السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨
قلت : مَن هذا؟ قيل : هو عبد الله بن العبّاس في عدة من أصحاب رسول الله (ص). ثمّ تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه النّاس بالأوّلين ، قلت : مَن هذا؟ قيل : قثم بن العبّاس. ثمّ أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح ، ثمّ ورد موكب فيه خلق من النّاس عليهم السّلاح والحديد ، مختلفو الرايات ، كأنّما على رؤوسهم الطير ، يقدمهم رجل كأنّما كُسر وجُبر ـ قال : وهذه صفة رجل شديد الساعدين ، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنّه : كُسر وجُبر ـ نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، وعن يمينه شاب حسن الوجه ، وعن شماله شاب حسن الوجه ، قلت مَن هؤلاء؟ قيل : هذا علي بن أبي طالب (ع) ، وهذان الحسن والحسين عليهماالسلام عن يمينه وشماله ، وهذا محمّد بن الحنفيّة بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (ع) ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فساروا حتّى نزلوا الموضع المعروف بـ (الزاوية) ، فصلّى علي (ع) أربع ركعات وعفّر خديه على التربة ـ وقد خالط ذلك دموعه ـ ثمّ رفع يديه يدعو ، فقال : «اللهمّ ، ربّ السّماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرّها».
هذا دخول علي (ع) البصرة من أرض العراق كما وصفه المنذر بن الجارود ، بما فيه من الجلالة والعظمة ، ولا يقتصر عنه في الجلالة والعظمة ، دخول ولده الحسين بن علي (ع) أرض العراق بأنصاره وأهل بيته عليهمالسلام ، وهم نجوم الأرض من آل عبد مناف ، من ولد علي والحسن والحسين وجعفر وعقيل عليهمالسلام ، الذين ليس لهم على وجه الأرض شبيه. ولكن دخول علي (ع) البصرة انتهى بنصره على أعدائه ، أمّا دخول ولده الحسين (ع) أرض العراق ، فابتدأ بملاقاة الحُرّ بن يزيد له في ألف فارس ومنعه عن الرجوع ، ثمّ أخذه طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى المدينة حتّى جاء أمر بن مرجانة إلى الحُرّ بأن يُجعجع بالحسين (ع) ويضيّق عليه ، ولا يُنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وجعل كلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتّى ورد كربلاء ، فقال : «أهذه كربلاء؟». قالوا : نعم يابن رسول الله. قال : «انزلوا ، فههنا مَحطُّ رحالنا ، وسفك دمائنا ، ومقتل رجالنا». وكما دعا أمير المؤمنين (ع) عند نزوله (الزاوية) دعا الحسين (ع) لمّا صبّحته الخيل يوم عاشوراء ، فقال : «اللهمّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدةٌ. كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك
وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته عنّي وكشفته ، فأنت وليُّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة». ثمّ انتهى الأمر بقتل الحسين (ع) وقتل أنصاره وأبنائه وإخوته وأبناء عمومته. فليتك يا أمير المؤمنين الذي قتل الأبطال وأفنى الرجال يوم البصرة ، لا غبت عن ولدك الحسين (ع) يوم كربلاء ، وقد بقي وحيداً فريداً ، لا ناصر له ولا معين :
خِلوٌ من الأنصارِ غير مُهنَّدٍ |
|
صافي الغِرارِ وصعْدةٍ سمْراءِ |
منعُوهُ من ماءِ الفُراتِ ووردِهِ |
|
وأبوُهُ ساقي الحوضِ يومَ جزاءِ |
حتّى قضَى عَطشاً كما اشْتَهتْ العِدى |
|
بأكفِّ لا صِيدٍ ولا أكفاءِ |
المجلس الخامس والأربعون بعد المئة
روى نصر بن مزاحم في كتاب صفّين : عن عبد الرحمن بن عوف الأحمر ، قال : لمّا قدمنا على معاوية وأهل الشام بـ (صفّين) ، وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه بساطاً واسعاً ، وأخذوا الشريعة فهي في أيديهم ، وقد صفّ أبو الأعور عليها الخيل والرجّالة ، وقد أجمعوا أنْ يمنعونا الماء. ففزعنا إلى أمير المؤمنين (ع) فأخبرناه بذلك ، فدعا صعصعة بن صوحان ، فقال : «ائت معاوية ، فقل إنّا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنّك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أنْ نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتّج عليك ، وهذه اُخرى قد فعلتموها ؛ حلتم بين النّاس وبين الماء ، فخلِّ بينهم وبينه حتّى تنظر فيما قدمنا له ، وإنْ كان أحبّ إليك أنْ ندع ما جئنا له ، وندع النّاس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب فعلنا». فقال معاوية لأصحابه : ما ترَون؟ قال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان ، اقتلهم عطشاً قتلهم الله. قال عمرو بن العاص : خلِّ بين القوم وبين الماء ؛ فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان ، ولكن لغير الماء فانظر. فأعاد الوليد مقالته وقال لعبد الله بن أبي سرح : امنعهم الماء إلى الليل ؛ فإنّهم إنْ لمْ يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمتهم ، امنعهم الماء منعهم الله إيّاه يوم القيامة. فقال صعصعة : إنّما يمنعه اللهُ يوم القيامة الكفرةَ الفجرة شَرَبة الخمر مثلك ومثل هذا الفاسق ـ يعني : الوليد بن عقبة ـ. فوثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدون. فقال معاوية : كفّوا عن الرجل ؛ فإنّه رسول. فقال صعصة لمعاوية : ما تردّ عليّ؟ قال : سيأتيكم رأيي. قال الراوي : فوالله ، ما راعنا إلاّ تسوية الرجال والخيل والصفوف ، وأرسل إلى أبي الأعور امنعهم الماء. فقام رجل من أهل الشام من همدان إلى معاوية ، وكان ناسكاً ، فقال : سبحان الله! إنْ سبقتم القوم إلى الفرات تمنعوهم عنه ، أما والله ، لو سبقوكم إليه لسقوكم منه ، أما تعلمون أنّ فيهم العبد والأجير والضعيف؟! هذا والله ، أوّل الجور. فأغلظ له معاوية ، فسار الهمداني في سواد
الليل فلحق بعلي (ع). ومكث علي (ع) يوماً وليلة بغير ماء ، فخرج نحو رايات مذحج وإذا رجل ينادي في سواد الليل :
أيَمنَعُنا القومُ ماءَ الفُراتْ |
|
وفينا الرِّماحُ وفينا الحَجَفْ |
وفينا عليٌّ له سَورةٌ |
|
إذا خوَّفوهُ الرَّدى لمْ يَخَفْ |
فنحنُ الذينَ غَداةَ الزّبير |
|
وطلحةَ خضْنا غمارَ التَّلفْ |
فما بالُنا أمسُ اُسدُ العرينْ |
|
وما بالُنا اليومَ شاءُ النَّجفْ |
وجاء الأشعث إلى أمير المؤمنين (ع) فقال : يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا السّيوف؟ خلِّ عنّا وعن القوم ، فوالله ، لا نرجع حتّى نردّه أو نموت. فقال (ع) : «ذلك إليك». فنادى الأشعث : مَن كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح. فأتاه اثنا عشر ألفا ً ، فلمّا أصبح حمل هو والأشتر ، وجعل الأشتر يُلقي رمحه ويقول : بأبي أنتم واُمّي! تقدّموا قاب رمحي هذا. فلم يزل كذلك حتّى خالط القوم ، وبعث إلى الأشعث : أنْ أقحم الخيل. فأقحمها حتّى وضعت سنابكها في الفرات ، وأخذت أهل الشام السّيوف فولّوا مدبرين. وقال معاوية لعمرو : ما ظنّك بعلي؟ قال : ظنّي به أنّه لا يستحلّ منك ما استحلّك منه ، وإنّ الذي جاء لَغير الماء. فقال أهل العراق : والله ، لا نُسقيهم. فأرسل إليهم علي (ع) : «خذوا من الماء حاجتكم ، وخلّوا بينهم وبين الماء ؛ فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم». وعلى هذه السُنّة جرى ابن زياد وأصحابه ـ أتباع يزيد بن معاوية ـ يوم كربلاء ، فكما منع معاوية وأتباعه أمير المؤمنين (ع) وأصحابه يوم صفّين ماء الفرات ، منع الحسين (ع) وأصحابه ماء الفرات يوم كربلاء ، وكتب ابن زياد إلى ابن سعد : أنْ حِل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقيِّ الزكيِّ عثمان. فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين (ع) وأصحابه وبين الماء ، ومنعوهم أن يستقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (ع) بثلاثة أيام. لكنّ منع علي (ع) وأصحابه الماء يوم صفّين انتهى بانتصار أميرالمؤمنين (ع) واستيلائهم على الشريعة ؛ ومنع الحسين (ع) الماء يوم كربلاء انتهى بقتل الحسين (ع) عطشان ظاميا ً ، وقُتل أهل بيته وأصحابه ، وسبي نسائه وذراريه :
منعوهُمُ ماءَ الفُراتِ ودونَهُ |
|
بسيوفِهمْ دمُهمْ يُطلُّ مُحلّلا |
المجلس السّادس والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين صلّى علي (ع) صلاة الغَداة ، ثمّ زحف إلى أهل الشام ، فلمّا أبصروه قد خرج ، استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ثمّ إنّ خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علي ألف رجل أو أكثر ، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلمْ يروهم ، فنادى علي (ع) يومئذ : «ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته؟». فأتاه رجل من جُعف يقال له : عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم ، كأنّه غراب مقنّعاً في الحديد لا يُرى منه إلاّ عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مُرني بأمرك ، فوالله ، ما تأمرني بشيء إلاّ صنعته. فقال علي (ع) :
سمحْتَ بأمرٍ لا يُطاقُ حفيظةً |
|
وصِدقاً وإخوانُ الحفاظِ قليلُ |
جزاك إلهُ النّاسِ خيراً فقدْ وفَتْ |
|
يداكَ بفضلٍ ما هناكَ جزيلِ |
«أبا الحارث ، شدّ الله ركنك ، احمل على أهل الشام حتّى تأتي أصحابك فتقول لهم : أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام ، ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا من ناحيتكم ، ونُهلّل نحن ونكبّر من ناحيتنا ، واحملوا من جانبكم ، ونحمل نحن من جانبنا على أهل الشام». فضرب الجُعفي فرسه حتّى إذا قام على السنابك حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي (ع) ، فطاعنهم ساعة وقاتلهم ، فانفرجوا له حتّى أتى أصحابه. فلمّا رأوه استبشروا به وفرحوا ، وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين؟ قال : صالح يقرؤكم السّلام ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب ، ونهلّل نحن من جانبنا ونكبّر ونحمل من خلفكم. فهلّلوا وكبّروا وحملوا ، وهلّل علي (ع) وأصحابه وكبّروا وحملوا على أهل الشام ، فانفرج أهل الشام عنهم ، فخرجوا وما اُصيب منهم رجل واحد ، ولقد قُتل من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبعمئة رجل. فقال علي (ع) : «مَن أعظم النّاس غناءً؟». فقالوا : أنت يا أمير المؤمنين. قال : «كلاّ ، ولكنّه الجُعفي». إنّ مقام هذا الجُعفي بصفّين لمقامٌ عظيمٌ ، وكفاه شهادة أمير المؤمنين (ع) له بأنّه أعظم النّاس
غناءً ، وما أشبه مقامه بمقام أبي الفضل العبّاس يوم كربلاء حين برز عمرو بن خالد الصيداوي ، فقال : له الحسين (ع) : «تقدّمْ فإنّا لاحقون بك عن ساعة». فحمل هو وسعد مولاه ، وجنادة بن الحارث السلماني ، ومجمع بن عبد الله العائذي ، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على النّاس ، فلمّا وغلوا في أصحاب ابن سعد قطعوهم عن أصحابهم وأحاطوا بهم ، فندب الحسين (ع) لهم أخاه العبّاس فحمل على القوم وحده ، فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه وخلص إليهم ، فسلّموا عليه واستنقذهم وجاء بهم ولكنّهم كانوا جرحى ، فأبوا عليه أنْ يستنقذهم سالمين ، فعاودوا القتال وحملوا فقاتلوا وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد ، فعاد العبّاس إلى أخيه وأخبره بخبرهم. ولكنّ شتّان بين المقامين ؛ فالجُعفي حمل على أهل الشام مستعيناً بأمير المؤمنين (ع) وأصحابه حتّى استنقذوه ومَن معه ، وأبو الفضل العبّاس حمل وحده على ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة ، وضاربهم حتّى وصل إلى أصحابه وأنصار أخيه الحسين (ع) ، واستنقذهم وحده لم يساعده أحد. قرّت عينك يا أمير المؤمنين بولدك أبي الفضل العبّاس الذي ورث منك الشجاعة والفروسية ، وقاتل بين يدي أخيه الحسين (ع) قتال الأبطال ، فلو ترآه وهو مقطوع اليدين ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم ، مثخناً بالجراح ، وولدك أبو عبد الله الحسين (ع) واقف عنده منحنياً ، ثمّ جلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الطاهرة :
أبا حسَنٍ أبناؤُكَ اليومَ حلَّقتْ |
|
بقادمةِ الأسيافِ عنْ خطَّةِ الخسف |
سلْ الطَّفَّ عنهُمْ أين بالأمسِ طنَّبُوا |
|
وأين استقلُّوا اليومَ عن عرْصةِ الطَّفِّ |
ولمّا رأوا بعضَ الحياةِ مذلَّةً |
|
عليهمْ وعِزَّ الموتِ غيرَ مُحرَّم |
أبَوا أنْ يذوقُوا العيشَ والذي واقعٌ |
|
عليهِ وماتُوا ميتةً لم تُذمَّم ِ |
ولا عجبٌ للاُسْدِ إنْ ظفرَتْ بها |
|
كلابُ الأعادِي منْ فصيحٍ وأعجَم |
فحربةُ وحشيٍّ سَقتْ حمزةَ الرَّدى |
|
وحتفُ عليٍّ من حسامِ ابنِ مُلجَم |
المجلس السّابع والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين برز رجل من أهل الشام اسمه كريب بن الصبّاح الحِميري من آل ذي يزن ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر منه بشدّة البأس ، ثمّ نادى : مَن يبارز؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضّاع الزبيدي فقتل المرتفع ، ثمّ نادى : مَن يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاّح فقتله ، ثمّ نادى مَن يبارز؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتل عائذاً ، ثمّ رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثمّ قام عليها بغياً واعتداءً ، ثمّ نادى : هل بقي من مبارز؟ فبدر إليه علي (ع) ، ثمّ ناداه : «ويحك يا كريب! إنّي اُحذّرك وأدعوك إلى سنّة الله وسنّة رسوله. ويحك! لا يدخلنّك ابن آكلة الأكباد النّار». فكان جوابه أن قال : ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك فلا حاجة لنا فيها ، أقدم إذا شئت. مَن يشتري سيفي وهذا أثره؟ فقال علي (ع) : «لا حول ولا قوة إلاّ بالله». ثمّ مشى إليه فلمْ يمهله أن ضربه ضربة خرّ منها قتيلاً يتشحّط في دمه. ثمّ نادى علي (ع) : «مَن يبارز؟». فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتل الحارث ، ثمّ نادى : «مَن يبارز؟». فلم يبرز إليه أحد ، ثمّ إنّ عليّاً (ع) نادى : يا معشر المسلمين (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ويحك يا معاوية! هلُمّ إليّ فبارزني ، ولا يقتتلن النّاس فيما بيننا». فقال عمرو : اغتنمه منتهزاً ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإنّي أطمع أن يظفرك الله به. فقال معاوية : ويحك يا عمرو! والله ، إنْ تريد إلاّ أنْ اُقتل فتصيب الخلافة بعدي ، اذهب إليك عنّي ، فليس مثلي يُخدع. قال زياد بن النّصر الحارثي : شهدت مع علي (ع) بصفّين ، فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتّى تكسرت الرماح ونفدت السّهام ، ثمّ صرنا إلى المسايفة ، فاجتلدنا بالسيوف إلى نصف الليل حتّى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً ، وقد قاتلت تلك الليلة بجميع السّلاح فلمْ يبقَ شيء من
السّلاح إلاّ قاتلت به حتّى تحاثينا بالتراب ، وتكادمنا بالأفواه حتّى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ، ما يستطيع أحد من الفريقين أنْ ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل. فلمّا كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف ، وغلب علي (ع) على القتلى تلك الليلة ، وأقبل على أصحاب محمّد (ص) وأصحابه فدفنهم. فأين كان أميرالمؤمنين (ع) عن ولده الحسين (ع) وأصحابه يوم طفّ كربلاء ، فيصلّي عليهم ويدفنهم حتّى لا يبقوا ثلاثة أيام بلياليها على وجه الصعيد كالأضاحي جثثاً بلا رؤوس ، تسفي عليهم الرياح ، زوارهم الوحوش والطيور ، وأكفانهم السّواقي من الرمال؟!
مُطرَّحينَ على الرَّمْضاءِ قد لبسُوا |
|
من المَهابةِ أبراداً لها قُشُبَا |
مُضرَّجينَ بمحمرِّ النَّجيعِ بنَى |
|
نَبلُ العِدى والقَنا من فوقِهمْ قُببَا |
منْ كلِّ جسمٍ بوجهِ الأرضِ مطَّرحٍ |
|
وكلِّ رأسٍ برأسِ الرُّمحِ قدْ نُصبَا |
وأين كان أمير المؤمنين (ع) عن ولده الحسين (ع) حين نادى عمر بن سعد : مَن يبتدر للحسين فيدوس صدره بحوافر فرسه؟!
ما شفَى داءَ ضغْنِها القتلُ حتّى |
|
بالعوادي عادتْ ترضُّ قُراهَا |
المجلس الثامن والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين خرج رجل من أهل الشام يسأل المبارزة ، فخرج إليه رجل من أهل العراق ، فاقتتلا بين الصفّين قتالاً شديداً ، ثمّ إنّ العراقي اعتنق الشامي فوقعا جميعاً تحت قوائم فرسيهما ، فجلس العراقي على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه ، فلمّا رآه عرفه فاذا هو أخوه. فصاح به أصحاب علي (ع) : أجهز على الرجل. فقال : إنّه أخي. قالوا : فاتركه. فقال : حتّى يأذن لي أمير المؤمنين (ع). فاُخبر علي (ع) بذلك ، فأرسل إليه : «دعْهُ». فتركه. وكان لمعاوية مولىً يُقال له : حريث ، وكان فارس معاوية الذي يعدّه لكلّ مبارز ولكلّ عظيم. وكان حريث يلبس سلاح معاوية متشبّهاً به ، فإذا قاتل قال النّاس : ذاك معاوية. وإنّ معاوية دعاه وقال له : يا حريث ، اتّقِ عليّاً وضع رمحك حيث شئت. فأتاه عمرو بن العاص ، فقال : يا حريث ، لو كنت قرشيّاً لأحبَّ معاوية أنْ تقتل عليّاً ، ولكن كره أنْ يكون لك حظَّها ، فإنْ رأيت فرصة لعلي فأقحم عليه وقاتله. قال : وخرج أمير المؤمنين (ع) أمام الخيل ، فحمل عليه حريث مولى معاوية ، وكان شديداً ذا بأس ، ونادى : يا علي ، هل لك في المبارزة؟ فأقدم أبا حسن إذا شئت. فأقبل أمير المؤمنين (ع) ، وهو يقول :
أنا عليٌّ وابنُ عبدِ المُطَّلبْ |
|
نحنُ لَعمرُ اللهِ أولى بالكُتُبْ |
منّا النّبيُّ المُصطفَى غيرُ كذبْ |
|
أهلُ اللواءِ والمقامِ والحُجُبْ |
يا أيُّها العبدُ الغريبُ المُنتدِبْ |
|
يا أيُّها العبدُ الغريبُ المُنتدِبْ |
ثم ضربه علي (ع) فقتله ، فجزع عليه معاوية جزعاً شديداً ، وعاتب عمرو بن العاص في ذلك ، ثمّ أنشأ معاوية يقول :
حُريثُ ألَمْ تعلمْ وجهلُك ضائرُ |
|
بأنّ عليّاً للفوارسِ قاهرُ |
وأنّ عليّاً لمْ يبارزه فارسٌ |
|
من النّاس إلاّ أقصدتهُ الأظافرُ |
أمرتُك أمراً حازماً فعصيتَني |
|
فجدّك إذْ لمْ تقبل النُّصحَ عاثرُ |
ودلاّك عمروٌ والحوادثُ جمَّةٌ |
|
غرُوراً وما جرَّتْ عليك المقادرُ |
وظنَّ حُريثٌ إنّ عمْراً نصيحُهُ |
|
وقد يُهلِكُ الإنسانَ مَن لا يحاذرُ |
ولمّا قتل أمير المؤمنين (ع) حريثاً ، برز عمرو بن الحصين السكسكي ـ وهو من أهل الشام فنادى بأعلى صوته : يا أبا حسن ، هلمّ إلىّ المبارزة. فأنشأ علي (ع) يقول :
ما علَّتي وأنا جلدٌ حازمْ |
|
وعن يميني مَذحِجُ القماقمْ |
وعن يساري وائلُ الخضارِمْ |
|
والقلبُ حولي مُضرُ الجماجمْ |
أقسمتُ بالله العليِّ العالِمْ |
|
لا أنثني إلاّ بردِّ الرّاغمْ |
ثمّ حمل عمرو بن الحصين على أمير المؤمنين (ع) ليضربه ، فبادر إليه سعيد بن قيس الهمداني ففلق صلبه ، فقال أمير المؤمنين (ع) :
دعوتُ فلبّاني منَ القومِ عُصبةٌ |
|
فوارِسُ من هَمْدانَ غيرُ لئام |
فوارسُ منْ همْدانَ ليسُوا بعزَّلٍ |
|
غَداةَ الوغَى من شاكرٍ وشِبامِ (١) |
بكلِّ رُدينيٍّ وعَضْبٍ تخالُهُ |
|
إذا اختلفَ الأقوامُ شَعْلَ ضِرام |
لهمدانَ أخلاقٌ ودينٌ يَزينهُمْ |
|
وبأسٌ إذا لاقَوْا وحدُّ خصام |
وجِدٌّ وصدقٌ في الحروبِ ونجدةٌ |
|
وقولٌ إذا قالوا بغيرِ أثام |
مَتى تأتِهمْ في دارهِمْ تستَضفهُمْ |
|
تَبِتْ ناعماً في خِدمةٍ وطعام |
جَزى اللهُ همْدانَ الجنانَ فإنّها |
|
سِمامُ العِدى في كلِّ يوم زحام |
فلو كنتُ بوّابا على باب جنَّةٍ |
|
لقلتُ لهمْدانَ ادخلوا بسلام |
وكانت قبيلة همدان من القبائل الموالية لأمير المؤمنين (ع) والمتفانية في حبّه ، وكفاهم قوله (ع) :
فلو كنتُ بوّابا على باب جنَّةٍ |
|
لقلتُ لهمْدانَ ادخلوا بسلام |
وكان منهم مع ولده الحسين (ع) عدد غير قليل ، منهم : أبو ثمامة
_______________________
(١) شاكر وشبام : بطنان من همدان.
الصائدي الذي قال للحسين (ع) يوم عاشوراء : يا أبا عبدالله ، نفسي لنفسك الفداء! هؤلاء اقتربوا منك ، لا والله ، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، وأحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة معك. فرفع الحسين (ع) طرفه إلى السّماء ، وقال : «ذكرتَ الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها». ثمّ قال (ع) : «سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي». ثمّ إنّ أبا ثمامة قال للحسين (ع) : يا أبا عبد الله ، إنّي قد هممت أنْ ألحق بأصحابي وكرهت أنْ اتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلاً. فقال له الحسين (ع) : «تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة». فتقدّم فقاتل حتّى اُثخن بالجراحات ، ولمْ يزل يقاتل حتّى قُتل. ومنهم : بُرير بن خضير الهمداني الذي جلس هو وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري على باب الفسطاط الذي دخله الحسين (ع) يوم عاشوراء ليصلّي ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا برير ، ما هذه ساعة باطل! فقال برير : لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ؛ وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه ، فوالله ، ما هو إلاّ أنْ نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ، ثمّ نعانق الحور العين :
فوارسُ اتخَذوا سُمرَ القنَا سَمَراً |
|
فكلَّما سجَعَتْ ورقُ القنَا طَربُوا |
يسْتنجِعُونَ الرَّدى شَوقاً لغايتِهِ |
|
كأنّما الضربُ في أفوهِها الضَرَبُ (١) |
واستأثَرُوا بالرَّدى منْ دونِ سيِّدهِمْ |
|
قصْداً وما كلُّ إيثارٍ به الأربُ |
_______________________
(١) الضرب : العسل وزناً ومعنىً.
المجلس التاسع والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين قام علي (ع) بين الصفّين ، ونادى : «يا معاوية» ، يكررها. فقال معاوية : اسألوه ما شأنه؟ قال (ع) : «أحبّ أن يظهر لي فاُكلّمه كلمة واحدة». فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلمْ يلتفت إلى عمرو. وقال (ع) لمعاوية : «ويحك! علامَ يُقتتل النّاس بيني وبينك؟! ابرز إليّ فأيُّنا قتل صاحبه فالأمر له». فالتفت معاوية إلى عمرو ، فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ، اُبارزه؟ فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ، واعلم أنّك إنْ نكلت عنه لمْ تزل سُبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي. فقال معاوية : يا عمرو ، ليس مثلي يُخدع عن نفسه ، والله ، ما بارز ابن أبي طالب رجلاً قطّ إلاّ سقى الأرض من دمه. ثمّ انصرفا راجعين حتّى انتهيا إلى آخر الصفوف ، وحقَدها معاوية على عمرو ، وقال : ما أظنّك إلاّ مازحاً! فلمّا جلس معاوية مجلسه دخل عليه عمرو ، فقال معاوية :
يا عمروُ إنّكَ قدْ قشرتَ ليَ العَصا |
|
برضاكَ في وسَطِ العجاجِ بِرازي |
ولقدْ أعدْتَ فقُلتُ مَزْحَةُ مازحٍ |
|
والمَزْحُ يحملُهُ مقالُ الهازي |
فإذا الذي منَّتكَ نفسُكَ خالياً |
|
قتلِي جزاكَ بما نويتَ الجازي |
فقال له عمرو : أتجبن عن خصمك وتتهم نصيحك؟ وقال مجيباً له :
معاويَ إنْ نكلتَ عن البِرازِ |
|
لك الويلاتُ فانظُرْ في المخازي |
وما ذنبي بإنْ نادَى عليٌّ |
|
وكبشُ القومِ يُدعَى للبِرازِ |
فلَو بارزْتهُ بارزتَ ليثاً |
|
حديدَ النَّابِ ينفذُ كلَّ بازِ |
وتزْعمُ أنّني أضمرتُ غِشاً |
|
جزاني بالذي أضمرتُ جازِ |
وبرز عمرو بن العاص في بعض أيام صفّين ، فاعترضه علي (ع) ثمّ طعنه
فصرعه ، واتّقاه عمرو برجله فبدت عورته ، فصرف علي (ع) وجهه عنه ، فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال (ع) : «وهل تدرون مَن هو؟». قالوا : لا. قال (ع) : «فإنّه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه». وإلى ذلك أشار أبو فراس الحمداني بقوله :
ولا خيرَ في دفعِ الرَّدى بمذلّةٍ |
|
كما ردَّها يوماً بسوأتهِ عَمرو |
ورجع عمرو إلى معاوية ، فقال له : ما صنعت؟ قال : لقيني علي فصرعني فاتّقيته بعورتي. قال : احمد الله وعورتك ، أمّا والله ، لو عرفته ما أقحمت عليه. وقال معاوية في ذلك :
ألا لله منْ هفواتِ عَمرٍو |
|
يعاتبُني على تركِي بِرازي |
فقدْ لاقَى أبا حسنٍ عليّاً |
|
فآبَ الوائليُّ مآبَ خازِ |
فلَو لمْ يُبدِ عورتَهُ للاقَى |
|
بهِ ليثاً يذللُ كلَّ نازِ |
له كفٌّ كأنَّ براحتيْها |
|
منايا القومِ يخطِفُ خطفَ بازِ |
فإنْ تكُنْ المنيَّةُ أخطأتْهُ |
|
فقدْ غنَّى بها أهلُ الحجازِ |
فغضب عمرو ، وقال : هل هو إلاّ رجل لقيه ابن عمّه فصرعه ، أفترى السّماء قاطرةً لذلك دماً؟! قال معاوية : ولكنّها تعقبك جبناً.
وبرز عُروة بن داود الدمشقي ، فقال : إنْ كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلمّ. فتقدّم إليه علي (ع) فقال له أصحابه : ذَر هذا الكلب ؛ فإنّه ليس لك بخطر. فقال (ع) : «والله ، ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه ، دعوني وإيّاه». ثمّ حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطت إحداهما يمنة والاُخرى يسرة ، فارتجّ العسكران لهول الضربة ، ثمّ قال (ع) : «يا عُروة ، اذهب فأخبر قومك ، أما والذي بعث محمّداً بالحقِّ لقد عاينت النّار وأصبحت من النّادمين». وحمل ابن عمّ لعُروة على علي (ع) فطعنه ، فضرب علي (ع) الرمح فبراه ، ثمّ قنّعه ضربة فألحقه بابن عمّه ، ومعاوية ينظر. فقال معاوية : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً! أما فيهم مَن يقتل هذا ـ يعني : أميرالمؤمنين (ع) ـ مبارزةً أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثَوَران النّقع فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت ؛ فإنّك أولى النّاس بمبارزته. فقال : والله ، لقد دعاني إلى البراز حتّى استحييت من قريش ، وإنّي والله ، لا أبرز إليه ؛ ما جُعل العسكر بين يدي الرئيس إلاّ وقاية له. فقال عتبة بن أبي سفيان : الهوا عن هذا ، كأنّكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنّه قتل حريثاً وفضح عمراً ، ولا يتحكّك به أحد إلاّ قتله. فقال معاوية لبُسر بن أرطاة : أتقوم لمبارزته؟ فقال : ما أحد أحقّ بها منك ، وإذا أبيتموه فأنا له. وكان عند بُسر ابنُ عمّ له قدم من الحجاز يخطب ابنته ، فقال لبُسر :
ما يدعوك إلى ذلك؟ قال : الحياء. فضحك الغلام ، وقال :
تنازلُهُ يا بُسْرُ إنْ كُنتَ مثلَهُ |
|
وإلاّ فإنَّ الليثَ للضبعِ آكلُ |
كأنّك يا بُسْرُ بنَ أرطاةَ جاهلٌ |
|
بآثارِهِ في الحربِ أو متجاهل |
متَى تلْقِهِ فالموتُ في رأسِ رُمحِهِ |
|
وفي سيفهِ شغلٌ لنفسك شاغل |
فقال بُسر : هل هو إلاّ الموت! فغدا علي (ع) منقطعاً من خيله ومعه الأشتر ، فناداه بُسر : ابرز إليّ أبا حسن. فجاءه علي (ع) بتؤدة غير مكترث ، فلمّا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه على الأرض ، ومنع الدرعُ السّنان أنْ يصل إليه فاتّقاه بُسر ، وقصد أنْ يكشف سوأته ليستدفع بأسه فانصرف علي (ع) عنه مستدبراً له ، فقال له الأشتر : إنّه بُسر بن أرطاة! عدو الله وعدوك يا أمير المؤمنين. فقال (ع) : «دَعْه عليه لعنة الله ، أبَعد أنْ فعلها!». ورجع بُسر ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد أدال الله عمراً منك. فقال في ذلك النّضر بن الحارث :
أفي كلِّ يومٍ فارسٌ تندبُونهُ |
|
لهُ عورةٌ وسطَ العَجاجةِ باديهْ |
يكفُّ بها عنهُ عليٌّ سِنانَهُ |
|
ويضحكُ منها في الخلاءِ مُعاويهْ |
بدتْ أمسِ من عمرٍو فقنَّع رأسَهُ |
|
وعورةُ بُسرٍ مثلُها حَذْوَ حاذِيهْ |
فقولا لعمرٍو وابنِ أرطأةَ أبصِرا |
|
سبيلَكُما لا تَلقَيا اللَّيثَ ثانيهْ |
ولا تَحمدا إلاّ الحيا وخُصاكُما |
|
هُما كانتا واللهِ للَّنفس واقيهْ |
فلولاهما لم تَنجُوَا منْ سنانهِ |
|
وتلك بما فيها عنْ العَودِ ناهيهْ |
متَى تلقيا الخيلَ المُشيحةَ صُبْحةً |
|
وفيها عليٌّ فاتْرُكا الخيلَ ناحيهْ |
وكونا بعيداً حيثُ لا يبلغ القَنا |
|
نحورَكُما إنّ التجاربَ كافيهْ |
وإنْ كان منهُ بعدُ في النَّفسِ حاجةٌ |
|
فعُودا إلى ما شئتُما هي ما هِيهْ |
وعمرو هذا هو الذي دبّر الحيلة على مولانا أمير المؤمنين (ع) برفع المصاحف على رؤوس الرماح حتّى اغترّ بذلك أهل العراق ، واضطرّ أمير المؤمنين (ع) إلى القبول بالتحاكم إلى القرآن وهو يقول لهم : «أنا كتاب الله النّاطق ، وهذا كتاب الله الصامت». فلمْ يسمعوا. ولولا رفع تلك المصاحف على رؤوس الرماح ، لم يُرفع رأس الحسين (ع) ورؤوس أصحابه على رؤوس الرماح يوم كربلاء ، يسار بها من بلد إلى بلد ، فمن كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام أمام عينَي زين العابدين (ع) ، وأمام عينَي زينب وسائر النّساء. ولمّا قربوا من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر ، فقالت له : لي إليك حاجة. فقال : ما حاجتك؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في
درب قليل النظّارة ، وتقدّم إليهم أنْ يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها ؛ فقد خزينا من كثرة النّظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر في جواب سؤالها ، أنْ تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغيّاً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة :
ليتَ المواكبَ والوصيُّ زعيمُها |
|
وقَفوا كموقِفكُمْ على صفّين |
بالطفِّ كي يرَوا الاُولى فوق القنَا |
|
رُفعتْ مصاحفُها اتّقاءَ منون |
جعلتْ رؤوسَ بني النّبيِّ مكانَها |
|
وشفَتْ قديمَ لواعجٍ وضغون |
المجلس الخمسون بعد المئة
اجتمع عند معاوية بصفّين ليلةً عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وغيرهم ، فقال عتبة : إنّ أمرنا وأمر علي لعجب! ليس منّا إلاّ موتور ؛ أمّا أنا فقتل جدّي وشرك في دم عمومتي يوم بدر ؛ وأمّا أنت يا وليد ، فقتل أبوك يوم الجمل وأيتم إخوتك ؛ وأمّا أنت يا مروان ، فكما قال الشاعر :
وأفَلتَهُنَّ (١) عِلباءٌ (٢) جَريضاً (٣) |
|
ولو أدرَكْنَهُ صَفِرَ الوِطابُ (٤) |
قال معاوية : هذا الإقرار فأين الغير؟ قال مروان : أيّ غير تريد؟ قال : اُريد أنْ يشجر بالرماح. فقال : والله ، إنّك لهازل ولقد ثقلنا عليك. فقال الوليد بن عقبة في ذلك :
يقولُ لنا معاويةُ بنُ حربٍ |
|
أمَا فيكُمْ لِواترِكُمْ طَلُوبُ |
يشدُّ على أبي حسنٍ عليٍّ |
|
بأسمرَ لمْ تُهجِّنهُ الكُعوبُ |
فقلتُ لهُ أتلعبُ يابنَ هندٍ |
|
كانَّك وسْطَنا رجلٌ غريبُ |
أتأمرُنا بحيَّةِ بطنِ وادٍ |
|
إذا نَهشَتْ فليس لها طبيبُ |
وما ضَبُعٌ أقام ببطنِ وادٍ |
|
اُتيح له بهِ أسدٌ مَهيبُ |
بأضعفَ حيلةً منّا إذا ما |
|
لَقيناه وذا منَّا عَجيبُ |
سِوى عمرٍو وقَتْهُ خُصيتاهُ |
|
نجا ولِقلبِهِ منها وَجيبُ |
_____________________
(١) انفلت منهن.
(٢) اسم رجل.
(٣) الجريض : المغموم.
(٤) الوطاب : جمع وطب ، وهو سقاء اللبن. وصفرت الوطاب : أي خلت من اللبن ، ويكنّى به عن الموت. يقال : صفرت وطابه : أي مات أو قُتل. وهذا البيت ضربه كالمثل لمروان ، أي : أنّه أفلت يوم الجمل بآخر رمق ، ولو أدركه علي (ع) لقتله. ـ المؤلّف ـ
لعمر أبي معاويةَ بن حربٍ |
|
وما ظنِّي ستلحقهُ العيوبُ |
لقد ناداهُ في الهيجا عليٌّ |
|
فأسمعهُ ولكنْ لا يُجيبُ |
فغضب عمرو ، وقال : إنْ كان الوليد صادقاً ، فليلقَ عليّاً أو ليقف حيث يسمع صوته. وقال عمرو :
يُذكِّرُني الوليدُ دُعَا عليٍّ |
|
وبطنُ المرءِ يملؤهُ الوعيد |
مَتى تذكُرْ مشاهدَهُ قُريشٌ |
|
يَطِرْ منْ خوفهِ القلبُ الشديد |
فأمّا في اللقاءِ فأين منهُ |
|
معاويةُ بنُ حربٍ والوليد |
وعيَّرَني الوليدُ لقاءَ ليثٍ |
|
إذا ما زارَ هابَتْهُ الاُسودُ |
لقيتُ ولستُ أجهلُهُ عليّاً |
|
وقدْ بُلّتْ من العَلَقِ الكُبُود |
فأطعنُهُ ويطعنُني خِلاساً |
|
وماذا بَعد طعنتِهِ اُريد |
فرُمْها منهُ يابنَ أبي مُعَيْطٍ |
|
وأنتَ الفارسُ البطلُ النَّجيد |
فاُقسِمُ لو سمعتَ نِدَا عليٍّ |
|
لطارَ القلبُ وانتفَخَ الوريد ُ |
ولو لاقيتَهُ شُقَّتْ جُيوبٌ |
|
عليك ولُطِّمتْ فيك الخُدود |
وما زالت أضغان بني اُميّة كامنةً في صدورهم بقتل مَن قتله منهم أمير المؤمنين (ع) ، يوم كانوا يقودون الجيوش لحرب رسول الله (ص) ، ومحو الإسلام في يوم بدر واُحد والأحزاب ، ويُظهرونها لعلي (ع) وأولاده ، ويجهدون في محوهم عن جديد الأرض كلّما سنحت لهم الفرصة ، ويُظهرون الشماتة والفرح بما يُصيب آل بيت رسول الله (ص) من المصائب. فمِن ذلك لمّا جاء الخبر إلى المدينة بقتل الحسين (ع) ، وكان الأمير عليها من بني اُميّة وهو عمرو بن سعيد بن العاص ، فلمّا سمع أصوات نساء بني هاشم يبكين على الحسين (ع) ويندبنه ، ضحك وتمثل بقول بعض العرب :
عجَّتْ نساءُ بني زيادٍ عجَّةً |
|
كعجيجِ نسوتِنا غَداةَ الأرنب |
ثم خطب النّاس ، وقال في خطبته : إنّها لدمةٌ بلدمة وصدمة بصدمة ، كمْ خطبة بعد خطبة ، وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تُغني النّذر. ومن ذلك لمّا وُضع رأس الحسين (ع) ورؤوس أهل بيته وأصحابه بين يدي يزيد ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (ع) ، ثم قال : يوم بيوم بدر. وقيل : إنّ مروان بن الحكم أخذ الرأس الشريف وتركه بين يديه ، وقال :
يا حبَّذا بُردُك في اليَدينِ |
|
يا حبَّذا بُردُك في اليَدينِ |
كأنّما حُفَّ بوردَتينِ |
|
شفيتُ نفسي من دمِ الحُسين |
والله ، لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان.
قومٌ قَتلتُمْ على الإسلامِ أوّلَهُمْ |
|
حتّى إذا اسْتمكَنُوا جازوا على الكُفُرِ |
أبناءُ حرْبٍ ومروانٍ واُسرتُهمْ |
|
بنو مُعيطٍ وُلاةُ الحُقدِ والوَغَرِ |
بني اُميّةَ ما الأسيافُ نائمةً |
|
عن ساهرٍ في أقاصي الأرضِ مَوتورِ |
أكلُّ يومٍ لآلِ المُصطفَى قمرٌ |
|
يهوي بوقعِ العوالي والمبَاتيرِ |
المجلس الحادي والخمسون بعد المئة
من مواقف أمير المؤمنين (ع) في وقعة صفّين ، ما كان يوم الهرير. قال بعض الرواة : فوالذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً ، ما سمعنا برئيس قوم ، منذ خلق الله السّماوات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب علي (ع) ؛ إنّه قتل ـ فيما ذكر العادّون ـ زيادةً على خمسمئة من أعلام العرب ، يخرج بسيفه منحنياً ، فيقول : «معذرة إلى الله وإليكم من هذا ، لقد هممت أنْ أفلقه ولكن يحجزني عنه أنّي سمعت رسول الله (ص) ، يقول : لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فَتَى إلاّ علي. وأنا اُقاتل دونه». قال : فكنّا نأخذه فنقوّمه ، ثمّ يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصفّ ، فلا والله ، ما ليثٌ بأشد نكاية منه في عدوه ، وكان في أوائل أيام صفّين يسهر الليل كلَّه إلى الصباح يُعبئ الكتائب ، ويأمر الاُمراء ، ويعقد الألوية. ومرّ في اليوم السّابع ، ومعه بنوه ، نحو الميسرة والنّبل يمرّ بين عاتقيه ومنكبيه ، وما من بنيه إلاّ مَن يقيه بنفسه ، فيكره علي (ع) ذلك ، ويتقدّم نحو أهل الشام ويؤخر الذي يقيه إلى ورائه. وجاء أحمر مولى بني اُميّة يوم صفّين ، وقال لأمير المؤمنين (ع) : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك. فخرج إليه كيسان مولى علي (ع) فقتله أحمرُ ، وأراد أن يضرب أمير المؤمنين (ع) بالسّيف ، فانتهزه أمير المؤمنين (ع) ووضع يده في جيب درع أحمر ، فجذبه عن فرسه وحمله على عاتقه. قال الراوي : فوالله ، لكأنّي أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي (ع) ، ثمّ ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشدّ الحسين ومحمد بن الحنفيّة عليهماالسلام فضرباه بأسيافهما حتّى برد ، وبقي الحسن (ع) واقفاً مع أبيه ، فقال (ع) له : «ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟». قال : «كفياني يا أمير المؤمنين». ثمّ دنا أهل الشام من أمير المؤمنين (ع) يريدونه. قال الراوي : فوالله ، ما يزيده قربهم منه ودنوهم إليه سرعة في مشيه. فطلب منه الحسن (ع) أن يسرع في مشيه ليلحق بربيعة ، فقال له : «يا بني ، إنّ لأبيك يوماً لنْ يعدوه ، ولا يُبطئ به عنه السَّعي ، ولا يُقرِّبه
إليه الوقوف. إنّ أباك لا يُبالي إنْ وقع على الموت أو وقع الموتُ عليه». ومن هذه الشجاعة ورث ولده الحسين (ع) ، وعلى نهجها نهج ، وفي سبيلها درج :
فهو ابنُ حيدرةَ البطِينِ الأنْزَعِ الْ |
|
مُفني الاُلوفَ بحومةِ الهيْجاءِ |
لهُ منْ عليٍّ في الحُروبِ شجاعةٌ |
|
ومنْ أحمدٍ عندَ الخطابةِ قيلُ |
ولمّا كان يوم عاشوراء دعا النّاس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ مَن يبرز إليه حتّى قتل مقتلة عظيمة ، ثمّ حمل على الميمنة ، وهو يقول :
القتلُ أولَى منْ رُكوبِ العارِ |
|
والعارُ أولَى منْ دُخولِ النّار |
واللهِ مِنْ هذا وهذا جاري
ثمّ حمل على الميسرة ، وهو يقول :
أنا الحُسينُ بنُ عليْ |
|
آليتُ أنْ لا أنْثَنِي |
أحمِي عِيالاتِ أبي |
|
أمضي على دينِ النّبيْ |
قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً (أي : مغلوباً) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً ، ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله ؛ إنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا حول ولا قوّة إلا بالله». وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد ، وكلمّا حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه.
منعُوهُ من ماء الفُراتِ ووردِهِ |
|
وأبوُهُ ساقي الحوضِ يومَ جزاءِ |
حتّى قضى عَطشاً كما اشْتهتِ العِدى |
|
بأكفِّ لا صيدٍ ولا أكفاءِ |