الدكتور محمّد التيجاني السماوي
المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥
أحمد برواية البلاذري ، قال بعدما أورد مناشدة الإمام عليّ للشهادة : « وكان تحت المنبر أنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وجرير بن عبداللّه البجلي ، فأعادها فلم يجبه منهم أحد ، فقال : « اللّهم من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتّى تجعل به آية يُعرف بها ». قال : فبرصَ أنس بن مالك ، وعَمىَ البراء بن عازب ، ورجع جرير أعرابياً بعد هجرته ، فأتى الشراة فمات في بيت أمّه » (١).
وهذه القصّة مشهورة تناقلها جمع كبير من المؤرخين (٢).
( فَاعْتَبِرُوا يَا اُولِي الأبْصَارِ ) [ الحشر : ٢ ].
والمتتّبع يعرف من خلال هذه الحادثة (٣) التي أحياها الإمام عليّ بعد مرور ربع قرن عليها ، وبعدما كادتْ تُنسَى ، يعرف ماهي قيمة
__________________
١ ـ أنساب الأشراف للبلاذري : ١٥٧ ح ١٦٩.
٢ ـ راجع بألفاظها المختلفة : تاريخ ابن عساكر المسمّى بتاريخ دمشق ٤٢ : ٢٠٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل ١٩ : ٢١٧ ، المعجم الكبير للطبراني ٥ : ١٧٥ ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي : ٢٣ ، السيرة الحلبية ٣ : ٣٨٥.
٣ ـ وهو مناشدة الإمام عليّ يوم الرحبة الصحابة ليشهدوا بحديث الغدير ، وقد روى هذه الحادثة جمع غفير من المحدّثين والمؤرخين سبق الإشارة إليهم ، أمثال : أحمد بن حنبل ، وابن عساكر ، وابن أبي الحديد ، وغيرهم ( المؤلّف ).
الإمام عليّ وعظمته ، ومدى علّو همّته وصفاء نفسه ، وهو في حين أعطى للصّبر أكثر من حقّه ، ونصح لأبي بكر وعمر وعثمان ما علم أنّ في نُصحهم مصلحة الإسلام والمسلمين ، كان مع ذلك يحمِلُ في جنباته حادثة الغدير بكلّ معانيها ، وهي حاضرة في ضميره في كلّ لحظات حياته ، فما أن وجد فرصة سانحة لبعثها وإحيائها من جديد حتّى حمل غيره للشّهادة بها على مسمع ومرأى من الناس.
وانظر كيف كانت طريقة إحياء هذه الذكرى المباركة ، وما فيها من الحكمة البالغة لإقامة الحجّة على المسلمين ، من حَضر منهم الواقعة ومن لم يحضر ، فلو قال الإمام : أيّها الناس لقد أوصى بي رسول اللّه في غدير خم على الخلافة ، لما كان لذلك وقعاً في نفوس الحاضرين ، ولاحتجوا عليه عن سكوته طوال تلك المدّة.
ولكنّه لما قال : أنشدُ اللّه كلّ إمرئ مسلم سمع رسول اللّه يقول ماقال يوم غدير خم إلاّ قام فشهد ، فكانت الحادثة منقولة بحديث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم على لسان ثلاثين صحابياً ، منهم ستّة عشر بدريّاً ، وبذلك قطع الإمام الطريق على المكذّبين والمشكّكين ، وعلى المحتجّين عن سكوته طوال تلك المدّة ، لأنّ في سكوت هؤلاء الثلاثين معه وهم من عظماء الصحابة لدليل كبير على خطورة الموقف ، وعلى أنّ السكوت فيه مصلحة الإسلام كما لا يخفى.
تعليق على الشورى
رأينا في ما سبق بأنّ الخلافة على قول الشيعة هي باختيار اللّه سبحانه ، وتعيين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد وحي يوحى به إليه.
وهذا القول يتماشى تماماً مع فلسفة الإسلام في كلّ أحكامه وتشريعاته ، إذ أنّ اللّه سبحانه هو الذي ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ) (١).
وبما أنّ اللّه سبحانه أراد أنّ تكون أُمّة محمّد خير أُمّة أُخرجت للنّاس ، فلابدّ لها من قيادة حكيمة ، رشيدة ، عالمة ، قويّة ، شجاعة ، تقية ، زاهدة ، في أعلى درجات الإيمان ، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اصطفاه اللّه سبحانه وتعالى ، وكيّفه بميّزات خاصّة تؤهّله للقيادة والزعامة ، قال اللّه تعالى : ( اللّهُ يَصْطَفِي مِنْ المَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (٢).
وكما أنّ الأنبياء اصطفاهم اللّه سبحانه فكذلك الأوصياء ، وقد
__________________
١ ـ القصص : ٦٨.
٢ ـ الحج : ٧٥.
قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لكلّ نبيّ وصيّ ، وأنا وصيّي عليّ بن أبي طالب » (١).
وفي حديث آخر قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنا خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء » (٢).
وعلى هذا الأساس فإنّ الشيعة سلّموا أمرهم للّه ورسوله ، ولم يبق منهم من يدّعِ الخلافة لنفسه أو يطمع فيها ، لا بالنصّ ولا بالاختيار :
أولاً : لأنّ النصّ ينفي الاختيار والشورى.
وثانياً : لأنّ النصّ قد وقع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم على أشخاص معدودين ومعيّنين بأسمائهم (٣) ، فلا يتطاول إليها منهم متطاول ، وإن فعل فهو فاسقٌ خارج عن الدين.
أمّا الخلافة عند أهل السنّة والجماعة فهي بالاختيار والشورى ،
__________________
١ ـ تاريخ ابن عساكر الشافعي ٤٢ : ٣٩٢ ، المناقب للخوارزمي : ٨٣ ح ٧٤ ، ينابيع المودة ٢ : ٧٩ ح ٩٦ عن الديلمي ، الرياض النضرة ٤ : ١١٩ ح ١٣٧٣ عن البغوي في معجمه.
٢ ـ ينابيع المودة ٢ : ٧٣ ح ٣٥ عن الديلمي.
٣ ـ روى العدد البخاري ومسلم ومضى تخريجه ، وروى العدد والأسماء صاحب ينابيع المودّة ٣ : ٢٨١ الباب ٧٦ في بيان الأئمة الاثني عشر بأسمائهم.
وبذلك فتحوا الباب الذي لا يمكن غلقه على أيّ واحد من الأُمّة ، وأطمعوا فيها كلّ قاص ودان ، وكل غث وسمين ، وحتّى تحوّلت من قريش إلى الموالي والعبيد ، وإلى الفرس والمماليك ، وإلى الأتراك والمغول.
وتبخّرتْ تلك القيم والشروط التي اشترطوها في الخليفة؛ لأنّ غير المعصوم بشر مليء بالعاطفة والغرائز ، وبمجرّد وصوله إلى الحكم لا يؤمن أن ينقلب ويكون أسوأ ممّا كان ، والتاريخ الإسلامي خير شاهد على مانقول.
وأخشى أن يتصوّر بعض القرّاء بأنّني أُبالغ ، فما عليهم إلاّ أن يتصفّحوا تاريخ الأمويين والعباسيين وغيرهم حتّى يعرفوا بأنّ من تَسَمّى أمير المؤمنين كان يتجاهر بشرب الخمر ويلاعب القرود ويلبسهم الذهب ، وأنّ ( أمير المؤمنين ) يُلبس جاريتهُ لباسَه لتصلّي بالمسلمين ، وأنّ ( أمير المؤمنين ) تموت جاريته حبّابَة فيسلبُ عقلهُ ، وأن ( أمير المؤمنين ) يطربُ لشاعر فيقبّل ذكرّه.
ولماذا نستغرق في هؤلاء الذين حكموا المسلمين بأنّهم لا يمثّلون إلاّ الملك العضوض ولا يمثّلون الخلافة ، وذلك للحديث الذي يروونه ، وهو قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : « الخلافة من بعدي ثلاثون
عاماً ثمّ تكون ملكاً عضوضاً » (١).
وليس هذا موضوع بحثنا ، فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه مراجعة تاريخ الطبري ، وتاريخ ابن الأثير ، وأبي الفداء ، وابن قتيبة وغيرهم.
وإنّما أردتُ بيان مساوئ الاختيار وعقم النظرية من أساسها؛ لأنّ من نختاره اليوم قد ننقم عليه غداً ، ويتبيّن لنا بأنّنا أخطأنا ولم نُحسن الاختيار ، كما وقع ذلك لعبدالرحمن بن عوف نفسه عندما اختار للخلافة عثمان بن عفّان وندم بعد ذلك ، ولكن ندمه لم يُفد الأُمّة شيئاً بعد توريطها.
وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأوّل ، وهو عثمان ، لا يفي بالعهد الذي أعطاه لعبدالرحمن بن عوف ، وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأوّل ، وهو عبدالرحمن بن عوف ، لا يُحسن الاختيار ، فلا يمكنُ لعاقل بعد ذلك أن يرتاح لهذه النظرية العقيمة ، والتي ماتولّد عنها إلاّ الاضطراب وعدم الاستقرار وإراقة الدّماء.
فإذا كانت بيعة أبي بكر فلتةً ، كما وصفها عمر بن الخطاب ، وقد وقى اللّه المسلمين شرّها ، وقد خالف وتخلّف عنها جمع غفير من
__________________
١ ـ صحيح ابن حبان ١٥ : ٣٩٢ ، فتح الباري ٨ : ٦١ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ١٥٧ ، البداية والنهاية ٣ : ٢٦٦.
الصحابة ، وإذا كانت بيعة عليّ بن أبي طالب بعد ذلك على رؤوس الملأ ، ولكنّ بعض الصحابة نكث البيعة ، وانجرّ عن ذلك حرب الجمل ، وحرب صفين ، وحرب النهروان ، وزهقت فيها أرواح بريئة ، فكيف يرتاح العُقلاء بعد ذلك لهذه القاعدة التي جُرّبتْ وفشلتْ فشلاً ذريعاً من بدايتها ، وكانتْ وبالاً على المسلمين ، وبالخصوص إذا عرفنا أنّ هؤلاء الذين يقولون بالشورى يختارون الخليفة ، ولا يقدرون بعد ذلك على تبديله أو عزله ، وقد حاول المسلمين جهدهم عزل عثمان فأبى قائلاً : لا أنزع قميصا قمّصنيه اللّه (١)؟!
وممّا يزيدنا نفوراً من هذه النظرية ما نراه اليوم في دول الغرب المتحضّرة ، والتي تزعم الديمقراطية في اختيار رئيس الدولة ، وترى الأحزاب المتعدّدة تتصارع وتتساوم وتتسابق للوصول إلى منصّة الحكم بأيّ ثمن ، وتصرف من أجل ذلك البلايين من الأموال التي تخصّص للدّعاية بكلّ وسائلها ، وتُهدر طاقات كبيرة على حساب المستضعفين من الشعب المسكين الذي قد يكون في أشدّ الحاجة إليها ، وما إن يصل أحدُهم إلى الرئاسة حتى تأخذه العاطفة ، فُيولّي أنصاره وأعضاء حزبه وأصدقاءه وأقاربه في مناصب الوزراء والمسؤوليات العظمى والمراكز المهمّة في الإدارة ، ويبقى الآخرون
__________________
١ ـ تاريخ الطبري ٣ : ٤٠٥.
يعملون في المعارضة مدّة رئاسته المتفق عليها أيضاً ، فيخلقون له المشاكل والعراقيل ، ويحاولون جهدهم فضحهُ والإطاحة به ، وفي كلّ ذلك خسارة فادحة للشعب المغلوب على أمره.
فكم من قيم إنسانية سقطتْ ، وكم من رذائل شيطانية رُفِعتْ باسم الحرية والديمقراطية وتحت شعارات برّاقة ، فأصبح اللواط قانوناً مشروعاً ، والزنا بدلاً من الزواج تقدّماً ورُقياً ، وحدّث في ذلك ولا حرج.
فما أعظم عقيدة الشيعة في القول بأنّ الخلافة أصل من أُصول الدين ، وما أعظم قولهم بأنّ هذا المنصب هو باختيار اللّه سبحانه ، فهو قولٌ سديدٌ ورأيٌ رشيد يقبله العقل ويرتاح إليه الضمير ، وتؤيّده النصوص من القرآن والسنّة ، ويُرغم أُنوف الجبابرة والمتسلّطين ، والملوك والسلاطين ، ويفيض على المجتمع السكينة والاستقرار.
الاختلاف في الثقلين
عرفنا فيما سبق ومن خلال الأبحاث المتقدّمة رأي الشيعة وأهل السنّة في الخلافة ، وما فعله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تجاه الأُمّة على قول الفريقين.
فهل ترك رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لأُمّته شيئاً تعتمد عليه وترجع إليه في ما قد يقع فيه الخلاف الذي لابدّ منه ، والذي سجّله كتاب اللّه بقوله تعالى :
( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَـنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأوِيلا ) (١)؟!
نعم ، لابدّ للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يترك للأُمّة قاعدة ترتكز عليها ، فهو إنّما بُعث رحمة للعالمين ، وهو حريصٌ على أن تكون أُمّته خير الأُمم ولا تختلف بعده ، ولهذا روى عنه أصحابه والمحدّثون بأنّه قال :
__________________
١ ـ النساء : ٥٩.
« تركتُ فيكم الثقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا علىَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».
وهذا الحديث صحيح ثابت أخرجه المحدّثون من الفريقين السنّة والشيعة ، ورووه في مسانيدهم وفي صحاحهم عن طريق مايزيد على ثلاثين صحابياً.
وبما أنّني وكالعادة لا أحتج بكتب الشيعة ولا بأقوال علمائهم ، فكان لزاماً عليَّ أن أذكر فقط علماء السنّة الذين أخرجوا حديث الثقلين معترفين بصحته حتى يكون البحث دائماً موضوعياً يتصف بالعدل والإنصاف ( وإن كان العدل والإنصاف يقتضي ذكر قول الشيعة أيضاً ).
وهذه قائمة وجيزة عن رواة هذا الحديث من علماء السنّة :
١ ـ صحيح مسلم ، كتاب فضائل علي بن أبي طالب ٧ : ١٢٢.
٢ ـ صحيح الترمذي ٥ : ٣٢٨.
٣ ـ الإمام النسائي في خصائصه : ٢١.
٤ ـ الإمام أحمد بن حنبل ٣ : ١٧.
٥ ـ مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩.
٦ ـ كنز العمّال ١ : ١٥٤.
٧ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ١٩٤.
٨ ـ جامع الأُصول لابن الأثير ١ : ١٨٧.
٩ ـ الجامع الصغير للسيوطي ١ : ٣٥٣.
١٠ ـ مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١٦٣.
١١ ـ الفتح الكبير للنبهاني ١ : ٤٥١.
١٢ ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ٢ : ١٢.
١٣ ـ تاريخ ابن عساكر ٥ : ٤٣٦.
١٤ ـ تفسير ابن كثير ٤ : ١١٣.
١٥ ـ التاج الجامع للأُصول ٣ : ٣٠٨.
أضف إلى هؤلاء ابن حجر الذي ذكره في كتابه الصواعق المحرقة معترفاً بصحته (١) ، والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته على شرط الشيخين (٢) ، والخوارزمي الحنفي (٣) ، وابن المغازلي الشافعي (٤) ، والطبراني في معجمه (٥) ، وكذلك صاحب السيرة النبوية في هامش
__________________
١ ـ الصواعق المحرقة ٢ : ٤٣٧ ( الآية الرابعة من الآيات الواردة في فضلهم ).
٢ ـ راجع المستدرك للحاكم مع تلخيص الذهبي ٣ : ١٠٩ ، كتاب معرفة الصحابة ، باب مناقب أهل بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٣ ـ المناقب للخوارزمي : ١٥٤ ح ١٨٢.
٤ ـ المناقب لابن المغازلي : ٢٣٤.
٥ ـ المعجم الكبير ٣ : ٦٥ ح ٢٦٧٨.
السيرة الحلبية ، وصاحب ينابيع المودة (١) وغيرهم ...
فهل يجوز بعد هذا أن يدّعي أحد أن حديث الثقلين « كتاب اللّه وعترتي » لا يعرفه أهل السنّة ، وإنما هو من موضوعات الشيعة؟!
قاتل اللّه التعصّب والجمود الفكري والحميّة الجاهلية.
إذن ، فحديث الثقلين الذي أوصى فيه صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمسّك بكتاب اللّه وعترته الطاهرة ، هو حديث صحيح عند أهل السنّة كما مرّ علينا ، وعند الشيعة هو أكثر تواتراً وسنداً عن الأئمة الطاهرين.
فلماذا يشكّك البعض في هذا الحديث ، ويحوّلون جهدهم أن يبدّلوه بـ « كتاب اللّه وسنّتي »؟! ورغم أنّ صاحب كتاب « مفتاح كنوز السنّة » يخرّج في صفحة ٤٧٨ بعنوان « وصيّته ( ص ) بكتاب اللّه وسنّة رسوله » نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة ، غير أنّك إذا بحثت في هذه الكتب الأربعة المذكورة فسوف لن تجد إشارة من قريب أو من بعيد إلى هذا الحديث ، نعم قد تجد في البخاري « كتاب الاعتصام في الكتاب والسنّة » ولكنّك لاتجد لهذا الحديث وجوداً!!
وغاية ما يوجد في صحيح البخاري وفي الكتب المذكورة
__________________
١ ـ ينابيع المودة ١ : ٩٩ ح ١٣.
حديث يقول : « حدّثنا طلحة بن مصرف قال : سألت عبد اللّه بن أبي أوفى رضي اللّه عنهما : هل كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوصى؟ فقال : لا ، فقلت : كيف كُتِبَ على الناس الوصية أو أمُروا بالوصيّةِ؟ قال : أوصَى بكتاب اللّه » (١).
ولا وجود لحديث لرسول اللّه يقول فيه : « تركتُ فيكم الثقلين كتاب اللّه وسنّتي » ، وحتّى على فرض وجود هذا الحديث في بعض الكتب فلا عبرة به ، لأنّ الإجماع على خلافه كما تقدّم.
ثمّ لو بحثنا في حديث « كتاب اللّه وسنّتي » (٢) لوجدناه لايستقيمُ مع الواقع ، لا نقلاً ولا عقلاً.
ولنا في ردّه بعض الوجوه :
الوجه الأول :
اتفق المؤرّخون والمحدّثون بأنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم منع من كتابة أحاديثه ، ولم يدّع أحد أنّه كان يكتب السنّة النبوية في عهده صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
__________________
١ ـ صحيح البخاري ٣ : ١٨٦ ، كتاب الوصايا باب الوصايا ، وانظر : سنن الترمذي ٣ : ٢٩٣ ح ٢٢٠٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٠٠ ح ٢٦٩٦ ، مسند أحمد ٤ : ٣٥٤.
٢ ـ أورده العقيلي في الضعفاء الكبير ٢ : ٢٥١ رقم ٨٠٤ ترجمة عبد اللّه بن داهر ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٤ : ٦٩ ترجمة صالح بن موسى الطلحي.
فقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تركتُ فيكم « كتاب اللّه وسنّتي » لا يستقيم.
أمّا بالنسبة لكتاب اللّه فهو مكتوب ومحفوظ في صدور الرجال ، وبإمكان أيّ صحابي الرجوع إلى المصحف ولو لم يكن من الحفّاظ.
أمّا بالنسبة للسنّة النبويّة فليس هناك شيء مكتوب أو مجموعٌ في عهده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالسنّة النبوية كما هو معلوم ومتفق عليه كلّ ما قاله الرسول أو فعله أو أقرّهُ ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الرسول لم يكن يجمع أصحابه ليعلّمهم السنّة النبوية ، بل كان يتحدّث في كلّ مناسبة ، وقد يحضر بعضهم وقد لا يكون معه إلاّ واحداً من أصحابه ، فكيف يمكن للرسول والحال هذه أن يقول لهم : تركتُ فيكم سنّتي؟
الوجه الثاني :
لمّا اشتدّ برسول اللّه وجعه ، وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام ، طلب منهم أن يأتوه بالكتف والدواة ليكتُب لهم كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ رسول اللّه ليهجر وحسبُنا كتاب اللّه (١)!
فلو كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد قال لهم من قبل تركتُ : فيكم « كتاب
__________________
١ ـ مضى تخريجه فيما تقدم ، وذكرنا أنّ عمر هو الذي نسب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الهجر نقلا عن الغزالي وسبط ابن الجوزي وابن الأثير وابن تيمية والجوهري ، وتقدّم في كتاب « ثمّ اهتديت » الردّ على بعض الاعتراضات الواردة للتشكيك في هذه الحادثة.
اللّه وسنّتي » لما جاز لعمر بن الخطاب أن يقول : حسبُنا كتاب اللّه! لأنّه بذلك يكون هو والصحابة الذين قالوا بمقالته رادّين على رسول اللّه ، ولا أظنّ أنّ أهل السنّة والجماعة يرضون بهذا.
ولذلك فهمنا أنّ الحديث وضعه بعض المتأخّرين الذين يعادون أهل البيت ، وخصوصاً بعد إقصائهم عن الخلافة ، وكأنّ الذي وضع حديث « كتاب اللّه وسنّتي » استغرب أن يكون الناس تمسّكوا بكتاب اللّه وتركوا العترة واقتدوا بغيرهم ، فظنّ أنّه باختلاق الحديث سيصححّ مسيرتهم ، ويُبعدُ النقد والتجريح عن الصحابة الذين خالفوا وصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الوجه الثالث :
من المعروف أنّ أوّل حادثة اعترضت أبا بكر في أوائل خلافته هي قراره محاربة مانعي الزكاة ، رغم معارضة عمر بن الخطاب له واستشهاده بحديث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من قال : لا إله إلا اللّه محمّد رسول اللّه عصم منّي ماله ودمه إلاّ بحقّها وحسابه على اللّه » (١).
فلو كانت سنّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم معلومة ما كان أبو بكر يجهلها ، وهو أولى الناس بمعرفتها.
__________________
١ ـ مسند أحمد ١ : ٤٧ ، صحيح البخاري ٨ : ٥٠ ، كتاب استتابة المرتدّين ، باب قتل من أبي قبول الفرائض.
ولكنّ عمر بعد ذلك اقتنع بتأويل أبي بكر للحديث الذي رواه ، وقول أبي بكر بأنّ الزكاة هي حقّ المال ، ولكنّهم غفلوا أو تغافلوا عن سنّة الرسول الفعلية التي لا تقبل التأويل ، وهي قصّة ثعلبة الذي امتنع عن دفع الزكاة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ونزل فيه قرآن ، ولم يقاتله رسول اللّه ولا أجبره على دفعها (١).
وأين أبو بكر وعمر عن قصة أُسامة بن زيد الذي بعثه رسول اللّه في سرية ، ولمّا غشىَ القوم وهزمهم لحق رجلاً منهم ، فلمّا أدركه قال : لا إله إلاّ اللّه! فقتله أُسامة ، ولمّا بلغ النبي ذلك قال : « يا أُسامة أقتلته بعدما قال : لا إله إلاّ اللّه »؟ قال : كان متعوّذاً. فما زال يكرّرها حتى تمنيتُ أنّي لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم (٢).
ولكلّ هذا لايمكن أن نصدّق بحديث « كتاب اللّه وسنّتي » لأنّ الصحابة أوّل من جهل السنّة النبوية ، فكيف بمن جاء بعدهم ، وكيف بمن بَعُدَ مسكنه عن المدينة؟
__________________
١ ـ تفسير ابن كثير ٢ : ٤٩٠ سورة التوبة ، آية ٧٥ ، الدر المنثور ٣ / ٤٦٧ ، التفسير الكبير ١٦ / ١٠٥ ، روح المعاني ١٠ / ٣٣٢ ، وغيرها من المصادر التي ذكرت سبب نزول الآية.
٢ ـ صحيح البخاري ٥ : ٨٨ ، باب قول اللّه تعالى : ( من أحياها ) ، وصحيح مسلم أيضاً١ : ٦٨ ، كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلاّ اللّه.
الوجه الرابع :
من المعروف أيضاً أنّ كثيراً من أعمال الصحابة بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت مخالفة لسنّته.
فأمّا أن يكون هؤلاء الصحابة يعرفون سنّته صلىاللهعليهوآلهوسلم وخالفوها عمداً ، اجتهاداً منهم في مقابل نصُوص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهؤلاء ينطبق عليهم قول اللّه سبحانه وتعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِيناً ) (١).
وإمّا أنهم كانوا يجهلون سنّته صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا يحقّ لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم والحال هذه أن يقول لهم : تركتُ فيكم سنّتي ، وهو يعلم أنّ أصحابه وأقرب الناس إليه لم يحيطوا بها علماً ، فكيف بمن يأتي بعدهم ولم يعرفوا ولم يشاهدوا النبي؟!
الوجه الخامس :
من المعلوم أيضاً أنّه لم تدوّن السنّة إلاّ في عهد الدولة العبّاسية ، وأنّ أوّل كتاب كُتبَ في الحديث هو موطأ الإمام مالك ، وذلك بعد الفتنة الكبرى ، وبعد واقعة الحرّة واستباحة المدينة المنوّرة ، وقتل الصحابة فيها صبراً ، فكيف يطمئنّ الإنسان بعد ذلك إلى رواة تقرّبوا
__________________
١ ـ الأحزاب : ٣٦.
للسلطان لنيل الدنيا ، ولذلك اضطربتْ الأحاديث وتناقضت وانقسمت الأُمّة إلى مذاهب ، فما ثبت عند هذا المذهب لم يثبتْ عند غيره ، وما صحّحه هذا يكذّبه ذاك.
فكيف نُصدّق بأنّ رسول اللّه قالَ : « تركتُ كتاب اللّه وسنّتي » ، وهو الذي كان يعلمُ بأنّ المنافقين والمنحرفين سوف يكذبون عليه ، وقد قال : « كثرتْ علىّ الكذّابة ، فمن كذب علىّ فليتبوأ مقعده من النار » (١).
فإذا كانت الكذّابة قد كثرت في حياته ، فكيف يُكلّف أُمّتهُ بإتّباع سنّته ، وليس لهم معرفة بصحيحها من سقيمها ، وغثّها من سمينها؟!
الوجه السادس :
يروي أهل السنّة والجماعة في صحاحهم بأنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ترك ثقلين ، أو خليفتين ، أو شيئين ، فمرّة يروون كتاب اللّه وسنّة رسوله ، ومرّة يروون عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (٢) ، ومعلوم بالضرورة أنّ الحديث التالي يضيف إلى كتاب اللّه
__________________
١ ـ صحيح البخاري ١ : ٣٥كتاب العلم ، باب اثم من كذب على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مسند أحمد ١ : ٧٨ ، سنن الدارمي ١ : ٧٦ ، باختلاف في الألفاظ ، ومن دون قوله : ( كثرت عليّ الكذابة ).
٢ ـ مسند أحمد ٤ : ١٢٦ ، سنن أبي داوود ٤٦٠٧ ، سنن الترمذي ٤ : ١٤٩
وسنّة رسوله سنّة الخلفاء ، فتصبح مصادر التشريع ثلاثة بدلاً من اثنين!! وكلّ هذا يتنافى مع حديث الثقلين الصحيح والمتّفق عليه من السنّة والشيعة ، ألا وهو « كتاب اللّه وعترتي » والذي قدّمناه في ذكره أكثر من عشرين مصدراً من مصادر أهل السنّة الموثوقة ، فضْلاً عن مصادر الشيعة التي لم نذكرها.
الوجه السابع :
إذا كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلَمُ علم اليقين بأنّ أصحابه الذين نزل القرآنُ بلغتهم ولهجاتهم ـ كما يقولون ـ لم يعرفوا كثيراً من تفسيره ولا تأويله ، فكيف بمن يأتي بعدهم؟! وكيف بمن يعتنق الإسلام من الروم والفرس والحبش ، وكلّ الأعاجم الذين لا يفهمون العربية ولا يتكلّمونها؟!
وقد ثبت في الأثر أنّ أبا بكر سُئِل عن قوله تعالى : ( وَفَاكِهَةً وَأبّاً ) (١) فقال : أيّ سماء تظلّني ، وأيّ أرض تقلّني أن أقول في كتاب اللّه ما لا أعْلم (٢).
__________________
ح ٢٨١٦ وقال : « حديث حسن صحيح » ، وصححه ابن حبان ١٠٢ ، والحاكم ١ : ٩٥ ، ووافقه الذهبي.
١ ـ عبس : ٣١.
٢ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ١٧٩ ح ٥ ، فتح الباري ١٣ : ٢٢٩ ، كنز العمال
كما أنّ عمر بن الخطاب أيضاً لم يعرف هذا المعنى ، فعن أنس بن مالك قال : إنّ عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : « فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غُلباً وفاكهة وأبّا ».
قال : كلّ هذا عرفناه ، فما الأب؟ ثمّ قال : هذا لعمر اللّه هو التكلّف ، فما عليك أن لا تدري ما الأب ، اتّبعوا ما بُيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه « (١).
[ الاختلاف في السنّة النبوية ] :
وما يُقالُ هنا في تفسير كتاب اللّه يقالُ هناك في تفسير السنّة النبوية الشريفة ، فكم من حديث نبوي بقي موضع خلاف بين الصحابة ، وبين المذاهب ، وبين السنّة والشيعة ، سواء كان الخلاف ناتجاً عن تصحيح الحديث أو تضعيفه ، أم عن تفسير الحديث وفهمه.
__________________
٢ : ٢٢٧ تحت الرقم ٤١٥٠ و ٤١٥١ و ٤٦٨٨ ، جامع البيان ١ : ٥٥ ، تفسير القرطبي ١٩ : ٢٢٣ ، تفسير ابن كثير ١٤ : ٥٠٤ ، الدر المنثور ٥ : ٣٣ ، البرهان للزركشي ١ : ٢٦٥ ، فتح القدير ٥ : ٣٨٧ ، وغيرها من المصادر الأُخرى.
١ ـ الطبقات لابن سعد ٣ : ٣٢٧ ، تفسير القرآن لعبد الرزاق ٣ : ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ١٩ : ٢٢٣ ، فتح القدير ٥ : ٣٨٧ ، فتح الباري ١٣ : ٢٢٩ ، المستدرك للحاكم : ( تفسير سورة عبس ) وصحّحه ، وتابعه الذهبي ، تفسير ابن كثير ٣ : ٦٠٨ سورة عبس وصححه ، البرهان للزركشي ١ : ٢٩٥.
وللمزيد راجع : الغدير ٦ : ١٤٢ جهل الخليفة بمعنى الأبّ.