوبية لا صوف لها ، ولا يكسوها إلا شعر رقيق قصير كشعر الماعز ، لذلك لا يرى القوم لها نفعا يذكر ولا يربونها إلا للحومها. أما الحمير فتقتنى كل أسرة تقريبا منها اثنين ، وهى من فصيلة قوية ، وأهم ما تستخدم فيه حمل المحصول من الغيط ونقل السبخة من الجبل. وينشر الأهالى هذا الثرى المحتوى على النترات على الأرض قبل أن يزرعوها ، ولم أعرف غرضهم من ذلك ، أهو تسميد الأرض أم التخفيف من خصبها الشديد. والطلب كثير على الحمير المصرية لأنها أسرع من النوبية عدوا ، ويركبها وجوه القوم ، ويقبلون

١٨٣

على شرائها إقبالا شديدا كلما وصلت بلدهم فافلة ، أما الخيل هنا فموفورة العدد ، ولكل أسرة محترمة جواد على الأقل ، ومنها ما يملك جوادين أو ثلاثة. ولا يمتطى عرب النوبة غير الفحول ، ويستعين عرب الميرفاب فى حروبهم مع جيرانهم بالفرسان الكثيرين ، والفرسان هم الذين يقررون مصير المعركة فى الغالب ، وخيلهم من الفصيلة الدنقلاوية ، وهى من أعتق الخيل كما ذكرت فى رحلتى لدنقلة. وعليقها الذرة ، وتقدم لها أوراقها المجففة بديلا من التبن أو الدريس ، وهم يطلقونها أسابيع لترعى الشعير الأخضر فى الربيع. وثمن الحصان منها خمسة عشر ريالا إلى أربعين ، ولا يسمونه حصانا كالمصريين بل «حافرا». وهناك بعض الشبه بين سرج الفارس الأوربى وسرج الفارس البربرى (وهو بعينه السرج الذى تراه فى دنقلة وسنار والحبشة) فكلاهما له حنو عال فى مقدمته يميل إلى أمام على عنق الجواد. وقبل أن يخوض الفرسان غمار معركة يغطون ظهور الخيل وجوانبها وأعناقها وصدورها بقماش من صوف مبطن بالقطن السميك لا تنفذ فيه الرماح أو السيوف فيما يقال ، ويسمى «اللبس» ، وهو نفس الاسم الذى يطلقه البدو الشرقيون على أغطية خيلهم ، ولكن اللبس الذى يصنعه عرب الميرفاب يمتاز بالأناقة والخفة والمتانة.

وجل أهل بربر ـ وهم زراع كما قلت ـ يشتغلون بالتجارة حين يفرغون من زراعتهم ، لذلك أصبح بلدهم سوقا رئيسية لتجارة الجنوب ، وزاد من مكانته التجارية ضرورة مرور جميع القوافل القادمة من سنار وشندى ببربر فى طريقها إلى مصر. ولبربر نفسها تجارة مع مصر ، وكثير من القوافل الصغيرة تحمل بضاعتها وتشد رحالها منها دون انتظار بضاعة من أسواق الجنوب. وما من سلعة سودانية ـ بما فيها الرقيق ـ إلا استطعت شراءها فى بربر بزيادة ١٥% إلى ٢٠% على ثمنها فى شندى. ولبربر سوق عامة. ولكن العمل فيها تعطل مؤقتا ـ وقد وجدناه معطلا حين ألممنا بها ـ بسبب ما حل بالبلاد أخيرا من قحط ، وبفعل الجدرى الذى حصد أرواح الكثيرين.

والذرة والريال الإسبانى هما العملة السائدة فى بربر وسائر البلاد حتى سنار.

١٨٤

وتثمن السلع الرخيصة بالذرة ، وبكيلونها «بالسلقة» أو الحفنة ، وفى المدّ ثمانى عشرة سلقة أو حفنة ، وعيار السلقة هو ملء راحة الرجل إذا بسطها. ويستطيع القارىء من هذا أن يستنتج ما يحدث عادة بين البائع والمشترى من نزاع لاختلاف حجم أيديهما ، وفى مثل هذه الحالات يطلب إلى شخص ثالث أن يكيل الذرة بيده. وعشر مدّات من الذرة تساوى اليوم ريالا. وإذا أرادوا كيل كميه كبيرة من الذرة عبّروا سعة إناء من الخشب أو نحوه بالحفن أولا ثم استخدموه مكيالا. صحيح أن لهم مكاييل خشبية ، ولكنهم لا يثقون بها ويؤثرون عليها الكيل باليد. وهناك بديل آخر عن العملة غير الذرة ، وذلك هو الدمور ، وهو قماش قطنى خشن ينسج قرب سنار ، وأهل هذه البلاد يحيكون منه قمصانهم على الأخص ، و «ثوب» الدمور ـ كما يسمونه ـ يكفى قميصا للرجل منهم. وكان ثمن الثوبين وأنا ببربر ريالا. ويقسم الثوب «فردتين» ، تصلح الفردة منها فوطة طويلة يلفها العبد على خصره. وفى الفردة «فتقتان» ، ولا تنفع الفتقة إلا أداة للمقايضة ، وأذكر أننى اشتريت تبغا بفتقة منها. على أن القوم يؤثرون الذرة أداة للبيع والشراء. لأن البائع قد لا يأخذ الدمور بثمنه الحقيقى فى السوق ، وهو ثمن يتقلب كلما وصلت من الجنوب قافلة جديدة. وثمن الرقيق أو الإبل أو الخيل أو سواها من السلع الغالية يدفع ريالات أو أثواب دمور ، ولكن الوسيط يقتضى عمولته ذرة لا يلبث أن يحولها ريالات. وللريالات أسماؤها فى محيط التجارة ، ف «القسمة» ريالان ، و «المثقال» أربعة ، و «نصف الأوقية» ثمانية ، و «الأوقية» ستة عشر ، وهى أسماء منقولة فى الأصل عن عيارات الذهب ، لأن أوقية الذهب تساوى عادة ستة عشر ريالا ، ولكن هذه الأسماء أصبحت اليوم ثابثة وإن تغيرت قيمة الذهب ، فالستة عشر ريالا تسمى أوقية وإن كانت أوقية الذهب تساوى ثمانية عشر ريالا أو عشرين ، وتلك كانت قيمتها فعلا يوم كنت فى بربر.

ويتعامل الناس فى كردفان بعملة أخرى فضلا عن الذرة والدخن ، ألا وهى القطع الصغيرة من الحديد يصنعون منها الرماح والمدى والبلط وما إليها. كذلك يتعاملون فى صفقاتهم الكبيرة بالأبقار فتراها دائمة الانتقال من يد لأخرى.

١٨٥

أما السلع المختلفة التى تشتمل عليها تجارة السودان فسيأتى تفصيل القول فيها عند الكلام على سوق شندى ، ويتجر البلدان بالسلع نفسها ، ولكن تجارة بربر أقل لأنها لا تتصل اتصالا مباشرا بغير شندى من أقاليم الجنوب ، أما شندى فتفد عليها القوافل من كل فج ، ولعلها اليوم أول بلد تجارى فى إفريقية جنوبى مصر وشرقى دارفور. وكل ما يباع فى سوق بربر من رقيق أو سلع مجلوب إليها من شندى. بيد أن التجار المصريين يؤثرون فى الغالب سوق بربر على الأسواق الجنوبية برغم ارتفاع أثمانها ، ذلك لأنهم يستطيعون أن ينجزوا أعمالهم فيها فى وقت أقصر ثم ينتهزون أول فرصة للعودة إلى مصر بطريق الصحراء. ويوم كنت ببربر خرجت منها قافلة قوامها مائتان وخمسون جملا وعشرون رقيقا تقصد دراو ، فعاد معها بعض رفاقى بعد أن باعوا بضاعتهم. ومع هذا فسوق بربر قليلة البضاعة لا تصلح إلا لأوساط التجار المصريين.

وفى صعيد مصر يسمون القوافل القادمة من بربر قوافل سنار. وعلم المصريين بالسودان ضئيل ، لذلك لا تعدو القوافل القادمة من الجنوب أن تكون آتية من دارفور أو سنار فى نظرهم ، وذلك حسب دخولها مصر من الصحراء الغربية أو الشرقية. ويدخل فى قوافل سنار ما يفد من سنار وشندى وبربر والمحس والسبوع. وكل قافلة تفد على بربر من الجنوب تمكث بها وقتا تختار فيه من يصحبها من خبراء وتعد عدتها للرحلة عبر الصحراء. ويقيم ببربر كثير من العبابدة وهم على استعداد للقيام بهذه الرحلة فى أى وقت ، ولن يرفض الرجل منهم أن يصحب القافلة خبيرا وحارسا لقاء عشرين ريالا. وبين التجار كثيرون ممن خبروا الطريق ولكنهم لو خرجوا إليه فى غير صحبة أحد العبابدة لسطا عليهم أى بدوى من هذه القبيلة يلقاهم فى الطريق فيسلبهم مالهم وبضاعتهم. وعلى كل قافلة تفد بربر أن تؤدى للملك (أى الملك) ضريبة مرور يتطلب جمعها من كل فرد أياما. ويقتضى المك كل قادم من مصر خمسة أثواب دمور دون مراعاة لعدد أحماله أو جماله ، وبصرف النظر عن كونه سيدا أو خادما. وعلى المسافر أن يدفع ثوب دمور لموظفى المك ، وآخر لعبيده ، وثالثا لرؤساء البشاريين من الأرياب

١٨٦

والعلياب أو أقربائهم إذا التقوا بالقافلة فى بربر ، ويطالب البشاريون بهذه الضريبة لأنهم سادة الصحراء من بربر إلى آبار نابه ، أما البلاد شمال نابه فتدخل فى نطاق سلطان العبابدة ، وتستطيع على ذلك أن تعدها جزءا من مصر لأن العبابدة تابعون لحكومتها. ويجمع المك الأثواب السبعة ويعطى كل فرد من قومه نصيبه منها. أما البشاريون فيأخذون الثوب بأنفسهم ، فإذا لم يوجد منهم أحد أعفى المسافر من أداء هذا الثوب. ويأخذ المك ضريبته ريالات أو دمورا ، فإذا كانت جيوب رجال القافلة حال وصولهم بربر خاوية ـ وهو ما يحدث عادة لأنهم يكونون قد اشتروا بضاعة بآخر درهم معهم قبل خروجهم من مصر ـ حصل ضريبته عينا بأسعار يحددها هو. أما العبابدة فمعفون من ضريبة المرور هذه لأنهم هم أنفسهم ، كما يقولون ، «أهل سلطنة» أى قوم مستقلون فى جبالهم ، وليس من المروءة أن يتقاضى رئيس قبيلة ضريبة من رئيس قبيلة نظيره. أما حقيقة الأمر فهى أن أهل بربر يخشون بأس العبابدة لأنهم يهبطون عليهم من جبالهم إذا خاصموهم ، ويغيرون عليهم وينهبون ماشيتهم وعبيدهم ليلا. كذلك يعفى التجار البشاريون من ضريبة المرور ، ولكن عددهم قليل جدا ، ولا يرتاد هذا الطريق منهم أكثر من ثلاثة أو أربعة.

ولا يفرض مك بربر إتاوة ثابتة على القوافل القادمة من الجنوب والداخلة فى الصحراء عند بربر ، وذلك لأنها خارجة من عاصمة سيّده ، على أنه يأخذ من كل مسافر عطايا زهيدة تتناسب وعدد أحماله وعبيده.

وليس هذا كل ما يقتضيه المك وحاشيته ، فهم يستفسرون عن نوع البضاعة التى جلبها كل مسافر من مصر ، ثم يطلبون بعضها هدايا فوق ما أخذوا من ضريبة. ويساعد التجار أنفسهم المك فيما يقوم به من استطلاع ، فهم يشون بعضهم ببعض توددا إليه. وقد أنفقنا الأسبوع الأول فى بربر والمك لا يفتأ يحاول الحصول على شتى الهدايا من التجار ، والتجار لا يفتأون يروغون ويتملصون. ولما كنت فى عيونهم رجلا مملقا فإن المك لم يتقاضانى أول الأمر أكثر من ثلاثة ريالات ، ولكنه أكرهنى بعد ذلك على دفع ريال رابع حين ترامى إليه أننى

١٨٧

أحمل فى منطقتى نقودا. ولو لا خشيته من مك شندى القوى البأس ، ولو لا خوفه من أن تتعطل تجارة المرور ببربر تعطلا تاما ، لكان فى مطالبه من التجار أشد تعسفا وإرهاقا. وفى ظنى أن دخله السنوى من القوافل يناهز ثلاثة آلاف ريال إسبانى أو أربعة ، وهو ينفقه على بيته الكبير الذى يضم العبيد والجوارى والخيول والهجن العتاق ، وهو يطعم كل يوم حوالى خمسين شخصا من أسرته فضلا عن الأغراب ، وكذلك عليه أن يمنح أقاربه وأتباعه الهدايا بين الحين والحين تدعيما لنفوذه بينهم. وهكذا ترى أن هذه الوجوه التى ينفق فيها ماله لم تتح له ادخار شىء مذكور منه.

وأشاروا لى على أغنى رجال بربر بعد المك ، وذكروا أنه يملك ألف ريال ربحها فى العام الماضى حين تفشت المجاعة بين الناس لأن مخازنه كانت تزخر بالذرة. ووجوه القوم هنا يملك الواحد منهم من ثلثمائة ريال إلى ستمائة ، يدخل فى ذلك ثمن الماشية والأثاث وما إلى ذلك.

وليس لبربر من منافذ تجارية ، فضلا عن دراو وشندى ، إلا القليل. ذكروا لى أن القوافل كانت فيما مضى تسير منها إلى دنقلة مخترقة الجبال على ضفة النيل الشرقية لا محاذية لضفاف النهر خشية أن تكره على الوقوف بكل قرية لتؤدى لها الإتاوة. على أن هذه الطريق تعطلت منذ بدأ عرب الرباطاب يسطون على المسافرين بعد أن نشبت الحرب بينهم وبين جيرانهم. ولا سبيل إلى الاتصال بدنقلة اليوم إلا من طريق شندى ، ومنها تشق القوافل فى الجبال طريقا مستقيمة. ويسكن بربر كثير من التجار الدناقلة ، وقوام تجارتهم التمر والتبغ ، وقد اشتهرت نساؤهم وجواريهم بصنع أفضل أنواع البوظة. ويفد على بربر البدو البشاريون والزراع النازلون ضفاف نهر مقرن ـ الذى يسميه بروس مارب ـ ليشتروا حاجتهم من الدمور ، وليبتاعوا من التجار المصريين الخرز والكحل وجوز الطيب وشتى العقاقير الداخلة فى تركيب الدهن المعطر الذى سبقت الإشارة إليه. وكذلك تصلها بين الحين والحين القوافل القادمة من التاكة عبر الجبال الشرقية ـ وهى رحلة عشرة أيام أو اثنى عشر ـ لتشترى هذه السلع

١٨٨

أو تقايض عليها بجلود الثيران وبالجمال. كذلك تأتى قوافل صغيرة قوامها البشاريون من سواكن ـ وهى رحلة عشرة أيام ـ حاملة التوابل والأقمشة الهندية وعلى الأخص التيل الرفيع (الكمبريت). ولا يسلك التجار الأجانب هذا الطريق خوفا من غدر البشاريين ، على أنهم كثيرا ما يتخذون هذا الطريق الموفور الماء إذا اتفق وجود الحجاج ببربر فى طريقهم إلى مكة فى أثناء عودة قافلة من هذه القوافل إلى سواكن. ويسلك الحجاج السودانيون عادة أحد طريقين ، فإما الطريق المحاذى لضفاف النيل وإما طريق التاكة الذى سأفصل الكلام عليه فيما بعد. وقد راودتنى شخصيا فكرة الرحلة إلى التاكة ، وكنت أرجو أن أصل منها إلى الحدود الشمالية للحبشة صوب مصوع. وكان ببربر كثيرون ممن وفدوا عليها من سنار ، فلما استفسر منهم أصحابى عن قريبى الذى زعمت أنه مفقود أجمعوا على أنهم لم يروا بسنار إذ ذاك رجلا أبيض. لذلك لم يبق أمامى إلا أن أزعم لهم أنه لا بد قد بارح سنار إلى الحبشة ، وأمكننى بذلك أن أستفسر عن الطريق الصحراوى إلى التاكة وسواكن دون أن أثير حولى الشبهات والظنون ، وكان أصحابى يحثوننى على اتخاذ هذا الطريق والإقامة ببربر حتى تواتينى الفرصة للخروج فى الرحلة. ولا شك أنه كان يسرهم أن أركب هذا الخطر ليستريحوا منى نهائيا إن لقيت فى الرحلة حتفى ، ولعلهم كانوا يخشون إن عدت إلى مصر أن أنتقم منهم لمسلكهم معى. على أننى بعد التحرى والاستقصاء أيقنت أن هذا الطريق يجب ألا يتخذه غريب ، وأهل بربر أنفسهم لا يتخذونه إلا فى جماعة كبيرة منهم ، فهم لا يأمنون جانب البشاريين الذين لا يترددون فى قتل الرجل منهم ولو كان موصى به من المك نفسه ، ما داموا يرتجون من وراء قتله مغنما مهما يكن زهيدا. ولا بد للمسافر فى هذا الطريق من أن يحمل معه بضاعة ولو قليلة ليقايض بها على الزاد فى أثناء الرحلة ، وفى هذا ما يكفى لإثارة جشع البشاريين وحملهم على الفتك به. وعلمت خلال بحثى واستقصائى أنه قد قدم بربر قبل خمس سنوات أو ست

١٨٩

رجل من مصر قيل إنه نصرانى لأنه كان يدون المذكرات عن رحلته (١). وروى أن الرجل أهدى مك بربر هدايا سخية ، فأوصى به جماعة صغيرة من البشاريين توصية معزّزة مشدّدة ، وخرج صاحبنا إلى سواكن فى صحبتهم ، ولكنهم فتكوا به فى الطريق ، ولما عادوا إلى بربر صالحوا المك بهدية صغيرة.

وسمعت بعد ذلك بقصة مسافر كان يجهر بنصرانيته ولا يكاد يتكلم العربية ، مر بسنار قبل ثمانى سنين أو عشر قادما من الشمال ـ ولعله قدم من مصر ـ فقتله العرب فى الجبال الواقعة بين سنار والحبشة لا فى طريق القوافل. ولما كنت فى شندى استفسرت عنه فلم ينبئنى بنبئه أحد. ولو كان مجيئه بطريق القوافل الغربى القادم من دارفور وكردفان لأنبأونى بخبره ، لأن البيض ـ والرجل أبيض فيما روى ـ يسترعون الالتفات فى هذه الأرجاء عنهم فى الطريق القادم من مصر ، ولرآه بعض القادمين من كردفان ، وقد عرفت منهم كثيرين فى شندى ، ولم أسمع أنه كان يكتب يومية عن رحلته.

إن ما يصيبه المسافر فى هذه الأصقاع من توفيق جله بل كله رهن بأدلائه ورفاقه فى الرحلة وما يضمرون له من نوايا طيبة. فإذا لم يكن خبيرا بلغة البلاد تعذر عليه اختيار أصلح الأدلاء أو الرفاق ، وتعذر عليه تجنب الفخاخ التى يوقعه فيها غدر القوم ولؤمهم. ولن يغنيه فتيلا أن يركن للحظ لعله يقيض له قوما أمناء طيبين ، إذ قل أن تجود هذه البلاد بنفر من هؤلاء يحسب لهم حساب فى رحلة الغريب بين أرجائها ، ولا بد للمسافر أن يسىء الظن بمن حوله ، وليحسب نفسه سعيدا إذا وفق إلى الكشف عن نفر بينهم يمكنه أن يثق بهم ويطمئن إليهم بعض الاطمئنان ويستعين بهم على بلوغ أهدافه ، وهو ما لا سبيل إليه إلا بالتوفيق بين مصالحهم وسلامته. وليحذر أول ما يحذر أن بروه يدوّن المذكرات ، وإنى لعلى يقين من أننى كنت أستهدف لأخبث الشائعات وأضرها ، وأن ما أرجو من نجاح كان مقضيا عليه القضاء المبرم ، لو أن رفاقى ضبطونى متلبسا

__________________

(*) أو «يكتب البلاد» كما يصف القوم هنا وفى مصر السائح الذى يدون الذكرات عن رحلته.

١٩٠

بيوميتى فى يدى ، وقد وجدت تدوين المذكرات بالصحراء أيسر لى من تدوينها وأنا ببربر ، وكنت أسوق حمارى القوى حثيثا فاسبق القافلة ثم أنزل عنه وأجلس إلى شجرة أو صخرة وأظل تحتها غير ملحوظ ، لا يبدو على إلا أننى أدخن قصبتى ، حتى تلحق بى القافلة. أما فى بربر وشندى فكنت أحار فى طريقة أعتزل بها أصحابى الذين نزلت الدار وإياهم ، وكان فى انطلاقى إلى الحقول البعيدة تعرض للخطر ولفت للنظر. وشر ما ابتليت به أثناء مقامى فى هذه البلاد ملازمة الناس لى على هذا النحو ، ولعلى كنت أستطيع أن أنجو من هذا البلاء بعض النجاة لو اتخذت لنفسى مسكنا خاصا ، وكان ذلك أحبّ إلى وأشهى لو لا أن مقامى فى بيت غريب كان يحرمنى من كل حماية ـ وقد يكون هذا الغريب شرا من رفاقى ـ ولو لا ما كنت أستهدف له من ثقل الزوار يرهقوننى سحابة يومى بطلب الهدايا ، ولو لا ما كان يتعرض له متاعى القليل من السرقة. وعلى نقيض ذلك كان شخصى أقل لفتا للنظر وأنا أقيم مع أصحابى الدراويين ، وكانت نفقتى أخف ، واستطعت بفضل مقامى بينهم أن ألم بأساليب التجارة ، وأمنت على نفسى بعض الأمن لمكانة هؤلاء الرفاق وجاههم برغم قلة حدبهم علىّ أو ميلهم إلى حمايتى.

ويؤثر التجار النزول ببيت وجيه من وجوه القوم ، أو بيت قريب من أقرباء المك إذا تيسر ، لأنهم يكونون إذ ذاك فى حمى رب البيت ، وهو لن يرضى بأن توجه لضيوفه إساءة أو إهانة ذات بال. أما أدلاؤنا العبابدة فقد نزلوا ببيت فقير من الفقراء رقيق الحال ، وكانوا فى مأمن من لجاجة الميرفاب وإهاناتهم ، لذلك توفر لهم فى مسكنهم هذا من أسباب الراحة والحرية ما لم نظفر به نحن. وألزمنى أصحابى بدفع ريالين كانا حصتى فيما دفعوه لرب البيت ، كذلك دفعت لهم ريالا هو نصيبى فى الهدايا التى قدموها لمن بعثوا لنا بصحاف اللحم فى أوقات مختلفة. واشتريت بريال ذرة لحمارى وبعض التبغ. يضاف إلى هذا أربعة ريالات أديتها لمك بربر ، وثلاثة لرئيس القافلة ـ وكان من حقه أن يقتضينى خمسة ـ وخمسة لنقل بضاعتى ، وأربعة لنقل قربى فى الصحراء. وكان فى جسامة هذا المبلغ بالقياس إلى مواردى إذ ذاك ما جعلنى أتوجس خيفة من المستقبل.

١٩١

وأخيرا آن لنا أن نرحل إلى شندى ، وإليها كان يقصد معظم التجار ببضاعتهم ، فجمعنا فيما بيننا عطاء لإدريس رب البيت ، ولكننا لم نستطع إرضاءه بسهولة ، ناهيك بمطالب زوجه العجوز. وبعد لأى ارتضى أن يأخذ بضاعة تساوى عشرين ريالا لقاء تضييفه إيانا أسبوعين. وكنا اثنى عشر رجلا ، ولكنى لست أشك أن ما كان ينفقه علينا يوميا لم يزد على ثلث الريال أو نصفه ، فإن الرجل لم يقدم لنا ـ فيما خلا الشاة التى ذبحها لنا أول يوم ـ سوى لون واحد من الطعام هو خبز الذرة بالسمن نأكل منه صحنا كبيرا فى الظهيرة ومثله فى الليل. وكان رب البيت هو المتكفل بإطعامنا لأننا لم نكن إلا عابرين بالبلدة لا نصحب معنا عبيدا ولا جوارى لتجهيز الطعام ، أما حين يعود التجار إلى بربر فى طريقهم لمصر مصحوبين فى العادة بعدد من الجوارى ، فإن هؤلاء الجوارى يطهين طعام سادتهن ، فلا يدفعون لرب البيت إلا أجره عن السكنى.

وما ذكرته من تفاصيل عن بربر يصدق جله على شندى وعلى سائر الإمارات الصغيرة حتى بلوغك سنار فيما أعلم.

والأرض الواقعة تجاه بربر على ضفة النيل الغربية أرض غير مزروعة ، ولكنهم ذكروا لى أن السائر بحذاء النيل يصادف عددا لا بأس به من قرى العرب لا سيما فى بلاد مقرات التى ينزلها عرب الرباطاب ـ وهم قبيلة مستقلة كقبيلة الميرفاب ، تمتد مساكنها مسيرة يومين أو ثلاثة على النيل. ومن أكبر قراها بجم وتقع على ثلاث مراحل طوال من بربر ، وهى اليوم مقر أبو حجل شيخ عرب مقرات الذى خلف قريبه نعيما قاطع الطريق الشهير السالف. ذكره وكان نعيم قد جمع ثروة طائلة مما غنمه من القوافل المصرية ، وقد أنفق جلها فى شراء الجوارى الصغيرات ، وكان يطيب له المفاخرة بما يلهو ويعبث به فى حريمه. ودرج على أن يتربص بالقوافل بين بربر وآبار النجيم ، ولكنه كان أحيانا يتعقبها إلى شقرة. وكثيرا ما أطلقت عليه النار ، ولكنها لم تصب منه مقتلا لأن درعه القوية كانت تقيه من رصاص البنادق البعيدة ، وهذا هو السر فى اشتهاره بالسحر. فقد زعم القوم أنه يحمل من التمائم والتعاويذ ما يعصمه من الإصابة.

١٩٢

وأفتى فقيه من فقهائهم بأن جسده لا يمتنع على العيارات الفضية لأن تمائمه لا تقيه إلا من عيارات الرصاص ، فصهر نفر من التجار ريالات إسبانية وصبوا منها عيارات عبأوا بها بنادقهم. أما تمائم نعيم التى حمته من رصاص أعدائه فلم تكن فى حقيقتها سوى بعدهم عن الهدف وضعفهم فى الرماية. وكان إذا رأى القافلة أكثر منه نفرا وأقوى بأسا وقف بعيدا وأمر جماعة منها أن ينسلخوا عن بقية القافلة مؤكدا لهم أنه لا يقصد بهم سوءا ، فإذا انفصلوا عنها استطاع أن يشتت شمل الباقين فى غير عناء. وكان يوفى بوعده للمنفصلين عن القافلة ويتركهم يمضون بجمالهم المحملة دون أن يلحق بهم أذى ، ولكن هذا لا يمنعه من مهاجمتهم فيمن يهاجم فى ظروف أخرى. ويعدّ نجاح هذه الخدعة أقوى دليل على جبن التجار وغدرهم لأنهم يتخلون عن رفاقهم على هذا النحو المشين ؛ ولو أن قبيلة من قبائل الصحارى العربية سلكت هذا المسلك لو صمها بعار لا يمحى.

ولم يقس نعيم على ضحاياه العاجزين قسوة غيره من قطاع الطرق الإفريقيين. فكان إذا سلب قافلة سمح للركب أن يأخذوا من الإبل والزاد ما يكفيهم لبلوغ مصر أو العودة إلى بربر. وكان يعرف معظم التجار معرفة شخصية ، لذلك كان يرد للتاجر منهم عبدا أو عبدين عند رحيله. وقد أحفظ عليه قبيلة العبابدة وحملها على الثأر منه قتله عددا منهم فى غارة من غاراته ، ولم يمض طويل وقت حتى واتتهم فرصة الانتقام. ذلك أن مئات منهم كانوا يحرسون قافلة بارحت سنار إلى مصر سنة ١٨١٢ فى صحبة رسل الباشا ، وأقاموا ببربر أياما ليعدوا العدة للرحلة عبر الصحراء. وتلقى رئيس العبابدة فى هذه الأثناء نبأ سريا مفاده أن نعيما قد اتخذ لنفسه عروسا جديدة وأنه سيدخل بها فى يوم معلوم. وفى اليوم السابق للعرس صدر الأمر للقافلة بمبارحة بربر ، وكان الرئيس قد سار فى الليلة البارحة على رأس مائة راكب مسلح محتجا بأنه يقسم بذلك الجمال تسهيلا لمهمة سقيها من عيون شقرة. ولكنه ما إن مضى فى الصحراء قليلا حتى عدل عن الطريق المستقيم إلى آخر مغرب ، وانطلق حثيثا يعبر الجبال إلى مقرات. فلما وصل إلى بيت نعيم حاصره وأشعل النار فيه ، وخرج إليه نعيم فقتل فى ستة من أصحابه ، وحملت عروسه لمصر وأرسلت أذناه

١٩٣

إلى محمد على باشا وهو بالحجاز. وأكرهت العروس المسكينة على الزواج بأحد قتلة زوجها ، وأتى الرجل بها إلى مصر ، ولكنها استطاعت بعد ذلك أن تهرب إلى دنقلة ، وهى اليوم تعيش بين أسرتها بمقرات. على أن المصير الذى انتهى إليه نعيم لم يمنع قاطع طريق آخر من أن يعيد سيرته فى هذه الجبال ، واسم الرجل كرار ، وهو شيخ العبابدة من قبيلة العشاباب. وقد نهب عدة قوافل جلها من بربر سنة ١٨١٤ وعاد بما غنم إلى خيامه فى جبال عتباى ، وحاول الباشا غير مرة أن يقبض عليه دون جدوى.

وليس هناك اليوم إلا أقل اتصال بين بربر ومقرات ، وهى نتيجة يستطيع القارىء أن يخلص إليها ، وكذلك بين بربر وبلاد الشايقية وهى أبعد من مقرات ، اللهم إلا بواسطة الحجاج السودانيين الذين يسيرون بحذاء ضفاف النيل الآهلة بالسكان فى طريقهم إلى مصر ، فالحرب المستعرة بين الشايقية والمماليك فى دنقلة تضر بسير التجارة. وقد خاض الفريقان عددا من المعارك راح ضحيتها مائة وخمسون من الشايقية وخمسون من المماليك ، وغنم المماليك بعض الخيل والعبيد ، ولكنهم سحبوا قواتهم من الحدود الجنوبية لدنقلة بعد أن أعياهم قهر عدوهم وأضنتهم هذه الحرب العقيمة المزعجة ، ثم ركزوا هذه القوات فى الولايات الشمالية حول أرقو حيث يقيمون إلى اليوم. وقد مات أكبر زعمائهم إبراهيم بك الكبير بالشيخوخة عام ١٨١٣ ، ويعتبر عبد الرحمن بك المنفوخ زعيمهم اليوم. وقد وفد من مصر عدد من المماليك اتخذوا طريق الصحراء إلى بربر بدل أن يذهبوا إلى دنقلة ، ونزل البيت الذى نزلنا سليم بك الطويل فأقام به شهورا ، وأظهر له مك بربر منتهى اللطف والكرم خوفا من بطش المماليك. وقد خالنى بعضهم فى بربر تابعا من أتباع المماليك هربت من مصر لألحق بهم. وكنت أكره أن يتناقل القوم عنى هذه الشائعة ، ولكنها كانت خيرا من أن يظنوا أنى أنتمى لأسرة الباشا أو لجيشه ؛ فقد توجس الناس شرا من إرساله مبعوثا إلى سنار وظنوه يضمر لهذه البلاد سوءا. وكان رؤساء القبائل ينظرون إلى سلطته المتزايدة على مصر نظرات الغيرة والحسد ،

١٩٤

أما التجار فكانوا يحقدون عليه غلوه فى فرض الضرائب الباهظة على واردات الجنوب. لذلك حرصت أشد الحرص على دفع كل شبهة فى صلتى به أو اهتمامه بأمرى ، وخبأت ما معى من توصيات ، وعولت على عدم إبرازها أو الالتجاء إليها إلا إذا ألجأتنى لذلك الضرورة القصوى.

وبين بربر والحدود الجنوبية لبلاد عرب الشايقية أربع مراحل طوال عبر الجبال على الضفة الغربية للنيل. وبعض هذه الجبال يؤلف إقليما يدعى الحوف فيه الشجر والآبار ، وقد اعتصم بهذه الجبال الهاشمى ملك كردفان الأسبق بعد أن اغتصب منه ملكه الملك الحالى ويسمونه المتسلم ، وهو أحد موظفى ملك دارفور. وظل الهاشمى معسكرا فى جيش من أتباعه شهورا عدة حتى ضيق عليه عرب الشايقية الخناق فأجلوه عن الجبال وارتد إلى شندى فاحتمى بالمك نمر ، ولكن الهاشمى ما لبث أن ائتمر به مع إخوة نمر فقتله نمر انتقاما منه.

١٩٥
١٩٦

الرحلة من بربر إلى شنّدى

١٩٧
١٩٨

بعد أن سوينا حساباتنا كلها فى بربر بارحناها عصر السابع من إبريل وقد تناقص عدد الركب إلى الثلثين ؛ فقد عاد بعض التجار إلى مصر ، وظل بعضهم ببربر ليبيعوا بضاعتهم ، كذلك بقى بها بعض العبابدة ـ ممن كانت لهم بها أسر ـ ينتظرون رجوع القافلة من شندى. وتركت بربر غير آسف ، فإن خلق أهلها بعث الريبة فى نفسى ، وأشار على كثير من وجوه البلدة أن أمكث بها مترقبا فرصة الخروج مع قافلة من قوافل التاكة ، ولكننى قلت فى نفسى إننى إذا بقيت ببربر وحيدا كنت تحت رحمة الميرفاب وهم ينوون سرقتى ما فى ذلك شك ، لذلك صح عزمى على متابعة الرحلة إلى شندى لعلى أظفر هناك بقافلة مأمونة أصحبها إلى البحر الأحمر.

وسرنا هذا المساء ميلين فى الرمال ثم وقفنا بقرية قوز الفونج من أعمال بربر ، ونزلنا فى فناء بيت فقير من فقرائهم ـ وكان تاجرا معروفا بمصر ـ فأكرم الرجل مثوانا ولم يطلب على ضيافتنا أجرا. وقد ألف هذا الفقير كلما زار مصر أن ينزل على معارفه بدراو ضيفا لا يؤدى عن إقامتة أجرا. وأتى مضيفنا السابق إدريس مودعا فى الليل ، وألح فى طلب المزيد من الهدايا. وطال الأخذ والرد بينه وبين القوم ، واستطاع بعد لأى أن يظفر من تجار دراو بدرقة فاخرة تساوى ثمانية ريالات ، واضطررنا أن نسهم كلنا فى جمع هذا المبلغ لنسترد منه الدرقة.

٨ إبريل ـ فى القوز أطلال مبان حديثة أصبحت اليوم خرابا يبابا ، وكانت القرية فيما مضى أهم قرى بربر ، وكذلك ذكرها الرحالة بروس. وفى مواضع عدة منها آبار عامة ماؤها ملح يسقى منها المسافرون دوابهم لأن شطئان النهر قائمة وعرة والهبوط إلى الماء عسير. ومضينا محاذين لحافة الصحراء فوق سهل مستو أو أرض زراعية عرضها ميلان تقوم بيننا وبين النيل. وكانت الأرض زاخرة بشجر العشر الذى ذكرته مرارا فى رحلتى على ضفاف النيل إلى دنقلة وفى رحلتى السابقة فى البطراء. وكنا نسلك دربا مطروقا هو أشبه بالطريق الرئيسى تتشعب منه الدروب الصغيرة فى كل أنحاء الصحراء الشرقية. وبعد ساعتين وصلنا بقعة تحفل بشجر

١٩٩

السنط والسلم. أما الأرض على ضفة النيل الغربية فقد بدت لى شديدة الاستواء على مرمى بصرى ، فلم أر بها جبالا ولا تلالا ، وكل ما رأيته خط أبيض يتبينه الرائى وراء شريط الأرض الزراعية الضيق المحاذى للنهر ، وهذا الخط يشير إلى رمال الصحراء. وصادفنا فى طريقنا كثيرا من المسافرين يركبون الخيل أو الهجن ونساء وأطفالا على ظهور الحمير أو خلفها يسوقونها محملة. ويبدو أن هذا الطريق مأمون جدا لا خطر فيه على أهل البلاد ، ولكن الغريب لا يطمئن إلى السير فيه دون دليل أمين. وكنا قد أخذنا من النخيرة رجلين يصحباننا إلى حدود وادى بربر.

وبعد ثلاث ساعات ونصف دخلنا إقليم راس الوادى ، وبعد أربع وصلنا قرية راس الوادى ، واضطررنا أن نقف بها لنؤدى ضريبة مرور يفرضونها هناك على التجار. وراس الوادى قرية كبيرة تفوق النخيرة مساحة ولكنها دونها فى مبانيها ، وفيها أكواخ كثيرة من الحصير. ومضينا رأسا إلى بيت المك وحططنا على الأرض الفضاء أمامه. هذا المك ـ ويسمونه المك حمزة ـ هو ابن عم المك نور الدين فى بربر ، ولكنه مستقل عنه لأن راس الوادى إمارة قائمة بذاتها وإن كان جل أهلها فى ظنى من عرب الميرفاب قبيلة أهل بربر. على أنها كبربر تتبع مك سنار وهو الذى يولى ملكها. ويخشى المسافرون ـ ولا سيما المصريون منهم ـ بأس حمزة. وقد ظن التجار الدراويون أن الرجل قد يسىء إليهم بسببى ، وكانوا إلى ذلك مقتنعين بأنه لم يعد لهم فى صحبتى نفع ولا مغنم لأننى كنت أدفعهم عن كل حفنة من الذرة يريدون غصبها منى ، لذلك صح عزمهم على التخلى عنى ونبذى نبذ النواة. وكنا قد وقفنا دقائق فى السهل على مقربة من بركة ماء أمام القرية ، فما إن هممنا بمعاودة السير حتى أمرونى فى لهجة ملؤها الازدراء أن أنصرف عنهم ونهونى أن أقرب جماعتهم بعد ذلك. وأردف غلمانهم هذا الأمر بانتهارى كما تنتهر الكلاب ، ثم ضربوا حمارى بمؤخر رماحهم وطاردوه إلى الصحراء.

وكنت طوال الرحلة أحاول جهدى أن أكون على صلة طيبة برفاقى العبابدة ، وكانوا على لؤمهم خيرا من الدراويين. فمضيت الآن إليهم أسألهم هل ينوون تركى تحت رحمة لصوص الميرفاب أو يسمحون لى بالانضمام إلى جماعتهم؟ فارتضوا من فورهم

٢٠٠