محمّد بن تاويت الطنجي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠
جملة أصحابه وتابعه. قال : وكان يتلقّاه في كلّ بلد من (أصحابه و) أشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد ، والنّفقات من بلده ، إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الإسكندرية. قال : واشتدّت عليّ الغلمة في البحر ، واستحييت من كثرة الاغتسال ؛ لمكان هذا الرئيس ، فأشار عليّ بعض بطانته بشرب الكافور ، فاغترفت منه غرفة ، فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال ، وبها يومئذ تقيّ الدين بن دقيق العيد ، (١) وابن الرّفعة ، (٢) وصفي الدين الهندي ، (٣) والتبريزي ، (٤) وابن البديع ، وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول ، فلم يكن قصاراه إلا تمييز أشخاصهم ، إذا ذكرهم لنا ؛ لما كان به من الاختلاط. ثم حجّ مع ذلك الرئيس ، وسار في جملته إلى كربلاء ، فبعث معه من أصحابه من أوصله إلى مأمنه من بلاد زواوة (٥) من أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمهالله : كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب ، واستبطنتها في جبّة كنت ألبسها ؛ فلما نزل بي ما نزل انتزعها مني حتى إذا بعث أصحابه يشيّعونني إلى المغرب ، دفعها إليهم ، حتى إذا أوصلوني إلى المأمن ، أعطوني إياها وأشهدوا علي بها في كتاب حملوه معهم إليه كما
__________________
(١) هو أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري القوصي الشافعي (٦٢٥ ـ ٧٠٢). طبقات السبكى ٦ / ٢ ، حسن المحاضرة ١ / ١٤٣ ، رحلة العبدري لوحة ٧٤ ب.
(٢) أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع الأنصاري أبو العباس نجم الدين الشافعي ، كان يقاس بالنووي والرافعي في العلم (٦٤٠ ـ ٧١٠) طبقات السبكى ٥ / ١٧٦ ، حسن المحاضرة ١ / ١٤٥.
(٣) محمد بن عبد الرحمن بن محمد الهندي صفيّ الدين ؛ فقيه ، وأصولي (٦٤٤ ـ ٧٥٠). طبقات السبكى ٥ / ٢٤٠ ، حسن المحاضرة ٢ / ٢٦١.
(٤) أبو الحسن علي بن عبد الله تاج الدين التبريزي المتوفى سنة ٧٤٩ ه. طبقات السبكى ٦ / ١٤٦ ، حسن المحاضرة ٢ / ٢٦١.
(٥) زواوة بفتح الزاي : بطن من بطون البربر البتر ، ويرجح ابن خلدون ـ تبعا لابن حزم ـ أنها من كتامة ، وكان موطنها ، حسب ما حدّده ، الجبال العالية التي بنواحي بجاية ، والتي بينها تدلس.
وباسم هذه البطون تسمى الأمكنة التي تنزلها ، حال إقامتها ، وبعد ما ترحل ؛ ولهذا يقع اسم القبيلة الواحدة على أمكنة متعدّدة. انظر العبر ٦ / ١٢٨ ، تاج العروس ١ / ١٦٦ ، ١٦٧.
أمرهم ؛ ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار ، فعاد إلى تلمسان ، وقد أفاق من اختلاطه ، وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلا إلى العقليات ، فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام ، وجملة من الأصلين ، وكان أبو حمّو (١) صاحب تلمسان يومئذ قد استفحل ملكه ، وكان ضابطا لأموره ، وبلغه عن شيخنا تقدمه في علم الحساب ، فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة عمّاله. وتفادى شيخنا من ذلك ، فأكرهه عليه ، فأعمل الحيلة في الفرار منه ، ولحق بفاس أيام السّلطان أبي الربيع ، (٢) وبعث فيه أبو حمو ، فاختفى بفاس عند شيخ التّعاليم من اليهود ، خلّوف المغيلي ؛ فاستوفى عليه فنونها ، وحذق. وخرج متواريا من فاس ، فلحق بمراكش ، أعوام العشر والسبع مائة. ونزل على الإمام أبي العباس بن البنّاء (٣) شيخ المعقول والمنقول ، والمبرّز في التصوف علما وحالا ، فلزمه ، وأخذ عنه ، وتضلّع من علم المعقول والتعاليم والحكمة ، ثم استدعاه شيخ الهساكرة عليّ بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه ، وكان ممرّضا في طاعته للسلطان ، فصعد إليه شيخنا وأقام عنده مدة ؛ قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ ، فكثت إفادته ، واستفادته ، وعلي بن محمد في ذلك على تعظيمه ، ومحبته ، وامتثال إشارته ، فغلب على هواه ، وعظمت رياسته بين تلك القبائل. ولما استنزل السّلطان أبو سعيد عليّ بن تروميت من جبله ، نزل الشيخ معه ، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كل ناحية ، فانتشر علمه ، واشتهر ذكره ؛ فلمّا فتح السّلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام ، ذكره له بأطيب الذكر ، ووصفه بالتّقدّم في العلوم. وكان السّلطان معنيا بجمع العلماء لمجلسه ، كما ذكرنا ، فاستدعاه من مكانه بفاس ، ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه ، وعكف على التّدريس
__________________
(١) هو أبو حمو موسى بن يوسف الزياني ، من ملوك تلمسان ، بني عبد الواد. انظر الاستقصا ٢ / ١٠٣ وما بعدها ، أزهار الرياض ٣ / ٣٣١.
(٢) هو سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب بن يوسف بن عبد الحق المريني ، يكني أبا الربيع ، توفي سنة ٧١٠ ه. جذوة الاقتباس ص ٣١٩.
(٣) تقدمت ترجمة ابن البناء.
والتّعليم ، ولازم صحابة السّلطان ، وحضر معه واقعة طريف ، وواقعة القيروان بإفريقية ؛ وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمهالله صحابة ، كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه ، فلزمت مجلسه ، وأخذت عنه ، وافتتحت العلوم العقلية بالتّعاليم. ثم قرأت المنطق ، وما بعده من الأصلين ، وعلوم الحكمة ؛ وعرض أثناء ذلك ركوب السّلطان أساطيله من تونس إلى المغرب ، وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا ، فأشرنا عليه بالمقام ، وثبطناه عن السفر ، فقبل ، وأقام. طالبنا به السّلطان أبو الحسن ، فأحسنّا له العذر. وتجافى عنه ، وكان من حديث غرقه في البحر ما قدّمناه. وأقام الشيخ بتونس ، ونحن وأهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه ، والأخذ عنه ؛ فلما هلك السّلطان أبو الحسن بجبال هنتاتة ، (١) وفرغ ابنه أبو عنان (٢) من شواغله ، وملك تلمسان من بني عبد الواد ؛ كتب فيه يطلبه من صاحب تونس ، وسلطانها يومئذ أبو إسحق (٣) إبراهيم بن السّلطان أبي يحيى ، في كفالة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين ، فأسلمه إلى سفيره ، وركب معه البحر في أسطول السّلطان الذي جاء فيه السفير. ومرّ ببجاية ، ودخلها ، وأقام بها شهرا ، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه ، (٤) برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول ، ثم ارتحل ، ونزل بمرسى هنين (٥) ؛ وقدم على السّلطان
__________________
(١) درج ابن خلدون على ضبط «هنتاتة» بالقلم ، بكسر الهاء. وسكون النون ، وفتح التاء الفوقية ، بعدها ألف ممدودة ، ثم تاء مفتوحة بعدها هاء للتأنيث. وفي شذرات الذهب لابن العماد ٦ / ٣٤٥ ، وصبح الأعشى ٥ / ١٣٤ : أنها بفتح الهاء. وبقية الضبط متفق عليه بينهم.
(٢) هو فارس المكنى بأبي عنان بن أبي الحسن المريني ؛ كان يلقب بالمتوكل ، ثار على أبيه ، وملك المغرب الأقصى ، وبجاية ، وقسنطينة ، وتلمسان ، وتونس ، وتوفي سنة ٩٥٧. انظر ترجمته وأخباره في : صبح الأعشى ٥ / ١٩٨ ، العبر ٧ / ٢٧٨ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، اللمحة البدرية ص ٩٣ ـ ٩٥.
(٣) أبو اسحق إبراهيم بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم انظر ترجمته ، وأخباره في الدرر الكامنة ١ / ١٢ ، تاريخ ابن خلدون ٦ / ٣٦٤ ، صبح الأعشى ٥ / ١٣١.
(٤) سبق الحديث المفصل عن هذا المختصر ، في ترجمة ابن الحاجب ص ١٧.
(٥) هنين مرت فيما سبق ، وهي بضم الهاء وفتح النون : مدينة ساحلية ، كان موقعها الشمال الغربي لتلمسان ، وفي مكانها الآن مدينة بني صاف Beni Saf.
بتلمسان ، وأحلّه محلّ التّكرمة ، ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء. وكان يقرأ عليه ، ويأخذ عنه ، إلى أن هلك بفاس ، (١) سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمهالله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستّمائة.
وأما عبد المهيمن كاتب السّلطان أبي الحسن ، فأصله من سبتة ، وبيتهم بها قديم ، ويعرفون ببني عبد المهيمن ؛ وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفيّ ، ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته ، وأخذ عن مشيختها. واختصّ بالأستاذ أبي إسحق الغافقي. (٢) ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد ، صاحب الأندلس ، سبتة ونقل بني العزفيّ ، مع جملة أعيانها إلى غرناطة ، ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن ، (٣) وابنه عبد المهيمن ، فاستكمل قراءة العلم هنالك وأخذ عن أبي جعفر ابن الزّبير (٤) ونظرائه ، وتقدم في معرفة كتاب سيبويه ، وبرز في علوّ الإسناد ، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق ، فاستكتبه رئيس الأندلس يومئذ ، الوزير أبو عبد الله بن الحكيم (٥) الرّندي ، المستبد على السّلطان المخلوع (٦) من بني الأحمر ، فكتب عنه ، ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه ، مثل
__________________
(١) فاس Fez) عرضها الشمالي ٦ ـ ٣٤ ، وطولها الغربي ٥٩ ـ ٤) : مدينة مشهورة بالمغرب الأقصى. كانت منذ القديم مهدا للثقافة الإسلامية ؛ وبمدينة فاس جامع القرويين ، الكعبة العلمية التي يؤمها طلاب العلم من سائر أنحاء المغرب. ياقوت ٦ / ٣٢٩.
(٢) إبراهيم بن أحمد بن عيسى الأشبيلي أبو إسحق ؛ عرف بالغافقي. دخل سبته ، وولى القضاء بها ، وتوفي سنة ٧١٦ ه. المرقبة العليا ص ١٣٣ ، الدرر الكامنة ١ / ١٣.
(٣) انظر ترجمة القاضي محمد بن عبد المهيمن في المرقبة العليا ص ١٣٢.
(٤) أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، أبو جعفر. الدرر الكامنة ١ / ٨٤.
(٥) هو الوزير الشاعر محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم ، أبو عبد الله الرندي شهر بابن الحكيم (٦٦٠ ـ ٧٠٨). أزهار الرياض ٣ / ٣٤٠ ـ ٣٤٧ ، الإحاطة ٢ / ٢٧٨ ـ ٣٠٤.
(٦) محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، يكني أبا عبد الله ؛ ثالث ملوك بني الأحمر (٦٥٥ ـ ٧١٣) ، وهو الذي بنى مسجد الحمراء الأعظم بغرناطة. اللمحة البدرية ص ٤٧ ـ ٥٦ العبر ٧ / ٣٠٦.
المحدّث الرحّالة أبي عبد الله بن رشيد الفهري ، (١) وأبي العبّاس أحمد بن (.......) (٢) العزفي ، والعالم الصّوفي المتجرّد ، أبي عبد الله محمد بن خميس (٣) التّلمساني ، وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصّا به ، وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة. فلمّا نكب الوزير ابن الحكيم ، وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين عاد عبد المهيمن إليها واستقرّ بها ، ثمّ ولي السّلطان أبو سعيد ، وغلب عليه ابنه أبو علي ، واستبدّ بحمل الدّولة. تشوف إلى استدعاء الفضلاء ، وتجمّل الدولة بمكانهم ، فاستقدم عبد المهيمن من سبتة ، واستكتبه ، سنة اثنتي عشرة ؛ ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة ، وامتنع بالبلد الجديد ، وخرج منها إلى سجلماسة (٤) بصلح عقده مع أبيه ، فتمسّك السّلطان أبو سعيد بعبد المهيمن ، واتخذه كاتبا ، إلى أن دفعه لرياسة الكتّاب ، ورسم علامته في الرسائل والأوامر ، فتقدّم لذلك سنة ثمان عشرة ، ولم يزل عليها سائر أيام السّلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. وسار مع أبي الحسن إلى إفريقية ، وتخلّف عن واقعة القيروان بتونس ؛ لما كان به علّة النّقرس. فلما كانت الهيعة بتونس ، ووصل خبر الواقعة ، وتحيّز أشياع السّلطان إلى القصبة ، مع حرمه ، تسرّب عبد المهيمن في المدينة ، منتبذا عنهم ، وتوارى في بيتنا ، خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلمّا انجلت تلك الغيابة ، وخرج السّلطان من القيراوان إلى سوسة ، وركب منها البحر إلى تونس ،
__________________
(١) أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد ... بن رشيد (مصغرا) الفهري السبتي. محدث رحالة شهير (٦٥٩ ـ ٧٢١). أزهار الرياض ٣ / ٣٤٧ ـ ٣٥٦ ، الجذوة ص ١٨٠.
(٢) هكذا بياض في الأصل ونسخة ش ، ولا يوجد بياض في ز ط. ولعل ابن خلدون ترك الفراغ ليضع فيه آباء أبي العباس العزفي ، فمات قبل أن يفعل. وهي ـ كما في نيل الابتهاج وغيره ـ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أبي عزفة اللخمى.
(٣) أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد .. الحجري ، التّلمساني ، الشاعر. توفي قتيلا في سنة ٨٠٧ ، وله نيّف وستون سنة. أزهار الرياض ٣ / ٣٠١ ـ ٣٤٠.
(٤) سلجماسة بكسر السين والجيم ، وسكون اللام ، ثم ألف بعدها سين فهاء للتأنيث : مقاطعة في جنوب المغرب تسمى الآن تافيلالت. ياقوت ٥ / ٤١.
أعرض عن عبد المهيمن ، لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة ، وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين ، (١) وقد كانت مقصورة من قبل على هذا البيت ، وأقام عبد المهيمن عطلا من العمل مدة أشهر. ثم أعتبه السّلطان ، ورضي عنه ، وأعاد إليه العلامة كما كان ، وهلك لأيام قلائل بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين. ومولده سنة خمس وسبعين من المائة قبلها ، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة فليطالعه هناك من أحبّ الوقوف عليه.
وأما ابن رضوان (٢) الذي ذكره الرّحوي في قصيدته ، فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري ؛ أصله من الأندلس ، نشأ بمالقة ، وأخذ عن مشيختها ، وحذق في العربية والأدب ، وتفنّن في العلوم ، ونظم ونثر ، وكان مجيدا في الترسيل ، وحسنا في كتابة الوثائق ؛ وارتحل بعد واقعة طريف ، ونزل بسبتة ، ولقي بها السّلطان أبا الحسن ، ومدحه ، وأجازه ، واختصّ بالقاضي إبراهيم بن أبي يحيى ، (٣) وهو يومئذ قاضي العساكر ، وخطيب السّلطان ، وكان يستنيبه في القضاء والخطابة ؛ ثم نظمه في حلبة الكتّاب بباب السّلطان ؛ واختصّ بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتّاب ، والأخذ عنه ، إلى أن رحل السّلطان إلى إفريقية ، وكانت واقعة القيروان ، وانحصر بقصبة تونس من انحصر بها ، من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السّلطان قد تخلّف ابن رضوان هذا بتونس في بعض خدمه ، فجلّى عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات وتولّى كبر ذلك ، فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل
__________________
(١) عبد الله بن أبي مدين شعيب العثماني. نجم ـ من بيت أبي مدين ـ في خدمة بني مرين ، فقلدوه الحجابة ، ورياسة الكتاب. ولد بقصر كتامة ، ونشأ بمكناسة ، وتعلم بها. نثير الجمان لابن الأحمر ص ٩٧ (نسخة خاصة).
(٢) انظر ترجمة ابن رضوان هذا ، في الاستقصا ٢ / ١٢٣ ، نثير الجمان لابن الأحمر ص ٩١ (نسخة خاصة) ، جذوة الاقتباس ص ١٤٩ ، نفح الطيب ٣ / ٤٦١.
(٣) إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي التازي أبو إسحق ؛ يعرف بابن أبي يحيى المتوفى بعد سنة ٧٤٨. المرقبة العيا ص ١٣٦ ، الجذوة ص ٨٤ ، الإحاطة ١ / ٢١٧ ، نفح الطيب ٣ / ١٩٨.
السّلطان من القيروان ، فرعى له حقّ خدمته ، تأنيسا ، وقربا ، وكثرة اتعمال ، إلى أن ارتحل من تونس في الأسطول ، إلى المغرب سنة خمسين كما مر. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل (١) وخلّف أبا القاسم بن رضوان كاتبا له ، فأقام كذلك أياما. ثم غلبهم على تونس سلطان الموحّدين الفضل بن السّلطان أبي يحيى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه ، ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه ، فأقام بتونس حولا ، ثم ركب البحر إلى الأندلس ، وأقام بالمرية مع جملة (من) (٢) هنالك من أشياع السّلطان أبي الحسن ؛ كان فيهم عامر (٣) بن محمد بن علي شيخ هنتاتة ، كافلا لحرم السّلطان أبي الحسن ؛ وابنه ، أركبهم السّفين معه من تونس عندما ارتحل ، فخلصوا إلى الأندلس ، ونزلوا بالمرية ، وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس ، فلحق بهم ابن رضوان ، وأقام معهم. ودعاه أبو الحجاج (٤) سلطان الأندلس إلى أن يستكتبه فامتنع ، ثم هلك السّلطان أبو الحسن ، وارتحل مخلّفه الذين كانوا بالمرية. ووفدوا على السّلطان أبي عنان. ووفد معهم ابن رضوان ، فرعى له وسائله في خدمة أبيه ، واستكتبه ، واختصّه بشهود مجلسه ، مع طلبة العلم بحضرته ؛ وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة ، ونجيّ الخلوة ، وصاحب العلامة ، وحسبان الجباية والعساكر ، قد غلب على هوى السّلطان ، واختصّ به ، فاستخدم له ابن رضوان حتى غلق منه بدمه. ولاية وصحبة ، وانتظاما في السّمر ، وغشيان المجالس الخاصّة ، وهو مع ذلك يدنيه من
__________________
(١) هو أبو الفضل بن السّلطان أبي الحسن ، وأخو السّلطان أبي عنان. انظر تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٩٣ وما بعدها.
(٢) الزيادة عن ز ط.
(٣) عامر بن محمد بن علي ، شيخ هنتاتة من قبائل المصامدة. تولى أحكام الشرطة بتونس في عهد السّلطان أبي الحسن ، وولى الجباية لأبي عنان ، فكفاه مؤنتها ؛ وكان أبو عنان يقول عنه : «وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من سلطاني ، كما كفاني محمد بن عامر ناحية المغرب وأتودع».
ابن خلدون ٧ / ٣٠٠ ، ٣١٧.
(٤) هو سابع ملوك بني الأحمر ، أبو الحجّاج يوسف بن إسماعيل ابن الأحمر. (٧١٨ ـ ٧٥٥) ولي الملك سنة ٧٣٤. اللمحة البدرية ص ٧٩ ـ ١٠٠.
السّلطان. وينفق سوقه عنده ، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهم ، فحلي بعين السّلطان ، ونفقت عنده فضائله. فلمّا سار ابن أبي عمرو في العساكر إلى بجاية ، سنة أربع وخمسين ، انفرد ابن رضوان بقلم الكتاب عن السّلطان. ثم رجع ابن أبي عمرو ، وقد سخطه السّلطان ، فأقصاه إلى بجاية وولاه عليها ، وعلى سائر أعمالها ، وعلى حرب الموحّدين بقسنطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة ، وجعل إليه العلامة ، كما كانت لابن أبي عمرو ، فاستقلّ بها ، موفّر الاقطاع ، والإسهام ، والجاه ؛ ثم سخطه آخر سبع وخمسين ، وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين ، والإنشاء والتوقيع لأبي إسحق إبراهيم بن الحاج الغرناطي. (١) فلمّا كانت دولة السّلطان أبي سالم ، (٢) جعل العلامة لعلي بن محمد بن سعود (٣) صاحب ديوان العساكر ، والإنشاء والتوقيع والسرّ لمؤلف الكتاب عبد الرحمن بن خلدون (٤) ؛ ثم هلك أبو سالم سنة اثنتين وستين ، واستبدّ الوزير عمر بن عبد الله (٥) على من كفله من أبنائهم ، فجعل العلامة لابن رضوان ، سائر أيامه ، وقتله عبد العزيز بن السّلطان أبي الحسن ، واستبدّ بملكه ، فلم يزل ابن رضوان على العلامة ، وهلك عبد العزيز ، وولى ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن
__________________
(١) إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم ... النميري أبو إسحق ؛ يعرف بابن الحاج ولد سنة ٧١٣ ، وكان حيا في سنة ٧٦٨. إحاطة ١ / ١٩٣ ـ ٢١٠.
(٢) أبو سالم هذا هو إبراهيم بن السّلطان أبي الحسن ، وأخو السّلطان أبي عنان فارس. تفصيل أخباره في تاريخ ابن خلدون ٧ / ٣٠٤ ـ ٣٠٦.
(٣) هو علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن سعود الخزاعي ، يكنى أبا الحسن ؛ أصله من الأندلس من بيت علم ، وقدم أبوه تلمسان. كان فقيها أديبا لغويا. نثير الجمان لابن الأحمر ص ٩٥ ، ٩٦ (نسخة خاصة).
(٤) انظر تفصيل هذا الخبر في العبر ٧ / ٣٠٥.
(٥) الوزير عمر بن عبد الله ، من الوزراء الذين كان لهم الأثر البارز في تصريف شؤون الدول بالمغرب ؛ وأخباره ذكرت مفصلة في العبر ٧ / ٣١٩ ، ٣٢٣.
غازي (١) بن الكاس ، وابن رضوان على حاله ؛ ثم غلب السّلطان أحمد على الملك ، وانتزعه من السعيد ، وأبي بكر بن غازي ، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس ، (٢) مستبدّا عليه ، والعلامة لابن رضوان ، كما كانت ، إلى أن هلك بأزمور (٣) في بعض حركات السّلطان أحمد إلى مراكش ، لحصار عبد الرحمن بن بويفلّوسن (٤) ابن السّلطان أبي علي سنة (....). (٥)
وكان في جملة السّلطان أبي الحسن جماعة كبيرة من فضلاء المغرب وأعيانه ، هلك كثيرون منهم في الطاعون الجارف بتونس ، وغرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق ، وتخطت النكبة (منهم) (٦) آخرين إلى أن استوفوا ما قدّر من آجالهم. فممن حضر معه بإفريقية من العلماء ، شيخنا أبو العبّاس أحمد بن محمد الزّواوي ، شيخ القراءات بالمغرب ؛ أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس ، وروى عن الرحّالة أبي عبد الله محمد بن رشيد ، وكان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا تجارى. وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود ، (٧) وكان يصلّي بالسّلطان التّراويح ، ويقرأ
__________________
(١) الوزير أبو بكر بن غازي هذا ؛ كان له صيت وسطوة أيام بني مرين ، وكانت له كذلك صلة بلسان الدين بن الخطيب ، عند ما انتقل إلى المغرب. انظر تاريخ ابن خلدون ٧ / ٣٣٦ ، ٣٣٨ ، ٣٤٠ ، ٣٤١ ، ٣٤٣.
(٢) انظر ترجمة الوزير محمد بن عثمان في العبر ٧ / ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، وبعض أخباره في ٧ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ من العبر أيضا.
(٣) أزمور (Azemmour) ضبطها بالقلم بفتح الهمزة ، وبعدها زاي مفتوحة ، ثم ميم مشددة مضمومة ؛ وهي مدينة على ساحل المحيط بالمغرب الأقصى على الحافة اليسرى لمصب وادي أم الربيع. عرضها الشمالي ١٠ ـ ٣٣ ، وطولها الغربي ٢٠ ـ ٨. وانظر صبح الأعشى ٥ / ١٧٢.
(٤) في العبر (٧ / ٣٤٤ ـ ٣٤٧ ، ٣٧٨) تفصيل الحوادث التي كانت بين عبد الرحمن ابن بويفلوسن ، صاحب مراكش ، وأبي العباس صاحب فاس.
(٥) بياض بالأصل ، ج.
(٦) الزيادة عن ز.
(٧) ورد في لأبي موسى الأشعري ، أنه كان يقرأ ، فسمعه النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ؛ يكنى عن حسن صوته. تاج العروس ٣ / ٣٤٠.
عليه بعض الأحيان حزبه.
وممن حضر معه بإفريقية ، الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبّاغ من أهل مكناسة. (١) (كان) (٢) مبرّزا في المنقول والمعقول ، وعارفا بالحديث (٣) وبرجاله ، وإماما في معرفة كتاب الموطأ وإقرائه ؛ أخذ العلوم عن مشيخة فاس ، ومكناسة ، ولقي شيخنا أبا عبد الله الآبليّ ، ولازمه ، وأخذ عنه العلوم العقلية ، فاستنفد بقيّة طلبه عليه ، فبرّز آخرا ؛ واختاره السّلطان لمجلسه ، فاستدعاه ، ولم يزل معه إلى أن هلك غريقا في ذلك الأسطول. (٤)
ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد النّور ، من أعمال ندرومة ، (٥) ونسبه في صنهاجة كان مبرّزا في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس ، تفقّه فيه على الأخوين أبي زيد ، وأبي موسى ابني الإمام ، وكان من جلّة أصحابهما.
ولما استولى السّلطان أبو الحسن على تلمسان ، رفع من منزلة ابني الإمام ، واختصّهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته ، ويجري لهم الأرزاق ، ويعمر بهم مجلسه ؛ فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه
__________________
(١) انظر ترجمة ابن الصباغ في الجذوة ص ١٨٩ ، نيل الابتهاج ص ٢٤٤.
(٢) الزيادة عن نيل الابتهاج ، وهي ضرورية. ومكناسة (Meknes) بكسر الميم وسكون الكاف ، سميت باسم قبيلة مكناسة التي اختطتها ؛ وهي إحدى المدن الكبرى الشهيرة بالمغرب. عرضها الشمالي ٠٠ ـ ٣٤ ، وطولها الغربي ٣٣ ـ ٥ ، ياقوت ٨ / ١٣٣.
(٣) يقولون إنه أملى في مجلس درسه ، على حديث : «يا أبا عمير ، ما فعل النّغير» أربعمائة فائدة.
نيل الابتهاج ص ٢٤٤ ، الاستقصا ٢ / ٨٤.
(٤) يكرر ابن خلدون قوله في هذا الحادث لفدح المصاب فيه ؛ فلقد كانت قطع الأسطول نحو ستمائة قطعة ، غرقت كلها ، وهلك فيها من أعلام المغرب نحو أربعمائة. الاستقصا ٢ / ٨٤.
(٥) ترجمة الندرومي في نيل الابتهاج ص ٢٤٢ ، نفح الطيب ٣ / ١٢٥. جذوة ١٩٠. وندرومة (Nedroma) بفتح النون وسكون الدال ، ثم راء مضمومة بعدها واو ، فميم مفتوحة فهاء للتأنيث : مدينة بالجزائ في الشمال الغربي لتلمسان ، وبينها وبين الساحل نحو ثمانية كيلو مترات ، عرضها الشمالي ٥٥ ـ ٣٤ ، وطولها الغربي ٠٠ ـ ٢.
من ينظمه في فقهاء المجلس ، فأشاروا عليه بابن عبد النّور هذا ، فأدناه ، وقرّب مجلسه ، وولاه قضاء عسكره ، ولم يزل في جملته إلى أن هلك في الطاعون بتونس سنة تسع وأربعين. وكان (قد) (١) خلّف بتلمسان أخاه عليا رفيقه في دروس ابن الإمام ، إلا أنّه أقصر باعا منه في الفقه. فلما خلع السّلطان أبو عنان طاعة أبيه السّلطان أبي الحسن ، ونهض إلى فاس ، استنفره في جملته. وولاه قضاء مكناسة ، فلم يزل بها ، حتى إذا تغلّب عمر بن عبد الله على الدّولة كما مر ، نزع إلى قضاء فرضه ، فسرّحه. وخرج حاجا سنة أربع وستين ، فلما قدم على مكّة ، وكان به بقيّة مرض ، هلك في طواف القدوم. وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد ، وأن يبلّغ وصيته به للأمير المتغلب على الديار المصرية يومئذ ، يلبغا الخاصكي ، (٢) فأحسن خلافته فيه ، وولاه من وظائف الفقهاء ما سدّ به خلّته ، وصان عن سؤال الناس وجهه ، وكان له ـ عفا الله عنه ـ كلف بعمل الكيمياء ، تابعا لمن غلظ في ذلك من أمثاله. فلم يزل يعاني من ذلك ما يورطه مع الناس في دينه وعرضه ، إلى أن دعته الضرورة للترحل عن مصر ، ولحق ببغداد. وناله مثل ذلك ، فلحق بماردين ، واستقرّ عند صاحبها ، وأحسن جواره ، إلى أن بلغنا بعد التسعين أنّه هلك هنالك حتف أنفه ، والبقاء لله (وحده).
ومنهم شيخ التّعاليم أبو عبد الله محمد بن النّجّار (٣) من أهل تلمسان ؛ أخذ العلم بلده عن مشيختها ، وعن شيخنا الآبليّ ، وبرّز عليه. ثم ارتحل إلى المغرب ، فلقي بسبتة إمام التعاليم ، أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجصطي في الهيئة ، وأخذ بمرّاكش عن الإمام أبي العباس بن البنّاء ، وكان إماما في علوم النّجامة
__________________
(١) الزيادة عن زش.
(٢) هو الأمير المعروف يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري. تناهت إليه الرياسة ، ولقب نظام الملك ، وبلغت عدة مماليكه ثلاثة آلاف. وسيأتي لابن خلدون الحديث عنه مرة أخرى انظر ترجمته في الدرر الكامنة ٤ / ٤٣٨.
(٣) هو محمد بن علي بن النجار التلمساني أبو عبد الله. ترجمته في نيل الابتهاج ص ٢٤١ ، نفح الطيب ٣ / ١٢٦ ، جذوة الاقتباس ص ١٩٠.
وأحكامها ، وما يتعلّق بها ، ورجع إلى تلمسان بعلم كثير ، واستخلصته الدولة. فلما هلك أبو تاشفين ، وملك السّلطان أبو الحسن ، نظمه في جملته وأجرى له رزقه ، فحضر معه بإفريقية ، وهلك في الطاعون.
ومنهم أبو العباس أحمد بن شعيب (١) من أهل فاس ؛ برع في اللّسان ، والأدب ، والعلوم العقلية ، من الفلسفة ، والتعاليم ، والطب ، وغيرها ؛ ونظمه السّلطان أبو سعيد في حلبة الكتّاب ، وأجرى عليه الرزق مع الأطباء ؛ لتقدّمه فيهم ، فكان كاتبه ، وطبيبه ؛ وكذا مع السّلطان أبي الحسن بعده ، فحضر بإفريقية ، وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدّمين والمتأخرين ، وكانت له إمامة في نقد الشعر ، وبصر به ؛ ومما حضرني الآن من شعره :
دار الهوى نجد وساكنها |
|
أقصى أماني النّفس من نجد |
هل باكر الوسميّ ساحتها |
|
واستنّ في قيعانها الجرد |
أو بات معتلّ النّسيم بها |
|
مستشفيا بالبان والرّند |
يتلو أحاديث الذين هم |
|
قصدي وإن جاروا عن القصد |
أيام سمر ظلالها وطني |
|
منها وزرق مياهها وردي |
ومطارح النّظرات في رشأ |
|
أحوى المدامع أهيف القدّ |
__________________
(١) هو أحمد بن شعيب الجزنائي التازي نزيل فاس. كتب لأبي الحسن المريني ، وتوفي بتونس سنة ٧٥٠. نثر فرائد الجمان ص ٥٧ ـ ٦١ ، نثير الجمان ص ٩٧ (كلاهما نسخة خاصة) نيل الابتهاج ص ٦٨.
يرنو إليك بعين جازية |
|
قتل المحبّ بها على عمد |
حتى أجدّ بهم على عجل |
|
ريث الخطوب وعاثر الجدّ |
فقدوا فلا وأبيك بعدهم |
|
ما عشت لا آسى على الفقد |
وغدوا : دفينا قد تضمّنه |
|
بطن الثّرى وقرارة اللّحد |
ومشرّدا من دون رؤيته |
|
قذف النّوى وتنوفة البعد |
أجرى عليّ العيش بعدهم |
|
أنّى فقدت جميعهم وحدي |
لا تلحني يا صاح في شجن |
|
أخفيت منه فوق ما أبدي |
بالغرب لي سكن تأوّبني |
|
من ذكره سهد على سهد |
فرخان قد تركا بمضيعة |
|
زويت عن الرّفداء والرّفد |
ومنهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله بن أحمد بن مرزوق (١) ؛ من أهل تلمسان ، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعبّاد ، ومتوارثين خدمة تربته ، من لدن جدّهم خادمه في حياته. وكان جدّه الخامس أو السادس ، واسمه أبو بكر بن مرزوق ،
__________________
(١) ابن مرزوق هذا ، من بيت علم معروف. وتجد الحديث المبين عن بيته ، وعنه ، في نفح الطيب ٣ / ٢١١ ـ ٢١٩ ، البستان ص ١٨٤ ، نيل الابتهاج ص ٢٦٧ ، ديباج ص ٣٠٥ ، تاريخ ابن خلدون ٧ / ٣١٢.
معروفا بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يغمراسن (١) بن زيان ، سلطان تلمسان من بني عبد الواد ، في التربة بقصره ، ليدفن بإزائه ، متى قدّر بوفاته. ونشأ محمد هذا بتلمسان. ومولده ـ فيما أخبرني ـ سنة عشر وسبعمائة ، (٢) وارتحل مع أبيه إلى المشرق. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين ، ورجع هو إلى القاهرة ، فأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصّفاقسي (٣) المالكي وأخيه. وبرع في الطّلب والرواية ، وكان يجيد الخطّين ؛ ثم رجع سنة خمس وثلاثين إلى المغرب ، ولقي السّلطان أبا الحسن بمكانه في تلمسان ، وقد شيّد بالعبّاد مسجدا عظيما ؛ وكان عمّه محمد بن مرزوق خطيبا به على عادتهم بالعبّاد. وتوفي ، فولاه السّلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمّه. وسمعه يخطب على المنبر ، ويشيد بذكره ، والثناء عليه ، فحلي بعينه ، واختصّه ، وقرّبه ، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام ، ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء ، والأكابر ، والأخذ عنهم ؛ والسّلطان في كل يوم يزيده رتبة ؛ وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين ، فكان يستعمله في السّفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه ، بعد أن ملك إفريقية ، إلى ابن أدفونش ملك قشتالة ، (٤) في تقرير الصّلح ، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين. كان أسر يوم طريف ، فغاب في تلك
__________________
(١) يغمراسن هذا هو ابن زيان بن ثابت بن محمد ، من بني عبد الواد ؛ كان من أشدهم بأسا ، وكانت هل في النفوس مهابة. ولى الملك سنة ٧٣٣ ، ودان له المغرب الأوسط وتلمسان. أخباره مبينة في العبر ٧ / ٧٨ ـ ٩٣.
(٢) تاريخ مولد ابن مرزوق ، كما ذكره ابن خلدون ، يخالف ما ذكره ابن الخطيب في الإحاطة حيث يقول إنه ولد سنة ٧١١ ه. وانظر نفح الطيب ٣ / ٢١١ ، ٢١٢.
(٣) إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القيسي الصفاقسي برهان الدين (٦٩٧ ـ ٧٤٣ ، أو ٢٤) صاحب كتاب «إعراب القرآن». ألفه بالاشتراك مع أخيه شمس الدين محمد. ديباج ص ٩٢ الدرر الكامنة ١ / ٥٥.
(٤) مملكة قشتالة (Castile) تقع في جنوب مقاطعة مدريد ، وكانت تشمل كلا المقاطعتين : Cuenca التي تقع في الجنوب الشرقي لمقاطعة مدريد ، وToledo الواقعة في الجنوب ، والجنوب الغربي لمقاطعة مدريد أيضا. وانظر اللمحة البدرية ص ٤٣.
السّفارة عن واقعة القيروان. ورجع بأبي تاشفين مع طائفة من زعماء النّصرانية ، جاءوا في السّفارة عن ملكهم ، ولقيهم خبر واقعة القيروان ، بقسنطينة ، من بلاد إفريقية ، وبها عامل السّلطان وحاميته ، فثار أهل قسنطينة بهم جميعا ، ونهبوهم ، وخطبوا للفضل بن السّلطان أبي يحيى ، وراجعوا دعوة الموحدين ، واستدعوه فجاء إليهم ، وملك البلد. وانطلق ابن مرزوق عائدا إلى المغرب ، مع جماعة من الأعيان ، والعمال ، والسفراء عن الملوك ، ووفد على السّلطان أبي عنان بفاس مع أمّه حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه ، فأدركها الخبر بقسنطينة. وحضرت الهيعة. واتصل بها الخبر بتوثّب ابنها أبي عنان على ملك أبيه ، واستيلائه على فاس ، فرجعت إليه ، وابن مرزوق في خدمتها ، ثم طلب اللحاق بتلمسان ، فسرّحوه إليها ، وأقام بالعبّاد مكان سلفه ، وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان ، قد بايع له قبيله بنو عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس ، وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة ، كما مرّ في أخبارهم ، وانصرفوا إلى تلمسان ، فوجدوا بها أبا سعيد عثمان ابن جرّار ، (١) من بيت ملوكهم ، قد استعمله عليها السّلطان أبو عنان ، عند انتقاضه على أبيه ، ومسيره إلى فاس.
فانتقض ابن جرار من بعده ، ودعا لنفسه ، وصمد إليه عثمان بن عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما ، فملكوا تلمسان من يد ابن جرار ، وحبسوه ثم قتلوه ، واستبدّ أبو سعيد بملك تلمسان ، وأخوه أبو ثابت يرادفه. وركب السّلطان أبو الحسن البحر من تونس ، وغرق أسطوله ، ونجا هو إلى الجزائر ، فاحتلّ بها ، وأخذ في الحشد إلى تلمسان ، فرأى أبو سعيد أن يكفّ غربه عنهم ، بمواصلة تقع بينهما ، واختار لذلك الخطيب ابن مرزوق ، فاستدعاه وأسرّ إليه بما يلقيه عنه للسلطان أبي الحسن ، وذهب لذلك على طريق الصحراء. واطلع أبو ثابت وقومهم على الخبر ، فنكروه على أبي سعيد ، وعاتبوه ، فبعثوا صقير ابن عامر في اعتراض ابن مرزوق ، فجاء به ، وحبسوه أياما. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس ، فنزل على السّلطان أبي الحجّاج بغرناطة ، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السّلطان أبي الحسن بسبتة إثر
__________________
(١) انظر أخباره في العبر ٧ / ١١٤ ـ ١١٥.
واقعة طريف ، فرعى له أبو الحجّاج ذمّة تلك المعرفة ، وأدناه ، واستعمله في الخطابة بجامعه بالحمراء ، فلم يزل خطيبه إلى إن استدعاه السّلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه ، واستيلائه على تلمسان وأعمالها ، فقدم عليه ورعى له وسائله ، ونظمه في أكابر أهل مجلسه وكان يقرأ الكتاب بين يديه في مجلسه العلمي ، ويدرّس في نوبته مع من يدرّس في مجلسه منهم ؛ ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان وخمسين ؛ ليخطب له ابنة السّلطان أبي يحيى ، فردّت تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السّلطان أبي عنان أنّه كان مطّلعا على مكانها ، فسخطه لذلك ، ورجع السّلطان من قسنطينة ، فثار أهل تونس بمن كان بها من عمّاله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهههدية ، (١) فجاء ، وملك البلد ، وركب القوم الأسطول ، ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز السّلطان (أبو عنان (٢)) باعتقال ابن مرزوق ، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدّمي الجنادرة (٣) ببابه ، فلقيه بتاسّالة ، (٤) فقيده هنالك ، وجاء به ، فأحضره السّلطان وقرّعه ، ثم حبسه مدّة ، وأطلقه بين يدي مهلكه ؛ واضطربت الدولة بعد موت السّلطان أبي عنان ، وبايع بنو مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد ، وبها ابنه السعيد ، ووزيره المستبد عليه ، الحسن بن عمر ، وكان السّلطان أبو سالم بالأندلس ، غرّبه إليها أخوه السّلطان أبو عنان ، مع بني عمهم ، ولد السّلطان أبي عليّ بعد وفاة السّلطان أبي الحسن ، وحصولهم جميعا في قبضته. فلما توفى ، أراد أبو
__________________
(١) المهديةMahdia :) مدينة على الساحل بتونس ، بناها عبيد الله المهدي رأس العبيديين ؛ عرضها الشمال ٣٠ ـ ٣٥ ، وطولها الشرقي ٠٠ ـ ١١. ياقوت ٨ / ٢٠٦ ـ ٢٠٨.
(٢) الزيادة عن ش.
(٣) يريد بالجنادرة رجال الشرطة ؛ والمفرد : جاندار الذي يتكون من كلمتين فارسيتين : جان ، ومعناها : سلاح ، ودار معناها ممسك. انظر السلوك للمقريزي ص ١٣٣.
(٤) موقع «جبال تاسالة» (Tessaia) بالجزائر ، بجانب عين تموشنت ، في ناحية الجنوب منها.
سالم النهوض لملكه بالمغرب ، فمنعه رضوان (١) القائم يومئذ بملك الأندلس ، مستبدا على ابن السّلطان أبي الحجّاج ، فلحق هو بإشبيلية ، من دار الحرب ، ونزل على بطره ، (٢) ملكهم يومئذ ، فهيّأ له السّفين ، وأجازه إلى العدوة ، فنزل بجبل الصّفيحة ، (٣) من بلاد غمارة ، وقام بدعوته بنو مثنى ، وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم ، حتى تم أمره ، واستولى على ملكه ، في خبر طويل ، ذكرناه في أخبار دولتهم. وكان ابن مرزوق يداخله ، وهو بالأندلس ، ويستخدم له ، ويفاوضه في أموره ، وربّما كان يكاتبه ، وهو بجبل الصفيحة ، ويداخل زعماء قومه ، في الأخذ بدعوته. فلمّا ملك السّلطان أبو سالم ، رعى له تلك الوسائل أجمع ، ورفعه على الناس ، وألقى عليه محبّته ، وجعل زمام الأمور بيده ، فوطئ الناس عقبه ، وغشي أشراف الدّولة بابه ، وصرفوا الوجوه إليه ، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة ، ونقموه على السّلطان ، وتربّصوا به ، حتى توثّب عمر ابن عبد الله بالبلد الجديد ، وافترق الناس عن السّلطان. وقتله عمر بن عبد الله آخر اثنتين وستين ، وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الذي نصبه ؛ محمّد بن عبد الرحمن ابن أبي الحسن ، فامتحنه ، واستصفاه ، ثم أطلقه ، بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله ، فمنعه منهم. ولحق بتونس ، سنة أربع وستين ، ونزل. على السّلطان أبي إسحق ، وصاحب دولته المستبدّ عليه ، أبي محمد بن تافراكين ، فأكرموا نزله ، وولّوه الخطابة ، بجامع الموحّدين بتونس ، وأقام بها ، إلى أن هلك السّلطان أبو إسحق سنة سبعين ، وولي ابنه خالد. وزحف السّلطان أبو العبّاس ، حافد السّلطان أبي يحيى ، مقرّه بقسنطينة إلى تونس ،
__________________
(١) هو أبو النعيم رضوان. تولى الحجابة والوزارة ، لأبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن الأحمر ، واستبد على ملكه ، فقبض عليه عام ٠٤٧ ه. انظر اللمحة البدرية ص ٨٩ ، وتاريخ ابن خلدون ٨ / ٣٠٦.
(٢) اصطلح ابن خلدون على كتابة «بطره» بطاء ، فوقها نقطتان ، إشارة إلى أن نطقها بين الطاء والتاء ؛ وقد أشار إلى الطريق التي اتبعها في رسم مثل هذا الحرف ، مما خرج منه عن النطق العربي الخالص ـ في أول مقدمته ص ١٧ طبع بولاق.
(٣) انظر تفصيل نزول أبي سالم ببلاد غمارة ، وأخباره في العبر ٧ / ٣٠٤ ، ٣١٢.
فملكها ، وقتل خالدا ، سنة اثنتين وسبعين.
وكان ابن مرزوق يستريب منه ، لما كان يميل ، وهو بفاس ، مع ابن عمّه أبي عبد الله محمد ، صاحب بجاية ، ويؤثره عند السّلطان أبي سالم عليه ، فعزله السّلطان أبو العبّاس عن الخطبة بتونس ، فوجم لها ، وأجمع الرحلة إلى المشرق ، وسرّحه السّلطان ، فركب السّفين ، ونزل بالإسكندرية ، ثم ارتحل إلى القاهرة ، والقي أهل العلم ، وأمراء الدولة ، ونفقت بضائعه عندهم ، وأوصلوه إلى السّلطان ، وهو يومئذ الأشرف ، (١) فكان يحضر مجلسه ، وولوه الوظائف العلمية ، وكان ينتجع منها معاشه. وكان الذي وصل حبله بالسّلطان إستدّاره (٢) محمد بن أقبغا آص (٣) ، لقيه أول قدومه ، فحلي بعينه ، واستظرف جملته ، فسعى له ، وأنجحت سعايته ، ولم يزل مقيما بالقاهرة ، موقّر الرّتبة ، معروف الفضيلة ، مرشّحا لقضاء المالكية ، ملازما للتدريس في وظائفه ، إلى إن هلك سنة إحدى وثمانين.
هذا ذكر من حضرنا من جملة السّلطان أبي الحسن ، من أشياخنا ، وأصحابنا ؛ وليس موضوع الكتاب الإطالة ، فلنقتصر على هذا القدر ، ونرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار المؤلف.
__________________
(١) السّلطان الأشرف : هو أبو المفاخر شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون (٧٥٤ ـ ٧٧٨) تولى الملك سنة ٧٦٤ ه. ترجمته في المنهل الصافي ٢ / ١٧٩ ب ، الدرر الكامنة ٢ / ١٩٠ ، تاريخ ابن خلدون ٥ / ٤٥٣ ، ابن إياس ١ / ٢١٢ خطط علي مبارك ٢ / ٦٠.
(٢) والإستدار. بكسر الهمزة : لقب للذي يتولى قبض مال السّلطان. وهذا اللفظ مركب من إستذ ، ومعناها الأخذ ، ودار ومعناها الممسك ، فأدغمت الذال المعجمة في الدال فصارت إستدّار. وكتابتها «أستاذ دار» ، خروج بها عن رسمها الصحيح ، ومن الخطأ توهم أن «أستاذ» ، و «دار» كلمتان عربيتان.
وانظر صبح الأعشى ٥ / ٤٥٧.
(٣) هو الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص المتوفى سنة ٥٩٧ ه. ترجمته في المنهل الصافي ٣ / ١٣٣.
ولاية العلامة بتونس ثم الرحلة بعدها إلى المغرب ،
والكتابة عن السّلطان أبي عنان
لم أزل منذ نشأت ، وناهزت مكبّا على تحصيل العلم ، حريصا على اقتناء الفضائل ، متنقلا بين دروس العلم وحلقاته ، إلى أن كان الطاعون الجارف ، وذهب بالأعيان ، والصّدور ، وجميع المشيخة ، وهلك أبواي ، رحمهماالله. ولزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الآبلي ، وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين ، إلى أن شدوت بعض الشيء ، واستدعاه السّلطان أبو عنان ، فارتحل إليه ، واستدعاني أبو محمد بن تافراكين ، المستبدّ على الدولة يومئذ بتونس ، إلى كتابة العلامة عن سلطانه أبي إسحق. وقد نهض إليهم من قسنطينة صاحبها الأمير أبو زيد ، حافد السّلطان أبي يحيى في عساكره ، ومعه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك ، فأخرج ابن تافراكين سلطانه أبا إسحق مع العرب ، أولاد أبي الليل ، وبثّ العطاء في عسكره ، وعمّر له المراتب والوظائف. وتعلّل عليه صاحب العلامة أبو عبد الله بن عمر بالاستزادة من العطاء ، فعزله ، وأدالني منه ، فكتبت العلامة للسلطان ، وهي وضع «الحمد لله والشّكر لله» ، بالقلم الغليظ ، مما بين البسملة وما بعدها ، من مخاطبة أو مرسوم ؛ وخرجت معهم أول سنة ثلاث وخمسين. وقد كنت منطويا على مفارقتهم ، لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي ، وعطلتي عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب ، وانحسر تيّارهم عن إفريقية ، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ ، فاعتزمت على اللحاق بهم ، وصدّني عن ذلك أخي وكبيري محمد ، رحمهالله. فلمّا دعيت إلى هذه الوظيفة ، سارعت إلى الإجابة ، لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب ، وكان كذلك ؛ فإنا لما خرجنا من تونس ، نزلنا بلاد هوارة ، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض ، بفحص مرماجنة ، وانهزم صفنا ، ونجوت أنا إلى أبّة (١) ؛ فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوشتاتي ، من كبراء
__________________
(١) أبة بضم الهمزة ، وتشديد الباء المفتوحة : بلد بينها وبين القيروان ثلاثة أيام. (تاج العروس (أب) ياقوت ١ / ٢٤٤.
المرابطين. ثم تحولت إلى تبسّة ، (١) ونزلت بها على محمد ابن عبدون ، صاحبها ، فأقمت عنده ليالي حتى هيأ لي الطريق ، وبذرق (٢) لي مع رفيق من العرب ، وسافرت إلى قفصة ، (٣) وأقمت بها أياما أترصد الطريق ، حتى قدم علينا بها الفقيه محمد بن الرئيس منصور بن مزنى ، وأخوه يوسف يومئذ صاحب الزّاب. وكان هو بتونس ، فلمّا حاصرها الأمير أبو زيد ، خرج إليه ، فكان معه. ثم بلغهم الخبر بأن السّلطان أبا عنان ملك المغرب ، نهض إلى تلمسان ، فملكها ، وقتل سلطانها ، عثمان بن عبد الرحمن ، وأخاه أبا ثابت ، وأنه انتهى إلى المديّة ، (٤) وملك بجاية من يد صاحبها ، الأمير أبي عبد الله من حفدة السّلطان أبي يحيى ، راسله عندما أطلّ على بلده ، فسار إليه ، ونزل له عنها ، وصار في جملته ، وولّى أبو عنان على بجاية عمر بن علي شيخ بني وطّاس ، من بني الوزير شيوخهم. فلما بلغ هذا الخبر ، أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه على حصار تونس ، ومرّ بقفصة ، فدخل إلينا محمد بن مزنى ذاهبا إلى الزّاب ، فرافقته إلى بسكرة ، (٥) ودخلت إلى أخيه هنالك ، ونزل هو ببعض قرى الزّاب تحت جراية أخيه ، إلى أن انصرم الشتاء.
__________________
(١) تبسّةtebessa) بالفتح ثم الكسر وتشديد الشين المهملة : مدينة بالجزائر معروفة (عرضها الشمالي ٣٠ ـ ٣٥ ، وطولها الشرقي ٠٠ ـ ٨) تبعد عن مدينة قسنطينة إلى الجنوب الشرقي بنحو ١٠٥ أميال ، وبها بقايا آثار رومانية. ياقوت ٢ / ٣٦٣.
(٢) البذرقة : الخفارة ، ويقال لها العصمة ؛ لأنها يعتصم بها. والكلمة معربة.
(٣) قفصة (Gafsa) بالفتح ثم السكون فصاد مهملة : بلدة صغيرة بتونس ، تقع في الشمال الغربي لقابس ، وتبعد عنها بنحو ٧٤ ميلا ويصلها خط حديدي بمدينة صفاقس. ياقوت ٧ / ١٣٨.
(٤) المدية (Medea) : مدينة بالجزائر تبعد أربعين ميلا ، نحو الجنوب الغربي ، عن مدينة الجزائر.
عرضها الشمالي ١١ ـ ٣٦ ، وطولها الشرقي ٥١ ـ ٢.
(٥) بسكرة (Biskra) بكسر الكاف وراء مفتوحة ، وقيدها ابن خلدون بكسر الباء وفتح السين وسكون الكاف : بلد معروفة بالجزائر ؛ عرضها الشمالي ٥١ ـ ٣٤ ، وطولها الشرقي ٥١ ـ ٥. ياقوت ٢ / ١٨٣.