الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
الفَصْل الرّابِع
* أبو ذَرّ عَلى لِسَان النّبي الكَريم ( ص )
* بَينَ النّبي وَأبي ذَرّ
* أبو ذر العَالِم
* الزّاهِد المتعبِّد
* مِن فَضَائِله
* مِن كَلَامه
* وَصفه لآخر الزمَان
أبوذَرّ عَلى لِسَان النّبي الكَريم ( ص )
ونستعرض هنا ، ما جاء على لسان النبي ( ص ) بشأن هذا الصحابي الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمة منحها اياه النبي الكريم ( ص ) باستحقاق وجدارة . ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
قال ( ص ) : ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّتِ الغَبراءُ من ذي لهجة أصدقُ ، ولا أوفى من أبي ذر ، شِبهُ عيسى بن مريم .
وفي لفظ آخر : ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر الى زُهدِ عيسى بن مريم ، فلينظر الى أبي ذر .
من أحبّ أن ينظرَ الى المسيح عيسى بن مريم ، الى بره وصدقه ، وجدِّه ، فلينظر الى أبي ذر .
إن أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته .
رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده .
إن الله عز وجل أمرني بحُبِّ اربعة ، وأخبرني انه يحبُّهم : عليّ ، وأبو ذر ، والمقداد وسلمان .
عن أبي ذر قال ، قال رسول الله ( ص ) : يا أبا ذر ! كيف أنت اذا كنت في حثالة ؟ وشبَّك بين أصابعه . قلت : يا رسول الله ! فما تأمرني ؟ قال : إصبر . إصبر . إصبر . خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم .
عن أبي ذر أيضا ، قال : بَينَا أنا واقف مع رسول الله ( ص ) فقال لي : يا أبا ذر ، أنت رجل صالح ، وسيُصِيبُك بلاء بعدي ! قلت : في الله ؟ قال : في الله . قلت : مرحبا بأمر الله .
عن أبي ذر قال : قال النبي ( ص ) : يا أبا ذر ! كيف أنت اذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفيء ؟ قال : قلت : اذاً ، والذي بعثك بالحق ، أضربُ بسيفي حتى ألحقَ بك . فقال : أفلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك . ؟ إصبر حتى تلقاني ١ .
__________________
(١) هذه الاحاديث اخذناها عن المستدرك ج ٣ ص ٣٤٢ و ٣٤٣ / وعن الغدير ج ٨ ص ٣١٢ الى ٣١٦ .
بَينَ النّبي وَأبي ذَرّ
قال أبو ذر : ودخلت على رسول الله ( ص ) ، وهو في المجلس جالس وحده ، فاغتنمت خلوته !
فقال : يا أبا ذر ، إن للمسجد تحيَّة !
قلت : وما تحيته يا رسول الله . ؟
قال : ركعتان . فركعتهما . ثم التفتّ اليه ، فقلت : يا رسول الله ، أي الاعمال أحبّ الى الله جلَّ ثناؤه ؟
فقال ( ص ) : الإيمان بالله ، ثم الجهاد في سبيله .
قلت : يا رسول الله ، أمرتني بالصلاة ، فما الصلاة ؟
قال : خير موضوع ، فمن شاء أقلّ ، ومن شاء أكثر . !
قلت : يا رسول الله ، أي المؤمنين ، اكمل إيماناً . ؟
قال : أحسنهم خُلقاً .
قلت : فأيّ المؤمنين أفضل ؟
قال : من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه . !
قلت : فأيّ الهجرة أفضل . ؟
قال : من هجر الشر !
قلت : فأيّ الليل أفضل ١ ؟
قال : جوف الليل الغابر ! .
قلت : فأي الصلاة أفضل ؟
قال : طول القنوت !
قلت : فأي الصدقة أفضل ؟
قال : جَهد ٢ من مُقلّ الى فقير في سر .
قلت : فما الصوم ؟
قال : فرض مجزيء . وعند الله أضعاف ذلك .
قلت : فأيّ الرقاب أفضل ؟ ٣
قال : أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها .
قلت : فأي الجهاد أفضل ؟
قال : من عقر جواده ، وأهريق دمه !
قلت : فأيّ آية انزلها الله عليك أعظم ؟
قال : أية الكرسي ! ثم قال : يا أبا ذر ، مالسموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ! وفضل العرش على الكرسي ، كفضل الفلاة على تلك الحلقة .
قلت : يا رسول الله ، كم النبيون ؟
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي !
__________________
(١) يعني : للعبادة .
(٢) جهد المقل : قدر ما يحتمله قليل المال .
(٣) للعتق .
قلت : كم المرسلون منهم ؟
قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ! جمَّاً غفيرا * .
قلت : من كان أول الأنبياء ؟
قال : آدم .
قلت : وكان من الانبياء مرسلا ؟
قال : نعم ! خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه . ثم قال : يا أبا ذر ! وأربعة من الأنبياء سريانيون . آدم ، وشيث ، وأخنوخ ( وهو إدريس ) وهو أول من خط بالقلم ، ونوح . وأربعة من الأنبياء من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وأول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم : عيسى بينهما ستمائة نبي .
قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله من كتاب ؟
قال : مائة كتاب ، وأربعة كتب . أنزل الله على شيث ، خمسين صحيفة . وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم ، عشرين صحيفة ، وانزل التوارة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان .
قال ، قلت : يا رسول الله ، فما كانت صُحُف ابراهيم ؟
قال : كانت أمثالا كلها ! وفيها : ـ أيُّها الملِكُ المتسلِّط ، المبتلى ، المغرور . إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ، ولكن بعثتك لتردّ دعوة المظلوم ، فاني لا أردّها ، وان كانت من كافر أو فاجر ! ! وفجوره على نفسه .
وكان فيها : على العاقل ـ ما لم يكن مغلوبا على عقله ـ ان يكون له
__________________
* الجم الغفير ، هنا : الكثير البركة .
ساعات ، ساعة يناجي فيها ربَّه ، وساعة يصرفها في صنع الله تعالى ، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخَّر ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب . فانَّ هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، وتوديع لها ؟ وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : تزوّد لمعاد . أو مرمَّة لمعاش . أو لذة في غير محرّم . وعلى العاقل ، أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه . ومن حسب كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه .
قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف موسى ( ع ) ؟
قال : كانت اعتبارا كلها !
عجباً لمن أيقن بالنار ، كيف يضحك ؟ ! عجباً لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح ؟ ! عجبا لمن أبصر الدنيا ، وتقلُّبَها بأهلها حالا بعد حال ، ثم يطمئن اليها ! ؟ عجباً لمن أيقن بالحسنات غدا ، كيف لا يعمل ! ؟
قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا مما أنزل الله عليك ، شيء مما كان في صحف ابراهيم ، وموسى ؟ .
قال : إقرأ يا أبا ذر : قد أفلَحَ من تَزكَّى ، وذكَر إسم ربِّه فصلَّى ، بلْ تُؤثرونَ الحَياةَ الدُنيا . والآخرة خير وأبقى إنَّ هذا ( يعني ذكر هذه الأربع آيات ) لفي الصحف الأولى ، صُحُفِ ابراهيمَ وموسى . .
قلت : يا رسول الله ، أوصني .
قال : أوصيك بتقوى الله ، فانها رأس أمرِكَ كلِّه .
قلت : يا رسول الله : زدني .
قال : عليك بتلاوةِ القرآن ، وذكرِ الله كثيرا ، فانه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الارض .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : عليك بالجهاد ، فانه رهبانية أمتي .
قلت : يا رسول الله ( ص ) ، زدني .
قال : عليك بالصمت ، إلا من الخير ، فانه مطرَدَة للشيطان عنك ، وعون لك على أمر دينك .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : إياك وكثرة الضحك ، فانه يميت القلب ، ويَذهب بنور الوجه .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : انظر ( الى ) من هو تَحتك ، ولا تنظر الى من هو فوقك ، فانه أجدرُ أن لا تزدري نعمة الله عليك .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : صِلْ قرابتك وإن قطعوك ، وأحِبّ المساكين وأكثر مجالستهم .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : قل الحق ، وان كان عليك مرّاً .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : لا تَخف في الله لومة لائم .
قلت : يا رسول الله زدني .
قال
: يا أبا ذر ، ليرُدَّك عن الناس ما تعرف من نفسك ، ولا تجد
عليهم فيما يأتي ، فكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ، ويجد عليهم فيما يأتي .
قال : ثم ضرب بيده على صدري ، وقال : يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكفّ ، ولا حسَب كحُسن الخلق ١ .
__________________
(١) تنبيه الخواطر
ـ ٢ / ٣١٤ الى ٣١٦ / ومعاني الاخبار ٣٣٣ الى ٣٣٥ . وقد وجدت بعضا من مقاطع هذا الحوار في الكامل ١ / ص ٤٧ ـ ٦٠ ـ ١٢٤
أبوذَرّ العَالِم
نكتفي هنا بعرض لما قيل وكتب حول علم أبي ذر ( رض ) فان في ذلك صورة واضحة عما يتمتع به هذا الصحابي الجليل من العلم والفضل .
قال أمير المؤمنين علي ( ع ) : وعى علماً عُجز فيه ، وكان شحيحا حريصا على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيعطى ويمنع ، أما أن قد ملیء له في وعائه حتى امتلأ .
وقال أبو نعيم في الحلية : أول من تكلم في علم البقاء والفناء ، وثبت على المشقة والعناء وحفظ العهود والوصايا ، وصبر على المِحَن والرزايا . . الى أن قال : أبو ذر الغفاري رضي الله عنه خدم الرسول وتعلم الاصول ، ونبذ الفُضول .
وقال ابن حجر في الإصابة : كان يوازي ابن مسعود في العلم ١ .
وجاء في كتاب فنون الاسلام ، في أول من جمع حديثا الى مثله في باب واحد ، وعنوان واحد من الصحابة الشيعة ، وهم : أبو عبد الله سلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ( رض ) وقد نص على ذلك ، رشيد الدين بن شهر آشوب في كتابه : معالم علماء الشيعة . وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي
__________________
(١) الغدير ٨ / ٣١١ ـ ٣١٢ .
شيخ الشيعة ، والشيخ أبو العباس النجاشي في كتابيهما ، في فهرست اسماء المصنفين من الشيعة ، مصنفاً لأبي عبد الله سلمان الفارسي ، ومصنفاً لأبي ذر الغفاري ، وأوصلا اسنادهما الى رواية كتاب سلمان ، وكتاب أبي ذر ، وكتاب سلمان : كتاب حديث الجاثليق . وكتاب أبي ذر : كتاب كالخطبة ، يشرح فيه الامور بعد رسول الله ( ص ) الخ ١ . .
وقد ذكر بعض الاعلام : « أنه كان بينه وبين عثمان مشاجرة في مسألة من مسائل الزكاة ، فتحاكما عند رسول الله ( ص ) فحكم لأبي ذر على عثمان ٢ » .
__________________
(١) كتاب الشيعة وفنون الاسلام / ٣١ .
(٢) رجال بحر العلوم ٢ / ١٥١ .
الزّاهد المتعبِّد
في حلية الاولياء بسنده عن أبي ذر ، قال :
والله لو تعلمون ما أعلم ، ما انبسطتم الى نسائكم ، ولا تقَاررتهُم على فرشكم ، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني ، يوم خلقني ـ شجرة تُعضد ، ويؤكل ثمرها .
وروى الصدوق في الخصال بسنده ، عن الصادق ( ع ) عن أبيه قال :
بكى أبو ذر من خشية الله عز وجل ، حتى اشتكى بصره !
فقيل له : يا أبا ذر ! لو دعوت الله أن يشفي بصرك ! ؟
فقال : اني عنه لمشغول ! وما هو من أكبر همي . قالوا : وما يشغلك ؟
قال : العظيمتان ! الجنة والنار ! ! .
قال أبو ذر : من جزى الله عنه الدنيا خيرا ! فجزاها الله عني مذمة ، بعد رغيفي شعير ، أتغدى بأحدهما ، وأتعشى بالآخر ، وبعد شملتيْ صوف ، أتَّزر باحداهما ، وأرتدي بالأخرى .
وقال : كان قوتي على عهد رسول الله من تمر ، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله !
عن عيسى بن عميلة الفزاري قال : أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غُنيمة له ، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه ، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء ، إلا مَصَره وقرَّب اليهم تمراً ، وهو يسير ، ثم تعذر اليهم وقال : لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا ، لجئنا به ! وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئاً .
وقيل له : ألا تتَّخذ ضيعة ، كما إتَّخذ فلان وفلان ! ؟
قال : وما أصنع ، بأن أكون أميرا ؟ وانما يكفيني كل يوم شربه ماء أو لبن ، وفي الجمعة قفيز من قمح .
قال أبو ذر : يولدون للموت ، ويعمرون للخراب ، ويحرصون على ما يفنى ، ويتركون ما يبقى ألا حبذا المكروهان : الموت ، والفقر ( في سبيل الله ) .
عن ابي جعفر ( ع ) قال : أتى أبا ذر رجل يبشره بغنم له قد ولدت . فقال : يا أبا ذر ! أبشر فقد ولدت غنمك ، وكثرت !
فقال : ما يسرّني كثرتها ، وما أحب ذلك ! فما قلَّ وكفى ، أحب اليّ مما كَثُر وألهى ! اني سمعت رسول الله ( ص ) يقول : على حافتيّ الصراط يوم القيامة : الرحمُ ، والامانة ، فاذا مرَّ عليه الوصول للرحم ، المؤدي للأمانة ، لم يتكفأ به في النار .
وقيل له عند الموت : يا أبا ذر ، ما لك . ؟
قال : عملي !
قالوا : إنا نسألك عن الذهب والفضة . !
قال : ما أصبح ، فلا أمسى ، وما أمسى فلا أصبح ، لنا كندوج *
__________________
(١) هذا الفصل اخذناه من أعيان الشيعة ١٦ ص ٣٢٦ الى ٣٣١ .
* الكندوج : لفظ معرب ، معناه : الخزانة .
ندع فيه خير متاعنا ، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : كندوج المرء ، قبره ١ .
وفي حلية الاولياء ، بسنده ، عن محمد بن سيرين ، قال :
« بلغ الحارث ( رجلا كان بالشام ) أن أبا ذر به عوز ، فبعث اليه بثلاثمائة دينار .
فقال : ما وجد عبداً لله تعالى هو أهون عليه مني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سأل ، وله أربعون ، فقد ألحف ! ) ولآل أبي ذر أربعون درهماً ، وأربعون شاة .
من فضائله
ما روي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :
دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه جبرئيل ، فقال جبرئيل : من هذا يا رسول الله ؟
قال : أبو ذر .
قال : أما انه في السماء أعرف منه في الارض ، وسله عن كلمات يقولهن اذا أصبح ، قال : فقال : يا أبا ذر ، كلمات تقولهن اذا أصبحتَ ، فما هنَّ ؟
قال : أقول ، يا رسول الله : ( اللهم اني أسألك الايمان بك ، والتصديق بنبيك ، والعافية من جميع البلايا ، والشكر على العافية ، والغنى عن شرار الناس ٢ ) .
__________________
(١) معجم رجال الحديث ٤ / ١٧١ .
(٢) نفس المصدر ٤ / ١٦٨ .
مِن كَلَامه
روي عن أبي جعفر ( الباقر ) عليه السلام قال :
قام أبو ذر رضي الله عنه ، بباب الكعبة ، فقال : أنا جندب بن جنادة الغفاري ، هلموا الى أخ ناصح شفيق .
فاكتنفه الناس ، فقالوا : قد دعوتنا ، فانصح لنا .
قال : لو أن أحدكم أراد سفرا ، لأعدَّ فيه من الزاد ما يصلحُهُ ، فما لكم لا تزوّدون لطريق القيامة ، وما يصلحكم فيه ؟
قالوا : كيف نتزوّد لذلك ؟
فقال : يحج الرجل حجة لعظام الامور ، ويصوم يوما شديد الحرّ ليوم النشور ، ويصلي ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور . ويتصدق بصدقة على مسكين لنجاة من يوم عسير .
يا
ابن آدم ! اجعل الدنيا مجلسين ، مجلساً في طلب الحلال ، ومجلساً للآخرة ، ولا تزد الثالث ، فانه لا ينفعك . واجعل الكلام كلمتين ، كلمة للآخرة ، وكلمة في إلتماس الحلال ، والثالثة تضرّك . واجعل مالك درهمين ، درهماً تنفقه على عيالك ، ودرهماً لآخرتك ، والثالث لا ينفعك . واجعل الدنيا ساعة من ساعتين ، ساعة مضت بما فيها ، فلست قادراً على ردِّها ، وساعة آتية لست على ثقة من ادراكها ، والساعة التي أنت فيها ساعة عملك ،
فاجتهد فيها لنفسك ، وإصبر فيها عن معاصي ربِّك ! فان لم تفعل ، فقد هلكت ! .
ثم قال : قتلني همّ يوم لا أُدركه ١ .
وعن أبي عبد الله الصادق ، عن أبيه ـ عليهما السلام ـ أنه قال :
في خطبة أبي ذر : يا مبتغي العلم ، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك . أنت يوم تفارقهم كضيف بتَّ فيهم ثم غدوت الى غيرهم . الدنيا والآخرة كمنزل تحولت منه الى غيره . وما بين البعث والموت ، إلا كنومة نمتها ، ثم استيقضت منها .
يا جاهل العلم تعلَّم ، فانَّ قلباً ليس فيه شرفُ العلم ، كالبيت الخراب الذي لا عامرَ له .
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، عن أبي ذر قال :
يا باغي العلم ، قدّم لمقامك بين يدي الله ، فانك مرتهن بعملك ، كما تدين تُدان .
يا باغي العلم ، صلِّ قبل أن لا تقدر على ليل ولا نهار تصلي فيه ! إنما مَثلُ الصلاة لصاحبها ، كمثل رجل دخل على ذي سلطان فأنصتَ له حتى فرغ من حاجته . وكذا المرءُ المسلم باذن الله عزَّ وجلّ ، ما دام في الصلاة ، لم يزل الله عز وجل ينظر اليه حتى يفرغ من صلاته .
يا باغي العلم ، تصدّق من قبلِ أن لا تُعطى شيئا ، ولا جميعه ، إنما مَثلُ الصدقة لصاحبها ، مَثلُ رجل طلبه قوم بدم ، فقال لهم لا تقتلوني ،
__________________
(١) تنبيه الخواطر ٢ / ٢٧٤ .
(١٢)
إضربوا اليّ أجلا أسعى في رجالكم ! كذلك المرء المسلم باذن الله ، كلما تصدق بصدقة ، حلَّ بها عقدة من رقبته ، حتى يتوفى الله عز وجل أقواماً وهو عنهم راض ، ومن رضي الله عز وجل عنه ، فقد أمن من النار .
يا باغي العلم ، إن هذا اللسان مفتاح خير ، ومفتاح شر ، فاختم على فمك كما تختم على ذَهبك وعلى ورِقِك .
يا باغي العلم ، إن هذه الأمثال ضربها الله عز وجل للناس ، وما يعقلها إلا العالمون ١ . !
__________________
(١) تنبيه الخواطر ـ ٢ / ٣١٦ .
وَصفه لآخر الزمَان
في حلية الأولياء ، بسنده عن أبي ذر ، قال :
ليأتين عليكم زمان ، يغبط الرجل فيه بخفة الحاذ * كما يغبط اليوم فيكم أبو عشرة .
وروى الحاكم في المستدرك ، بسنده . . عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
« اذا اقترب الزمان ، كثر لبس الطيالسة ، وكثرت التجارة ، وكثر المال ، وعَظُم ربّ المال بماله ، وكثرت الفاحشة ، وكانت إمارة الصبيان ، وكثر النساء ، وجار السلطان ، وطُفِّفَ في المكيال والميزان ، ويربي الرجل جرو كلب ، خير له من أن يربي ولدا له ! ولا يُوَقَّرُ كبير ، ولا يُرحم صغير ، ويكثر أولاد الزنا ، حتى أن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق ، فيقول أمثلهم في ذلك الزمان : لو اعتزلتما عن الطريق ! !
ويلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أمثلهم في ذلك الزمان ، المُداهن . ! » ١
__________________
* الحاذ : الظهر . كنى به عن قلة المال والولد .
(١) أعيان الشيعة ١٦ / ٤٦٩ ط الاولى .