إبراهيم إبراهيم بركات
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النشر للجامعات
الطبعة: ١
ISBN: 977-316-204-4
الصفحات: ٤٩٥
ومنه قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء : ٢] أى : مع أموالكم. وكقولهم : الذود إلى الذود إبل ، والقليل إلى القليل كثير (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢].
(٥) موافقة اللام :
يمكن أن يتم ذلك فى الأمثلة السابقة : فالقول أو أسلمها إلى عدوه ، فالتسليم تمليك يمكن أن تصحبه اللام ، وكذلك (ردهم إلى القرى) ؛ ولهذا رد بعضهم هذا المعنى.
وخير دليل على ذلك أنه يوجد بعض الأفعال صحبتها اللام مرة ، وصحبتها (إلى) أخرى ، مثل : قصدنا إلى المأثور. كان يقصد لتقبيح خطه ومنه كذلك (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) [النمل : ٣٣] ، وفى موضع آخر (لِلَّهِ الْأَمْرُ) [الروم : ٤] ، وقوله تعالى : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢] ، وفى موضع آخر : (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩].
(٦) موافقة (فى):
نحو : ودخل يحيى إلى منزله فلم يأذن له ، والدخول تغلغل وخلالية ، فيصحبه حرف الجر (فى) ، ويبدو ذلك فى قوله : يتغلغل عند الاحتجاج عنه إلى الغايات البعيدة والمعانى اللطيفة ، حيث يكون التغلغل فى الشىء ، ولكنه ورد مصحوبا بأداة الجر (إلى).
ويجعلون من هذا المعنى قوله تعالى : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨].
ولا يقول الجمهور به ، وإنما قال به الفراء (١) ، وربما كان من ذلك القول : والوليد إلى جنبىّ يسمع ، حيث تؤدى كلمة (جنبى) الظرفية المكانية دون اصطحاب الأداة (إلى).
__________________
(١) انظر : التسهيل ١٤٥.
وذكر النحاة معانى أخرى لحرف الجرّ (إلى) ، وهى : التبيين ، وموافقة (من) ، وموافقة (عند) (١) ، ولكن أكثر البصريين لم يثبتوا لها غير معنى انتهاء الغاية ، ويجعلون هذه الشواهد كلّها متأولة.
واختلف النحاة فى قضية دخول ما بعدها فيما قبلها على النحو الآتى :
ـ يذهب قوم إلى دخول ما بعدها فيما قبلها فى الحكم عند وجود قرينة.
ـ ويذهب آخرون إلى عدم دخول ما بعدها فيما قبلها.
ـ ويذهب آخرون إلى أنه إن كان من جنس الأول دخل معه فى الحكم. وإلا فلا ، وهذا عند عدم وجود قرينة.
ـ ويذهب المرادىّ وابن هشام إلى أن «إلى» يدخل ما بعدها فيما قبلها إذا عدمت القرينة ، لأن الأكثر فى وجود القرينة عدم الدخول فينبغى الحمل عليه عند التردد (٢).
على
اختلف النحاة فى حرفيتها ، فالمذهب المشهور للبصريين أنها حرف جر ، ولكن إذا دخل عليها حرف الجرّ صارت اسما بمعنى فوق (٣) ، وذهب بعضهم إلى أنها فى القول (هون عليك) اسم كذلك ، ونسب هذا إلى الأخفش (٤) ، وذهب الفارسى وابن طاهر وابن خروف وابن الطراوة والزبيدى وابن معزوز والشلوبين إلى أنها اسم ولا تكون حرفا (٥) ، ونسبوا ذلك إلى سيبويه ، وربما أخذوه من قوله : (وهو
__________________
(١) ويجعلون (إلى) التى تفيد التبيين هى المتعلقة فى تعجب أو تفضيل بحب أو بغض لتبيين فاعلية مصحوبها ، نحو : (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) [يوسف ٣٣] والتى تفيد (من) قاله الكوفيون والعتبى ، واستشهد له بقول ابن أحمر :
تقول وقد عاليت بالكور فوقها |
|
أيسقى فلا يروى إلىّ ابن أحمرا؟ |
(٢) انظر : مغنى اللبيب ١ ـ ٦٥ / الجنى الدانى ٣٨٥.
(٣) انظر : معانى الحروف ١٠٧ / مغنى اللبيب ١ ـ ١١٨ / الجنى الدّانى ٤٧٠ ، ٤٧١ / همع الهوامع ٢ ـ ٢٩.
(٤) انظر : مغنى اللبيب ١ ـ ١١٥ ، ١١٦ / الجنى الدانى ٤٧١ ، ٤٧٢.
(٥) انظر : الجنى الدانى ٤٧٣ / همع الهوامع ٣ ـ ٢٩.
اسم لا يكون إلا ظرفا ويدلّك على أنه اسم قول بعض العرب : نهض من عليه) (١) ، ولكنى أرى أن مقصود سيبويه أن هذا وجه آخر من أوجه (على) ، فإذا سبقت بحرف جر صارت اسما ، وهذا ما قال به الرمانى (٢) ، والزمخشرى (٣) ، ونرى أنهما قد أثبتا للأداة (على) الحرفية كما ذهب إلى ذلك سيبويه فى كتابه (٤) ، وقد ذكر ذلك صراحة فى باب الفاعل الذى يتعداه فعله إلى مفعولين ، فإن شئت اقتصرت على المفعول الأول ، وإن شئت تعدى إلى الثانى كما تعدى إلى الأول ، حيث ذكر سيبويه حذف (على) على أنها حرف من حروف الإضافة ، كما يسمى حروف الجر (٥) ، وهو يدخل على المظهر والمضمر.
وردت (على) حرف جر ليؤدى المعانى التالية من خلال السياق :
١ ـ الاستعلاء :
وهو أصل معانيها ، ولم يثبت أكثر البصريين لها إلا هذا المعنى ، وتأولوا ما كان غير ذلك (٦) ، والاستعلاء إما أن يكون حسيا ، نحو : فأعادوا على البيت بالهدم ، وكذلك : لا يقدر عليه إلا هو ، وإما أن يكون معنى ، نحو : أتم نعمته عليك ، وكذلك قوله : وصلواته على سيدنا محمد ونبيه. ومن الاستعلاء الحسى قوله تعالى : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون : ٢٢] ، ومن الاستعلاء المعنوى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٢٨] (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] استعلاء حسّى.
٢ ـ المجاوزة :
وذلك نحو : لا تزيد على ذلك ، والتقدير لا تزيد عن ذلك ، حيث تكون (على) بمعنى (عن) ، فتفيد مدلول المجاوزة. وكذلك الواقعة بعد الأفعال : خفى ، وتعذر ، واستحال ، وغضب ، ورضى وأشباهها.
__________________
(١) الكتاب : ٤ ـ ٢٣١.
(٢) انظر : معانى الحروف ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩.
(٣) انظر : المفصل ٢٨٨.
(٤) انظر : الكتاب ٤ ـ ٢٣٠ ، ٣٢١.
(٥) انظر : الكتاب ١ ـ ٣٧ ، ٣٨.
(٦) انظر : المراجع السابقة / التسهيل : ١٤٦ / الإتقان ٢ ـ ٢٣٧ ـ ٢٣٩ / شرح ابن عقيل ١ ـ ٢٠٧ ، ٢٠٨.
ويجعلون منه قول القحيف العامرى :
إذا رضيت علىّ بنو قشير |
|
لعمر الله أعجبنى رضاها (١) |
(٣) التعليل :
نحو : وعاقبا عليه ، إذ المعنى : وعاقبا بسببه ، فأفاد حرف الجر (على) السببية ، ويبدو ذلك فى قوله : لن يرى أن موحّدا يقدم على قتل من كان فى مثله ، والتقدير لقتلة ، إذ الإقدام لسبب القتل ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] ، أى : لهدايته إياكم.
٤ ـ الظرفية :
نحو : شربهم الشراب على مقاعدهم ، فالمجرور (مقاعد) اسم مكان فدل حرف الجر (على) على الظرفية المكانية ، ومنه قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) [القصص : ١٥]. وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ،) [البقرة : ١٠٢] ، أى : فى زمن ملكه.
٥ ـ أن تزاد عوضا :
نحو : وعقاب الآخرة عليه أشدّ ، أراد (أشد عليه) ، فزادت (على) قبل (أشد) عوضا عما هو محذوف بعد (أشد) (٢) ، ولكن هذا من قبيل التقديم للاهتمام والتخصيص.
٦ ـ أن تزاد دون تعويض :
يقول ابن مالك : وقد تزاد دون تعويض (٣) ، ويبدو ذلك فى القول : ولكن الناس كانوا على طبقات مختلفة ومراتب متباينة ؛ إذ التقدير : كانوا طبقات مختلفة ، فزيدت (على) دون تعويض ، ومثل ذلك القول : ومن شادّ على عضده ، أى ومن شادّ عضده.
__________________
(١) المساعد ٢ ـ ٢٦٩ / العينى على الأشمونى ٢ ـ ٢٢٢.
(٢) انظر : الكتاب : ٣ ـ ٨٢ / مغنى اللبيب ١ ـ ٢٢٧ / الجنى الدانى ٤٧٨ / شرح التصريح ٢ ـ ١٥.
(٣) التسهيل : ١٤٦.
٧ ـ موافقة اللام :
نحو : ولم يكن مذهبه التوفير على الأسرة ، أى : التوفير للأسرة ، فوافقت (على) معنى (اللام) فى هذا الموضع.
وذكر النحاة كذلك لحرف الجرّ (إلى) المعانى : أن تكون للاستدراك والإضراب ، أن توافق (من) ، أن توافق (الباء) والمصاحبة (١).
وقد تؤدى (إلى) المعانى الآتية :
٨ ـ موافقة إلى :
نحو : فأبوا إلا قتله والنزول على حكمهم ، أى : والنزول إلى حكمهم ، ويتضح ذلك فى القول : دخل عليه رجل كان له جارا ... ، وكذلك : أقبل الرجل على أبى محمود.
٩ ـ بمعنى حول :
ويتضح ذلك فى قوله : وكنت أنا وأبا إسحاق إبراهيم بن سيار النظام وقطرب النحوى وأبو الفتح مؤدب منصور بن زياد على خوان فلان ابن فلان ، أى : حول خوان فلان .. فأدى حرف الجر (على) معنى (حول). ومثله : كنا جالسين إلى الطعام ، أى : حول الطعام.
١٠ ـ أن تؤدى معنى الحالية :
وذلك نحو : ولما كنا عندهم على غير هذه الصفة ، أى : حالنا غير هذه الصفة ، وكذلك قوله : دمت على إطعامهم ، أى على حال طعامهم ، أو مطعما إياهم.
__________________
(١) يجعلون من موافقتها (من) قوله تعالى : (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) [المطففين : ٢] ، أى : من الناس. ومن موافقتها للباء قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ). [الأعراف : ١٠٥] ، أى بألا أقول.
ومن موافقتها معنى المصاحبة تخريجهم لقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] وقوله تعالى : (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦].
الكاف (١)
اتفق النحاة على أن الكاف جارة لما بعدها إذا كانت عاملة ، وجعلها سيبويه كاف الجر ، ولكنهم اختلفوا فى حرفيتها ، فيذهب سيبويه إلى أن كاف التشبيه حرف ، ولا تكون اسما إلا فى ضرورة الشعر ، حيث يقول : «واعلم أنه لا يكون اسم مظهر على حرف أبدا ؛ لأن المظهر يسكت عنده ، وليس قبله شىء ، ولا يلحق به شىء ، ولا يوصل إلى ذلك بحرف» (٢) ، أما مذهب الأخفش والفارسى وكثير من النحويين أنه يجوز أن تكون حرفا واسما فى الاختيار (٣) ، أما أبو جعفر بن مضاء فقد قال باسميتها أبدا ؛ لأنها بمعنى (مثل) (٤) ، وجعل النحاة (الكاف) إذا وقعت زائدة حرفا أبدا ، وكذلك إذا وقعت أول كافين ، ولكن سيبويه يرى أن بعضهم جعلها اسما لأنها فى معنى (مثل) فى هذا الموضع (٥) ، وذكر الرمانى أن الكاف الواقعة مع مجرورها صلة تكون حرفا (٦) ، وذكر ابن مالك ذلك (٧).
وذكر النحاة (٨) أنها تكون اسما إذا جرت بحرف جر ، أو أضيف إليها ، أو وقعت فاعلة ، أو وقعت مبتدأ ، أو وقعت اسما لكان ، أو وقعت مفعولة ، ومن النحاة من تأول كلّ ما سبق على حذف الموصوف ، وهذا ما أذهب إليه.
والكاف لا تدخل إلا على الظاهر ، فهى على الأرجح لا تدخل على المضمر إلا إذا كان شذوذا.
__________________
(١) انظر : معانى الحروف : ٤٧ / المفصل : ٢٨٩ / التسهيل ١٤٧ / رصف المبانى ٣٨٨ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٣٩ / الجنى الدانى ٧٨ / همع الهوامع : ٢ ـ ٣٠ / شرح التصريح ٢ ـ ١٦ / شرح ابن عقيل ١ ـ ٢٠٧.
(٢) الكتاب ٤ ـ ٢١٨.
(٣) انظر : سر صناعة الإعراب ١ ـ ٢٩٠ ، ٢٩١ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٤٢ / الجنى الدانى ٢٩ / همع الهوامع ٢ ـ ٣١.
(٤) المواضع السابقة.
(٥) انظر : الكتاب ١ ـ ٣٢.
(٦) انظر : معانى الحروف ٤٨ / الجنى الدانى ٨١.
(٧) انظر : التسهيل ١٤٧.
(٨) انظر : المراجع السابقة.
ووردت الكاف حرف جرّ لتؤدى الدلالات الآتية :
التشبيه :
وهذا أصل معانيها ، ولم يثبت أكثر النحاة لها غير ذلك ، وتبدو هذه الدلالة فى القول : حتى تصير الشمس على الجدران كالملاء الأصفر ، فالشمس على الجدران شبيهة بالملاء الأصفر.
وذكر النحاة أنها تكون للتعليل ، والاستعلاء ، والمبادرة ، والتوكيد (١).
رب (٢)
تفيد التكثير ، وفاقا لسيبويه ، والتقليل بها نادر ، ولكن المرادى يرجح كونها للتقليل ، إن جرّت ظاهرا فلا يكون إلا نكرة موصوفة ، وهذا ما ذهب إليه المبرد وابن السراج والفارسى وأكثر المتأخرين ، وذهب الأخفش والفراء والزجاج وابن طاهر وابن خروف إلى أنه لا يلزم وصف مجرورها ، وهو ظاهر مذهب سيبويه (٣) ، واختاره ابن عصفور (٤) ، ونقله ابن هشام (٥) عن المبرد ، والأرجح وصف مجرورها ، وكونها للتقليل ، فهى نقيضة (كم) فى التكثير ، ولذا وجب أن يكون لها الصدارة مثلها.
ولا تدخل (ربّ) إلا على اسم ، وتتصدر بها الجملة ، فيكون مجرورها مبتدأ ؛ لأنه حرف جر شبيه بالزائد.
__________________
(١) من موافقتها (على) حكاية الفراء : كيف أصبحت؟ فقال : كخير ، أى : على خير. وخرّج الأخفش على هذا قولهم : كن كما أنت. أى : كن على الحال الذى أنت عليه.
ومن زيادتها قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، والتقدير : ليس مثله شىء.
(٢) انظر : الكتاب ٤ ـ ٢٢٤ / معانى الحروف ١٠٦ ، ١٠٧ / المفصل ٢٥٦ / المقرب ١ ـ ١٩٨ / رصف المبانى ١٨٨ / التسهيل ١٤٧ ، ١٤٨ / مغنى اللبيب ٢ ـ ١٠٩ ، ١١٢ / الجنى الدانى ٤٣٨ ـ ٤٥٨ / همع الهوامع : ٢ ـ ٢٥ ، ٢٨ / شرح التصريح ٢٠ ـ ٢٢.
(٣) انظر : الجنى الدانى ٤٥٠ ، ٤٥١.
(٤) المقرب ١ ـ ١٩٩.
(٥) انظر : مغنى اللبيب ١ ـ ١١١.
وردت على هذا النحو فى القول : ربّ كلمة لا توضع إلّا على معناها كالحزم والعلم ، حيث ورد مجرور (رب) وهو (كلمة) نكرة موصوفة بالجملة الفعلية (لا توضع) ، وتكون فى محل جر على اللفظ ، وفى محل رفع على المحل.
من خصائص (رب) أن صفة الاسم المجرور بها إذا كانت فعلا لزم أن يكون ماضيا أو للحال ، تقول : ربّ رجل لقيته (١) ، حيث (لقيته) جملة فعلية فى محل جر ، نعت لمجرور (رب) على اللفظ ، أو فى محل رفع ، نعت على المحلّ ، وتقول : ربّ صديق أعاشره ، فالجملة الفعلية (أعاشره) نعت لمجرور (رب) وهو صديق ، وفعل النعت الأول ماض ، وفعل النعت الثانى مضارع.
ومنه كذلك : ربّ كلمة تغنى عن خطبة ، وتنوب عن رسالة ، بل ربّ كناية تربى عن إفصاح ، ورب رجل كريم لم أفارقه. وقول رجل من أزد السراة :
ألا ربّ مولود وليس له أب |
|
وذى ولد لم يلده أبوان (٢) |
يفهم التكثير منها فى قوله عليه السّلام : «يا رب كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة» (٣).
ومجرور (رب) يكون مبتدأ دائما ، فهو مجرور لفظا مرفوع محلا.
وإن كان مجرورها ضميرا فلا يكون إلا ضمير غائب مفرد مذكر ، وربما يراد به المفرد المذكر وغيره ، ويجب أن يفسر بنكرة بعده تطابق المعنى المراد ، وتنصب على التمييز ، فتقول : ربّه رجلا ، أو رجلين ، أو رجالا ، أو امرأة ، أو امرأتين ، أو نساء ، ولكن الكوفيين يذهبون إلى مطابقة التمييز والضمير فى العدد والنوع ، فيقول : ربه رجلا ، ربهما رجلين ، ربهم رجالا ، ربها امرأة ، ربهما امرأتين ، ربهن نساء.
ويستغنى بدلالة الإضمار على التفخيم عن ذكر الوصف ، كما هو فى قول الشاعر :
ربه فتية دعوت إلى ما |
|
يورث الحمد دائما فأجابوا (٤) |
__________________
(١) ينظر : الهادى فى الإعراب ١٠٦.
(٢) ينظر : شرح المفصل ١٠ ـ ١٢٦ / المغرب ١ ـ ١٩٩ / أوضح المسالك ٢ ـ ١٤٥.
(٣) ينظر : البخارى ، كتاب التهجد.
(٤) ينظر : المساعد ٢ ـ ٢٩١ / المغنى ٢ ـ ٤٩١ / الدرر ٢ ـ ٢٠ ، ٢١.
ما يعطف على المجرور برب يلزم تنكيره ، فيقول : ربّ رجل وامرأة رأيت.
وربما عطف عليه بما هو مضاف إلى ضميره ، فيقول : رب صديق وأخيه زارنى.
ومن خصائصها أن الفعل الذى يتعلق بها يجب أن يكون ماضيا ، ومذهب الجمهور أنها تتعلق بالفعل كسائر حروف الجر ، إلا أن بعضهم ذهب إلى عدم تعلقها بشىء (١).
وقد تزاد (ما) بعدها كافة وغير كافة ، فتدخل حينئذ على الاسم والفعل ، وقد ترد وقد تلاها الفعل الماضى ، وكفّت بما ، كما هو فى القول : وكانوا ربما خصّوه فوضعوا بين يديه الدجاجة السمينة ، وكذلك : وربما ألفت الكتاب الذى أراده غيرى.
ومنه قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢]. حيث ألحقت (ما) برب فهيّأتها للدخول على الجملة الفعلية (يودّ الذين).
وقد تحتسب (ما) زائدة غير كافة فيجرّ ما بعد ربّ من اسم ، كما هو فى قول عدى الغسانى :
ربما ضربة بسيف صقيل |
|
بين بصرى وطعنة نجلاء (٢) |
حيث ألحقت (ما) بالحرف (ربّ) لكن الاسم الذى تلاه مجرور ، بما يدلّ على أن (ما) زائدة ، وليست كافة. ومنه كذلك قول ضمرة بن ضمرة النهشلى :
ماوىّ يا ربّتما غارة |
|
شعواء كاللّذعة بالميسم (٣) |
ومن مجىء مجرورها غير موصوف قول هند :
يا ربّ قائلة غدا |
|
يا لهف أمّ معاوية (٤) |
__________________
(١) ينظر : الجنى الدانى ٤٥٣.
(٢) الرضى على الكافية ٢ ـ ٣٣٢ / الجنى الدانى ٤٥٦ / المغنى ١ ـ ١٣٧ / شرح التصريح ٢ ـ ٢١ / الأشمونى ٢ ـ ٢٣١ / الفوائد الضيائية ٢ ـ ٣٢٨ / الخزانة ٤ ـ ١٨٧.
(٣) ينظر : النوادر فى اللغة ٢٥٣ / الهادى فى الإعراب ١٠٧ / الخزانة ٩ ـ ٣٨٤ ، ١١ ـ ١٩٦.
(٤) ينظر : المساعد ٢ ـ ٢٨٦ / شواهد المغنى ١ ـ ١٣٧ / الهمع ٢ ـ ٢٨ / الدرر ٢ ـ ٢٢ / الدر المصون ٤ ـ ٢٨٦.
ومن مجىء مجرورها بالمستقبل دون الماضى والحال قول جحدر بن مالك :
فإن أهلك فربّ فتى سيبكى |
|
على مهذّب رخص البنان (١) |
حيث الجملة الفعلية (سيبكى) نعت لمجرور (رب) فتى ، وهى مصدرة بحرف الاستقبال ، مثل ذلك قول هند السابق.
وفيها لغات منها : ربّ (بضم الراء وتشديد الباء ، وقد تخفف الباء بالفتح أو الضمّ أو السكون) ، وربّ (بفتح الراء وتشديد الباء ، وقد تخفف) ، وقد تلحق بها تاء التأنيث المشددة والمخففة. هذا إلى جانب إلحاق (ما) بها بلغاتها.
خلا وعدا (٢)
من الألفاط المشتركة بين الفعلية والحرفية ، فيكونان حرفين من حروف الجر ، كما يكونان فعلين متعديين ، وهما فى الحالين يفيدان الاستثناء.
فإذا كانا حرفين جرّا الاسم المستثنى بهما ، فيقال : ذاكرت الدروس عدا اثنين ، وقرأت الموضوعات خلا واحد ، فيكون المستثنيان (اثنين ، واحد) مجرورين بحرفى الجرّ (عدا ، وخلا). وإذا كانا فعلين نصبا ما بعدهما ، فعلى هذا يكون ما بعدهما مفعولين منصوبين.
وتتعين فعليتهما إذا سبقا بـ (ما) المصدرية ، نحو : استلمت الكتب ما خلا كتابين ، حضر الطلاب ما عدا واحدا. فيكون المستثنيان (كتابين ، وواحدا) مفعولين منصوبين. ذلك لأن (ما) المصدرية لا توصل بحرف الجر ، وإنما توصل بالفعل.
وذهب بعض النحاة (الجرمى والكسائى والفارسى فى أحد قواله ، والربعى) إلى جواز الجر بها بعد (ما) ، وتكون (ما) حينئذ زائدة لا مصدرية.
إذا استثنى بهما ضمير المتكلم وقصد الجر لم يؤت بنون الوقاية ، فيقال : خلاى ، عداى. مثل : إلىّ ، وعلىّ.
__________________
(١) ينظر : المساعد ٢ ـ ٢٨٧ / شواهد المغنى ١ ـ ١٣٧ / البحر المحيط ٥ ـ ٤٤٤ / الدر المصون ٤ ـ ٢٨٦.
(٢) ينظر : معانى الحروف ١٠٦ ، الجنى الدانى ٤٣٦ ، ٤٦١ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٠٩ ، ١١٥.
وإذا قصد النصب أتى بالنون ، فيقال : خلانى ، وعدانى ، مثل : علانى ، ورمانى.
إعرابهما :
فى حال الجر : إذا جرت (خلا وعدا) فإنهما فى موضع نصب عن تمام الكلام ، وقيل : تتعلقان مع مجرورهما بالفعل أو بمعناه كسائر حروف الجرّ.
فى حال النصب : إذا نصبت (خلا وعدا) فإن السيرافى يرى أن جملتهما فى محلّ نصب على الحال ، والتقدير : خالين درسا ، أو عادين درسا ، كما أجازا ألا يكون لهما موضع من الإعراب ، وصححه ابن عصفور.
وإذا سبقتا بـ (ما) المصدرية ، فـ (ما) والفعل فى موضع نصب على أنه مصدر موضوع موضع الحال ، كما يذهب إليه السيرافى.
وذهب آخرون (ابن خروف) إلى انتصابه على الاستثناء كانتصاب (غير) فى قولك : قام القوم غير زيد.
وقيل : منصوب على الظرفية ، و (ما) مصدرية ظرفية على تقدير : وقت خلوّهم .. ودخلهما معنى الاستثناء ، ويذكر أن حرفية (عدا) قليلة ، وحكاها غير سيبويه (١).
حاشا (٢)
من الألفاظ المشتركة بين الفعلية والحرفية والاسمية ، فلها ثلاثة أقسام :
الأول : أن تكون فعلا ماضيا ، مضارعها (أحاشى) بمعنى أستثنى ، ومنه قول النابغة :
ولا أرى فاعلا فى الناس يشبهه |
|
ولا أحاشى من الأقوام من أحد (٣) |
__________________
(١) الجنى الدّانى ، ٤٦١.
(٢) ينظر : معانى الحروف للرمانى ١١٨ / الجنى الدانى ٥٥٨ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٠١.
(٣) ديوانه ١٣ / شرح شواهد المغنى ٣٦٨ / الخزانة ٣ ـ ٤٤.
الثانى : أن تكون للتنزيه ، كقولك : حاشا لله ، وحاشا لفلان ، وهو ليس حرفا ، وإنما اختلفوا بين فعليتها واسميتها.
فذهب المبرد والكوفيون وابن جنى وغيره إلى أنها فعل ، ومنه قوله تعالى : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) [يوسف : ٣١].
ويستدلون على فعليتها بدخولها على الحرف ، وبالتصرف فيها بالحذف.
واختلفوا فى الفاعل حينئذ ، فذهب بعضهم إلى أنه ضمير يعود على (يوسف) عليه السّلام ، وذهب الفراء إلى أنه فعل لا فاعل له.
وذهب الزجاج وابن مالك إلى أنه اسم منتصب انتصاب المصدر الواقع بدلا من فعله ، فتقدير حاشا لله : تنزيها لله ، ويستدل أصحاب هذا الاتجاه بقراءة أبىّ : «حاشا لله» بالتنوين ، وقراءة ابن مسعود (حاشا الله) بالإضافة ، والأول كالقول : رعيا لزيد ، والثانى كالقول : سبحان الله ، ومعاذ الله.
وذكر الزمخشرى (١) أن قولهم : حاشا لله بمعنى : براءة لله من السوء.
ويذهب ابن مالك إلى أن ترك التنوين فى القراءة فى (حاشا) بسبب بنائها لشبهها بحاشا الذى هو حرف ، فقد شابهه لفظا فجرى مجراه فى البناء.
الثالث : أن تكون من أدوات الاستثناء ، وفيه ثلاثة مذاهب :
أولها : أن تكون حرفا خافضا دالا على الاستثناء كـ (إلا) ، وهو مذهب سيبويه وأكثر البصريين.
ثانيها : أن تكون بمنزلة (خلا وعدا) ، تجر إذا كانت حرفا ، وتنصب إذا قدرت فعلا ، وهو مذهب الجرمى والمازنى والمبرد والزجاج ، وإليه يذهب أكثر النحاة ويصححونه ، كما حكى النصب به كثير من اللغويين.
ثالثا : أنها فعل لا فاعل له ، وإذا خفض الاسم بعدها فإنه يكون مخفوضا بلام مقدرة ، وهو ما ذهب إليه الفراء.
__________________
(١) ينظر : المفصل ١٣٤ / شرح ابن يعيش ٨ / ٤٧.
أما الكلام على ما يتعلق بها حال جرها ، وعلى محل جملتها حال نصبها فهو كما ذكرنا فى (خلا وعدا).
ولننبه إلى أن :
ـ الجر بحاشا أكثر من الجر بعدا وخلا.
ـ لا يسبق حاشا بـ (ما) المصدرية.
أما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم : «أسامة أحبّ الناس إلىّ ما حاشا فاطمة» فـ (ما) نافية ، أى أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستثن فاطمة.
ـ إذا جر بها ضمير المتكلم قيل : حاشاى بدون نون الوقاية ، وإذا نصب بها أتى بنون الوقاية فقيل : حاشانى ، وقد قال الأقيشر :
فى فتية جعلوا الصّليب إلههم |
|
حاشاى أنى مسلم معذور (١) |
ـ إذا نصب بها فهى فعل غير متصرف ؛ لأنها واقع موقع (إلا) ومؤدّية معناها ، وهى فى ذلك مثل : عدا ، وخلا ، أما (أحاشى) فهو مضارع (حاشا) بمعنى أستثنى.
ـ فى (حاشا) لغتان : إثبات الألفين ، وحذف الأولى (حشا) ، وهناك ثالثة فى التى للتنزيه ، وهى حذف الألف الثانية (حاش) ، وزاد ابن مالك إسكان الشين (٢).
كى
يجعل بعض النحاة (كى) فى بعض مواضعها بمعنى (كيف) ، وهذه تكون اسما (٣).
أما الاستعمال الغالب لـ (كى) فهو الحرفية ، وتكون حرفا فى قسمين :
__________________
(١) وينظر : أوضح المسالك : ١ ـ ٨٥ / الدرر ١ ـ ١٩٧.
(٢) ينظر : التسهيل ١٠٦.
(٣) ينظر : الجنى الدانى ٢٦٥ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٤٤.
أولهما : أن تكون حرف جرّ للتعليل ، وحينئذ تجر ثلاثة أشياء :
ـ المصدر المنسبك من (ما) والفعل ، كقول الشاعر (١) :
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنما |
|
يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع |
ـ المصدر المنسبك من (أن) والفعل ، ظاهرة أو مقدرة ، ومنه قول جميل بثينة :
فقالت أكلّ الناس أصبحت مانحا |
|
لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا (٢) |
والمقدرة نحو : جئت كى تكرمنى ، أى : كى أن تكرمنى ، أو : لكى تكرمنى.
ـ (ما) الاستفهامية ، نحو السؤال : : كيمه؟ بمعنى : لمه؟
ثانيهما : أن تكون حرفا مصدريا ، وذلك حينما تسبق بلام التعليل لفظا أو تقديرا.
ف (كى) تأتى فى اللغة فى الصور الآتية :
كى+ اللام ، وهى تعليلية جارة. نحو : جئت كى لأستمع إليك.
حيث (كى) حرف تعليل جار مبنى لا محل له من الإعراب ، واللام زائدة لتوكيد التعليل ، وأستمع فعل مضارع منصوب بعد أن ، وعلامة نصبه الفتحة بعد أن المضمرة ، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا ، والمصدر المؤول فى محلّ جرّ بكى.
اللام+ كى ، وهى مصدرية ناصبة. نحو فهمت لكى أشرح لغيرى.
اللام حرف جر للتعليل ، وكى حرف مصدرى مبنى لا محل له من الإعراب ، والمصدر المؤول مجرور باللام ، ومنه قوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) [الحديد : ٢٣].
__________________
(١) ينسب إلى الأعلى بن عبد الله ، ونسب إلى النابغة الذبيانى ، والنابغة الجعدى ، وقيس بن الخطيم. ينظر :الجنى الدانى ٢٦٢ / الأشمونى على ألفية ابن مالك ٢ ـ ٢٠٤ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٤٤ / الخزانة ٣ ـ ٥٩١ / ديوان قيس بن الخطيم / ١٧٠ / ديوان النابغة الجعدى : ٢٤٦.
(٢) ديوانه ١٢٥ / الجنى الدانى ٢٦٢ / مغنى اللبيب ١ ـ ١٤٤ / شرح المفصل ٩ ـ ١٤ / أوضح المسالك ٢ ـ ١٢١ / الهمع ٥٠٢.
كى+ أن ، وهى تعليلية جارة. نحو : أسرعت كى أن أحضر من البداية.
كى حرف تعليل مبنى ، وأن حرف مصدر مبنى ، والفعل منصوب بأن ، والمصدر المؤول فى محل جر بكى.
كى ، تحتمل أن تكون جارة وأن تكون ناصبة ، نحو انطلقت كى ألحق به.
(كى) حرف جر مبنى ، والفعل منصوب بأن مضمرة ، والمصدر المؤول فى محل جر بكى ، أو لام التعليل الجارة محذوفة ، و (كى) حرف مصدرى ، والفعل المضارع منصوب بكى ، والمصدر المؤول فى محل جر باللام المحذوفة أو فى محل نصب على إسقاط الخافض.
اللام+ كى+ أن ، تحتمل أن تكون جارة ، وأن تكون ناصبة ، نحو :
قرأت الدرس جيدا لكى أن أستوعبه. (اللام) حرف جر مبنى لا محل له من الإعراب ، وكى مصدرية ، وأن زائدة لتأكيد المصدرية ، وأستوعب مضارع منصوب بكى ، أو : كى حرف زائد لتأكيد التعليل ، وأن مصدرية ، والفعل المضارع منصوب بأن.
حتى
(حتى) من حروف الجرّ فى بعض أقسامه ، سواء وقع بعده اسم أم فعل ، وهى تفيد معنى انتهاء الغاية ، فإذا وقع بعدها فعل وهى جارة فإن الفعل يكون مصدرا مؤولا ، وذلك بإضمار (أن) المصدرية قبل الفعل.
الجانب الدلالىّ لـ (حتّى) التى تضفيه على ما قبلها وما بعدها يرتبط بخصائص التركيب الذى يتضمنها ، فقد يقع بعدها كلمة إما اسم وإما فعل ، أو جملة إما اسمية وإما فعلية ، ذلك على النحو التالى من التراكيب :
أ ـ إذا وقع بعد (حتى) اسم :
إذا وقع بعد حتى اسم فإننا نكون أمام أربعة احتمالات :
الأول : ألا يكون ما بعد (حتى) جزءا مما قبلها ، فلا يجوز ـ حينئذ ـ أن يقع الفعل الذى يسبقها على ما بعدها وقوع الإشراك أو الإتباع ؛ لأن معموله الذى يسبقها لا يتضمن ما تلاها ، فتتعلق مع ما بعدها بالفعل الذى سبقها تعلق شبه الجملة بالعامل ، فتكون جارة ، والتقدير فيها : (إلى). وكأن الغاية منتهية عند أول ما بعدها ، ولهذا لم يدخل. مثل ذلك : سرت حتى مغيب الشمس ، أى : إلى مغيب ، فمغيب مجرور بحرف الغاية والجر حتى ، ولم يقع السير ـ حينئذ ـ فى المغيب ، فغايته انتهت عند أول المغيب. ومنه قوله تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر : ٥] ، حيث ما بعد (حتى) غير داخل فى معنى ما قبلها ، فتكون (حتى) بمعنى (إلى) ، وكأن الغاية تنتهى عند ابتداء ما بعدها ، فيجر الاسم (مطلع) بحرف الجر (حتى) ، وتكون علامة جره الكسرة.
الثانى : أن يكون ما بعد (حتى) جزءا مما قبلها ، أى : من جنسه ، لكنه ليس داخلا فيما دخل فيه من معنى بوجود قرينة تدلّ على ذلك ـ حينئذ ـ لا يكون ما بعدها واقعا فيما وقع فيه ما قبلها ، فلا يكون بينهما إشراك أو إتباع ، وكأن الغاية منتهية عند أول ما بعدها فلا يدخل فيما بعدها ، فتكون (حتى) بمعنى (إلى) ، وتجرّ ما بعدها. مثل ذلك : صمت الأيام حتى يوم الفطر ، أى : إلى يوم الفطر ، فيوم مجرور بحرف الغاية والجرّ (حتى) ، ولم يقع الصوم فى يوم الفطر ، وتكون غاية الصيام قد انتهت عند أول يوم الفطر ، والقرينة أن الصوم محرم يومى العيدين.
ومما خرج مما قبلها ـ وهو من جنسه ـ لوجود قرينة قول الشاعر :
سقى الحيا الأرض حتى أمكن عزيت |
|
لهم فلا زال عنها الخير محدودا (١) |
فما بعد (حتى) مجرور بها ، وهى بمعنى (إلى) ، وهو خارج مما قبلها ـ على الرغم من أنه من جنسه ـ وذلك لوجود قرينة ، وهى دعاء الشاعر على ما بعد حتى بانقطاع الخير أو محدوديته.
__________________
(١) المساعد ٢ ـ ٢٧٢ / المغنى ١ ـ ١٢٤ / الأشمونى مع الصبان ٢ ـ ٢١٤ / الدرر ٢ ـ / ١٧ وفى البيت رواية : مجدودا ، ومجذوذا ، وهو يعنى الانقطاع ، والحيا : المطر ، وقد يمدّ.
الثالث : أن يكون ما بعد (حتى) جزءا مما قبلها ، أى : من جنسه ، وهو داخل فيما دخل فيه ما سبقها الذى يتضمنه ، سواء أكان هناك قرينة سياقية تدل على الاشتراك ، أم لم يكن هناك قرينة تدل على عدم الدخول والاشتراك ، فيكون ما بعدها تابعا لما قبلها ومشتركا معه ، وتكون (حتى) بمعنى الواو ، وكأن انتهاء الغاية تضمن ما بعدها ، فلا تنتهى الغاية إلا به.
ومثل ذلك أن تقول : صمت الأيام حتى يوم الخميس ، والتقدير : صمت الأيام ويوم الخميس ، فيكون (يوم) داخلا فيما دخل فيه الأيام من معنى الصيام ، وكأن الغاية لا تنتهى إلا بما بعدها ، وهو صيام يوم الخميس.
ومنه : مات الناس حتى الأنبياء ، (الأنبياء) اسم معطوف على الناس مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة ، ومنه : قدم الحجاج حتى المشاة ، ومنه القول : قرأت القرآن من أوله حتى آخره.
الرابع : أن يكون ما بعد (حتى) اسما يمثل جملة ، حينئذ تكون (حتى) ابتدائية ، ويكون ما بعدها كلاما مبتدأ به ، فهو جملة لا محل لها من الإعراب ، حيث لا يقع المفرد موقعها. مثل ذلك قول امرئ القيس :
مطوت بهم حتى تكلّ مطيّهم |
|
وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (١) |
الجملة الاسمية (الجياد ما يقدن) جملة ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها وقعت بعد حتى الابتدائية.
وقول جرير :
وما زالت القتلى تمور دماؤها |
|
بدجلة حتى ماء دجلة أشكل (٢) |
حيث (حتى) ابتدائية ، ذكر بعدها الجملة الاسمية (ماء دجلة أشكل) ، فتكون لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها جملة ابتدائية.
__________________
(١) ينظر : ديوانه ٩٣ / الكتاب : ٣ ـ ٢٧ ، ٦٢٦ / المقتضب ٢ ـ ٣٩ / التبصرة والتذكرة ١ ـ ٤٢٠ / الهادى فى الإعراب ١١١ / شرح المفصل لابن يعيش ٨ ـ ١٩ / البسيط فى شرح جمل الزجاجى ٢ ـ ٩٠٤.
(٢) ينظر : ديوانه ١ ـ ١٤٣ / الهادى فى الإعراب ١١١ / خزانة الأدب ٩ ـ ٤٧٧. (أشكل : أبيض تخالطه حمرة ، وفى رواية : سريت بهم.
يذكر ابن القبيصى (١) أن هذه المعانى الثلاثة قد اجتمعت فى قول الشاعر :
ألقى الصحيفة كى يخفّف رحله |
|
والزّاد حتى نعله ألقاها |
حيث يروى (نعله) بالجرّ على أن (حتى) بمعنى (إلى) ، وتكون الجملة الفعلية (ألقاها) فى محلّ نصب على الحالية.
ويروى بالنصب على أن (حتى) بمعنى الواو ، ويكون (نعل) معطوفا على المفعول به (الزاد) ، وتكون الجملة الفعلية فى محلّ نصب على الحالية ، والهاء فى (ألقاها) للفعل أو الصحيفة أو الثلاثة ، ويجوز أن تجعل جملة (ألقاها) توكيدا.
ويجوز النصب على الاشتغال ، و (حتى) ابتدائية ، وتكون الهاء فى (ألقاها) للنعل.
ويروى بالرفع على أن (حتى) ابتدائية ، فيكون (نعله) مرفوعا على الابتدائية ، وجملة (ألقاها) فى محل رفع على الخبرية.
نلحظ أن ما بعد (حتى) داخل فيما قبلها بوجود القرينة ، وهو جملة (ألقاها) ، أى : النعل داخل فيما يثقله.
ومما روى بالأوجه الثلاثة قول الشاعر :
عممتهم بالنّدى حتى غواتهم |
|
فكنت مالك ذى غىّ وذى رشد |
(غواتهم) بالجرّ على أنه مجرور بحرف الجر (حتى) ، وبالنصب بالعطف على المفعول به ضمير الغائبين المتصل (هم) فى (عممتهم) ، و (حتى) تكون معطوفة ، وبالرفع على الابتداء ، والكوفيون يذهبون إلى أن الرفع فى مثل هذا جائز بدون ذكر الخبر ، لكن البصريين يرون أنه لا بدّ من ذكر الخبر.
ومنه المثل المشهور : أكلت السمكة حتى رأسها. بالخفض على معنى (إلى) فتكون (حتى) حرف جرّ ، والتقدير : إلى رأسها ، وبالنصب على معنى الواو ، والتقدير : ورأسها ، فتكون (رأس) منصوبة بالعطف على المفعول به المنصوب (السمكة) ، وبالرفع على الابتداء ، فتكون (حتى) حرف ابتداء مبنيا ، ورأس مبتدأ مرفوع ، وخبره محذوف.
__________________
(١) ينظر : الهادى فى الإعراب ١١ ، ١١٢.
ب ـ إذا وقع بعدها فعل :
إذا وقع بعد (حتى) فعل فإنه يعامل حسب معناه الزمنىّ بالنسبة لما قبلها ، فهو إما أن يكون زمنه ماضيا ، وإما أن يكون حالا ، وإما أن يكون مستقبلا. وهو فى هذا المعنى يمثل أربعة احتمالات :
أولها : أن يقع بعد (حتى) فعل مضارع زمنه للمستقبل ، وما بعدها غاية لما قبلها ، فتقدر بمعنى (إلى أن) ؛ لأن الغاية تنتهى عند بداية ما بعدها ـ حينئذ ـ والمضارع المستقبلىّ الزمن يكون منصوبا دائما.
مثل ذلك : لأنتظرنّه حتى يقدم إلىّ ، فالقدوم نهاية غاية الانتظار ، كما أنه مضارع زمنه فى المستقبل بالنسبة لما قبله ، فتكون (حتى) على تقدير : إلى أن ، أى : إلى أن يقدم ، و (يقدم) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد (حتى) ، والمصدر المؤول (أن يقدم) مجرور بحرف الجرّ (حتى) ، وشبه الجملة متعلقة بالانتظار.
ومنه : أسير حتى تطلع الشمس.
ثانيها : أن يقع بعد (حتى) فعل مضارع زمنه للمستقبل ، وما بعدها تعليل لما قبلها ، فتقدر (حتى) بمعنى (كى) التى هى للتعليل ، ويضمر بعدها (أن) ، والغاية تنتهى عند بداية ما بعدها ، وينصب الفعل المضارع بعدها.
مثل ذلك أن تقول : أطع الله حتى يدخلك الجنة ، والتقدير : كى يدخلك ، فالغاية تنتهى عند الدخول ، وهى علة الطاعة التى تسبق (حتى) ، وما بعد (حتى) لم يكن. ينصب الفعل (يدخل) بعدها بأن مضمرة ، ويكون المصدر المؤول فى محلّ جرّ بحتى ، وشبه الجملة متعلقة بالإطاعة.
ثالثها : أن يقع بعد (حتى) فعل مضارع ، زمنه للحال ، فلا يجوز فيه النصب ، لأنّ النصب للاستقبال ـ وحينئذ ـ يلتمس فيها وجهان من المعنى :
١ ـ أن يكون ما بعدها متصلا بما قبلها ، وقد كانت (حتى) فاصلة بين ما سبقها مما حدث وما هو حادث الآن فيما بعدها ، وتقدر (حتى) بالواو ، نحو : سرت حتى أدخلها ، برفع الفعل المضارع (أدخل) ، وتكون (حتى) بمعنى الواو ، والتقدير :
سرت وأدخلها الآن ، والسير متصل بالدخول. ومنه قولهم : مرض حتى لا يرجونه (١) ، أى : هو الآن لا يرجى.
٢ ـ أن يكون ما قبلها قد مضى ، وما بعدها فعل مضارع ، فإن كان معناه قد حصل وجب فيه النصب. فتقول فيه : سرت حتى أدخلها ، فكأنك قلت : سرت فدخلت (٢).
رابعها : أن يذكر ما بعد (حتى) فعل مضارع فتحكيه على وجهين :
١ ـ إما أن تكون حكايتك له بحسب كونه مستقبلا ، فتنصبه على حكاية هذه الحال.
٢ ـ وإما أن تكون حكايتك له بحسب كونه حالا ، فترفعه على حكاية هذه الحال.
ومن ذلك قوله تعالى : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ) [البقرة : ٢١٤]. قرأ الجمهور الفعل المضارع بعد (حتى) (يقول) بالنصب على حكاية المستقبل ، حكيت به حالهم ، والمعنى على المضىّ ، والتقدير : إلى أن يقول فهو غاية لما تقدّم من المسّ والزلزال. وقرأ (نافع) بالرفع على أنه حال ، أى : ما بعد (حتى) حال فى الزمن لما بعدها ، والتقدير : وزلزلوا فيقول الرسول بالرفع.
ملحوظات فى (حتى):
أ ـ اختصاصها بالمظهر :
تختص (حتى) بالدخول على الظاهر ، كما لحظنا سابقا ، حيث إنها لو دخلت على المضمر لالتبس الضمير المجرور بالضمير المنصوب ؛ لأننا قد لحظنا أن الاسم بعدها قد يكون فى محلّ رفع ، وفى محلّ نصب ، وفى محلّ جرّ ، ولا يفرق فى
__________________
(١) ينظر : الكتاب ٣ ـ ١٨ / المقتضب ٢ ـ ٣٩.
(٢) ينظر : التبصرة والتذكرة ١ ـ ٤٢١ / الهادى فى الإعراب ١١٢.