البدوية ، بدفع الرشاوى لها ، من جهة ، وتهديدها بالقوة ، من جهة أخرى ، لم يجد نفعا بسبب ميوعته في الاتجاهين ، ولعله شجع بعض القبائل القوية على الابتزاز. فالأعمال العسكرية التي قامت بها ، لم تكن قط حاسمة ، ولم تتوفر لها القوة اللازمة لإخضاع القبائل الشرسة. وكذلك فشلت الحكومة في تحقيق أغراضها عبر تحريض القبائل بعضها على بعض ، إذ سرعان ما انقلب المنتصر على الحكومة وعاد إلى الممارسة الاعتيادية. وقد استعملت الحكومة بعض القبائل كشرطة حدودية ، مثل قبيلة الهنادي ، التي جاءت من مصر ، واشتهر زعيمها عقيل في هذه الفترة في شمال فلسطين. وفي النتيجة ، فشلت الأساليب جميعها التي لجأت إليها الحكومة العثمانية في ضبط سلوك القبائل البدوية ، بما في ذلك محاولة توطينهم واستقرارهم. وظلت هذه القبائل عامل اضطراب أمني ومصدر إزعاج للحكومة.
امتيازات وقناصل
نظرا إلى الدور الكبير الذي أدّته الدول الأوروبية ، وخصوصا بريطانيا ، في فرض الانسحاب من بلاد الشام على محمد علي ، وإعادتها إلى الحكم العثماني ، فقد زاد تبعا لذلك تدخلها في شؤون السلطنة عامة ، وفي بلاد الشام خاصة. والأمر الذي ساعدها على ذلك كان الضعف العام الذي اعترى السلطنة ، وعلى جميع الصعد. وفي الواقع ، فإن الباب العالي أصدر فرمانات التنظيمات تحت ضغط دول أوروبا. وبينما كانت المصالح الاقتصادية والاستراتيجية تملي على دول أوروبا سياستها في الشرق ، فإنها وجدت في الأقليات الدينية وحقوقها المدنية الذريعة للتدخل في شؤون الحكم العثماني ، في العاصمة كما في الولايات. وإزاء ضعف السلطنة ، راحت تلك الدول توسع من امتيازاتها التجارية التي حصلت عليها سابقا ، ومنها ما أعطي في أوج قوة السلطنة (أيام سليمان القانوني ١٥٣٥ م). ومع عودة الحكم العثماني إلى بلاد الشام والعقبات ، الذاتية والموضوعية ، التي واجهها ، زاد قناصل الدول الأوروبية ، الذين كثر عددهم واتسع نفوذهم في البلاد أيام الحكم المصري ، في تدخلهم في شؤون البلد ، إذ طال نواحي النشاط الحكومي جميعها ـ الإدارة والاقتصاد والمحاكم وشؤون الرعايا. وبرز بينهم القنصل البريطاني وودز ، الذي تصرف كحاكم فعلي للبلاد ، تحت غطاء تنفيذ التنظيمات.
وكان اتفاق دول أوروبا على صيانة وحدة السلطنة الرسمية نابعا من تباينها بشأن اقتسام مناطق النفوذ في أراضيها. ولذلك ، فتلك الدول لم تكن معنية بترسيخ الحكم العثماني في الولايات ، وتثبيت مرتكزاته ، بل على العكس ، كثيرا ما عمدت إلى