السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨
إذا لمْ أعدْ بالحلمِّ منّي عليكُمُ |
|
فمَنْ ذا الذي بعدي يُؤمَّلُ للحلمِ |
خُذِيها هَنيئاً واذكُرِي فِعلَ ماجدٍ |
|
جزاكِ على حربِ العداوةِ بالسّلمِ |
ثمّ قال : أما والله ، لو كان عليٌّ حيّاً ما أعطاك منها شيئاً. قالت : لا والله ، ولا وبرة من مال المسلمين. وحِلْم ولده يزيد ـ لعنه الله ـ على بنات رسول الله (ص) ، أنْ أمر بهنّ فحُملن إليه من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، سبايا على أقتاب المطايا ، كأنّهنّ من سبايا الروم! وهنّ حرم رسول الله (ص) ، وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. ثمّ أمر بهنّ فاُدخلن إلى مجلسه على حالة تنفجّر لها العيون ، وتتصدّع لها القلوب ، وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (ع) مغلول. فلمّا وقفوا بين يديه ، وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) لو رآنا على هذه الصفة؟». فلم يبق في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين (ع) :
أبناتُ النّبيِّ تُهدَى سبايا |
|
لبني الأدْعِيا تُقاسي جفاهَا |
لابنِ مرجانةَ الدَّعيِّ وطَوراً |
|
لابنِ هندٍ تُهدى بذلِّ سباهَا |
المجلس التاسع والستّون بعد المئة
في العقد الفريد ، عن الشعبي قال : كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أنْ يحمل إليه اُمّ الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية ، وأعلمه أنّه مجازيه بالخير خيراً ، وبالشرِّ شرّاً بقولها فيه. فركب إليها وأقرأها الكتاب ، فقالت : أمّا أنا فغير زائغة عن طاعة ، ولا معتلّة بكذب ، ولقد كنت اُحبّ لقاءه لاُمورٍ تختلج في صدري ، فلمّا شيّعها وأراد مفارقتها ، قال لها : يا اُمّ الخير ، إنّ معاوية كتب إليّ أنّه مجازيني بالخير خيراً ، وبالشرّ شراً ، فمالي عندَكِ؟ قالت : يا هذا ، لا يُطمعك برّك بي أنْ أسرّك بباطل ، ولا تؤيسك معرفتي بك أنْ أقول فيك غير الحقّ. فسارت خير مسير حتّى قدمت على معاوية ، فأنزلها مع حرمه ثلاثاً ، ثمّ أدخلها عليه في اليوم الرابع ، وعنده جلساؤه ، فسلّمت عليه بالخلافة ، فقال : وعليك السّلام يا اُمّ الخير. بحقٍّ ما دعوتني بهذا الاسم؟ قالت : لكل أجلٍ كتاب. قال : صدقت ، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت : لم أزل في خير وعافية حتّى صرتُ إليك ، فأنا في مجلس أنيق ، عند ملك رفيق. قال معاوية : بحسن نيّتي ظفرت بكم؟ قالت : يعيذك الله من دحض المقال وما تؤدّي عاقبته. قال : ليس هذا أردنا ، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قُتل عمّار بن ياسر؟ قالت : لم أكنْ زوّرته قبلُ ولا رويته بعدُ ، وإنّما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة ، فإنْ أحببت أنْ أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت. فالتفت معاوية إلى جلسائه ، فقال : أيّكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم : أنا أحفظ بعض كلامها. قال : هات. قال : كأنّي بها بين بردين كثيفي النسيج ، وهي على جمل أرمك بيدها سوط منتشر الظفيرة ، وهي كالفحل يهدر في شقشقته ، تقول : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ). إنّ الله أوضح لكم الحقّ ، وأبان الدليل وبيّن السبيل ، ولم يدعكم في عمياء مدلهمّة ، فأين تريدون رحمكم الله؟ أفراراً عن أمير المؤمنين؟ أمْ فراراً من الزحف؟ أمْ رغبة عن الإسلام؟ أمْ ارتداداً عن الحقّ؟ أمَا
سمعتم الله جلّ ثناؤه ، يقول : (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ). ثمّ رفعت رأسها إلى السّماء ، وهي تقول : اللهمّ ، قد عيل الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشرت الرغبة ، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب ، فاجمع اللهمّ ، بها الكلمة على التّقوى ، وألّف القلوب على الهدى ، واردد الحقّ إلى أهله. هلّموا ـ رحمكم الله ـ إلى الإمام العادل ، والرضي التّقي ، والصدّيق الأكبر ؛ إنّها إحنٌ بدرية ، وأحقاد جاهليّة ، وثب بها واثبٌ حين الغفلة ، ليدرك ثارات بني عبد شمس. ثمّ قالت : (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربّكم ، وثبات من دينكم ، فكأنّي بكم غداً ، وقد لقيتم أهل الشام كحُمرٍ مستنفرةٍ فرّت من قسورة ، لا تدري أين يُسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدّنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وعمّا قليل ليصبحنّ نادمين حين تحلّ بهم النّدامة ، فيطلبون الإقالة ، ولات حين مناص. إنّه مَن ضلّ ـ والله ـ عن الحقّ وقع في الباطل ، ألاَ إنّ أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستطابوا الآخرة فسمَوا لها ، فالله الله أيها النّاس ، قبل أنْ تُبطل الحقوق ، وتُعطّل الحدود ، وتقوى كلمة الشيطان ، فإلى أين تريدون ـ رحمكم الله ـ عن ابن عمّ رسول الله (ص) ، وصهره ، وأبي سبطيه؟ خُلق من طينته ، وتفرّع عن نبعته ، وجعله باب دينه ، وأبان ببغضه المنافقين ، وها هو ذا مفلّق الهام ومكسّر الأصنام. صلّى والنّاس مشركون ، وأطاع والنّاس كارهون ، فلم يزل في ذلك حتّى قتل مبارزيه ، وأفنى أهل اُحد ، وهزم الأحزاب ، وقتل الله به أهل خيبر ، فيالها من وقائع زرعت في القلوب نفاقاً وردّة وشقاقاً ، وزادت المؤمنين إيماناً! قد اجتهدتُ في القول وبالغت في النّصيحة ، وبالله التوفيق ، والسّلام عليكم ورحمة الله. فقال معاوية : يا اُمّ الخير ، ما أردت بهذا الكلام إلاّ قتلي ، ولو قتلتكِ ما حُرجت في ذلك. قالت : والله ، ما يسؤني أنْ يجري قتلي على يدي مَن يُسعدني الله بشقائه. قال : هيهات يا كثيرة الفضول! ما تقولين في عثمان؟ قالت : وما عسيت أنْ أقول فيه! استخلفه النّاس وهم به راضون ، وقتلوه وهم له كارهون. قال : هذا ثناؤك الذي تثنين؟ ثمّ سألها عن الزّبير ، فأجابته ، ثمّ قالت : أسألك بحقّ الله أنْ تعفيني من هذه المسائل ، وتسألني عمّا شئت من غيرها. فأعفاها ، وأمر لها بجائزة رفيعة ، ورّدها مُكرّمة. وابن زياد ، لمّا اُدخلت عليه حوراء النّساء ، زينب بنت أمير المؤمنين عليهماالسلام ، لم يعفها من مخاطبته ، فإنّها لمّا جلست متنكّرة ، وعليها أرذل ثيابها ، قال ابن زياد : مَن هذه؟ فلمْ تجبه ، فأعاد القول ثانياً ، وثالثاً يسأل عنها ، فلمْ تجبه ، فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (ص). فأقبل عليها ابن زياد ، فقال : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت عليهاالسلام : الحمد لله
الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك ، وأهل بيتك؟ فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة! فاستشاط اللعين غضباً ، وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة من أهل بيتك. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.
أبنتُ رسولِ اللهِ تُهدَى سبيّةً |
|
لنغلِ زيادِ الرّجسْ أعظِمْ بهِ خطبَا |
المجلس السّبعون بعد المئة
في العقد الفريد ، بسنده : إنّ أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية ، وهي عجوز كبيرة ، فلمّا رآها معاوية ، قال : مرحباً بك وأهلاً يا خالة ، فكيف كنت بعدنا؟ فقالت يابن أخي ، لقد كفرتَ يد النعمة ، وأسأت لابن عمّك الصُحبة ، وتسمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقّك ، من غير دين كان منك ولا من آبائك ، ولا سابقة في الإسلام بعد أنْ كفرتم برسول الله (ص) ، فأتعس الله منكم الجدود ، وأضرع منكم الخدود ، وردّ الحقّ إلى أهله ولو كره المشركون. وكانت كلمتنا هي العليا ، ونبيّنا (ص) هو المنصور ، فوليتم علينا من بعده ، وتحتجّون بقرابتكم من رسول الله (ص) ، ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر ، فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، وكان علي (ع) بعد نبيّنا (ص) بمنزلة هارون من موسى ، فغايتنا الجنّة ، وغايتكم النّار. فقال لها عمرو بن العاص : كُفّي أيتها العجوز الضالّة ، واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك ، إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له : وأنت يابن النّابغة ، تتكلم واُمّك كانت أشهر امرأة تُغنّي بمكّة ، وآخذهنّ لاُجرة! إدعاك خمسةُ نفرٍ من قريش ، فسُئلت اُمّك عنهم ، فقالت : كلّهم أتاني ، فانظروا أشبههم به. فألحقوه به ، فغَلب عليك شبه العاص بن وائل ، فلحقت به. فقال مروان : كُفّي أيتها العجوز ، واقصري لما جئت له. فقالت : وأنت أيضاً يابن الزرقاء ، تتكلم! ثمّ التفتت إلى معاوية ، فقالت : والله ، ما جرّأ عليّ هؤلاء غيرك ، فإنّ اُمّك القائلة في قتل حمزة :
نحنُ جزيْناكُمْ بيَومِ بدْرِ |
|
والحرْبُ بعدَ الحرْبِ ذاتَ سَعْرِ |
ما كانَ عنْ عُتبةَ ليْ مِنْ صبْرِ |
|
وشُكْر وحشيٍّ عليَّ دَهْري |
حتى ترمَّ أعظُمِي في قبري
فأجابتها بنت عمّي ، وهي تقول :
خُزِيتِ في بدرٍ وبعدَ بدرِ |
|
يابنةَ جبَّارٍ عظيمِ الكُفرِ |
فقال معاوية : عفا الله عمّا سلف يا خالة ، هاتِ حاجتك. قالت : ما لي إليك حاجة. وخرجت عنه. هذه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب ، حرّكتها الغيرة الهاشميّة ، وهي امرأة ، فقابلت معاوية وعمراً ومروان ، بما قابلتهم به. كما حرّكت الغيرة الهاشميّة زينب بنت أمير المؤمنين عليهماالسلام ، لمّا وضع رأس أخيها الحسين (ع) بين يدي يزيد بن معاوية ، وجعل ينكثه بقضيب الخيزران ، وهو يقول :
ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا |
|
جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ |
لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً |
|
ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ |
قدْ قتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ |
|
وعدلْناهُ ببدْرٍ فاعتَدَلْ |
لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا |
|
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ |
لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ |
|
مِن بني أحمدَ ما كانَ فعلْ |
فقامت زينب بنت أمير المؤمنين عليها وعلى أبيها السّلام ، وخطبت تلك الخطبة العظيمة المشهورة ، إلى أنْ قالت في آخر خطبتها : تهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ، فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُللت وبُكمت ، ولم تكن قلتَ ما قُلتْ ، وفعلتَ ما فعلت. ثمّ قالت عليهاالسلام : اللهمّ ، خذ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ، ما فريت إلاّ جلدك ، وما حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (ص) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويأخذ لهم بحقِّهم : (وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ) فقال يزيد متشمّتاً بها :
يا صيْحةً تُحمْدُ منْ صوائحِ |
|
ما أهونَ النَّوحِ على النَّوائحِ |
المجلس الحادي والسّبعون بعد المئة
عن رجل من بني اُميّة قال : حضرت معاوية يوماً وقد أذن للناس إذناً عامّاً ، فدخلوا عليه لمطالبهم وحوائجهم ، فدخلت عليه امرأة من بني ذكوان كأنّها قلعة ، ومعها جاريتان لها ، ثمّ قالت : الحمد لله ـ يا معاوية ـ الذي خلق اللّسان فجعل فيه البيان ، ودلّ به على النِّعم ، وأجرى به القلم فيما أبرم وحتم ، وذرأ وبرأ ، وحكم وقضى ، وصرف الكلام باللّغات المختلفة على المعاني المتفرقّة ، ألّفها بالتقديم والتأخير ، والأشباه والمناكر ، والموافقة والتزايد ؛ فأدّته الآذان إلى القلوب ، وأدّته القلوب إلى الألسن بالبيان. استدلّ به على العلم ، وعُبد به الربّ ، واُبرم به الأمر ، وعُرفت به الأقدار ، وتمّت به النِّعم ، وكان من قضاء الله وقدره أنْ قرّبتَ زياد ، وجعلت له بين آل أبي سفيان نسباً ، ثمّ ولّيته أحكام العباد ؛ يسفك الدماء بغير حلّها ولا حقّها ، ويهتك الحرم بلا مراقبة الله فيها ؛ خؤون غشوم ، كافر ظلوم ، يتخيّر من المعاصي أعظمها ، ولا يرى لله وقاراً ، ولا يظنّ أنّ له معاداً ، وغداً يُعرض عمله في صحيفتك ، وتُوقف على ما اجترم بين يدي ربّك ، ولك برسول الله (ص) اُسوة ، وبينك وبينه صهر ، فلا الماضين من أئمة الهدى اتبعت ، ولا طريقتهم سلكت ؛ جعلت عبد ثقيف على رقاب اُمّة محمّد (ص) يدبر اُمورهم ، ويسفك دماءهم ، فماذا تقول لربّك يا معاوية ، وقد مضى من أجلك أكثره ، وذهب خيره وبقي وِزره؟! إنّي امرأة من بني ذكوان ، وثب زياد المُدَّعى إلى أبي سفيان على ضيعتي التي ورثتها عن أبي واُمّي ، فغصبنيها وحال بيني وبينها ، وقتل مَن نازعه فيها من رجالي ، فأتيتك مستصرخة ، فإنْ أنصفت وعدلت ، وإلاّ وكلتك أنت وزياد إلى الله عزوجل ، فلنْ تبطل ظلامتي عندك ولا عنده ، والمُنصف لي منكما حكم عدل. فبُهت معاوية ، ينظر إليها متعجباً من كلامها ، ثمّ قال : ما لزياد! لعن الله زياداً ؛ فإنّه لا يزال يبعث على مثالبه مَن ينشرها ، وعلى مساويه من يُثيرها. ثمّ أمر كاتبه بالكتاب إلى زياد ، يأمره بالخروج إليها من حقِّها ، وإلاّ صرفه مذموماً مدحوراً ، ثمّ أمر لها بعشرين ألف درهم. وعجب معاوية
وجميع مَن حضره من مقالتها ، وبلوغها حاجتها. هكذا جرت سيرة الملوك والاُمراء في الحلم عن النّساء والضعفاء ، والإحسان إليهنّ في الجاهليّة والإسلام ، حتّى آل الأمر إلى ابن زياد ، واُدخلت عليه حوراء النّساء زينب ، فأقبل إليها ، وقال : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت عليهاالسلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت فعل الله بأخيك ، وأهل بيتك؟ فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة! فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : أيها الأمير ، إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، ولا تُذم على خطئها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة من أهل بيتك. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت. فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولَعمري ، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت : ما للمرأة والسّجاعة؟! إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ، ولكنّ صدري نفث بما قلت :
تُصانُ بنتُ الدَّعيِّ في كللِ المُلْ |
|
كِ وبنتُ الرَّسولِ تُبتَذل |
يُرجى رضَى المُصطَفَى فواعجباً |
|
تُقتَلُ أولادُهُ ويحتَمل |
المجلس الثاني والسّبعون بعد المئة
في المحاسن والمساوئ للبيهقي ، قيل : لمّا بلغ غانمة بنت غانم سبُّ معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم ، قالت لأهل مكّة : أيها النّاس ، إنّ بني هاشم أطول النّاس باعاً ، وأمجد النّاس أصلاً ، وأحلم النّاس حلماً ، وأكثر النّاس عطاءً ، منّا عبد مناف الذي يقول فيه الشاعر :
كانتْ قُريشٌ بيْضةً فتَفلَّقتْ |
|
فالمُحّ (١) خالصه لعبدِ مُنافِ |
وولده هاشم الذي هَشم الثريد لقومه ، وفيه يقول الشاعر :
هَشَمَ الثّريدَ لقومِهِ وأجارَهُمْ |
|
ورجالُ مكّةَ مُسنتونَ عِجافُ |
ثمّ منّا عبد المطلب الذي سُقينا به الغيث ، وفيه يقول الشاعر :
ونحنُ سنيَّ المَحْلِ قامَ شَفِيعُنا |
|
بمكّةَ يدعُو والمياهُ تغُورُ |
ومنّا أبو طالب عظيم قريش وسيّدها ، وفيه يقول الشاعر :
وأتيتُهُ مَلِكاً فقامَ بحاجَتي |
|
وترَى العُلَيِّجَ خائباً مذْموماً |
ومنّا العبّاس بن عبد المطلب ، أردفه رسول الله (ص) ، فأعطاه ماله ، وفيه يقول الشاعر :
رديفُ رسولِ اللهِ لمْ أرَ مثلَهُ |
|
ولا مثلُهُ حتّى القيامةِ يُوجد |
ومنّا حمزة سيّد الشهداء ، وفيه يقول الشاعر :
أبا يَعْلَى لكَ الأركانُ هُدّتْ |
|
وأنتَ الماجدُ البرُّ الوَصول |
_______________________
(١) المُح ، بالميم المضمومة والحاء المهملة : صفرة البيض. ـ المؤلّف ـ
ومنّا جعفر ذو الجناحين ، أحسن النّاس حسناً ، وأكملهم كمالاً ، ليس بغدّار ولا ختّار ، بدّله الله جلّ وعزّ بكل يدٍ له جناحاً يطير به في الجنة ، وفيه يقول الشاعر :
هاتُوا كجعْفَرِنا ومثلِ عليِّنا |
|
أليسا أعزَّ النّاسِ عندَ الخلائقِ |
ومنّا أبو الحسن علي بن أبي طالب ، أفرس بني هاشم ، وأكرم من احتفى وانتعل بعد رسول الله (ص) ، ومن فضائله ما قصر عنكم أنباؤها ، وفيه يقول الشاعر :
وهذا عليٌّ سيّدُ النّاسِ فاتَّقُوا |
|
عليّاً بإسلامٍ تقدَّمَ منْ قبل |
ومنّا الحسن بن علي ، سبط رسول الله (ص) ، وسيّد شباب أهل الجنة ، وفيه يقول الشاعر :
ومَنْ يكُ جدُّهُ حقّاً نبيّاً |
|
فإنّ لهُ الفضيلةَ في الأنامِ |
ومنّا الحسين بن علي ، حمله جبرائيل (ع) على عاتقه ، وكفى بذلك فخراً ، وفيه يقول الشاعر :
نفَى عنهُ عيبَ الآدميينَ ربُّهُ |
|
ومِنْ مجدِهِ مجدُ الحُسينِ المُطهَّرِ |
ثمّ قالت : يا معشر قريش ، والله ، ما معاوية بأمير المؤمنين ، ولا هو كما يزعم ، هو والله ، شانئ رسول الله (ص) ، إنّي آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينُه ، ويكثر منه عويلُه. فكتب عامل معاوية إليه بذلك ، فلمّا قربت من المدينة ، استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه ، فلمّا دخلت المدينة ، أتت دار أخيها عمرو بن غانم ، فقال لها يزيد : إنّ أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته ـ وكانت لا تعرفه ـ. فقالت له : مَن أنت؟ قال : يزيد بن معاوية. قالت : فلا رعاك الله يا ناقص. فأتى أباه فأخبره ، فقال : هي أسنّ قريش وأعظمهم. قال : كانت تعدّ على رسول الله (ص) أربعمئة عاماً. فلمّا كان من الغد ، أتاها معاوية فسلّم عليها ، فقالت : على المؤمنين السّلام ، وعلى الكافرين الهوان. ثمّ قالت : مَن منكم ابن العاص؟ قال عمرو : ها أنا ذا. فقالت : وأنت تسبّ قريشاً وبني هاشم ، وأنت أهل السبّ يا عمرو! إنّي والله ، لعارفة بعيوبك وعيوب اُمّك. وأمّا أنت يا معاوية ، فما كنت في خير ولا ربيت في خير ، فما لك ولبني هاشم؟ أنساء بني اُميّة كنسائهم؟ أمْ اُعطي اُميّة ما اُعطي هاشم في الجاهليّة والإسلام؟ وكفى فخراً برسول الله (ص). فقال معاوية : أيّتها الكبيرة ، أنا كافٍّ عن بني هاشم. ذكّرني خطاب غانمة الهاشميّة بذلك اللسان العضب الهاشمي ، والقلب الجريء ، غير هيّابة ولا وجلة ، خطاب فخر الهاشميّات زينب بنت علي عليهماالسلام ، شبيهة أبيها أمير المؤمنين (ع) ، لولده يزيد حين خطبت تلك الخطبة العظيمة ، وخاطبت يزيد بكلام كحدود السّيوف ، ستحقرة له ، غير
مبالية بما هو فيه من الملك والسّلطان ، قائلةً له ـ من جملة كلامها ـ : ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عَبرى والصدور حَرّى. ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء! ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل. فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ولا تدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فَنَد ، وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد ، يوم يُنادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين.
فيا وقعةً لمْ يُحدثْ الدَّهرُ مثْلَها |
|
يَبيدُ الليالي ذكرُهَا وهو خالدُ |
لألبستِ هذا الدِّينَ أثوابَ ذلَّةٍ |
|
ترثُّ لها الأيامُ وهيَ جدَائدُ |
المجلس الثالث والسّبعون بعد المئة
في كتاب بلاغات النّساء : إنّه لمّا قُتل علي بن أبي طالب (ع) ، بعث معاوية في طلب شيعته ، فكان في مَن طلب عمرو بن الحمق الخزاعي ، فراغ منه ، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد ، فحبسها في سجن دمشق سنتين ، ثمّ إنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة ، فقتله وبعث برأسه الى معاوية ، وهو أوّل رأس حُمل في الإسلام. قال الأعمش : أوّل رأس اُهدي من بلد إلى بلد في الإسلام ، رأس عمرو بن الحمق. فلمّا أتى معاوية الرسولُ بالرأس ، بعث به إلى آمنة في السجن ، وقال للحرَسي : احفظ ما تتكلم به حتّى تؤدّيه إليّ ، واطرح الرأس في حجرها. ففعل هذا ، فارتاعت له ساعةً ، ثمّ وضعت يدها على رأسها وقالت : نفيتموه عنّي طويلاً ، وأهديتموه إليّ قتيلا ً ، فأهلاً وسهلاً بمَن كنتُ له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية. ارجع به أيها الرسول إلى معاوية ، فقل له : أيتمَ الله وُلدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنباً. فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت ، فأرسل إليها فأتته ، وعنده نفر فيهم أياس بن حسل ، وكان في شدقيه انتفاخ لعظم كان في لسانه. فقال لها معاوية : أأنت يا عدوّة الله ، صاحبة الكلام الذي بلغني؟ قالت : نعم ، غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له ، فلَعمري ، لقد اجتهدت في الدعاء إنْ نفع الإجتهاد ، وإنّ الحقّ لمِن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ، وإنّ الله بالنّقمة من ورائك. فأعرض عنها معاوية ، فقال أياس : اقتل هذه يا أمير المؤمنين ، فوالله ، ما كان زوجها أحقّ بالقتل منها. فالتفتت إليه ، وقالت : تباً لك! ويلك! بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثمّ أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس ، (إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) فضحك معاوية ، ثم قال : لله درّك! اخرجي ، ثمّ لا أسمع بك في شيء من الشام. قالت : وأبي ، لأخرجنّ ، ثمّ لا تسمع بي في شيء من الشام ، فما الشام لي بحبيب ، ولا أعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحنّ فيها إلى سكن ، ولقد عظم فيها
ديني ، وما قرّت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة. فأشار معاوية إليها ببنانه اخرجي ، فخرجت وهي تقول : وآعجبي لمعاوية! يكفّ عنّي لسانه ، وهو يشير إلى الخروج ببنانه! أما والله ، ليعارضنّه عمرو بكلام مؤيّد سديد ، أوجع من نوافذ الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد. فخرجت وتلقّاها الأسود الهلالي ، وكان أسود أصلع أبرص ، فسمع مقالها ، فقال : لمَن تعني هذه ـ عليها لعنة الله ـ؟ فقالت : خزياً لك وجدعاً ، أتلعنني واللعنة بين جنبيك! وما بين قرنيك إلى قدميك! اخسأ يا هلمة الصعل ، ووجه الجعل. فبهت الأسود ينظر إليها ، ثمّ سأل عنها فاُخبر ، فأقبل يعتذر إليها ؛ خوفاً من لسانها. ثمّ التفت معاوية إلى عبيد بن أوس ، فقال : ابعث إليها ما تقطع به عنّا لسانها ، وتقضي به ما ذكرت من دَينها ، وتخفّ به إلى بلادها. فلمّا أتاها الرسول بما أمر به معاوية ، قالت : يا عجبي لمعاوية! يقتل زوجي ، ويبعث إليّ بالجوائز! فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة ، فمرّت بحِمص فقتلها الطاعون. فبلغ ذلك الأسود ، فأقبل إلى معاوية كالمبشرّ له ، فقال : قد استُجيبت دعوتك في ابنة الشريد ، وقد كُفيتَ شرّ لسانها ، مرّت بحِمص فقتلها الطاعون. قال معاوية : فنفسك فبشرّ ؛ فإنّ موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك ، ولَعمري ، ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً. فقال الأسود : ما أصابني من حرارة لسانها شيء ، إلاّ وقد أصابك مثله ، وأشدّ منه. أقول : وعمرو بن الحمق هذا من خيار أصحاب رسول الله (ص) ، ومن السّابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (ع) ، وأخلصوا في محبته. وكتب الحسين (ع) إلى معاوية ـ بعد قتله عمرو بن الحمق ـ جواباً عن كتاب : «أوَلست قاتلَ عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحُل جسمه واصفرّ لونه ، بعدما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لَو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس جبل ، ثمّ قتلته ؛ جرأةً على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد؟!». وقُتل عمرو ببلاد الموصل ، وقُطع رأسه واُرسل إلى معاوية ، فأرسله معاوية ـ كما سمعت ـ إلى امرأته وهي في السجن ، وأمر أنْ يُطرح في حجرها. وبه اقتدى ولده يزيد في قطع رؤوس سادات المسلمين ، وحملها إليه من بلد إلى بلد ، فإنّه لمّا قُتل الحسين (ع) وأصحابه ، أمر عامله عبيد الله بن زياد أنْ يحمل إليه رأس الحسين (ع) ، ورؤوس أصحابه ، وسبايا أهل بيت النّبوّة ففعل. وكان الرأس الشريف بمرأى ومنظر من نساء الحسين (ع) ، وأخواته ، وبناته طول مدة الطريق ، من العراق إلى الشام. وكما طرح معاوية رأس عمرو بن الحمق في حجر زوجته بعد قتله ؛ بغياً وعتوّاً ، وشدّة بغضه لأمير المؤمنين (ع) وشيعته ، أحضر ولده يزيد رأس الحسين (ع) بين يديه
بمحضرٍ من نساء الحسين (ع) ، وأخواته وبناته ، فأخذت الرباب زوجة الحسين (ع) الرأسَ الشريف ، ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :
وآ حُسينا فلا نَسيتُ حُسيناً |
|
أقصَدتْهُ أسنَّةُ الأعداءِ |
غادَرُوهُ بكربَلاءَ صَريعاً |
|
لا سقَى اللهُ جانِبَي كربلاءِ |
وأما زينب عليهاالسلام ، لمّا رأت رأس أخيها بين يدي يزيد ، هوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يابن مكّة ومنى! يا بن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء! يابن بنت المصطفى! فأبكت كلّ مَن كان حاضراً في المجلس.
رقَّ لهَا الشامتُ ممّا بِها |
|
ما حالُ مَنْ رقَّ لها الشامتُ |
المجلس الرابع والسّبعون بعد المئة
قال المُرزُباني ، قال الحسن البصري : أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكنّ فيه إلاّ واحدة منهن ، كانت موبقة : انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسُفهاء ، وفيها بقايا الصحابة وذوو الفضل ، وادّعاؤه زياداً ، وقد قال النّبي (ص) : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر» ، واستخلافه يزيداً من بعده ، سكّيراً خمّيراً ، يزوج بين الدّب والذئب ، والكلب والضبع ؛ ينظر ما يخرج بينهما ، وقتله حجر بن عدي وأصحابه. فيا ويله! ثمّ يا ويله! قال المُرزُباني : كان حِجر بن عدي بن الأدبر الكندي ـ رحمة الله عليه ـ وفد على النّبي (ص) وشهد القادسية ، وهو الذي فتح مَرج عذراء. وشهد مع علي (ع) الجمل وصفّين ، وهو من العُبّاد الثقات المعروفين ، روى عن النّبي (ص). وتكلّم زياد بن أبيه يوماً على المنبر ، فقال : إنّ من حقّ أمير المؤمنين ، أعادها مراراً ، فقال حِجر : كذبت ، ليس كذلك. فسكت زياد ساعة ، ثمّ أخذ في كلامه حتّى غاب عنه ما جرى ، فقال : إنّ من حقّ أمير المؤمنين ، فأخذ حِجر كفاً من حصى فحصبه ، وقال : كذبت ، عليك لعنة الله. فانحدر زياد عن المنبر ودخل دار الإمارة ، وانصرف حِجر ، فبعث إليه زياد الخيل والرجال ، فقالوا : أجب. فقال : إنّي والله ، ما أنا بالذي يخاف ، ولا آتيه أخافه على نفسي. وقال ابن سيرين : لو مال لمال أهل الكوفة معه ، غير أنّه كان رجلاً ورعاً. وأبى زياد أنْ يرفع عنه الخيل حتّى سلسله ، وأنفذه مع اُناس من أصحابه ـ وكانوا ثلاثة عشر (١) ـ إلى معاوية. فلمّا سار حِجر ، أتبعه زياد بريداً ، فقال : اركض إلى معاوية ، وقل له : إنْ كان لك في سلطانك حاجة
____________________
(١) سيأتي في رواية ابن الأثير : إنّهم أربعة عشر ، فلعّل مراد المُرزُباني : إنّهم ثلاثة عشر ، ما عدى حجر ، ومعه أربعة عشر.
فاكفني حِجراً. فلمّا قدم عليه حِجر ، قال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين. قال : وأمير المؤمنين أنا! وجعل يكرر ذلك ، وأمر بإخراج حِجر وأصحابه إلى عذراء ، وقتلهم هناك. قال ابن الأثير : كان حجر وأصحابه ـ الذين بعث بهم زياد إلى معاوية ـ أربعة عشر رجلاً ، فحُبسوا بمرج عذراء ، وتشفّع أصحاب معاوية في ستّة منهم فأطلقهم ، وتشفّع بعضهم في حِجر فلم يطلقه ، وطلب اثنان منهم أنْ يرسلوهما إلى معاوية ، وقالا : إنّا نقول في هذا الرجل ـ أي : علي ـ مثل مقالته. فقال لأحدهما : ما تقول في علي؟ قال : أقول فيه قولك. قال : أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به؟ فسكت ، فتشفّع فيه بعض الحاضرين ، فنفاه إلى الموصل فمات بها. وقال للآخر : ما تقول في علي؟ قال دعني لا تسألني ، فهو خير لك. قال : والله لا أدعك. قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً ، من الآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن النّاس ... إلى أنْ قال له معاوية : قتلت نفسك. قال : بل إيّاك قتلت. فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة ، فدفنه حيّاً ، ثمّ قُتل حجر وأصحابه بمرج عذراء ، وكانوا ستّة ، والذي دفنه زياد حيّاً ، فهؤلاء سبعة ونجا منهم سبعة. وبعث معاوية رجلاً أعور اسمه هدبة القضاعي ، ومعه رجلان ليقتلوا مَن أمروا بقتله ، فأتوا مساءً ، فقالوا لهم : إنّا قد اُمرنا أنْ نعرض عليكم البراءة من علي (ع) واللّعن له ، فإنْ فعلتم تركناكم ، وإنْ أبيتم قتلناكم. فقالوا : لسنا فاعلي ذلك. فحُفرت لهم القبور واُحضرت الأكفان ، وقام حِجر وأصحابه يُصلّون عامّة الليل ، كما قام الحسين (ع) وأصحابه ليلة العاشر من المُحرّم يصلّون عامّة الليل ، ويذكرون الله تعالى ويدعون ويستغفرون ، وهم يعلمون أنّهم في صبيحة تلك الليلة مقتولون لا محالة ، كما يعلم حِجر وأصحابه أنّهم في صبيحة ليلتهم مقتولون لا محالة ، فما أشبه الأبناء بالآباء ، والخلف بالسلف. وكان للحسين (ع) وأصحابه في تلك الليلة دوي كدوي النّحل ، وباتوا ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد :
سمةُ العبيدِ منَ الخشوعِ عليهمُ |
|
للهِ إنْ ضمَّتهُمُ الأسحارُ |
فإذا ترجَّلت الضُّحَى شهِدتْ لهُمْ |
|
بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ |
ولمّا كان الغد ، قُدّم حجر وأصحابه الستّة فقُتلوا ، وصُلّي عليهم ودُفنوا ، ولمّا كان الغد من يوم عاشوراء ، وقُتل الحسين (ع) وأصحابه ، لم يُصلّى عليهم ولم يُدفنوا ، بل إنّ عمر بن سعد صلّى على أصحابه ودفنهم ، وترك الحسين (ع) وأصحابه مطرَّحين على الرمضاء بغير دفن ، جثثاً بلا رؤوس حتّى جاء بنو أسد بعد ثلاثة أيام ، فصلّوا على تلك الجثث الطواهر الزواكي ودفنوها.
فيا أقبُراً خُطَّتْ على أنجُمٍ هوتْ |
|
وفُرّقنَ في الأطرافِ مُغترباتِ |
وليسَ قبوراً هُنّ بل هُنّ روضةٌ |
|
مُنوَّرةٌ مُخضرَّةُ الجنباتِ |
المجلس الخامس والسّبعون بعد المئة
قال الأعمش : أوّل قتيل قُتل في الإسلام صبراً حِجر بن عدي. قال المُرزُباني : لمّا بعث زياد بن أبيه بحِجر بن عدي وأصحابه إلى معاوية بالشام ، أمر معاوية بإخراجهم إلى عذراء وقتلهم هناك ، فلمّا قدم حِجر عذراء ، قال : ما هذه القرية؟ فقيل : عذراء. فقال : الحمد لله ، أما والله ، إنّي لأوّل مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأوّل مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثمّ أنا اليوم اُحمل إليها مُصفّداً في الحديد. ثمّ قال حجر للذي أمر بقتلهم : دعني اُصلّي ركعتين. فصلّى ركعتين خفيفتين ، فلمّا سلّم انفتل إلى النّاس ، فقال : لولا أنْ يقولوا جزع من الموت ، لأحببت أنْ تكونا أنفس ممّا كانتا ، وأيم الله ، لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ، ما هاتان بنافعتي شيئاً. ثمّ أخذ ثوبه فتحزّم به ، ثمّ قال لمَن حوله من أصحابه : لا تحلّوا قيودي ، فإنّي أجتمع أنا ومعاوية على هذه المحجّة. ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص له حجر ، فقال : ألم تقل إنّك لا تجزع من الموت؟ فقال : أرى كفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع؟! أما والله ، لئن جزعت ، لا أقول ما يسخط الربّ. فقال له : فابرأ من عليٍّ ، وقد أعدّ لك معاوية جميع ما تريد إنْ فعلت. فقال : ألم أقل إنّي لا أقول ما يسخط الربّ؟ والله ، لقد أخبرني حبيبي رسول الله (ص) بيومي هذا. ثمّ قال : إنْ كنتَ أمرت بقتل ولدي (١) فقدّمه. فقدّمه فضربت عنقه ، فقيل له : تعجّلت الثكل. فقال : خفت أنْ يرى هول السّيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي (ع) ، فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين. فلله درّ حِجر! ما أعظم نفسه ، وأجلّ مقامه ، وأشدّ تهالكه في حبّ أهل بيت نبيّه (ص) ، وفي طاعة ربه!
______________________
(١) لم يذكر غير المُرزُباني إنّ ولد حِجر كان من جملة المقتولين ، ولعلّه جاء مع أبيه لوداعه أو لغير ذلك فقُتل ، ولم يكن من الذين بعث بهم زياد ؛ فلذلك لم يذكره المؤرّخون ، والله أعلم. ـ المؤلّف ـ
وإذا كانتْ النّفوسُ كِباراً |
|
تعبتْ في جِوارها الأجسامُ |
فانظر إليه كيف ثبت في هذا المقام الرهيب وسلّم نفسه للقتل ، ولم يبرأ من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)! مقام عظيم وأيَم الله ، وأيُّ مقام! فتسليم النّفس للقتل ليس بالأمر الهيّن. ولم يكتفِ بتسليم نفسه للقتل حتّى قدّم ابنه للقتل أمامه ؛ خوفاً عليه من أنْ يرجع عن ولاية علي (ع). والولد قطعة من الكبد ، ولا يعدل النفس شيئاً إلاّ الولد. ولهذا لمّا برز علي الأكبر يوم كربلاء ، لم يملك أبوه الحسين (ع) دمعته مع ما اُوتيه من الصبر العظيم ، وأرخى عينيه بالدموع وبكى ، ثمّ رفع سبابتيه نحو السّماء ، وقال : «اللهمّ ، كُنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيَّك نظرنا إليه».
يا كوكباً ما كان أقصرَ عُمرُهُ |
|
وكذا تكونُ كواكبُ الأسحارِ |
ولهذا أيضاً ، لمّا وصل الخبر إلى بشر بن عمرو الحضرمي يوم عاشوراء : أنّ ابنه اُسّر بثغر الري ، قال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين (ع) مقالته ، فقال له : «رحمك الله ، أنت في حلٍّ من بيعتي ، فاذهب واعمل في فكاك ابنك». فقال : أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك. قال (ع) : «فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب البُرود ؛ يستعين بها في فداء أخيه». فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده.
لقدْ صَبرُوا صبْرَ الكرامِ وقدْ قضَوا |
|
على رغبةٍ منهُمْ حقوقَ المكارمِ |
قساورةٌ يومَ القراعِ رماحُهُمْ |
|
تكفَّلنَ أرزاقَ النّسورِ القشاعمِ |
المجلس السّادس والسّبعون بعد المائة
لمّا بعث زياد بن أبيه بحِجر بن عدي الكندي وأصحابه إلى معاوية بالشام ، أمر معاوية بأخذهم إلى عذراء ـ وهي قرية شرقي دمشق ـ وقتلهم هناك ، فحُملوا إليها. قال المُرزُباني : فلمّا أرادوا قتلهم ، اجتمع إلى حِجر أصحابه ليودّعوه ، فأنشأ حِجر يقول :
فمَنْ لكُمُ مثلي لدَى كلِّ غارةٍ |
|
ومَنْ لكمُ مثلي إذا البأسُ أصحَرا |
ومَن لكُمُ مثلي إذا الحربُ قُلّصتْ |
|
وأوضع فيها المُسْتميتُ وشمَّرا |
ولمّا حُمل عبد الرحمن بن حسّان العنزي ، وكريم بن عفيف الخثعمي ـ وكانا من أصحاب حجر ـ ، قال العنزي : يا حِجر ، لا تبعُد ولا يبعُد ثوابك ، فنعم أخو الإسلام كنت! وقال الخثعمي : يا حِجر ، لا تبعُد ولا تُفقد ، ولقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثمّ ذُهب بهما إلى القتل ، فأتبعهما حِجر بصره ، وقال :
كفَى بسفاهِ القبرِ بُعداً لهالكٍ |
|
وبالموتِ قطّاعاً لحبلِ القرائِنِ |
قال المُرزُباني : لمّا قُتل حِجر بنُ عدي ، قالت امرأة من كندة ترثيه :
ترفَّعْ أيُّها القمرُ المُنيرُ |
|
لعلّكَ أنْ ترَى حِجْراً يسيرُ |
يسيرُ إلى معاويةَ بنِ صخرٍ |
|
ليقتلُهُ كما زعمَ الأميرُ |
ألا يا حجْرُ حجْرَ بني عديٍّ |
|
ومَنْ أخلاقُهُ كرمٌ وخيرُ (١) |
ألا يا ليتَ حِجراً مات موتاً |
|
ولمْ يُنحرْ كما نُحرَ البعيرُ |
تجبَّرتْ الجبابرُ بعد حِجْرٍ |
|
وطابَ لها الخورنقُ والسَّديرُ |
_____________________
(١) هذا البيت لم يذكره المُرزُباني ، وأورد ابن الأثير بدل الشطر الأخير : (تلقّتك السلامة والسُّرور). ـ المؤلّف ـ