الشيخ خالد البغدادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
أو يستكثر ذلك علىٰ الصدّيقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام وهي سيّدة نساء العالمين ، وسيّدة نساء أهل الجنّة (١) ..
وبضعة النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم الّتي يؤذيه ما يؤذيها (٢) ..
والّتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها (٣)؟!
* * *
__________________
(١) راجع : صحيح البخاري ٤ / ١٨٣ كتاب المناقب ، باب : علامات النبوّة في الإسلام ، كتاب الاستئذان ، باب : مَن ناجىٰ بين يدي الناس ، وصحيح مسلم ٧ / ١٤٣ ـ ١٤٤ كتاب فضائل الصحابة ، باب : فضائل فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وسُنن الترمذي ٥ / ٣٥٩ ، وسُنن ابن ماجة ١ / ٦٤٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٧٢ وصحّحه ..
وقال البغوي في شرح السُنّة ١٤ / ١٥٨ ـ ١٥٩ : هذا حديث متّفق علىٰ صحّته.
(٢) راجع : صحيح البخاري ٤ / ٢٢٠ باب : مناقب فاطمة عليهاالسلام ، و ٦ / ١٥٨ باب : ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف ، صحيح مسلم ٤ / ١٤١ باب : فضائل فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، سُنن أبي داود ١ / ٦٠ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣٥٩ وصحّحه ، سُنن ابن ماجة ١ / ٦٤٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٧٣ وصحّحه.
وقال البغوي في شرح السُنّة ١٤ / ١٥٨ ـ ١٥٩ : هذا حديث متّفق علىٰ صحّته.
(٣) ذخائر العقبىٰ : ٣٩ ، كنز العمّال ١٢ / ١١٠ عن الديلمي ، عن عليّ ، و ١٢ / ١١١ عن أبي يعلىٰ ، والطبراني في الكبير ، وأبي نعيم في فضائل الصحابة ، وابن عساكر ، عن عليّ ، سبل الهدىٰ والرشاد ١١ / ٤٤.
الفصل التاسع
وجود الحجج
بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال الدليمي :
« قال تعالىٰ ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (١) ..
ويقول سيدنا عليّ رضياللهعنه : ( بعث الله رسله بما خصّهم من وحيه ، وجعلهم حجّة له علىٰ خلقه ، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الأعذار إليهم ). ج ٢ ص ٢٧.
فالوحي مخصوص بالرسل الّذين هم حجّة الله علىٰ خلقه بما عندهم من اختصاص بهذا الوحي ، ولو كان غيرهم حجّة لَما تمّت حجّة الله علىٰ خلقه بهم ، ولبطلت هذه الآية وما في معناها.
ويقول رضياللهعنه في موضع آخر : ( فلمّا مهد أرضه وأنفذ أمره اختار آدم عليهالسلام خيرة من خلقه ... وليقيم الحجّة به علىٰ عباده ، ولم يخلهم ، بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج علىٰ ألسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحمّلي ودائع رسالاته ، قرناً فقرناً ، حتّىٰ تمّت بنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله حجّته ، وبلغ المقطع عذره ونذره ). ج ١ ص ٧٧.
__________________
(١) سورة النساء : الآية ١٦٥.
ـ قال : ـ فإذا تمّت الحجّة بنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوسلم فلا حجّة بعده ، وإلاّ فالحجّة لم تتمّ ، بينما سيّدنا عليّ يقول : إنّ الحجّة تمّت بنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وربّنا يقول : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ علىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) ، فلا حجّة بعدهم ؛ فلماذا يوصف غير الأنبياء عليهمالسلام بأنّهم : حجج الله ؟ » (١).
أقول :
المراد من الحجّة هو : البرهان والدليل الّذي يقيمه الله لعباده ، ويجعله الأساس في خصمهم ومحاسبتهم يوم القيامة إن جاؤوا بخلافه ، وحجج الله تعالىٰ كثيرة لا عـدّ ولا حصـر لها ، وهي مختلفة حسب الموارد والاتّجاهات ; فمن حيث تبليغ الشرائع والرسالات والدعوة إلىٰ التوحيد وترك عبادة ما سواه جلّ وعلا ، فحججه في ذلك : أنبياؤه ورسله عليهمالسلام ، وإلى ذلك أشار تعالىٰ بقوله : ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ علىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (٢).
ومن حيث الأدلّة علىٰ وجوده سبحانه ، فحججه علىٰ عباده : آثاره من مخلوقاته ، الّتي تبين لنا بدائع صنعته وأعلام حكمته ، قال تعالىٰ : ( سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الاَْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ علىٰ كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ ) (٣).
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام في خطبته المسمّاة بـ : « خطبة الأشباح » : « وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف
__________________
(١) ص ٢٦ ـ ٢٧.
(٢) سورة النساء : الآية ١٦٥.
(٣) سورة فصّلت : الآية ٥٣.
الحاجة من الخلق إلىٰ أن يُقيمها بمساك قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له علىٰ معرفته ، فظهرت البدائع الّتي أحدثها آثارُ صنعته ، وأعلامُ حكمته ؛ فصار كلّ ما خلقَ حجّةً له ودليلاً عليه ، وإن كان خلقاً صامتاً ، فحجّته بالتدبير ناطقة ، ودلالتُهُ علىٰ المبدع قائمة » (١).
وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليهالسلام : « الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة لله علىٰ خلقه ، وهي الكتاب الّذي كتبه الله بيده » (٢).
وقد ورد أنّ العقل حجّة الله علىٰ خلقه (٣) ، كما أنّ القرآن حجّة الله علىٰ خلقه ؛ قال أمير المؤمنين عليهالسلام من خطبة له : « فالقرآن آمرٌ زاجر ، وصامتٌ ناطق ، حُجّة الله علىٰ خلقه » (٤).
وأهل البيت عليهمالسلام حجج الله علىٰ خلقه ; لِما ورد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال في حقّهم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ; ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما » (٥) ..
فقد قرن الحديث أهل البيت بالكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجعل التمسّك بهما معاً عاصماً من الضلالة ، وأخبر بتلازم أهل البيت والكتاب وعدم افتراقهما إلىٰ يوم القيامة.
فإذا كان التمسّك بالقرآن ـ الّذي هو حجّة الله علىٰ خلقه ـ هو الأخذ بتعاليمه وأحكامه ، فكذلك يكون التمسّك بمَن جُعلوا عدلا له وقرناء ،
__________________
(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٦٤.
(٢) التفسير الصافي ١ / ٩٢.
(٣) انظر : شرح أُصول الكافي ١ / ٣٠٦ ، الفصول في الأُصول ١ / ٣٧٧.
(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١١١ ، شرح أُصول الكافي ١١ / ٦.
(٥) سبق ذكر مصادر الحديث في ص ٤٩.
وهذا معنىٰ كونهم : « حجج الله ».
ولو رجعت ـ عزيزي القارئ ـ إلىٰ بداية الكتاب (١) وقرأت ما ذكرناه عن كيفيّة العودة إلىٰ كتاب الله والأخذ منه ، لتبيّن لك هذا الموضوع تماماً.
وأضف إليه : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أخبر أنّ لأهل البيت عليهمالسلام دوراً كبيراً في رعاية الرسالة وصيانتها من التحريف والانحراف ، وإقامة الحجّة علىٰ أهل الأهواء والآراء أن يقولوا في دين الله ما يشتهون ..
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا إنّ أئمّتكم وفدكم إلىٰ الله ، فانظروا مَن تفِدون » (٢).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (٣).
قال ابن حجر في الصواعق : وفي أحاديث الحثّ علىٰ التمسّك بأهل البيت إشارة إلىٰ عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلىٰ يوم القيامة ، كما إنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض ، ويشهد لذلك الخبر السابق : « في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي » (٤).
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يفيد حجّية عليّ عليهالسلام علىٰ الأُمّة ..
__________________
(١) انظر : ص ٣٧ ـ ٣٩.
(٢) الصواعق المحرقة : ٩٠ ، ذخائر العقبىٰ : ١٧.
(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٦٢ وصحّحه ، الصواعق المحرقة : ٩١ و ١٤٠ وصحّحه ، كنز العمّال ١٢ / ١٠٢ ، المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ؛ وفيه : « النجوم جعلت أماناً لأهل الأرض وإنّ أهل بيتي أمان لأُمّتي » ، الجامع الصغير ٢ / ٦٨٠ مثله.
(٤) الصواعق المحرقة : ١٤٩.
قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وقد أخذ بيد عليّ عليهالسلام ـ : « إنّ هذا أوّل مَن آمن بي ، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأُمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين » (١).
وأيضاً قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في وجوب إطاعته وعدم مخالفته : « مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصى عليّاً فقد عصاني » (٢).
وفي لزوم متابعته وعدم مفارقته ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك فقد فارقني ».
وفي أنّ بيانه عليهالسلام هو فصل الاختلاف من بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم في الأُمّة ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا عليّ ! أنت تبيّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي » (٣).
وفي هذا المعنىٰ أيضاً ، عندما نزل قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد ) (٤) وضع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يده علىٰ صدره فقال : « أنا المنذر » ، وأومأ بيده إلىٰ عليّ فقال : « أنت الهادي يا عليّ ! بك يهتدي المهتدون من بعدي » (٥).
__________________
(١) انظر : مصادر الحديث في ص ١٦٨.
(٢) سبق ذكر مصادر هذا الحديث والذي بعده في ص ١٦٩.
(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٢ ; قال الحاكم : هذا حديث صحيح علىٰ شرط الشيخين ولم يخرّجاه.
(٤) سورة الرعد : الآية ٧.
(٥) تفسير الطبري ١٣
/ ١٤٢ ، فتح الباري ٨ / ٢٨٤ ; قال : أخرجه الطبري بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، كنز العمّال ١١ / ٦٢٠ ؛ عن الديلمي ، عن ابن عبّاس ، تفسير ابن كثير ٢ / ٥٢٠ ، فتح القدير ٣ / ٧٠ ، الدرّ المنثور ٤ /
٤٥ ؛
وقد مرّت بنا الأحاديث الواردة في أنّ حرب عليّ أو حرب فاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام حربه صلىاللهعليهوآلهوسلم وسلمهم سلمه (١) ، وأنّهم سفينة النجاة ، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق (٢) ، الّتي تكشف بوضوح عن وجوب اتّباعهم وعدم مفارقتهم أو مخالفتهم ، وهذا هو معنىٰ كونهم : « حجج الله » علىٰ الخلق بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد ورد ذكر أهل البيت عليهمالسلام كونهم حجج الله في أحاديث صريحة روتها كتب القوم ، نذكر منها :
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنا وهذا ـ يعني عليّاً ـ حجّة علىٰ أُمّتي يوم القيامة » (٣).
ومنها ، قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنا وعليّ حجّة الله علىٰ عباده » (٤).
وأخرج الطبري الشافعي في كتابيه ذخائر العقبىٰ والرياض النضرة : عن أنس بن مالك ، أنّه قال : كنت عند النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فرأىٰ عليّاً مقبلاً ، فقال : « يا أنس ! ». قلت : لبيك. قال : « هذا المقبل حجّتي علىٰ أُمّتي يوم القيامة » (٥).
__________________
يخرّجه عن : الطبري وابن مردويه بعدّة طرق ، وأبي نعيم في المعرفة ، والديلمي وابن عساكر بطريقين ، وابن النجّار ، والضياء في المختارة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في المستدرك وصحّحه ، شواهد التنزيل ١ / ٣٨٣.
(١) انظر : ص ١٩٣ وص ٢١٠ وص ٢١١.
(٢) انظر : ص ١٦٥.
(٣) كنز العمّال ١١ / ٦٢٠ عن الخطيب ، عن أنس ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٩ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٢٩٢.
(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٩ ، ذيل تاريخ بغداد ٤ / ٦٦ ؛ وفيه : « أنا وأنت حجّة الله تعالىٰ علىٰ خلقه يوم القيامة ».
(٥) الرياض النضرة ٣ / ١٥٩ ، ذخائر العقبىٰ : ٧٧ ، جواهر المطالب : ١٩٣.
وغير ذلك من الأحاديث النبوية الكثيرة الدالّة علىٰ وجوب معرفة أمير المؤمنين عليهالسلام ، والالتزام بمنهجه ، وعدم مفارقته ، ووجوب الإنصات لبيانه في ما اختلف المسلمون فيه بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّه عَلَم الهداية بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسفينة النجاة الّتي مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق ...
وهذا معنىٰ كونه : « حجّة الله » علىٰ المسلمين بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الأحاديث النبوية الصريحة في بيان الحجج بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وهناك جملة من الأحاديث النبوية الشريفة الّتي خرجت من عهود الظلام الأُموي والعبّاسي ، والّتي استطاعت أن تخترق حاجز النصب والبغض الّذي تبنّاه بعضهم ضدّ أهل البيت عليهمالسلام فجاءت ـ أي هذه الأحاديث ـ وكأنّها شاهد ومفصّل لِما اكتفىٰ بعضهم بالرمز إليه بالرقم والإشارة دون ذكر الأسماء من أحاديث الأئمّة أو الخلفاء الاثني عشر الواردة في كتب السُنن والصحاح ..
فمنها : ما رواه الخوارزمي الحنفي من كتابه مقتل الحسين : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال للحسين عليهالسلام : « أنت حجّة ابن حجّة أخو حجّة أبو حجج تسعة ، تاسعهم قائمهم » (١).
ومنها : ما جاء في كتاب فرائد السمطين لشيخ الإسلام الحمويني الشافعي ، في السمط الثاني في آخر الكتاب ، بسنده عن ابن عبّاس : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّ خلفائي وأوصيائي حجج الله علىٰ الخلق بعدي : الاثنا عشر ، أوّلهم : أخي ، وآخرهم : ولدي ».
__________________
(١) مقتل الحسين : ١٤٥ و ١٤٦.
قيل : يا رسول الله ! ومَن أخوك ؟
قال : « عليّ بن أبي طالب ».
قيل : فمَن ولدك ؟
قال : « الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ؛ والّذي بعثني بالحقّ بشيراً ! لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّىٰ يخرج فيه ولدي المهدي ، فينزل روح الله عيسىٰ بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب » (١). انتهىٰ.
ومنها : ما رواه الحافظ الحنفي في كتابه ينابيع المودّة ، نقلاً عن المناقب لابن المغازلي الشافعي ، بالإسناد إلىٰ ابن الزبير المكّي ، عن جابر ابن عبد الله الأنصاري رضياللهعنه ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّ الله تبارك وتعالىٰ اصطفاني واختارني وجعلني رسولاً ، وأنزل علَيَّ سيّد الكتب ، فقلت : إلهي وسيدي ! إنّك أرسلت موسىٰ إلىٰ فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيراً يشدّ به عضده ويصدّق به قوله ..
وإنّي أسألك يا سيدي وإلهي ! أن تجعل لي من أهلي وزيراً تشدّ به عضدي ، فاجعل لي عليّاً وزيراً وأخاً ، واجعل الشجاعة في قلبه ، وألبسه الهيبة علىٰ عدوّه ، وهو أوّل مَن آمن بي وصدّقني ، وأوّل مَن وحّد الله معي ..
وإنّي سألت ذلك ربّي عزّ وجلّ فأعطانيه ، فهو سيد الأوصياء ، اللحوق به سعادة ، والموت في طاعته شهادة ، اسمه في التوراة مقرون إلى
__________________
(١) فرائد السمطين ٢ / ٣١٢ ح ٥٦٢.
اسمي ، وزوجته الصدّيقة الكبرىٰ ابنتي ، وابناه سيّدا شباب أهل الجنّة ابناي ، وهو وهما والأئمّة من بعدهم حجج الله علىٰ خلقه بعد النبيّين ، وهم أبواب العلم في أُمّتي ، مَن تبعهم نجا من النار ، ومَن اقتدىٰ بهم هدي إلىٰ صراط مستقيم ، لم يهب الله محبّتهم لعبد إلاّ أدخله الله الجنّة » (١). انتهىٰ.
وفي هذا المعنىٰ ينقل ابن كثير في البداية والنهاية عن يحيىٰ بن سلامة الشافعي الحصكفي ـ من أئمّة الفقه والأدب ـ قوله :
وسائلي عن حبّ أهل البيت |
|
هل أُقرّ إعلاناً به أم أجحدُ ؟! |
هيهات ! ممزوج بلحمي ودمي |
|
حبّهم وهو الهدى والرشدُ |
حيدرة والحسنان بعده |
|
ثمّ عليّ وابنه محمّد |
وجعفر الصادق وابن جعفر |
|
موسى ويتلوه عليّ السيّدُ |
أعني الرضا ثمّ ابنه محمّد |
|
ثمّ عليّ وابنه المسدّدُ |
والحسن الثاني ويتلو تلوه |
|
محمّد بن الحسن المفتقدُ |
أئمّة أكرم بهم أئمّة |
|
أسماؤهم مسرودة تطردُ |
هم حجج الله علىٰ عباده |
|
وهم إليه منهج ومقصدُ (٢) |
أقول :
وقد جاء في نهج البلاغة ما يشير إلىٰ ذلك ـ أي : إلىٰ وجود الحجج بعد النبيّين ـ في عدّة مواضع ، إلاّ أنّه ممّا غاب عن الدليمي الاطّلاع عليه ، أو الوقوف عنده كالعادة ، نذكر من ذلك :
__________________
(١) ينابيع المودّة لذوي القربىٰ ١ / ١٩٨.
(٢) البداية والنهاية ١٢ / ٢٩٨.
قوله عليهالسلام : « ولم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجّة لازمة » (١).
وقوله عليهالسلام : « اللّهمّ بلىٰ ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : إمّا ظاهراً مشهوراً ، أو خائفاً مغموراً (٢) ؛ لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته ، وكم ذا وأين أُولئك (٣) ؟!
أُولئك ـ والله ـ الأقلّون عدداً ، والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّىٰ يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم علىٰ حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون (٤) ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلىٰ ، أُولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلىٰ دينه » (٥) ..
وفي كلامه عليهالسلام هذا بيان وافٍ لعلّة وجود الحجج بعد الأنبياء والرسل والكتب المنزلة ؛ فانظر إلىٰ قوله عليهالسلام : « لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته » ، وقوله عليهالسلام : « يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّىٰ يودعوها نظراءهم ... ».
__________________
(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٢٤ الخطبة الأُولىٰ.
(٢) غمره الظلم حتّىٰ غطّاه فهو لا يظهر.
(٣) قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : استفهام عن عدد القائمين لله بحجّته ، واستقلال له ، وقوله : « وأين أُولئك ؟! » استفهام عن أمكنتهم ، وتنبيه علىٰ خفائها.
(٤) عدّوا ما استخشنه المنعّمون ليّناً ; وهو : الزهد.
(٥) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٤ / ٣٧ ..
وانظر كلامه عليهالسلام هذا في تذكرة الحفّاظ ١ / ١٢ ، المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٣٦٦ ، كنز العمّال ١ / ٢٦٣ ; يرويه عن : ابن عساكر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والمرهبي في العلم ، وأبي نعيم في الحلية.
وإن قمت ـ أيّها القارئ النبيه ـ بالجمع بين كلامه عليهالسلام هذا وبين ما تقدّم من أحاديث نبوية في هذه الفقرة ، سيتّضح لك الأمر جلياً في الموضوع لا غطش فيه (١).
ولا أدري لِمَ يستكثر الدليمي علىٰ أئمّة أهل البيت عليهمالسلام أن يكونوا حجج الله تعالىٰ علىٰ خلقه ، وهم عِدل القرآن الكريم ، كما نصّ علىٰ ذلك حديث الثقلين المتواتر المشهور ، بعد أن استساغ لقومه وعلماء مذهبه أن يطلقوا هذا اللفظ « حجّة الله » علىٰ مَن هو دونهم في العلم والفضل ولا نصّ فيهم ، كـ : مالك بن أنس الأصبحي ، وأبي عليّ الثقفي ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وغيرهم ..
قال ابن حجر في التهذيب : قال حرملة : عن الشافعي ، قال : مالك حجّة الله تعالىٰ علىٰ خلقه بعد التابعين (٢).
ويروي الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي العبّاس الزاهد قوله : كان أبو عليّ ( الثقفي ) في عصره حجّة الله علىٰ خلقه (٣) ..
ويروي كذلك عن أبي بكر الشاشي قوله : أبو إسحاق ( الشيرازي ) حجّة الله علىٰ أئمّة العصر (٤).
ومع هذا ، فإنّك لو سألت الدليمي هنا ـ وهو الّذي كان قد تساءل متعجّباً ، وربّما متهكّماً : فلماذا يوصف غير الأنبياء عليهمالسلام بأنّهم : حجج الله ؟ ـ وقلت له : بماذا سيحتجّ الله عزّ وجلّ علىٰ الفرق المختلفة من المسلمين
__________________
(١) الغطش : الظلمة ; الصحاح ـ للجوهري ـ ٢ / ١٠١٣ ، لسان العرب ٦ / ٣٢٤.
(٢) تهذيب التهذيب ١٠ / ٨.
(٣) سير أعلام النبلاء ١٥ / ٢٨٢.
(٤) سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٥٥.
يوم القيامة ، وهم حسب الظاهر كلّهم مؤمنون بالله ورسوله وكتابه ؟ لتلجلج وبهت ، ولم يحر جواباً !!
لكنّه لو رجع إلىٰ كلمات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الّتي أوردناها ، وكلمات الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام في نهج البلاغة لوجد لهذا السؤال جواباً.
والله الموفّق للصواب.
* * *
الفصل العاشر
الاستدلال
علىٰ عصمة الإمام عليهالسلام
قال الدليمي :
« من خطبة له عليهالسلام بصفين : ( لا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ). ج ٢ ص ٢١٠.
ـ قال : ـ فهذا كلامه رضياللهعنه وخطابه علىٰ رؤوس الملأ وعامّة الناس أنّه ليس بفوق أن يخطئ في قول أو فعل.
ثمّ قال عليهالسلام : ( ما أهمّني ذنب أُمهلت بعده حتّىٰ أُصلّي ركعتين ). ج ٤ ص ٧٧.
في هذا الكلام ينفي سيّدنا عليّ رضياللهعنه العصمة عن نفسه من الذنب ، وأنّه إذا أذنب صلّىٰٰ ركعتين ، فإذا صلّىٰٰ لا يحمل همّ ذلك الذنب الّذي أُمهل بعده فصلّىٰٰ تلك الركعتين » (١).
أقول :
الأدلّة الّتي دلّت علىٰ عصمته عليهالسلام وعصمة أهل بيته الكرام عليهمالسلام كثيرة ، إلاّ أنّنا سنكتفي هنا بذكر الأدلّة النقلية فقط وعمدتنا في ذلك كما في كلّ دليل نقلي : الكتاب والسُنّة.
__________________
(١) ص ٢٧ ـ ٢٨.
أمّا الكتاب الكريم :
فيشهد لذلك قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) ..
فالرجس في هذه الآية عبارة عن : الذنوب ، كما في الكشّاف للزمخشري وغيره ، وقد تصدّرت الآية بأداة الحصر : « إنّما » ، فأفادت أنّ إرادة الله تعالىٰ في أمرهم مقصورة علىٰ اذهاب الذنوب عنهم وتطهيرهم منها ، وهذا هو كنه العصمة وحقيقتها ، والّذي ذكرناه هنا عن الآية الكريمة ، ذكره جماعة من علماء أهل السُنّة أيضاً.
فقد جاء في تفسير الطبري « جامع البيان عن تأويل آي القرآن » عن هذه الآية ما يدلّ علىٰ أنّه فهم منها عصمة أهلها ، وكذلك نقل عن جماعة من الأعلام أنّهم فهموا منها ذلك ..
قال الطبري : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، يقول : إنّما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمّد ، ويطهّركم من الدنس الّذي يكون في أهل معاصي الله تطهيراً.
ثمّ قال : وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...
حدّثنا بشر ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سعيد بن قتادة ، قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء ، وخصّهم برحمة منه ...
وروىٰ أيضاً عن ابن زيد قوله : الرجس ها هنا : الشيطان (٢).
__________________
(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٣.
(٢) تفسير الطبري ٢٢ / ٩.