كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]
المحقق: بركات يوسف هبّود
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
تقدّم الخبر على الاسم ؛ نحو : «ما قائم زيد» لضعفها في العمل ؛ فألزمت طريقة واحدة ، وأمّا قول الشّاعر (١) : [البسيط]
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم |
|
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر |
فمن النّحويّين من قال : هو منصوب على الحال ؛ لأنّ التّقدير فيه : وإذ ما بشر مثلهم ، فلمّا قدّم مثلهم الذي هو صفة النّكرة ، انتصب على الحال ؛ لأنّ صفة النّكرة إذا تقدّمت ، انتصبت على الحال ؛ كقول الشّاعر (٢) : [مجزوء الوافر]
لميّة موحشا طلل |
|
يلوح كأنّه خلل (٣) |
/ و/ (٤) التّقدير فيه : طلل موحش ؛ وكقول الآخر (٥) : [البسيط]
والصّالحات عليها مغلقا باب
والتّقدير فيه : باب مغلق ؛ إلّا أنّه لمّا قدّم الصّفة على النّكرة (٦) ، نصبها على الحال ؛ ومنهم من قال : هو منصوب على الظّرف ؛ لأنّ قوله : ما مثلهم بشر ، في معنى : «فوقهم» ؛ ومنهم من حمله على الغلط ؛ لأنّ (٧) هذا البيت للفرزدق ، وكان تميميّا ، وليس من / لغته / (٨) إعمال «ما» سواء تقدّم الخبر ، أو تأخّر ، فلمّا استعمل لغة غيره غلط ، فظنّ أنّها تعمل مع تقدّم الخبر ، كما تعمل مع تأخّره ، فلم يكن في ذلك حجّة ؛ ومنهم من قال : إنّها لغة لبعض العرب ، وهي لغة قليلة ، لا يعتدّ بها ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) الشّاعر : الفرزدق ، وقد سبقت ترجمته.
وقد أوضح المؤلّف في المتن مراده من ذكر الشّاهد بما يغني عن الإعادة.
(٢) الشّاعر هو : كثيّر بن عبد الرّحمن ، المعروف بكثيّر عزّة ، وقد سبقت ترجمته.
(٣) المفردات الغريبة : الطّلل : ما بقي شاخصا من آثار الدّيار. الخلل : جمع خلّة ، وهي بطانة تغشى بها أجفان السّيوف.
موطن الشّاهد : (موحشا طلل).
وجه الاستشهاد : تقدّمت الصّفة على الموصوف النّكرة ؛ فانتصبت على الحال وفق القاعدة.
(٤) زيادة من (س).
(٥) لم ينسب إلى قائل معيّن.
موطن الشّاهد : (مغلقا باب).
وجه الاستشهاد : تقدّمت الصّفة على الموصوف النّكرة «باب» فانتصبت على الحال ، كما في الشّاهد السّابق.
(٦) في (س) صفة النّكرة نصبها ؛ وكلاهما صحيح.
(٧) في (س) فإنّ.
(٨) في (ط) لفظه ؛ والأفضل ما أثبتنا من (س).
الباب التّاسع عشر
باب إنّ وأخواتها
[علّة إعمال الأحرف المشبّهة]
إن قال قائل : لم أعملت (١) هذه الأحرف؟ قيل : لأنّها أشبهت الفعل ، ووجه الشّبه بينهما من خمسة أوجه :
الوجه الأوّل : أنّها مبنيّة على الفتح ، كما أنّ الفعل الماضي مبنيّ على الفتح.
والوجه الثّاني : أنّها على ثلاثة أحرف ، كما أنّ الفعل على ثلاثة أحرف.
والوجه الثّالث : أنّها تلزم الأسماء ، كما أنّ الفعل يلزم الأسماء.
والوجه الرّابع : أنّها تدخل عليها نون الوقاية ، كما تدخل على الفعل ؛ نحو «إنّني وكأنّني ولكنّني».
والوجه الخامس : أنّ فيها معاني الأفعال ، فمعنى إنّ وأنّ : حقّقت ، ومعنى «كأنّ» : شبّهت ، ومعنى «لكنّ» ؛ استدركت ، ومعنى «ليت» : تمنّيت ، ومعنى «لعلّ» : ترجّيت ، فلمّا أشبهت هذه الحروف الفعل من هذه الأوجه / الخمسة / (٢) ؛ وجب أن تعمل عمله ؛ وإنّما عملت في شيئين ؛ لأنّها عبارة عن الجمل ، لا عن المفردات ، كما بيّنّا في «كان».
[علّة نصب الأحرف المشبّهة للاسم ورفعها للخبر]
فإن قيل : فلم نصبت الاسم ، ورفعت الخبر؟ قيل : لأنّها / لمّا / (٣) أشبهت الفعل ، وهو يرفع وينصب ، شبّهت / به / (٤) فنصبت الاسم تشبيها بالمفعول ، ورفعت الخبر تشبيها بالفاعل.
__________________
(١) في (س) عملت.
(٢) سقطت من (س).
(٣) سقطت من (ط).
(٤) سقطت من (ط).
[علّة وجوب تقديم منصوب الأحرف المشبّهة على مرفوعها]
فإن قيل : فلم وجب تقديم المنصوب على المرفوع؟ قيل لوجهين :
أحدهما : أنّ هذه الحروف ، تشبه الفعل لفظا ومعنى ؛ فلو قدّم المرفوع على المنصوب ، لم يعلم هل هي حروف ، أو أفعال؟
فإن قيل : الأفعال تتصرّف ، والحروف لا تتصرّف ، قيل : عدم التّصرّف ، لا يدلّ على أنّها حروف ؛ لأنّه قد يوجد أفعال لا تتصرّف ؛ وهي : نعم ، وبئس ، وعسى ، وليس ، وفعل التّعجّب ، وحبّذا ، فلمّا كان ذلك يؤدّي إلى الالتباس بالأفعال ، وجب تقديم المنصوب على المرفوع رفعا لهذا الالتباس.
والوجه الثّاني : أنّ هذه الحروف لمّا أشبهت الفعل الحقيقيّ لفظا ومعنى ، حملت عليه في العمل ، فكانت فرعا عليه في العمل ، وتقديم (١) المنصوب على المرفوع فرع ؛ فألزموا الفرع الفرع ، وتخرّج على هذا «ما» فإنّها ما أشبهت الفعل من جهة اللّفظ ، وإنّما أشبهته من جهة المعنى ، ثمّ الفعل الذي أشبهته ليس فعلا حقيقيّا ، وفي فعليّته خلاف ، بخلاف هذه الحروف ، فإنّها أشبهت الفعل الحقيقيّ من جهة اللّفظ والمعنى من الخمسة الأوجه التي بيّنّاها ، فبان الفرق بينهما. وقد ذهب الكوفيّون إلى أنّ «إنّ» وأخواتها / إنّما / (٢) تنصب الاسم ، ولا ترفع الخبر وإنّما الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها ؛ لأنّها فرع على الفعل في العمل ، فلا تعمل عمله ؛ لأنّ الفرع ـ أبدا ـ أضعف من الأصل ، فينبغي ألّا تعمل في الخبر ؛ وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّ كونه فرعا على الفعل في العمل ، لا يوجب ألّا يعمل عمله ، فإنّ اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل ، ويعمل عمله ، على أنّا قد عملنا بمقتضى كونه فرعا ، فإنّا ألزمناه طريقة واحدة ، وأوجبنا فيه تقديم المنصوب على المرفوع ، ولم نجوّز فيه الوجهين ، كما جاز ذلك مع الفعل ؛ لئلّا (٣) يجري مجرى الأصل ، فلمّا أوجبنا فيه تقديم المنصوب على المرفوع ، بان ضعف هذه الحروف (عن رتبة الفعل) (٤) ، وانحطاطها عن رتبة الفعل ؛ فوقع الفرق بين الفرع والأصل ؛ ثمّ لو كان الأمر كما زعموا ، وأنّه باق على رفعه ؛ لكان الاسم المبتدأ أولى بذلك ، فلمّا وجب نصب المبتدأ بها ؛ وجب رفع
__________________
(١) في (س) وتقدم.
(٢) سقطت من (ط).
(٣) في (س) لكيلا.
(٤) سقطت من (س).
الخبر بها ؛ لأنّه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النّصب ، ولا يعمل الرّفع ، فما ذهبوا إليه يؤدّي إلى ترك القياس ، ومخالفة الأصول لغير فائدة ، وذلك لا يجوز.
[علّة جواز العطف على موضع إنّ ولكنّ]
فإن قيل : فلم جاز العطف على موضع «إنّ ولكنّ» دون سائر أخواتها؟ قيل : لأنّهما لم يغيّرا معنى الابتداء ، بخلاف سائر الحروف ؛ لأنّها غيّرت معنى الابتداء ؛ لأنّ : «كأنّ» أفادت معنى التّشبيه ، و «ليت» أفادت معنى التّمنّي ، و «لعلّ» / أفادت / (١) معنى التّرجّي.
[خلافهم في العطف على الموضع قبل ذكر الخبر]
فإن قيل : فهل يجوز العطف على الموضع قبل ذكر الخبر؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب أهل البصرة (٢) إلى أنّه لا يجوز ذلك على الإطلاق ، وذلك لأنّك إذا قلت : «إنّك وزيد قائمان» وجب أن يكون / زيد / (٣) مرفوعا بالابتداء ، ووجب أن يكون عاملا في خبر زيد ، وتكون «إنّ» عاملة في خبر الكاف ، وقد اجتمعا معا ، وذلك لا يجوز ؛ وأمّا الكوفيّون فاختلفوا / في ذلك / (٤) ؛ فذهب الكسائيّ إلى أنّه يجوز ذلك على الإطلاق ؛ سواء تبيّن فيه عمل «إنّ» أو لم يتبيّن ؛ نحو : «إنّ زيدا وعمرو قائمان ، وإنّك وبكر منطلقان». وذهب الفرّاء إلى أنّه لا يجوز ذلك إلّا في ما لم (٥) يتبيّن فيه عمل «إنّ» واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى)(٦) فعطف الصّابئين على موضع «إنّ» قبل تمام الخبر ؛ وهو قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وممّا حكي عن بعض العرب أنّه قال : «إنّك وزيد ذاهبان» ، وقد ذكره سيبويه في الكتاب.
والصّحيح : ما ذهب إليه البصريّون. وما استدلّ (٧) به الكوفيّون ، فلا حجّة
__________________
(١) سقطت من (ط).
(٢) في (س) البصريّون.
(٣) زيادة من (س).
(٤) سقطت من (س).
(٥) في (س) مالا.
(٦) س : ٥ (المائدة ، ن : ٦٩ ، مد).
(٧) في (ط) استدلّوا ؛ والصّواب ما أثبتناه من (س) لأنّه لا يلتقي فاعلان لفعل واحد كما هو معلوم.
لهم فيه ، وأمّا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) فلا حجّة لهم فيه من وجهين :
أحدهما : أنّا نقول : في الآية تقديم وتأخير ؛ والتّقدير فيه (١) : إنّ الذين آمنوا والذين هادوا ومن آمن بالله واليوم الآخر ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصّابئون والنّصارى كذلك.
والوجه الثّاني : أن تجعل (٢) قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) خبر الصّابئين والنّصارى ، وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا / خبرا / (٣) مثل الذي أظهرت للصّابئين والنّصارى ، ألا ترى أنّك تقول : «زيد وعمرو قائم» فتجعل : قائما خبرا لعمرو ، وتضمر لزيد خبرا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو ، وإن شئت جعلته خبرا لزيد ، وأضمرت لعمرو خبرا ؛ كما قال الشّاعر (٤) : [الوافر]
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم |
|
بغاة ما بقينا في شقاق (٥) |
وإن شئت جعلت قوله «بغاة» خبرا للثّاني ، وأضمرت للأوّل خبرا ، وإن شئت جعلته خبرا للأوّل ، وأضمرت للثّاني خبرا على ما بيّنّا.
وأمّا قول بعض العرب «إنّك وزيد ذاهبان» فقد ذكره (٦) سيبويه أنّه غلط من بعض العرب ، وجعله بمنزلة قول الشّاعر (٧) : [الطّويل]
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى |
|
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا |
__________________
(١) في (س) فيها.
(٢) في (ط) يجعل.
(٣) سقطت من (ط).
(٤) الشّاعر هو : بشر بن أبي خازم الأسديّ ، شاعر فحل شجاع من أهل نجد. مات سنة ٩٢ ه.
(٥) المفردات الغريبة : بغاة : جمع باغ وهو من تجاوز الحدّ في العدوان. الشّقاق : النّزاع والخصومة.
موطن الشّاهد : (أنّا وأنتم بغاة).
وجه الاستشهاد : جواز كون «بغاة» خبرا ل «أنتم» على إضمار خبر أنّا ؛ والتّقدير : أنّا بغاة وأنتم بغاة. وجواز كونه خبرا ل «أنّا» على إضمار خبر أنتم ؛ وكلاهما جائز. وأجاز الأعلم الشّنتمري أن يكون خبر «أنّ» محذوفا ، دلّ عليه خبر المبتدأ الذي بعدها. وأجاز الفرّاء وشيخه الكسائيّ أن يعطف بالرّفع على اسم «إنّ» قبل أن يذكر الخبر.
(٦) في (ط) ذكره.
(٧) الشّاعر هو : زهير بن أبي سلمى المزنيّ ، شاعر جاهليّ حكيم ، من المعمّرين ، ومن أصحاب المعلّقات ؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة ١٣ ق. ه. الشّعر والشّعراء ١ / ١٣٧.
موطن الشّاهد : (ولا سابق)
فقال : «سابق» بالجرّ على العطف ، وإن كان المعطوف عليه منصوبا لتوهّم (١) حرف الجرّ فيه ؛ وكذلك قول الآخر (٢) : [الطّويل]
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة |
|
ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٣) |
فقال : «ناعب» / بالجرّ / (٤) بالعطف على «مصلحين» ؛ لأنّه توهّم أنّ الباء في مصلحين موجودة ، ثمّ عطف عليه مجرورا وإن كان منصوبا ، ولا خلاف أنّ هذا نادر ، ولا يقاس عليه ، فكذلك ههنا ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
وجه الاستشهاد : جرّ «سابق» عطفا على خبر ليس «مدرك» ؛ لتوهّمه أنّ الخبر مجرور ؛ لكثرة مجيئه مجرورا بالباء الزّائدة ؛ ويروى : ولا سابقا ، ولا شاهد فيه على هذه الرّواية.
(١) في (ط) بالتّوّهّم ؛ وما أثبتناه من (س) هو الصّواب.
(٢) الشّاعر هو : الأحوص ، عبد الله بن محمّد الأنصاريّ ، من شعراء العصر الأمويّ ، كان صاحب نسيب ، من طبقة جميل بن معمر ، وكان هجّاء ؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة ١٠٥ ه. الشّعر والشّعراء : ١ / ٥١٨ ، وطبقات فحول الشّعراء : ١ / ١٣٧.
(٣) المفردات الغريبة : مشائيم : أهل شؤم. ناعب : من نعب الغراب : إذا صاح ؛ والمعنى : لا يصيح غرابهم إلّا بالسّوء والفراق.
موطن الشّاهد : (ولا ناعب).
وجه الاستشهاد : عطف «ناعب» بالجرّ على «مصلحين» لتوهّم زيادة الباء في خبر «ليس» كما في الشّاهد السّابق.
(٤) سقطت من (س).
الباب العشرون
باب ظننت وأخواتها
[استعمالات ظنّ وأخواتها]
إن قال قائل : على كم ضربا تستعمل / فيه / (١) هذه الأفعال؟ قيل : أمّا «ظننت» فتستعمل على ثلاثة أوجه :
أحدها : بمعنى الظّنّ وهو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.
والثّاني : بمعنى اليقين ؛ قال الله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٢) / أي : يوقنون / (٣) وقال الله تعالى : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها)(٤). وقال الشّاعر (٥) : [الطّويل]
فقلت لهم : ظنّوا بألفي مدجّج |
|
سراتهم في الفارسيّ المسرّد (٦) |
وهذان يتعدّيان إلى مفعولين.
والثّالث : بمعنى التّهمة ؛ كقوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)(٧) في قراءة من قرأ بالظّاء ؛ أي : بمتّهم ، وهذا يتعدّى (٨) إلى مفعول واحد.
__________________
(١) زيادة من (س).
(٢) س : ٢ (البقرة : ٤٦ ، مد).
(٣) زيادة من (س).
(٤) س : ١٨ (الكهف ، ن : ٥٣ ، مك).
(٥) الشّاعر هو : دريد بن الصّمّة الجشميّ البكريّ من هوازن ، كان من الشّعراء الأبطال ومن المعمّرين المخضرمين. مات سنة ٨ ه.
(٦) المفردات الغريبة : ظنّوا : استيقنوا. مدجّج : الشّاكّ في السّلاح. المسرّد : الدّرع المثقّبة ؛ أو ذات الحلق.
موطن الشّاهد : (ظنّوا) وجه الاستشهاد : مجيء فعل «ظنّ» مفيدا معنى اليقين لا الشّكّ.
(٧) س : ٨١ (التّكوير : ٢٤ ، مك).
(٨) في (س) وهذه تتعدّى.
[استعمال خال وحسب]
وأمّا : «خلت ، وحسبت» فتستعملان بمعنى الظّنّ. وأمّا «زعمت» فتستعمل في القول عن غير صحّة ، قال الله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)(١).
[استعمال «علم»]
وأمّا «علمت» فتستعمل على أصلها ، فتتعدّى إلى مفعولين ، وتستعمل بمعنى : «عرفت» فتتعدّى إلى مفعول واحد ؛ قال الله تعالى : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)(٢).
[استعمال رأى]
وأمّا «رأيت» فتكون من رؤية القلب ، فتتعدّى إلى مفعولين ؛ نحو : «رأيت الله غالبا» ، وتكون من رؤية البصر ، فتتعدّى إلى مفعول واحد ؛ نحو «رأيت زيدا» أي : أبصرت زيدا.
[استعمال وجدت]
وأمّا «وجدت» فتكون بمعنى : علمت ، فتتعدّى إلى مفعولين ؛ نحو «وجدت زيدا عالما» وتكون بمعنى : أصبت ، فتتعدّى إلى مفعول واحد ؛ نحو : «وجدت الضّالّة وجدانا» ، وقد تكون لازمة في نحو قولهم : «وجدت في الحزن وجدا ، ووجدت في المال وجدا ، ووجدت في الغضب موجدة» وحكى بعضهم : «وجدانا» قال الشّاعر (٣) : [الوافر]
كلانا ردّ صاحبه بغيظ |
|
على حنق ووجدان شديد (٤) |
[علّة إعمال هذه الأفعال]
فإن قيل : لم أعملت (٥) هذه الأفعال ، وليست مؤثّرة في المفعول؟ قيل :
__________________
(١) س : ٦٤ (التّغابن ، ن : ٧ ، مد).
(٢) س : ٩ (التّوبة ، ن : ١٠١ ، مد).
(٣) الشّاعر هو : صخر الغيّ ، وهو صخر بن جعد الخضريّ ، من مخضرمي الدّولتين ؛ الأمويّة والعبّاسيّة ؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة ١٤٠ ه.
(٤) موطن الشّاهد : (وجدان).
وجه الاستشهاد : مجيء «وجدان» مصدرا ل «وجد» التي بمعنى غضب ؛ والقياس أن يأتي المصدر منها ـ في هذه الحال ـ موجدة.
(٥) في (س) فلم عملت.
لأنّ هذه الأفعال ، وإن لم تكن مؤثّرة ، إلّا أنّ لها تعلّقا بما عملت فيه ، ألا ترى أنّ قولك : «ظننت» يدلّ على الظّنّ ، والظنّ يتعلّق بمظنون؟ وكذلك سائرها ؛ ثمّ ليس التّأثير شرطا في عمل الفعل ، وإنّما شرط عمله أن يكون له تعلّق بالمفعول ، فإذا تعلّق بالمفعول ، تعدّى إليه ؛ سواء كان مؤثّرا ، أو لم يكن مؤثّرا ، ألا ترى أنّك تقول : ذكرت زيدا فيتعدّى إلى زيد ، وإن لم يكن مؤثّرا فيه ، إلّا أنّه لمّا كان له به تعلّق عمل ؛ لأنّ «ذكرت» تدلّ على الذّكر ، والذّكر لا بدّ له من مذكور ، يتعدّى (١) إليه ، فكذلك ههنا.
[علّة تعدّي أفعال الظّن إلى مفعولين]
فإن قيل : فلم تعدّت إلى مفعولين؟ قيل : لأنّها لمّا كانت تدخل على المبتدأ والخبر بعد استغنائها بالفاعل ، وكلّ واحد من المبتدأ والخبر ، لا بدّ له من الآخر ، وجب أن تتعدّى إليهما.
[خلافهم في جواز اقتصار هذه الأفعال على الفاعل]
فإن قيل : فهل يجوز الاقتصار فيها على الفعل والفاعل؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب البعض (٢) إلى أنّه يجوز ، واستدلّ عليه بالمثل السّائر ، وهو قولهم : «من يسمع يخل» ، فاقتصر على «يخل» وفيه ضمير الفاعل (٣). وذهب بعضهم إلى أنّه لا يجوز ، واستدلّ على ذلك من وجهين :
أحدهما : أنّ هذه الأفعال ، تجاب بما يجاب به القسم ؛ كقوله تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٤) فكما لا يجوز الاقتصار على القسم دون المقسم عليه ؛ فكذلك لا يجوز الاقتصار على هذه الأفعال مع فاعليها دون مفعوليها.
والثّاني : أنّا نعلم أنّ العاقل لا يخلو من ظنّ أو علم أوشك ، فإذا قلت : ظننت ، أو علمت ، أو حسبت ، لم تكن فيه فائدة ، لأنّه لا يخلو (٥) عن ذلك.
[عدم جواز استغناء هذه الأفعال على أحد مفعوليها وعلّة ذلك]
فإن قيل : فهل يجوز الاقتصار على أحد المفعولين؟ قيل : لا يجوز ؛ لأنّ
__________________
(١) في (ط) فيتعدّى.
(٢) في (س) بعض النّحويّين.
(٣) في (س) فاقتصر على ضمير الفاعل ، وهو سهو من النّاسخ.
(٤) س : ٤١ (فصّلت ، ن : ٤٨ ، مك).
(٥) في (ط) تخلو.
هذه الأفعال داخلة على المبتدأ والخبر ، وكما (١) أنّ المبتدأ ، لا بدّ له من الخبر ، والخبر لا بدّ له من المبتدأ ، فكذلك لا بدّ لأحد المفعولين من الآخر.
[وجوب إعمال هذه الأفعال حال تقدّمها وجواز إلغائها عند توسّطها وتأخّرها]
فإن قيل : فلم وجب إعمال هذه الأفعال إذا تقدّمت ، وجاز إلغاؤها إذا توسّطت وتأخّرت؟ قيل : إنّما وجب إعمالها إذا تقدّمت لوجهين :
أحدهما : أنّها إذا تقدّمت ، فقد وقعت في أعلى مراتبها ؛ فوجب إعمالها ، ولم يجز إلغاؤها.
والثّاني : أنّها إذا تقدّمت ، دلّ ذلك على قوّة العناية / بها / (٢) ؛ وإلغاؤها يدلّ على اطّراحها ، وقلّة الاهتمام بها ؛ فلذلك ، لم يجز إلغاؤها مع التّقديم ؛ لأنّ الشّيء لا يكون معنيّا به مطّرحا ؛ وأمّا إذا توسطت أو تأخّرت ، فإنّما جاز إلغاؤها ؛ لأنّ هذه الأفعال لمّا كانت ضعيفة في العمل ، وقد مرّ صدر الكلام على اليقين ، لم يغيّر الكلام عمّا اعتمد عليه ، وجعلت / في / (٣) تعلّقها بما قبلها بمنزلة الظّرف ، فإذا قال : «زيد منطلق ظننت» فكأنّه قال : «زيد منطلق في ظنّي» وكما (٤) أنّ قولك : «في ظنّي» لا يعمل في ما قبله ، فكذلك ما نزل بمنزلته. وأمّا من أعملها إذا تأخّرت (٥) ، فجعلها (٦) متقدّمة في التّقدير ، وإن كانت متأخّرة في اللّفظ مجازا وتوسّعا ؛ غير أنّ الإعمال مع التّوسّط أحسن من الإعمال مع التّأخّر ، وذلك ؛ لأنّها إذا توسّطت ، كانت متقدّمة من وجه ، / و/ (٧) متأخّرة من وجه ؛ لأنها متأخّرة عن أحد الجزأين ، متقدّمة على الآخر ، ولا يتمّ أحد الجزأين إلّا بصاحبه ، فكانت متقدّمة من وجه ، ومتأخّرة من وجه ، فحسن إعمالها ، كما حسن إلغاؤها ؛ وإذا تأخّرت عن الجزأين جميعا ، كانت متأخّرة من كلّ وجه ، فكان إلغاؤها أحسن من إعمالها ؛ لتأخّرها ، وضعف عملها ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) في (س) فكما.
(٢) سقطت من (ط).
(٣) سقطت من (س).
(٤) في (س) فكما.
(٥) في (س) تقدّمت ، وهو سهو من النّاسخ.
(٦) في (س) فقدّرها.
(٧) سقطت من (س).
الباب الحادي والعشرون
باب الإغراء
[علّة قيام بعض الظّروف والحروف مقام الفعل]
إن قال قائل : لم أقيم بعض الظّروف والحروف مقام الفعل؟ قيل : طلبا للتّخفيف ؛ لأنّ الأسماء ، والحروف أخفّ من الأفعال ، فاستعملوها (١) بدلا عنها طلبا للتّخفيف.
فإن قيل : فلم كثر في «عليك وعندك ودونك» خاصّة؟ قيل : لأنّ الفعل إنّما يضمر إذا كان عليه دليل من مشاهدة حال ، أو غير ذلك ، فلمّا (٢) كانت «على» للاستعلاء ، والمستعلي يشاهد من تحته ، و «عند» للحضرة ، ومن بحضرتك تشاهده ، و «دون» للقرب ، ومن بقربك (٣) تشاهده ؛ فصار (٤) هذا بمنزلة مشاهدة حال تدلّ عليه ، فلهذا ، أقيمت مقام الفعل
[علّة كون الإغراء للمخاطب دون الغائب والمتكلّم]
فإن قيل : فلم خصّ به المخاطب دون الغائب والمتكلّم؟ قيل : لأنّ المخاطب يقع الأمر له بالفعل من غير لام الأمر ؛ نحو : قم ، واذهب ؛ فلا يفتقر إلى لام الأمر ، وأمّا الغائب والمتكلّم فلا يقع الأمر لهما إلّا باللّام ؛ نحو : «ليقم زيد ، ولأقم معه» فيفتقر إلى لام الأمر ؛ فلمّا أقاموها مقام الفعل ؛ كرهوا أن يستعملوها للغائب والمتكلّم ؛ لأنّها تصير قائمة مقام شيئين ؛ اللّام والفعل ، ولم يكرهوا ذلك في المخاطب ؛ لأنّها تقوم مقام شيء واحد ، وهو الفعل ؛ وأمّا قوله عليه السّلام : «ومن لم يستطع / منكم / (٥) الباءة فعليه بالصّوم (٦) ، فإنّه له
__________________
(١) في (ط) واستعملوها.
(٢) في (س) ولمّا.
(٣) في (س) بقرب منك.
(٤) في (ط) صار.
(٥) سقطت من (س).
(٦) في (ط) الصّوم.
وجاء» (١) فإنّما جاء ؛ لأنّ من كان بحضرته ، يستدلّ بأمره للغائب على أنّه داخل في حكمه ؛ وأمّا قول بعض العرب «عليه رجلا (٢) ليسني» فلا يقاس عليه ، لأنّه كالمثل.
[خلافهم في جواز تقديم معمول هذه الكلم عليها]
فإن قيل : فهل يجوز تقديم معمول هذه الكلم عليها أو لا؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز تقديم معمولها عليها ؛ لأنّها فرع على الفعل في العمل ، فينبغي ألّا تتصرّف تصرّفه. وأمّا الكوفيّون : فذهبوا إلى جواز تقديم معمولها عليها ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٣) ، فنصب (كِتابَ اللهِ) «ب (عَلَيْكُمْ) واستدلّوا ـ أيضا ـ بقول الشّاعر (٤) : [الرّجز]
يا أيّها المائح دلوي دونكا |
|
إنّي رأيت النّاس يحمدونكا (٥) |
يثنون خيرا ويمجّدونكا |
والتّقدير : دونك دلوي ؛ فدلوي : في موضع نصب ب «دونك» فدلّ على جواز تقديم معمولها عليها. والصّحيح : ما ذهب إليه البصريّون ؛ وأمّا ما استدلّ به الكوفيّون ، فلا حجّة لهم فيه ؛ لأنّ قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ليس هو منصوبا ب (عَلَيْكُمْ) وإنّما هو منصوب على المصدر بفعل مقدّر ، وإنّما قدّر هذا
__________________
(١) حديث صحيح متّفق عليه ؛ وتمامه : «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنّه أغض للبصر ، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء. صحيح البخاري ٤ / ١١٩ و ٩ / ١١٢ ، وصحيح مسلم ٢ / ١٠١٨.
المفردات الغريبة : الباءة : القدرة على مباشرة الزّوج. وجاء : وقاية من الوقوع في الزّنى.
وقد أوضح المؤلّف في المتن مراده من الاستشهاد بهذا الحديث.
(٢) في (س) زحلا ، وهو تصحيف.
(٣) س : ٤ (النّساء ، ن : ٢٤ ، مد).
(٤) ينسب هذا الرّجز إلى جارية من بني مازن من دون تحديد.
(٥) المفردات الغريبة : المائح : الرّجل الذي يكون في أسفل البئر ؛ ليستقي الماء. والماتح :هو الذي يكون على رأس البئر.
موطن الشّاهد : (دلوي دونكا).
وجه الاستشهاد : استشهد الكوفيّون بهذا الشّاهد على جواز تقديم معمول «دون» عليها ؛ كما جاء في المتن ، وقد بيّن المؤلّف فساد هذا الزّعم في المتن بما يغني عن الإعادة.
الفعل ، ولم يظهر لدلالة ما تقدّم عليه من قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ)(١) الآية (٢).
لأنّ في ذلك دلالة على أنّ ذلك مكتوب (٣) عليهم ، فنصب «كتاب / الله / (٤)» على المصدر ؛ كقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ)(٥) فنصب : «صنع الله» على المصدر بفعل مقدّر ، دلّ عليه ما قبله (٦) ؛ / ونحو ذلك قول / (٧) الشّاعر (٨) : [الطّويل]
دأبت إلى أن ينبت الظّلّ بعد ما |
|
تقاصر حتّى كاد في الآل يمصح |
وجيف المطايا ، ثم قلت لصحبتي |
|
ولم ينزلوا : أبردتم فتروّحوا (٩) |
فنصب «وجيف» بفعل دلّ عليه ما تقدّم. وأمّا البيت الذي أنشدوه ، فلا حجّة / لهم / (١٠) فيه من وجهين :
أحدهما : أنّ قوله «دلوي دونكا» في موضع رفع ؛ لأنّه خبر مبتدأ مقدّر ؛ والتّقدير فيه ؛ هذا دلوي دونكا ، والثّاني : أنّا نسلّم أنّه في موضع
__________________
(١) س : ٤ (النّساء ، ن : ٢٣ ، مد).
(٢) سقطت من (س).
(٣) في (س) المكتوب.
(٤) سقطت من (س).
(٥) س : ٢٧ (النّمل ، ن : ٨٨ ، مك).
(٦) لأنّ التّقدير : صنع صنعا الله ؛ فحذف الفعل «صنع» وأضيف المصدر «صنعا» إلى الفاعل (لفظ الجلالة) كإضافته إلى المفعول ؛ فجاءت : صنع الله.
(٧) في (ط) قال.
(٨) الشّاعر هو : الرّاعي النّميريّ ، أبو جندل ، عبيد بن حصين ، من بني نمير ، كان سيّدا في قومه ، وسمّي بالرّاعي ؛ لأنّه أكثر من وصف راعي الإبل في شعره ؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة ٩٠ ه. طبقات ابن سلّام ١ / ٥٠٢.
(٩) المفردات الغريبة : الآل : السّراب. يمصح : يذهب وينقطع.
وجيف المطايا : ضرب من سير الإبل والخيل. أبردتم : دخلتم في آخر النّهار. تروّحوا :الرّواح الذّهاب ، أو السّير بالعشيّ ؛ والمراد : حان وقت مبيتكم واستراحتكم.
موطن الشّاهد : (وجيف المطايا).
وجه الاستشهاد : انتصاب «وجيف» على المصدر المؤكّد لمعنى قوله : «دأبت» ؛ لأنّه بمعنى : واصلت السّير ، وأوجفت المطيّ ؛ أي : سمتها الوجيف ، وهو سير سريع.
(١٠) سقطت من (س).
نصب ، / و/ (١) لكن بإضمار فعل ؛ والتّقدير فيه : «خذ دلوي دونك» ودونك تفسير لذلك / الفعل المقدّر / (٢) ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) سقطت من (ط).
(٢) زيادة من إحدى النّسخ ، وفي (س) لذلك المصدر.
الباب الثاني والعشرون
باب التّحذير
[علّة التّكرار في التّحذير]
إن قال قائل : ما وجه التّكرير إذا أرادوا التّحذير في نحو قولهم : «الأسد الأسد»؟ قيل : لأنّهم أرادوا أن يجعلوا أحد الاسمين قائما مقام الفعل الذي هو «احذر» ولهذا ، إذا كرّروا ، لم يجز إظهار الفعل ، وإذا حذفوا أحد الاسمين ؛ جاز إظهار الفعل ؛ فدلّ على أنّ أحد الاسمين قائم مقام الفعل.
[الاسم الأوّل يقوم مقام الفعل]
فإن قيل : فأيّ الاسمين أولى بأن يقوم مقام الفعل؟ قيل : أولى الاسمين بأن يقوم مقام الفعل هو الأوّل ؛ لأنّ الفعل يجب أن يكون مقدّما على الاسم الثّاني ؛ لأنّه مفعول ، فكذلك الاسم الذي يقوم مقام الفعل ، ينبغي أن يكون مقدّما.
[علّة انتصاب الاسم في التّحذير]
فإن قيل : فلم انتصب قولهم : «إيّاك والشّرّ» قيل : لأنّ التّقدير فيه : («إيّاك احذر» فإيّاك : منصوب باحذر ، والشّرّ معطوف عليه ، وقيل : أصله) (١) : «إيّاك (٢) احذر من الشّرّ» فموضع الجارّ والمجرور النّصب ، فلمّا حذف حرف الجرّ (٣) ، صار النّصب في ما بعده.
[علّة تقدير الفعل بعد إيّاك]
فإن قيل : فلم قدّروا الفعل بعد «إيّاك» ولم يقدّروه قبله؟ قيل : لأنّ «إيّاك»
__________________
(١) سقطت من (س).
(٢) في (ط) احذر إيّاك ؛ والصّواب ما أثبتنا من (س).
(٣) في (ط) الجارّ.
ضمير المنصوب المنفصل ، فلا (١) يجوز أن يقع الفعل قبله ؛ لأنّك لو أتيت به قبله ؛ لم يجز أن تأتي به بلفظه ؛ لأنّك تقدر على ضمير المنصوب المتّصل ؛ وهو الكاف ، ألا ترى أنّك لو قلت : «ضربت إيّاك» لم يجز؟ لأنّك تقدر على أن تقول : «ضربتك» ؛ فأمّا قول الشّاعر (٢) : [الرّجز]
إليك حتّى بلغت إيّاكا
فشاذّ ، لا يقاس عليه.
[علّة عدم استعمال الفعل مع إيّاك]
فإن قيل : فلم لم يستعملوا لفظ الفعل مع «إيّاك» كما استعملوه (٣) مع غيره؟ قيل : إنّما خصّت «إيّاك» بهذا ؛ (٤) لأنّها لا تكون إلّا في موضع نصب ؛ لأنّها ضمير المنصوب المنفصل ، فصارت (٥) بنية لفظه ، تدلّ على كونه مفعولا ، فلم يستعملوا معه لفظ الفعل ، بخلاف غيره من الأسماء ؛ فإنّه يجوز أن يقع مرفوعا ، ومنصوبا ، ومجرورا ، إذ ليس في بنية لفظه ما يدلّ على كونه مفعولا ، فاستعملوا معه لفظ الفعل ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) في (ط) ولا.
(٢) الشّاعر هو : حميد الأرقط ، وهو حميد بن مالك بن ربعي ، من تميم ؛ وقيل من ربيعة ؛ لقّب بالأرقط لآثار كانت في وجهه ؛ وهو شاعر إسلاميّ من شعراء الدّولة الأمويّة ، وكان معاصرا للحجّاج. معجم الأدباء ١١ / ١٤ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٩٥.
موطن الشّاهد : (إيّاك).
وجه الاستشهاد : وضع «إيّاك» موضع «الكاف» ضرورة ؛ وذلك شاذّ ، ولا يقاس عليه كما جاء في المتن.
(٣) في (ط) يستعملوه ، وهو سهو من النّاسخ ، أو الطّابع.
(٤) في (ط) بهذه.
(٥) في (س) فصار.
الباب الثّالث والعشرون
باب المصدر
[علّة انتصاب المصدر]
إن قال قائل : لم كان المصدر منصوبا؟ قيل : لوقوع الفعل عليه ؛ وهو المفعول المطلق.
[اشتقاق الفعل من المصدر أو العكس وخلافهم في ذلك]
فإن قيل : هل الفعل مشتقّ من المصدر ، أو المصدر مشتقّ من الفعل؟
قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب البصريّون إلى أنّ الفعل مشتقّ من المصدر ، واستدلّوا على ذلك من سبعة أوجه :
[أدلّة البصريّين في كون الفعل مشتقّ من المصدر]
الوجه الأوّل : أنّه يسمّى مصدرا ؛ والمصدر هو الموضع الذي تصدر عنه الإبل ؛ فلمّا سمّي مصدرا ؛ دلّ على أنّه قد صدر عنه الفعل.
والوجه الثّاني : أنّ المصدر يدلّ على زمان مطلق ؛ والفعل يدلّ على زمان معيّن ، فكما (١) أنّ المطلق أصل للمقيّد ، فكذلك المصدر أصل للفعل.
والوجه الثّالث : أنّ الفعل يدلّ على شيئين ؛ والمصدر يدلّ على شيء واحد ، قبل الاثنين ؛ فكذلك يجب أن يكون المصدر قبل الفعل.
والوجه الرّابع : أنّ المصدر اسم ، وهو يستغني عن الفعل ، والفعل لا بدّ له من الاسم ، وما يكون مفتقرا إلى غيره ، ولا يقوم بنفسه ، أولى بأن يكون فرعا ، ممّا لا يكون مفتقرا إلى غيره.
والوجه الخامس : أنّ المصدر لو كان مشتقّا من الفعل ؛ لوجب أن يدلّ على ما في الفعل من الحدث والزّمان ومعنى ثالث ، كما دلّت أسماء الفاعلين
__________________
(١) في (س) وكما.
والمفعولين على الحدث ، وعلى ذات الفاعل ، والمفعول به ، فلمّا لم يكن المصدر كذلك ؛ دلّ على أنّه ليس مشتقّا من الفعل.
والوجه السّادس : أنّ المصدر لو كان مشتقّا من الفعل ؛ لوجب أن يجري على سنن واحد ، ولم يختلف ، كما لم تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين ؛ فلمّا اختلف المصدر اختلاف سائر الأجناس ؛ دلّ على أنّ الفعل مشتقّ منه.
والوجه السّابع : أنّ الفعل يتضمّن المصدر ، والمصدر لا يتضمّن الفعل ، ألا ترى أنّ «ضرب» يدلّ على ما يدلّ عليه «الضّرب» و «الضّرب» لا يدلّ على ما يدلّ عليه «ضرب» (١) وإذا كان كذلك ؛ دلّ على أنّ المصدر أصل ، والفعل فرع / عليه / (٢) ، وصار هذا كما نقول في الأواني المصوغة من الفضّة ؛ فإنّها فرع عليها ، ومأخوذة منها ؛ وفيها زيادة ليست في الفضّة ، فدلّ على أنّ الفعل مأخوذ من المصدر ، كما كانت الأواني مأخوذة من الفضّة.
[أدلّة الكوفيّين في كون المصدر مأخوذ من الفعل]
وأمّا الكوفيّون فذهبوا إلى أنّ المصدر مأخوذ من الفعل ، واستدلّوا على ذلك من ثلاثة أوجه : / الوجه / (٣) الأوّل : أنّ المصدر يعتلّ لاعتلال (٤) الفعل ، ويصحّ لصحّته ؛ تقول : «قمت قياما» فيعتلّ المصدر لاعتلال الفعل ، وتقول : «قاوم قواما» فيصحّ المصدر لصحّة الفعل ؛ فدلّ على أنّه فرع عليه.
والوجه الثّاني : أنّ الفعل يعمل في المصدر ، ولا شكّ أنّ رتبة العامل قبل رتبة المعمول.
والوجه الثّالث : أنّ المصدر يذكر توكيدا للفعل ، ولا شكّ أنّ رتبة المؤكّد قبل رتبة المؤكّد ؛ فدلّ على أنّ المصدر مأخوذ من الفعل.
[تفنيد مزاعم الكوفيّين]
والصّحيح : ما ذهب إليه البصريّون ، وأمّا (٥) ما استدلّ به الكوفيّون ففاسد. أمّا قولهم : إنّه يصحّ لصحّة الفعل ، ويعتلّ لاعتلاله ؛ فنقول : إنّما صحّ لصحّته ، واعتلّ لاعتلاله ، طلبا للتّشاكل ؛ ليجري الباب على سنن واحد ؛
__________________
(١) في (س) ضربت.
(٢) سقطت من (س).
(٣) سقطت من (س).
(٤) في (س) كاعتلال.
(٥) في (س) وما.
لئلّا تختلف طرق تصاريف الكلمة ، وهذا لا يدلّ على الأصل والفرع ، ألا ترى أنّهم قالوا : «يعد» والأصل / فيه / (١) : «يوعد» فحذفوا الواو ؛ لوقوعها بين ياء وكسرة ، وقالوا : «أعد ، ونعد ، وتعد» فحذفوا الواو ـ وإن لم تقع بين ياء وكسرة حملا على «يعد» لئلّا تختلف طرق تصاريف الكلمة ، وكذلك قالوا : «أكرم» والأصل فيه «أأكرم» إلّا أنّهم حذفوا إحدى الهمزتين استثقالا لاجتماعهما ، ثمّ قالوا : «يكرم ، وتكرم ، ونكرم» فحذفوا الهمزة ، وإن لم تجتمع (٢) همزتان حملا على «أكرم» ليجري الباب على سنن واحد؟ فكذلك (٣) ههنا. وأمّا قولهم : إنّ الفعل يعمل في المصدر ؛ فنقول : هذا لا يدلّ على أنّه أصل له ، فإنّا أجمعنا على أنّ الحروف تعمل في الأسماء ، والأفعال ، ولا شكّ أنّ الحروف ليست أصلا للأسماء ، والأفعال ؛ فكذلك ههنا. وأمّا قولهم : إنّ المصدر يذكر تأكيدا للفعل ، فنقول : هذا لا يدلّ على أنّه فرع عليه ، ألا ترى أنّك تقول : «جاءني زيد / زيد / (٤) ، ورأيت زيدا زيدا» ولا يدلّ هذا على أنّ زيدا الثّاني فرع على الأوّل ؛ فكذلك ههنا ، وقد بيّنّا هذا مستوفى في المسائل الخلافيّة (٥).
[علّة انتصاب أفعل المضاف إلى المصدر]
فإن قيل : فلم (٦) كان قولهم : «سرت أشدّ السّير» منصوبا على المصدر؟ قيل : لأنّ «أفعل» لا يضاف إلّا إلى ما هو بعض له ، وقد أضيف إلى المصدر الذي هو السّير ، فلمّا أضيف إلى المصدر ، كان مصدرا ؛ فانتصب انتصاب المصادر كلّها.
[انتصاب المصدر القرفصاء ونحوه]
فإن قيل : فعلى ما ذا ينتصب قولهم : «قعد القرفصاء» ونحوه؟ قيل : ينتصب على المصدر بالفعل الذي / هو / (٧) قبله ؛ لأنّ القرفصاء لمّا كانت نوعا من القعود ، والفعل الذي هو «قعد» يتعدّى إلى جنس القعود الذي يشتمل على القرفصاء ؛ وغيرها ؛ تعدّى إلى القرفصاء الذي هو (٨) نوع منه ؛ لأنّه إذا عمل في
__________________
(١) سقطت من (ط).
(٢) في (ط) يجتمع.
(٣) في (ط) وكذلك.
(٤) سقطت من (س).
(٥) راجع : الإنصاف في مسائل الخلاف ، ١ / ١٤٤ ـ ١٥٢.
(٦) في (س) لم.
(٧) سقطت من (س).
(٨) في (س) التي منها.
الجنس ، عمل في النّوع ، إذ كان داخلا تحته ؛ هذا مذهب سيبويه ، وذهب أبو بكر بن السّرّاج إلى أنّه صفة لمصدر / موصوف / (١) محذوف ؛ والتّقدير فيه : «قعد القعدة القرفصاء» إلّا أنّه حذف الموصوف ، وأقام الصّفة مقامه ؛ والذي عليه الأكثرون مذهب سيبويه ؛ لأنّه لا يفتقر إلى تقدير موصوف ، (وما ذهب إليه ابن السّراج يفتقر إلى تقدير موصوف) (٢) ، وما لا يفتقر إلى تقدير / موصوف / (٣) أولى ممّا يفتقر إلى تقدير / موصوف / (٤) ، فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) سقطت من (ط).
(٢) سقطت من (س).
(٣) سقطت من (س).
(٣) سقطت من (س).