صباح علي البيّاتي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
لنسخ الآية ، لأن ثبوت الناسخ بخبر الواحد لا يصح ، وإلّا لالتزم إمكانية نسخ القرآن كلّه بخبر الواحد ، وعلماء أهل السنة لا يجيزون النسخ بخبر الواحد .
٤ ـ قوله تعالىٰ : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) (١) .
وإدعاء النسخ بهذه الاية ليس صحيحاً أيضاً .
يقول السيد الطباطبائي : أما النسخ بآية العدد ، ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ ، بل نسبة العام والمخصص أو المطلق والمقيد ، فان آية الميراث مثلاً تعم الأزواج جميعاً من كل دائم ومنقطع ، والسنة تخصصها باخراج بعض أفرادها ، وهو المنقطع من تحت عمومها ، كذلك القول في آية العدد ، وهو ظاهر ، ولعل القول بالنسخ ناشئ من عدم التمييز بين النسبتين .
نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الاثبات والنفي إلىٰ أن العام ناسخ للخاص ، لكن هذا مع ضعفه غير منطبق علىٰ مورد الكلام ، وذلك ... لموقع آية العدد في سورة النساء متقدمة علىٰ آية المتعة ، فالخاص أعني آية المتعة
_______________
(١) سورة النساء : ٣ .
متأخر عن العام علىٰ أي حال (١) .
دعوىٰ النسخ بالسنّة :
إضافة لدعوىٰ أهل السنة نسخ آية المتعة بالقرآن ـ وقد ثبت بطلان ذلك ـ فانهم تمسكوا بمجموعة من الروايات التي أخرجها محدثوهم ـ وبخاصة في صحيح مسلم ـ بأنها قد نسخت المتعة ، وقد نسبت هذه الروايات القول في تحريمها إلىٰ النبي صلىاللهعليهوسلم .
إلّا أن الملاحظ علىٰ هذه الروايات هو إضطرابها في ألفاظها من جهة ، وفي الوقت الذي تم فيه تحريم المتعة من جهة أخرى ، فبعضها يدعي أنها حرمت في عام خيبر ، وبعضها يدعي أنها حرمت في عام حنين ، وأُخرىٰ تدعي وقوع التحريم في غزوة تبوك ، أو في حجة الوداع أو في عام أوطاس ، وقد تناقضت أقوال علماء أهل السنة في هذا الباب تناقضاً واضحاً .
قال ابن حجر العسقلاني نقلاً عن السهيلي : ويتصل بهذا الحديث تنبيه علىٰ إشكال ، لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر ، هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر ...
وقال عن تحريم المتعة عام تبوك نقلاً عن السهيلي أيضاً : وقد
_______________
(١) تفسير الميزان ٤ / ٢٧٤ .
اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة ، فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال : في غزوة تبوك ، ثم رواية الحسن إن ذلك كان في عمرة القضاء ، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح ، كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه ، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع ، قال : ومن قال من الرواة : كان في غزوة أوطاس ، فهو موافق لمن قال عام الفتح ، انتهىٰ .
فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن : خيبر ، ثم عمرة القضاء ، ثم الفتح ، ثم أوطاس ، ثم تبوك ، ثم حجة الوداع ، وبقي عليه حنين (١) .
وقال ابن القيّم : ولم تحرم المتعة يوم خيبر ، وإنما كان تحريمها عام الفتح ، هذا هو الصواب ...
وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة ، لا فعلاً ولا تحريماً ، بخلاف غزاة الفتح ، فان قصة المتعة كانت فيها فعلاً وتحريماً ، مشهورة ، وهذه الطريقة أصح (٢) .
_______________
(١) فتح الباري ٩ / ١٣٨ .
(٢) زاد المعاد ٣ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ .
يتبين من ذلك أن علماء أهل السنة أنفسهم يسقطون جميع الروايات التي تدعي نسخ المتعة أو تحريمها في كل الموارد المذكورة ، عدا الروايات التي تدعي أن ذلك كان في عام الفتح ، والعمدة فيها الروايات التي أخرجها مسلم في صحيحه ومن ثم أحمد بن حنبل في مسنده ، فلنستعرض بعضاً من هذه الروايات ـ طلباً للاختصار ـ ثم نناقشها مستشهدين بأقوال بعض العلماء فيها .
أخرج مسلم في صحيحه في ( باب نكاح المتعة وبيان أنه أُبيح ثم نسخ ثم أُبيح ثم نسخ ، واستقر تحريمه إلىٰ يوم القيامة ) :
١ ـ عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه سبرة ، أنه قال : أذن لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمتعة ، فانطلقت أنا ورجل إلىٰ امرأه من بني عامر كأنها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا ، فقالت : ما تعطي ؟ فقلت ردائي ، وقال صاحبي : ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه ، فاذا نظرت إلىٰ رداء صاحبي أعجبها ، وإذا نظرت إليّ أعجبتها ، ثم قالت : أنت ورداؤك يكفيني ، فمكثت معها ثلاثاً ، ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : « من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخل سبيلها » .
٢ ـ عن الربيع بن سبرة : أن أباه غزا مع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم
فتح مكة ، قال : فأقمنا بها خمس عشرة ( ثلاثين بين يوم وليلة ) فاذن لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم
في متعة النساء ، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة ، مع كل واحد منا بُرد ، فبردي خلق وأما برد ابن عمي فبرد جديد غض ، حتىٰ إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها ، فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطه ، فقلنا : هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ قالت : وماذا تبذلان ؟ فنشر كل واحد منا برده ، فجعلت تنظر إلىٰ الرجلين ، ويراها صاحبي تنظر إلىٰ عطفها فقال : إن برد هذا خلق وبردي جديد غض ، فتقول : برد هذا لا بأس به ، ثلاث مرار أو مرتين ، ثم استمتعت منها ، فلم أخرج حتىٰ حرّمها رسول الله .
٣ ـ الربيع بن سبرة الجهني : أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله فقال : « يا أيها الناس إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلىٰ يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً » .
٤ ـ عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه ، عن جده قال : أمرنا رسول الله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ، ثم لم نخرج منها حتىٰ نهانا عنها .
٥ ـ ربيع بن سبرة يحدث عن أبيه سبرة بن
معبد : أن نبي الله عام فتح مكة أمر أصحابه بالتمتع من النساء ، قال : فخرجت أنا وصاحب
لي من بني سليم ، حتىٰ وجدنا جارية من بني عامر ، كأنها بكرة عيطاء ، فخطبناها إلىٰ نفسها ، وعرضنا عليها بردينا ، فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي ، وترىٰ برد صاحبي أحسن من بردي ، فآمرت نفسها ساعة ثم اختارتني علىٰ صاحبي ، فكنّ معنا ثلاثاً ، ثم أمرنا رسول الله بفراقهن .
٦ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن النبي نهىٰ عن نكاح المتعة .
٧ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن رسول الله نهىٰ يوم الفتح من متعة النساء .
٨ ـ عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه : أنه أخبره أن رسول الله نهىٰ عن المتعة زمان الفتح متعة النساء ، وأن أباه كان تمتع ببردين أحمرين (١) .
وأخرج الامام أحمد في هذا الباب في مسند سبرة بن معبد :
١ ـ عن ربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن رسول الله نهىٰ عن متعة النساء يوم الفتح .
٢ ـ عن الزهري قال : تذاكرنا عند عمر بن عبد العزيز المتعة ، متعة النساء ، فقال ربيع بن سبرة : سمعت أبي يقول : سمعت رسول
_______________
(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٢ ـ ١٠٢٦ كتاب النكاح .
الله صلىاللهعليهوسلم في حجة الوداع ينهىٰ عن نكاح المتعة .
٣ ـ عبد الملك بن الربيع بن سبرة ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : نهىٰ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نصلي في أعطان الابل ورخص أن نصلي في مراح الغنم ، ونهىٰ رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن المتعة .
٤ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن النبي صلىاللهعليهوسلم حرم متعة النساء .
٥ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من المدينة في حجة الوداع ... فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم أمرنا بمتعة النساء فرجعنا إليه فقلنا : يا رسول الله إنهن قد أبين إلّا إلىٰ أجل مسمىٰ ، قال : « فافعلوا » ، قال : فخرجت أنا وصاحب لي علي برد وعليه برد ، فدخلنا علىٰ إمرأة فعرضنا عليها أنفسنا ، فجعلت تنظر إلىٰ برد صاحبي فتراه أجود من بردي وتنظر إليّ فتراني أشب منه ، فقالت : برد مكان برد ، واختارتني ، فتزوجتها عشراً ببردي ، فبت معها تلك الليلة ، فلما أصبحت غدوت إلىٰ المسجد فسمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو علىٰ المنبر يخطب ويقول : « من كان منكم تزوج إمرأة إلىٰ أجل فليعطها ماسمّىٰ لها ولا يسترجع من أعطاها شيئاً وليفارقها فان الله تعالىٰ قد حرمها عليكم إلىٰ يوم القيامة » .
٦ ـ الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : خرجنا
مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم
يوم الفتح
فأقمنا خمس عشرة من بين ليلة ويوم ، قال : فاذن لنا رسول الله في المتعة ، فخرجت أنا وابن عم لي في أسفل مكة أو قال في أعلىٰ مكة فلقيتنا فتاة من بني عامر بن صعصعة كأنها البكرة العنطنطة ، قال : وأنا قريب من الدمامة وعلي برد جديد غض وعلىٰ ابن عمي برد خلق ، قال : فقلنا لها : هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ قالت : وهل يصلح ذلك ؟ قال : قلنا : نعم ، قال : فجعلت تنظر إلىٰ ابن عمي ، فقلت لها : إنّ بردي هذا جديد غض وبرد ابن عمي هذا خلق مُح ، قالت : برد ابن عمك هذا لا بأس به ، قال : فاستمتع منها فلم ، نخرج من مكة حتىٰ حرمها رسول الله .
٧ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه يقال له السبري ، عن النبي أنه أمرهم بالمتعة ، قال : فخطبت أنا ورجل إمرأة ، قال : فلقيت النبي بعد ثلاث فاذا هو يحرمها أشد التحريم ويقول فيها أشد القول وينهىٰ عنها أشد النهي .
٨ ـ الربيع بن سبرة ، عن أبيه سبرة
الجهني أنه قال : أذن لنا رسول الله في المتعة ، قال : فانطلقت أنا ورجل هو أكبر مني سناً من أصحاب النبي ، فلقينا فتاة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء ، فعرضنا عليها أنفسنا فقالت : ما تبذلان ؟ قال كل واحد منا ردائي ، قال : وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه ، قالت : فجعلت
تنظر إلىٰ رداء صاحبي ثم قالت : أنت ورداؤك تكفيني ، قال : فأقمت معها ثلاثاً ، ثم قال رسول الله : « من كان عنده من النساء التي تمتع بهن شيء فليخل سبيلها » ، قال : ففارقتها .
٩ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : نهىٰ رسول الله عن نكاح المتعة .
١٠ ـ الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه
قال : خرجنا مع رسول الله فلما قضينا عمرتنا قال لنا رسول الله : « استمتعوا من هذه النساء » قال : والاستمتاع عندنا يوم التزويج ، قال : فعرضنا ذلك علىٰ النساء فأبين إلّا أن يضرب بيننا وبينهن أجلاً ، قال : فذكرنا ذلك للنبي فقال : « إفعلوا » ، فانطلقت أنا وابن عم لي ومعه بردة ومعي بردة وبردته أجود من بردتي وأنا أشب منه ، فأتينا إمرأة فعرضنا ذلك عليها فأعجبها شبابي وأعجبها برد ابن عمي ، فقالت : برد كبرد ، قال : فتزوجتها فكان الأجل بيني وبينها عشراً ، قال : فبت عندها تلك الليلة ثم أصبحت غادياً إلىٰ المسجد فاذا رسول الله بين الباب والحجر يخطب الناس يقول : « ألا أيها الناس قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ، ألا وإنّ الله تبارك وتعالىٰ قد حرم ذلك إلىٰ يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا
مما آتيتموهن شيئاً » (١) .
نلاحظ أن جميع أسانيد هذه الروايات تنتهي إلىٰ الربيع بن سبرة عن أبيه ، والواقعة واحدة ، إلّا أن الاضطراب واضح فيها .
ففي بعض الروايات أنها كانت في عام الفتح ، وفي الروايات الاُخرىٰ أنها كانت في حجة الوداع .
وبعض الروايات تذكر أن سبرة خرج مع أحد من بني قومه ، وأُخرىٰ تذكر أنه ابن عمه ، وبعضها تقول رجل كبير من أصحاب رسول الله .
وفي بعض الروايات أن سبرة كان أجمل وأكثر شباباً من صاحبه وأن برد صاحبه كان أفضل من برده ، وروايات تقول العكس .
وبالتالي فان رواية الآحاد هذه هي آخر مستمسك بيد أهل السنة لاثبات تحريم المتعة ، ولكن هل تستطيع هذه الرواية المهلهلة أن تنهض أمام الروايات الصحيحة المستفيضه التي تقول بعكس ذلك ، ومن أين نشأ هذا التناقض ؟
عملية التبرير :
إن هذه الروايات المضطربة عن تحريم المتعة إنما وضعت لتبرير
_______________
(١) مسند أحمد ٣ / ٤٠٤ ـ ٤٠٦ .
أمر قد وقع ولا حيلة في رده ، وهو أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي حرم المتعتين ـ متعة النساء ومتعة الحج ـ وقد مرّ في بعض المباحث السابقة إعتراف القوشجي بأن عمر بن الخطاب قد نسب تحريم المتعتين والحيعلة الثالثة إلىٰ نفسه علىٰ المنبر وعلىٰ رؤوس الاشهاد ، وبما أن ذلك أمر غير جائز شرعاً ، واجتهاد أمام نصوص قرآنية وسنة ثابتة لا ينبغي الاجتراء عليها ، لذا لم يجد القوم سبيلاً لتبرير عمل الخليفة إلّا بوضع روايات تدعي نسبة النهي عن المتعة إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بغية إيجاد الغطاء الشرعي لتصرف الخليفة .
قال الامام عبد الحسين شرف الدين قدسسره : وظنّي أن المتأخرين عن زمن الصحابة وضعوا أحاديث النسخ تصحيحاً لرأي الخليفه إذ تأول الأدلة فنهىٰ وحرّم متوعداً بالعقوبة ، فقال : متعتان كانتا علىٰ عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليها : متعة الحج ومتعة النساء (١) .
والباحث يجد في صحاح أهل السنة وكتبهم المعتمدة اعترافات مجموعة كبيرة من الصحابة بأن المتعة كانت مباحة في عهد النبي
_______________
(١) مسائل فقهية : ٦٤ .
وفي زمن أبي بكر وردحاً من خلافة عمر ، حتىٰ نهىٰ عنهما بعد ذلك ، وسوف أذكر بعض الروايات التي أخرجها محدّثو أهل السنة وحفاظهم والتي تتضمن هذه الاعترافات :
١ ـ عن عمران رضياللهعنه قال : تمتعنا علىٰ عهد رسول الله فنزل القرآن ، قال رجل برأيه ماشاء (١) .
وفي بعض نسخ البخاري : يقال أنه عمر .
قال القسطلاني في الارشاد : لأنه كان ينهىٰ عنها .
وقال ابن حجر العسقلاني : ونقله الاسماعيلي عن البخاري كذلك فهو عمدة الحميدي في ذلك ، ولهذا جزم القرطبي والنووي وغيرهما ، وكأن البخاري أشار بذلك إلىٰ رواية الحريري عن مطرف فقال في آخره : إرتأىٰ رجل برأيه ماشاء ، يعني عمر . كذا في الأصل أخرجه مسلم . وقال ابن التين : يحتمل أن يريد : أو عثمان . وأغرب الكرماني فقال : إن المراد به عثمان ، والأولىٰ أن يفسر بعمر ، فانه أول من نهىٰ عنها وكان من بعده تابعاً له في ذلك . ففي مسلم : إن ابن الزبير كان ينهىٰ عنها وابن عباس يأمر بها ، فسألوا جابراً فأشار إلىٰ
_______________
(١) صحيح البخاري ٢ / ١٧٦ ، وفي لفظ : أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ماشاء ٦ / ٣٣ ، صحيح مسلم ٢ / ٩٠٠ باب جواز التمتع .
أن أول من نهىٰ عنها عمر (١) .
وقال القسطلاني : قال رجل برأيه ماشاء ، هو عمر بن الخطاب لا عثمان بن عفان ، لأن عمر أول من نهىٰ عنها ، فكان من بعده تابعاً له في ذلك (٢) .
٢ ـ عن أبي جمرة نصر بن عمران قال : سألت ابن عباس رضياللهعنه عن المتعة فأمرني بها ، وسألته عن الهدي فقال فيها : المتعة جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم . قال وكأن أناساً كرهوها ، فنمت ، فرأيت في المنام كأن إنساناً ينادي : حج مبرور ومتعة متقبلة ، فأتيت ابن عباس رضياللهعنه فحدثته فقال : الله أكبر ، سنة أبي القاسم (٣) .
هذا فيما يتعلق بالتمتع بالعمرة ، وفيها إثبات بأن عمر بن الخطاب هو الذي نهىٰ عنها وحرمها ، والروايات في هذا الباب كثيرة جداً عن عدد من الصحابة في مصادر أهل السنة المعتمدة (٤) .
أما الروايات المثبته لتحريم عمر متعة النكاح فهي كثيرة جداً ، منها :
_______________
(١) فتح الباري ٣ / ٣٣٩ .
(٢) إرشاد الساري ٣ / ١٣٦ .
(٣) صحيح البخاري ٢ / ٢٠٤ ، إرشاد الساري ٣ / ٢٠٤ وقال : وكأن أناساً كرهوها ، يعني كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما ممن نقل الخلاف في ذلك .
(٤) راجع مثلاً : صحيح مسلم ٢ / ٩٠٠ و ٩٠٩ باب في متعة الحج .
١ ـ عن جابر بن عبدالله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام علىٰ عهد رسول الله وأبي بكر ، حتىٰ نهىٰ عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (١) .
٢ ـ عن الحكم أنه سئل عن هذه الآية ـ آية متعة النساء ـ أمنسوخة ؟ قال : لا ، وقال علي : لولا أن عمر نهىٰ عن المتعة مازنىٰ إلّا شقي (٢) .
٣ ـ قال عطاء : قدم جابر بن عبدالله معتمراً فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال : استمتعنا علىٰ عهد رسول الله وأبي بكر وعمر (٣) .
٤ ـ عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله قالا : تمتعنا إلىٰ نصف من خلافة عمر حتىٰ نهى عمر الناس عنها في شأن عمرو بن حريث (٤) .
_______________
(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٣ ، فتح الباري ٩ / ١٤١ ، كنز العمال ١٦ / ٥٢٣ ، جامع الاصول ١١ / ٤٥١ .
(٢) تفسير الطبري ٥ / ٩ باسناد صحيح ، تفسير الرازي ٣ / ٢٠٠ ، تفسير أبي حيّان ٣ / ٢١٨ ، الدر المنثور ٢ / ١٤٠ بعدة طرق .
(٣) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٣ ، وفي لفظ أحمد : حتىٰ إذا كان في آخر خلافة عمر رضياللهعنه المسند ٣ / ٣٨٠ .
(٤) عمدة القاري ٨ / ٣١٠ .
٥ ـ قال ابن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير : أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إنّ أُناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ، يعرّض برجل ، فناداه فقال : إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل علىٰ عهد إمام المتقين ( يريد رسول الله ) ، فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك (١) .
والشخص الذي عرّض به ابن الزبير هو عبد الله بن عباس ، وواضح قوله : لقد كانت المتعة تفعل علىٰ عهد إمام المتقين ، بحلّيتها زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم تحريمه لها .
٦ ـ عن عبدالله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلىٰ أجل ، ثم قرأ علينا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٢) .
هذه الروايات وغيرها كثيرة كافية لاثبات أن تحريم المتعة إنما كان إجتهاداً في غير محله من قبل الخليفة عمر بن الخطاب ،
_______________
(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٦ .
(٢) صحيح البخاري ٧ / ٥ ، صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٢ باب نكاح المتعة ، زاد المعاد ٣ / ٤٦١ .
واعترافه بنسبة التحريم إلىٰ نفسه ـ خلافاً للكتاب والسنة ـ كافٍ لكشف النقاب عن وجه المسألة كلّها ، ولعل رواية ابن مسعود ـ الذي كان معاصراً لقضية تحريم المتعة من قبل عمر ، وكان من الذين نهاهم عمر عن الرواية ـ كافية لوضع النقاط علىٰ الحروف وتنبيه المسلمين إلىٰ أن المتعة من الطيبات التي أحلها الله ، وأن تحريمها من قبيل الاعتداء علىٰ الشريعة .
وليس ابن مسعود رضياللهعنه هو الصحابي الوحيد الذي كان يقول بجواز المتعة ، بل ثبت علىٰ جوازها أيضاً ـ كما يقول ابن حجر ـ معاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد إبنا أُمية بن خلف وجابر وعمرو بن حريث إلىٰ قرب خلافة عمر ... ومن التابعين طاووس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة .
وكان فقيه مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح أبو خالد المكي وهو من أعلام التابعين يرىٰ جواز زواج المتعة ، وقد روي عنه أنه تزوج نحواً من تسعين إمرأة بنكاح المتعة وأنه كان يرىٰ الرخصة في ذلك (١) .
فاذا كانت المتعة من الزنا ، فينبغي أن يكون جميع أُولئك الصحابة
_______________
(١) فتح الباري ٩ / ٣١ .
والتابعين من الزناة ، أو من المقرين به علىٰ الأقل ، كما أن جواز المتعة ولو لثلاثة أيام كما يدعون هو إباحة للفاحشة ، فالروايات التي يتحصن بها أهل السنة ـ علىٰ ما فيها ـ في تحريم المتعة معارضة بالروايات الصحيحة المتكاثرة في حليتها ، فاذا أسقطنا الروايات جميعاً للتعارض ، يبقىٰ لنا ظاهر القرآن الذي هو الحجة البالغة ، وحيث لم يثبت نسخها ـ كما بينا ـ فالحكم باق إلىٰ قيام الساعة .
يتبين من كل ذلك أن الشيعة يتمسكون بالقرآن أولاً في بيان حلية المتعة ، وبالروايات المستفيضة التي جاءتهم عن طريق أئمتهم الأطهار عليهمالسلام فضلاً عن الروايات التي أوردنا بعضها والتي هي في مصادر أهل السنة وصحاحهم .
وبذلك يثبت الشيعة مرة أُخرىٰ أنهم هم المتمسكون بالثقلين : كتاب الله وعترة النبي أهل بيته صلىاللهعليهوآلهوسلم دون غيرهم .
النكاح بلا ولي وشهود :
قال الشيخ في « مطلب النكاح بلا وليّ ولا شهود » :
|
ومنها إباحتهم النكاح بلا ولي ولا
شهود ، وهذا هو الزنا بعينه ، قال الحلي منهم : ولا يشترط في نكاح الرشيدة الولي ولا يشترط الشهود في شيء |
|
من الأنكحة ، ولو تآمروا علىٰ الكتمان لم يبطل ، انتهى . عن عمران بن حصين أنه قال : « لا نكاح إلّا بولي وشاهدي عدل » ... قال بعض السادة : وإذا طرق سمعك ما سردنا عليك من الأحاديث فقد ظهر بطلان مذهبهم في تجويز النكاح بلا ولي ولا شهود والله أعلم (١) . |
قلت : علىٰ الرغم من أن الخلاف في مسائل الفروع أمر طبيعي ، إلّا أن إدعاء الشيخ ـ رغم ذلك ـ لا أساس له من الواقع ، وهو يخالف رأي جمهور الشيعة في هذا الباب ، وإليك جملة من آراء علمائهم :
١ ـ قال الشيخ البحراني قدسسره : الذي عليه المعوّل باستقلال الولي وأنه ليس لها معه أمر ، ويدل عليه جملة من الأخبار ، منها ما يدل علىٰ إستقلاله نصاً بحيث لا يقبل التأويل والاحتمال ، ومنها ما يدل علىٰ ذلك ظاهراً كما هو المعتمد في الاستدلال ، فلا يلتفت إلىٰ ما قبله من التأويل والاحتمال .
فمنها : ما رواه ثقة الاسلام في الصحيح عن عبدالله بن الصلت ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن الجارية الصغيرة زوّجها أبوها ،
_______________
(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٦ ـ ٣٨ .
ألها أمر إذا بلغت ؟ قال : « لا ليس لها مع أبيها أمر » قال : وسألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ، ألها مع أبيها أمر ؟ قال : « ليس لها مع أبيها أمر مالم تثيب » .
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر ؟ قال : « ليس لها مع أبيها أمر مالم تثيب » .
وهي كالأُولىٰ متناً ودلالة (١) .
٢ ـ قال المحقق الكركي قدسسره : والولاية الثابتة بالقرابة منحصرة عندنا في قرابة الأبوة والجدودة من الأبوة ، باتفاق علمائنا ، فلا تثبت للأخ ولاية من الأبوين كان أو من أحدهما ، انفرد أم كان مع الجد ، خلافاً للعامة .
وكذا الولد وسائر العصبات قربوا أو بعدوا ، وكذا لا ولاية للأُم ولا لمن يتقرب بها ، وهو قول الأصحاب وأكثر العامة (٢) .
٣ ـ واختار السيد الخوئي قدسسره التشريك ، بمعنىٰ : اعتبار إذنهما معاً ، قال : هذا القول هو المتعيّن في المقام ، لما فيه من الجمع بين
_______________
(١) الحدائق الناضرة ٢٣ / ٢١٢ كتاب النكاح .
(٢) جامع المقاصد ١٢ / ٩٢ كتاب النكاح في الأولياء .
النصوص الواردة ، ولخصوص ظهور قوله عليهالسلام في معتبرة صفوان : « فان لها في نفسها نصيباً » أو : « فان لها في نفسها حظاً » ، فانهما ظاهران في عدم إستقلالها وكون بعض الأمر خاصة بها (١) .
وكتب الحديث المعتمدة عند الشيعة مليئة بالروايات عن الأئمة المعصومين عليهمالسلام والتي تكذب مقالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أذكر منها هذه الروايات القليلة ـ طلباً للاختصار ـ :
١ ـ عن سعيد بن إسماعيل ، عن أبيه قال : سألت الرضا عليهالسلام عن رجل تزوج ببكر أو ثيب لا يعلم أبوها ولا أحد من قراباتها ، ولكن تجعل المرأة وكيلاً فيزوجها من غير علمهم ، قال : « لا يكون ذا » (٢) .
٢ ـ عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : « لا تنكح ذوات الآباء من الأبكار إلّا باذن آبائهن » (٣) .
٣ ـ عن المهلب الدلال ، أنه كتب إلىٰ أبي الحسن عليهالسلام : إن إمرأة كانت معي في الدار ، ثم أنها زوجتني نفسها وأشهدت الله وملائكته علىٰ ذلك ، ثم أن أباها زوجها من رجل آخر ، فما تقول ؟ فكتب عليهالسلام :
_______________
(١) مباني العروة الوثقىٰ ٢ / ٢٦٤ .
(٢) وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٧٠ .
(٣) وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٧٧ .