تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.
وهذا الأمر للندب عندنا ، للروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهمالسلام. وقد يكون للوجوب ، خوفا من العنت. وفيه فضل كثير ، وثواب جزيل. وورد فيه أخبار كثيرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام. منها : «من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي ، وهي النكاح».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من كان له ما يتزوّج فلم يتزوّج ، فليس منّا».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا تزوّج أحدكم عجّ (١) شيطانه : يا ويله عصم ابن آدم منّي ثلثي دينه».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا عياض لا تزوّجنّ عجوزا ولا عاقرا ، فإنّي مكاثر بكم».
وقال عليهالسلام : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنّه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنّه له وجاء» (٢).
وروى عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : لقيني ابن عبّاس في حجّة حجّها ، فقال هل تزوّجت؟ قلت لا. قال : فتزوّج. قال : ولقيني في العام المقبل فقال : هل تزوّجت؟ قلت : لا. فقال : اذهب فتزوّج ، فإنّ خير هذه الأمّة كان أكثرها نساء. يعني : النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعن أبي هريرة قال : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد للقيت الله بزوجة ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «شراركم عزّابكم».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما يمنع المرء أن يتّخذ أهلا؟ لعلّ الله يرزقه نسمة يثقل الأرض بـ : لا إله إلّا الله».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما بني في الإسلام أحبّ إلى الله عزوجل من التزويج. ولركعتان يصلّيهما
__________________
(١) أي : صاح ورفع صوته.
(٢) الوجاء : رضّ البيضتين ودقّها ، فهو كالخصاء. شبّه صلىاللهعليهوآلهوسلم الصوم بوجاء البيضتين ، لأنّه يكسر الشهوة.
متزوّج أفضل من رجل عزب يقوم ليله ويصوم نهاره».
وعن أبي امامة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «أربع لعنهم الله من فوق عرشه ، وأمّنت عليه ملائكته : الّذي يحصر نفسه ولا يتزوّج ولا يتسرّى ، لئلّا يولد له. والرجل يتشبّه بالنساء ، وقد خلقه الله ذكرا. والمرأة تتشبّه بالرجال ، وقد خلقها الله أنثى. ومضلّل الناس. يريد : الّذي يهزأ بهم. يقول للمسكين : هلمّ أعطك ، فإذا جاء يقول : ليس معي شيء. ويقول للمكفوف : اتّق الدابّة ، وليس بين يديه شيء. والرجل يسأل عن دار القوم ، فيضلّله».
وعن الصادق عليهالسلام : «من ترك التزوّج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بربّه عزوجل».
لقوله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) لا سعة لهم للتزويج (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ردّ لما عسى أن يمنع من النكاح ، أي : لا يمنعنّ فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة ، فإنّ في فضل الله غنية عن المال ، فإنّه غاد ورائح.
أو وعد من الله تعالى بالإغناء عند التزويج ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اطلبوا الغنى في هذه الآية».
لكنّه مشروط بالمشيئة ، كقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) (١). ويؤيّد هذا الشرط أنّ هذه قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة ، أي : قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم الله ، لا كلّما كانوا فقراء يغنهم الله. فلا يرد : كان فلان غنيّا فأفقره النكاح.
(وَاللهُ واسِعٌ) ذو سعة ، لا تنفد نعمته ، إذ لا تنتهي قدرته (عَلِيمٌ) يبسط الرزق ويقدر ، على ما تقتضيه الحكمة.
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))
__________________
(١) التوبة : ٢٨.
ثمّ بيّن حكم من لا يجد أسباب النكاح من المهر والنفقة ، فقال : (وَلْيَسْتَعْفِفِ) وليجتهد في العفّة ومنع النفس ، كأنّ المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أسبابه. ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال ، أو بالوجدان التمكّن منه. (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فيجدوا ما يتزوّجون به.
وفيه ترجية للمستعفّين ، وتقدمة وعد بالتفضّل عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم ، وربطا على قلوبهم.
ولا يرد : لزوم التناقض بين هذه الآية والّتي قبلها ، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر ، وفي الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر.
لأنّا نقول : إنّ الأولى وردت للنهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره ، وترك تزويج المرأة لأجل فقرها. والثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح حذرا من تعبه حالة الزواج. فلا تناقض حينئذ. على أنّا نقول : إنّهما مهملتان فلا تتناقضان.
وما أحسن ما رتّب هذه الأوامر! حيث أمر أوّلا بما يعصم من الفتنة ، ويبعّد من مواقعة المعصية ، وهو غضّ البصر. ثمّ بالنكاح الّذي يحصّن به الدين ، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام. ثمّ بالحمل على النفس الأمّارة بالسوء. ثمّ تزهيدها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه.
ثمّ أمر الموالي بكتابة عبادهم وإمائهم ، الّتي يوجب الاستقلال بالزواج والاستبداد بالنكاح ، فقال : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) يطلبون المكاتبة ، كالعتاب والمعاتبة. وهو أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا إلى كذا. وإن قال : فإن عجزت فأنت رقّ ، فهي مشروطة. وحكم الأولى أنّه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي. وحكم الثانية أنّه رقّ ما بقي عليه شيء واشتقاقه من الكتاب ، لأنّ السيّد كتب على نفسه عتقه إذا أدّى ، فإنّ معنى «كاتبتك» كتبت لك على نفسي أن تعتق منّي إذا وفيت بالمال ، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليّ العتق. أو لأنّه ممّا يكتب لتأجيله.
أو من الكتب بمعنى الجمع ، لأنّ العوض فيه يكون منجّما بنجوم يضمّ بعضها إلى بعض غالبا.
(مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عبدا كان أو أمة. والموصول بصلته مبتدأ خبره (فَكاتِبُوهُمْ) كقولك : زيد فاضربه ، أي : زيد مقول في حقّه : اضربه. أو منصوب بفعل يفسّره «فكاتبوهم». كقولك : زيدا فاضربه. ودخلت الفاء لتضمّن معنى الشرط. والأمر للندب عندنا وعند العامّة. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أمانة وقدرة على أداء مال الكتابة بالاكتساب. وقد روي مثله (١) مرفوعا. ولو لم يكن العبد أمينا ولا كسبوا فهي مباحة.
روي : أنّ عبد سلمان قال له : كاتبني؟ قال : ألك مال؟ قال : لا. قال : تطعمني أوساخ الناس ، فأبى عليه.
وقيل : صلاحا في الدين ، إذ الكافر لا خير فيه ، ولأنّه يعطى من الزكاة ، والكافر لا يعطى منها. ولا يرد : المؤلّف قلبه ، إذ إعطاؤه لغرض التقوّي به على الجهاد. والمراد بالعلم هنا الظنّ المتاخم للعلم.
(وَآتُوهُمْ) أيّها الموالي (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) مال الزكاة الّذي فرض الله
__________________
(١) أي : ورد تفسير الخبر بالأمانة والقدرة على الأداء في خبر مرفوع.
عليكم ، أو غيره ، فإنّه يستحبّ للمولى إعانة المولّى عليه من مال نفسه وقيل : المراد : ضعوا عنهم شيئا من نجومهم. فقيل : الربع. وقيل : الثلث. وقيل : ليس بمقدّر.
وقال الفقهاء : السيّد إن وجب عليه الزكاة وجب عليه إعانته. وهذا قول أكثر أصحابنا. وقال بعضهم : يجب الإيتاء مطلقا. وبه قال الشافعي. وقيل : يستحبّ مطلقا. وبه قال أبو حنيفة.
وقيل : هذا الأمر غير مختصّ بالموالي ، بل عامّ لكافّة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة.
ومنشأ الأقوال من أصلين :
الأوّل : هل الأمر للوجوب أو الاستحباب؟ قيل : بالأوّل ، لأنّه حقيقة فيه ، كما قرّر في الأصول ، وبه قال الأكثر. وقيل : بالثاني ، لأصالة البراءة ، ولأنّ أصل الكتابة ليس بواجب ، فلا يجب تابعه.
الثاني : هل المراد بمال الله هو الزكاة ، لأنّه المتبادر إلى الفهم ، أو المال مطلقا ، لأنّ الله تعالى هو المالك لجميع الأشياء ، ونحن المنفقون؟ قيل : بالأوّل. وقيل : بالثاني.
واعلم أنّ من قال بوجوب الإعانة مطلقا قال : إنّ الأمر هنا للوجوب ، وإنّ المال ليس هو الزكاة. ومن قال بالاستحباب مطلقا قال : إنّ الأمر للندب ، والمال ليس هو الزكاة. ومن قال : إنّ المال هو الزكاة والأمر للوجوب ، فذلك ظاهر. ومن قال : إنّ المال هو الزكاة وإنّ الأمر للندب ، جعل تخصيص المكاتبة أولى ، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته.
والحقّ أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فيكون مشروطا بوجوب حصول المال ، وهو الزكاة ، لأنّ شرط الوجوب واجب. وأمّا إذا لم تجب الزكاة بوجه استحبّ الإعطاء ، لأنّه تعاون على البرّ ، فيدخل تحت قوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (١). ولأنّه فكّ
__________________
(١) المائدة : ٢.
رقبة ، فيدخل تحت قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١).
وقيل : المراد أنّه يستحبّ للموالي الإنفاق على المكاتبين بعد أن يؤدّوا ويعتقوا.
وروي : أنّه كان لعبد الله بن أبيّ ستّ جوار : معاذة ، ومسيكة ، واميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ، يكرههنّ على الزنا ، وضرب عليهنّ الضرائب ، فشكت معاذة ومسيكة إلى رسول الله ، فنزلت : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) لا تجبروا إماءكم. جمع الفتاة ، وهي الأمة. (عَلَى الْبِغاءِ) على الزنا. وهو مصدر البغيّ. (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعفّفا.
واعلم أنّه لمّا كان الإكراه على الزنا لا يمكن إلّا مع إرادة التحصّن ، كان آمر الطيّعة المواتية للبغاء لا يسمّى مكرها ، ولا أمره إكراها ، فقيّد الأمر بالإكراه بإرادة التحصّن. فلا يرد : أن الشرطيّة منافية للمعنى المقصود ، وهو النهي عن الإكراه على الزنا مطلقا.
وفي إيثار «إن» على «إذا» فائدة جليلة ، وهي الإشارة إلى أنّهنّ راغبات في الزنا مائلات إلى البغاء. فكأنّه قيل لتوبيخهنّ وردعهنّ وتعييرهنّ : هؤلاء الفتيات مائلات إلى الفجور ، راغبات إلى الفواحش ، فإن كان في بعضهنّ إرادة التحصّن ـ وذلك نادر شاذّ ـ فلا تكرهوهنّ على البغاء.
(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) ومن يجبرهنّ على الزنا من سادتهنّ (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ) لهنّ لا للمكره ، لأنّ الوزر عليه لا عليهنّ (رَحِيمٌ) بهنّ ، فإنّ الإكراه رافع للإثم ، كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه».
وفي ذكر المغفرة هاهنا ، وهي في الأصل تكون فرعا على وجود الذنب ، مبالغة في تعظيم حوب (٢) البغاء ، حتّى كان المكرهات أيضا لا تخلو عن التبعات. ويجوز أن يكون الإكراه دون ما اعتبرته الشريعة ، من الإكراه بقتل ، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب
__________________
(١) البلد : ١٣ ـ ١٤.
(٢) الحوب والحوب : الإثم.
العضو ، من ضرب عنيف أو غيره ، حتّى يسلمن من الإثم ، فربما قصرن عن الحدّ الّذي يعذرن ، فيكنّ آثمات.
وقيل : المراد إنّ الله غفور للمكرهين إنّ تابوا ، وإلّا على وجه التفضّل. والأوّل أوفق للظاهر.
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) يعني : الآيات الّتي بيّنت في هذه السورة ، وأوضحت فيها الأحكام والحدود. وقرأ ابن عامر وحفص هنا وفي الطلاق (١) بالكسر ، من : بيّن بمعنى : تبيّن ، لأنّها واضحات تصدّقها الكتب المتقدّمة والعقول السليمة. أو من : بيّن المتعدّي ، لأنّها بيّنت الأحكام والحدود. جعل الفعل لها على المجاز.
(وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) ومثلا من أمثال من قبلكم ، أي : قصّة عجيبة مثل قصصهم. وهي قصّة عائشة ، فإنّها كقصّة يوسف ومريم.
(وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وما وعظ به في تلك الآيات لأهل التقوى ، من قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) (٢). (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) (٣). (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) (٤). وتخصيص المتّقين لأنّهم المنتفعون بها.
وقيل : المراد بالآيات القرآن ، والصفات المذكورة صفاته.
(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
__________________
(١) الطلاق : ١١.
(٢) النور : ٢ ، ١٢ ، ١٧.
(٣) النور : ٢ ، ١٢ ، ١٧.
(٤) النور : ٢ ، ١٢ ، ١٧.
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))ولمّا بيّن تعالى وجوه المنافع والمصالح وعلم الشرائع فيما سبق ، بيّن بعده أنّ منافع أهل السماوات والأرض منه ، فقال : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ذو نورهما. أو منوّرهما لوجوه انتفاع العباد بالكواكب ، وما يفيض عنها من الأنوار ، أو بالملائكة والأنبياء ، فإنّ النور في الأصل كيفيّة تدركها الباصرة أوّلا ، وبواسطتها سائر المبصرات ، كالكيفيّة الفائضة من النيّرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما. وهو بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على الله تعالى إلّا بتقدير مضاف ، كقولك : زيد كرم وجود. أو على تجوّز ، إمّا بمعنى : منوّر السموات والأرض. أو مدبّرهما. من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم ، لأنّهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما ، فإنّ النور ظاهر بذاته مظهر لغيره. وأصل الظهور هو الوجود ، كما أنّ أصل الخفاء هو العدم. والله سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه.
أو الّذي به تدرك أو يدرك أهل السماوات والأرض ، من حيث إنّه يطلق على الباصرة ، لتعلّقها به ، أو لمشاركتها له في توقّف الإدراك عليه ، ثمّ على البصيرة ، لأنّها أقوى إدراكا ، فإنّها تدرك نفسها وغيرها من الكلّيّات والجزئيّات ، الموجودات
والمعدومات ، وتغوص في بواطنها ، وتتصرّف فيها بالتركيب والتحليل. وهذه الإدراكات ليست لذاتها ، وإلّا لما فارقتها ، فهي إذن من سبب يفيضها عليها ، وهو الله سبحانه ابتداء ، أو بتوسّط من الملائكة والأنبياء ، ولذلك سمّوا أنوارا.
ويقرب منه قول ابن عبّاس : معناه : هادي من فيها إلى ما فيه مصالحهم ، كالنور الّذي به يهتدى إلى المطلوب ، فهم بنوره يهتدون. وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه ، أو لاشتمالهما على الأنوار الحسّيّة والعقليّة.
وقيل : الله مزيّن السماوات بالملائكة ، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء.
وروي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أن معناه : «إنّ الله سبحانه نشر الحقّ في السماوات والأرض حتى يستضيئا بنور الحقّ ، فأضاءت بنوره ، أو نوّر قلوب أهلها به».
وقال صاحب التبيان (١) : معناه : الله مدلول السماوات والأرض ، فإنّ كلّ شيء من بدائعه وصنائعه يدلّ دلالة واضحة على وجوب وجوده وعلمه وحكمته.
ففي كلّ شيء له آية |
|
تدلّ على أنّه واحد |
وإضافة النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين : إمّا لأنّ المراد أهلهما ، وأنّهم يستضيئون بنوره. وإمّا للدلالة على عموم إضاءته ، وشيوع إشراقه.
(مَثَلُ نُورِهِ) صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة والإشراق ، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أنّ إطلاق النور عليه لم يكن على ظاهره.
(كَمِشْكاةٍ) كصفة مشكاة. وهي الكوّة في الجدار غير النافذة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة. (فِيها مِصْباحٌ) سراج ضخم ثاقب. وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل. والمصباح : الفتيلة المشتعلة.
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل من الزجاج. وفائدة اختصاص الزجاجة بالذكر أنّه أصفى الجواهر ، فالمصباح فيه أضوأ.
__________________
(١) لم نجده فيه.
(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) مضيء متلألئ ، كالزهرة والمشتري والمرّيخ وسهيل ـ ونحوها من الكواكب المشهورة ـ في مزيد صفائه وزهرته. منسوب إلى الدرّ ، لفرط ابيضاضه ونوره ونقائه. أو فعيل ، كمريق (١) ، من الدرء ، فإنّه يدفع الظلام بضوئه ولمعانه ، إلّا أنّه قلبت همزته ياء. ويدلّ عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل. وقرأ أبو عمرو والكسائي : درّيء ، كشرّيب.
(يُوقَدُ) هذا المصباح (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي : ابتداء توقّد المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه ، بأن رويت ذبالته (٢) بزيتها. وفي إيهام الشجرة ، ووصفها بالبركة ، ثمّ إبدال الزيتونة عنها ، تفخيم لشأنها. وقيل : بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم عليهالسلام. وعن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون ، فتداووا به ، فإنّه مصحّة من الباسور» (٣).
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي : توقد بالتأنيث ، على أنّ الفاعل الزجاجة أو المشكاة. والباقون بالتذكير على حذف المضاف ، إلّا أنّ أبا عمرو وابن كثير قرءا : توقّد على وزن تفعّل ، والفاعل المصباح على القراءتين.
(لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي : ليست من شجرة تطلع عليها الشمس في وقت شروقها وغروبها فقط ، بل تقع عليها طول النهار ، كالّتي تكون على قلّة أو صحراء واسعة ، فإنّ ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى. أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها ، بل في وسطها وهو الشام ، فإنّ زيتونه أجود الزيتون. أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ، أو في مفيأة (٤) تغيب عنها دائما فتتركها نيئا ، بل الظلّ والشمس يتناوبان
__________________
(١) المريق : العصفر. وهع صبغ أصفر اللون.
(٢) الذبالة : الفتيلة.
(٣) الباسور : علّة في المقعدة يسبّبها تمدّد عروق المقعدة ، ويحدث فيها نزف دم. وجمعه بواسير.
(٤) المفيأة : المكان الذي لا تطلع عليه الشمس.
عليها ، وذلك أجود لكمامها ، وأصفى لدهنها. وفي الحديث : «لا خير في شجرة ولا نبات في مفيأة ، ولا خير فيهما في مضحى».
(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) تصبه أي : يكاد يضيء بنفسه من غير نار ، لتلألئه وفرط وبيصه (١) (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور متضاعف ، فإنّ نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت ، وزهرة القنديل ، وضبط المشكاة لأشعّته ، فتناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، حتّى لم تبق ممّا يقوّي النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة بقيّة. وذلك أنّ المصباح إذا كان في مكان متضائق كالمشكاة ، كان أضوأ له وأجمع لنوره ، بخلاف المكان الواسع ، فإنّ الضوء ينبثّ فيه وينتشر ، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة ، وكذلك الزيت وصفاؤه.
وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه :الأوّل : أنّه تمثيل للهدى الّذي دلّ عليه الآيات المبيّنات ، في جلاء مدلولها وظهور ما تضمّنته من الهدى ، بالمشكاة المنعوتة.
والثاني : تشبيه للهدى ، من حيث إنّه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم ، بالمصباح. وإنّما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه.
والثالث : تمثيل لما نوّر الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبثّ فيها من مصباحها. ويؤيّده قراءة أبيّ : مثل نور المؤمن.
يعني : النور مثل ضربه الله للمؤمن. فالمشكاة نفسه ، والزجاجة صدره ، والمصباح الإيمان ، والقرآن في قلبه يوقد من شجرة مباركة ، هي الإخلاص لله وحده لا شريك له.
فهي خضراء ناعمة ، كشجرة التفّ بها الشجر ، فلا يصيبها إحراق الشمس وآفتها وأذيّتها على أيّ حال كانت ، لا إذا طلعت ، ولا إذا غربت. وكذلك المؤمن قد احترز من أن يصيبه شيء من الفتر (٢). فهو بين أربع خلل : إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن حكم
__________________
(١) الوبيص : البريق واللمعان.
(٢) الفتر : الضعف والفتور.
عدل ، وإن قال صدق. فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي بين القبور. نور على نور ، كلامه نور ، وعلمه نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى الجنّة نور إلى يوم القيامة.
والرابع : أنّه مثّل القرآن في قلب المؤمن. فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به وهو كما هو لا ينقص ، فكذلك القرآن يهتدى به ويعمل به. فالمصباح هو القرآن ، والزجاجة قلب المؤمن ، والمشكاة لسانه وفمه ، والشجرة المباركة شجرة الوحي : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) يكاد حجج القرآن تتّضح وإن لم تقرأ. وقيل : يكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن تفكّر فيها وتدبّرها ولو لم ينزل القرآن. (نُورٌ عَلى نُورٍ) يعني : أنّ القرآن نور مع سائر الأدلّة قبله ، فازدادوا به نورا على نور.
والخامس : أنّه تمثيل للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته ، لما روي عن الرضا عليهالسلام أنّه قال : «نحن المشكاة فيها ، والمصباح محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يهدي الله لولايتنا من أحبّ».
وفي كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه بالإسناد عن عيسى بن راشد ، عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام في قوله : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال : «نور العلم إلى صدر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) الزجاجة صدر عليّ عليهالسلام صار علم النبيّ إلى صدر عليّ عليهالسلام ، علّم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : نور العلم. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : لا يهوديّة ولا نصرانيّة. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) قال : يكاد العالم من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل. (نُورٌ عَلى نُورٍ) إمام مؤيّد بنور العلم والحكمة في أثر إمام من آل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة» (١).
فهؤلاء الأوصياء الّذين جعلهم الله خلفاء في أرضه ، وحججه على خلقه ، لا تخلو
__________________
(١) التوحيد : ١٥٨.
الأرض في كلّ عصر من واحد منهم.
وتحقيق هذه الجملة يقتضي أنّ الشجرة المباركة المذكورة هي دوحة التقى والرضوان ، وعترة الهدى والإيمان ، شجرة أصلها النبوّة ، وفرعها الإمامة ، وأغصانها التنزيل ، وأوراقها التأويل ، وخدمها جبرائيل وميكائيل.
والسادس : أنّ عند أكثر المفسّرين أنّ النور الّذي أضافه الله سبحانه إلى نفسه وما شبّهه به نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم. فكأنّه قال : الله منوّر السماوات والأرض بنور وجود محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبدنه الأطهر كالمشكاة ، وقلبه المصباح ، والزجاجة صدره ، ثمّ شبّهه بالكوكب الدرّيّ.
ثمّ رجع إلى قلبه المشبّه بالمصباح ، فقال : يوقد هذا المصباح من شجرة مباركة يعني : إبراهيم عليهالسلام ، لأنّ أكثر الأنبياء عليهمالسلام من صلبه. وشجرة الوحي لا شرقيّة ولا غربيّة ، أي : لا نصرانيّة ولا يهوديّة ، لأنّ النصارى تصلّي إلى الشرق ، واليهود إلى الغرب. يكاد أعلام نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم تتبيّن للناس قبل أن يتكلّم وترى معجزته ، كما أنّ ذلك الزيت يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.
السابع : أنّ المشكاة إبراهيم ، والزجاجة إسماعيل ، والمصباح محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما سمّي سراجا منيرا في موضع آخر (١). (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) إبراهيم ، لأنّ أكثر الأنبياء من صلبه. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) أي : يكاد محاسن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم تظهر قبل أن يوحى إليه. (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي : نبيّ من نسل نبيّ.
والثامن : أنّ المشكاة عبد المطلّب ، والزجاجة عبد الله ، والمصباح هو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
(لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) بل مكّيّة ، لأنّ مكّة وسط الدنيا. (نُورٌ عَلى نُورٍ) مبالغة في كثرة الأشعّة والأنوار الإلهيّة في ذاته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والتاسع : تمثيل لما منح الله تعالى به عباده من القوى الدرّاكة الخمس المترتبّة ،
__________________
(١) الأحزاب : ٤٦.
الّتي منوط بها المعاش والمعاد. وهي : الحسّاسة الّتي تدرك بها المحسوسات بالحواسّ الخمس. والخياليّة الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات ، لتعرضها على القوّة العقليّة متى شاءت. والعاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلّيّة. والمفكّرة الّتي تؤلّف المعقولات لتستنتج منها ما لم تعلم. والقوّة القدسيّة الّتي تتجلّى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت ، المختصّة بالأنبياء والأولياء ، المعنيّة بقوله : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (١).
بالأشياء (٢) الخمسة المذكورة في الآية ، وهي : المشكاة ، والزجاجة ، والمصباح ، والشجرة ، والزيت. فإنّ الحاسّة كالمشكاة ، لأنّ محلّها كالكوى ، ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها ، وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات. والخياليّة كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب ، وضبطها للأنوار العقليّة ، وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات. والعاقلة كالمصباح ، لإضاءتها بالإدراكات الكلّيّة ، والمعارف الإلهيّة.
والمفكّرة كالشجرة المباركة ، لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها ، الزيتونة المثمرة بالزيت الّذي هو مادّة المصابيح ، الّتي لا تكون شرقيّة ولا غربيّة ، لتجرّدها عن اللواحق الجسمانيّة ، أو لوقوعها بين الصور والمعاني ، متصرّفة في القبيلين ، منتفعة من الجانبين.
والقوّة القدسيّة كالزيت ، فإنّها لصفائها وشدّة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكّر ولا تعلّم.
والعاشر : تمثيل للقوّة العقليّة في مراتبها بذلك ، فإنّها في بدء أمرها خالية عن العلوم ، مستعدّة لقبولها كالمشكاة. ثمّ تنتقش بالعلوم الضروريّة بتوسّط إحساس الجزئيّات ، بحيث تتمكّن من تحصيل النظريّات ، فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها
__________________
(١) الشورى : ٥٢.
(٢) متعلّق بقوله : تمثيل لما منح ... ، في أوّل الفقرة السابقة. وضعناه في فقرة مستقلّة ، لتسهيل الأمر على المطالع.
قابلة للأنوار. وذلك التمكّن إن كان بفكر واجتهاد فهو كالشجرة الزيتونة. وإن كان بالحدس فكالزيت. وإن كان بقوّة قدسيّة فكالّتي يكاد زيتها يضيء ، لأنّها تكاد تعلم ، ولو لم تتّصل بملك الوحي والإلهام الّذي مثله النار ، من حيث إنّ العقول تشتعل عنه. ثمّ إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكّن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح ، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور.
(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) يوفّق لهذا النور الثاقب الباهر الغالب (مَنْ يَشاءُ) من الّذين يتدبّرون فيه ، وينظرون بعيون عقولهم ، وينصفون من أنفسهم ، ولم يذهبوا عن الجادّة الموصلة إليه يمينا وشمالا ، لا الّذين لم يتدبّروا فيه ، بل يعاندونه ، فإنّهم لا يستحقّون التوفيق واللطف ، بل يستوجبون الخذلان والتخلية ، فإنّهم كالعمي الّذين سواء عليهم جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس.
(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا للمعقول من المحسوس ، توضيحا وبيانا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معقولا كان أو محسوسا ، ظاهرا كان أو خفيّا. وفيه وعد ووعيد لمن تدبّرها ، ولمن لم يكترث بها.
(فِي بُيُوتٍ) متعلّق بما قبله ، أي : كمشكاة في بعض بيوت ، أو توقد في بعض بيوت. فيكون تقييدا للممثّل به بما يكون تحبيرا (١) ومبالغة فيه ، فإنّ قناديل المساجد تكون أعظم.
والبيوت هي المساجد ، لأنّ الصفة الآتية تلائمها. وقيل : المساجد الثلاثة (٢).
والتنكير للتعظيم. ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة ، إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة وكثرة.
__________________
(١) تحبير الكلام : تحسينه وتزيينه.
(٢) هي : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقيل : المراد بيوت الأنبياء. وروي ذلك مرفوعا. وهو أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا قرأ هذه الآية سئل أيّ بيوت هذه؟ «فقال : بيوت الأنبياء. فقال أبو بكر : يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ عليهالسلام وفاطمة. فقال : نعم منها وأفضلها».
أو متعلّق بما بعده ، وهو «يسبّح». وفيها تكرير ، كما يقال : زيد في الدار جالس فيها. ولا يجوز أن يكون «في بيوت» معمول «يذكر» لأنّ ما بعد «أن» لا يعمل فيما قبله. أو بمحذوف ، مثل : سبّحوا في بيوت.
(أَذِنَ اللهُ) أي : أمر الله (أَنْ تُرْفَعَ) بالبناء ، كقوله : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (١).
وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) (٢) فإنّ الرفع هنا بمعنى البناء. وعن ابن عبّاس : هي المساجد ، أمر الله أن تبنى. أو المراد تعظيمها ، والرفع من قدرها ، كما روي عن الحسن : ما أمر الله أن ترفع بالبناء ، ولكن بالتعظيم. وقوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أوفق له. وهو عامّ في كلّ ما يتضمّن ذكره ، حتّى المذاكرة في أفعاله ، والمباحثة في أحكامه. وعن ابن عبّاس : معناه أن يتلى فيها كتابه.
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ) ينزّهونه ، أي : يصلّون له فيها بالغدوات والعشيّات. والغدوّ مصدر أطلق للوقت ، ولهذا حسن اقترانه بالآصال. وهو جمع أصيل ، وهو العشيّ. وقرأ أبو بكر وابن عامر : يسبّح بالفتح ، على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ، أعني : له ، فيها ، بالغدوّ. ورفع رجال بما يدلّ عليه «يسبّح». كأنّه قيل : من يسبّح؟ فقيل : رجال ، أي : يسبّح له رجال.
(لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) لا تشغلهم معاملة رابحة (وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) مبالغة بالتعميم بعد التخصيص ، إن أريد به مطلق المعاوضة ، أو بإفراد ما هو الأهمّ من قسمي التجارة ، فإنّ الربح يتحقّق بالبيع ويتوقّع بالشراء. وقيل : المراد بالتجارة الشراء ، فإنّه
__________________
(١) النازعات : ٢٨.
(٢) البقرة : ١٢٧.
أصلها ومبدؤها. وقيل : الجلب ، لأنّه الغالب فيها ، ومنه يقال : تجر في كذا إذا جلبه. وفيه إيماء بأنّهم تجّار.
(وَإِقامِ الصَّلاةِ) عوّض فيه الإضافة من التاء ، المعوّضة عن العين ، الساقطة بالإعلال (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) ما يجب إخراجه من المال للمستحقّين.
(يَخافُونَ يَوْماً) يعني : يوم القيامة مع ما هم عليه من الذكر والطاعة (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) تضطرب وتتغيّر من الهول والفزع وتشخص ، كقوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) (١). أو تتقلّب أحوالها ، فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه ، وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر. أو تتقلّب القلوب من توقّع النجاة وخوف الهلاك ، والأبصار من أيّ ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتابهم. وقيل : تتقلّب القلوب ببلوغها الحناجر ، والأبصار بالعمى بعد الإبصار.
(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلّق بـ «يسبّح» أو «لا تلهيهم» أو «يخافون» (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنّة (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ، ولم تخطر ببالهم.
ثمّ قرّر الزيادة ، ونبّه على كمال القدرة ، ونفاذ المشيئة ، وسعة الإحسان ، فقال : (وَاللهُ يَرْزُقُ) يعطي (مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير مجازاة على عمل ، بل تفضّلا منه سبحانه ، فإنّ الثواب لا يكون إلّا بحساب ، لكونه على حسب الاستحقاق ، والتفضّل يكون بغير حساب.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))
__________________
(١) الأحزاب : ١٠.
وبعد ذكر حال المؤمنين الأبرار ، بيّن حال الكافرين الفجّار ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) أي : والّذين كفروا حالهم على ضدّ حال الّذين آمنوا ، فإنّ أعمالهم الّتي يحسبونها صالحة نافعة عند الله منجية لهم ، يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب ، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة ، فيظنّ أنّه ماء يسرب ، أي : يجري. والقيعة بمعنى القاع. وهو الأرض المستوية. وقيل : جمع القاع ، كجار وجيرة.
(يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي : العطشان. وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدّة الخيبة عند الحاجة إليه. (حَتَّى إِذا جاءَهُ) إذا انتهى إلى ما توهّمه ماء أو موضعه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ممّا يظنّه ويرتجيه (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) عند عمله فجازاه على كفره. أو وجد زبانيته يأخذونه ، فيعتلونه (١) إلى جهنّم ، فيسقونه الحميم والغسّاق. وهم الّذين قال الله فيهم : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٢). (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣). (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٤).
(فَوَفَّاهُ) الله (حِسابَهُ) استعراضا أو مجازاة (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا
__________________
(١) عتله أي : جذبه وجرّه عنيفا. يقال : عتله إلى السجن ، أي : دفعه بعنف.
(٢) الغاشية : ٣.
(٣) الكهف : ١٠٤.
(٤) الفرقان : ٢٣.
يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة. وسئل أمير المؤمنين عليهالسلام : كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال : «كما يرزقهم في حالة واحدة».
ثمّ ذكر مثلا آخر لأعمال الكفّار ، فقال عطفا على «كسراب» : (أَوْ كَظُلُماتٍ) و «أو» للتخيير ، فإنّ أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ، ولكونها خالية عن نور الحقّ كالظلمات المتراكمة (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) عميق كثير الماء. منسوب إلى اللجّ ، وهو معظم ماء البحر.
(يَغْشاهُ) يغشى البحر. يعني : يعلو ذلك البحر. (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي : أمواج مترادفة متراكمة (مِنْ فَوْقِهِ) من فوق الموج الثاني (سَحابٌ) غطّى النجوم وحجب أنوارها. والجملة صفة اخرى للبحر. فالظلمات : ظلمة من لجّ البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب.
ويحتمل أن تكون «أو» للتنويع ، فإنّ أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب ، وإن كانت قبيحة فكالظلمات. أو للتقسيم باعتبار وقتين ، فإنّها كالظلمات في الدنيا ، وكالسراب في الآخرة.
(ظُلُماتٌ) أي : هذه ظلمات (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ). وقرأ ابن كثير : ظلمات بالجرّ ، على إبدالها من الأولى ، أو بإضافة السحاب إليها في رواية البزّيّ.
(إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) الّتي هي أقرب ما يرى إليه. والضمير للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره ، لدلالة المعنى عليه. وكذا الضميران في قوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي : لم يقرب أن يراها ، فضلا أن يراها. وهذا مبالغة في عدم رؤية اليد ، كقوله (١) :
إذا غيّر النأي المحبّين لم يكد |
|
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح |
__________________
(١) لذي الرمّة. وميّة اسم محبوبته. والنأي : البعد. والمعنى : إن العشّاق إذا ابتعدوا عن محبوبهم زالت محبّته عنهم ، وأما أنا فلا يزول حبّها عن قلبي. ورسيس الحبّ والهوى : بقيّته وأثره.
وخلاصة المعنى : أنّ الكافر كمن في هذه الظلمات ، لأنّه من عمله وكلامه واعتقاده متقلّب في ظلمات متراكمة.
وروي عن أبيّ أنّه قال : الكافر يتقلّب في خمس ظلمات : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة ، وهي النار.
ثمّ قال : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) ومن لم يولّه نور توفيقه وعصمته ولطفه.
يعني : لم يوفّقه لأسباب الهداية في ظلمة الباطل ، لفرط عناده ، وتوغّله في عتوّه وتمرّده.
(فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) بخلاف الموفّق الّذي له نور على نور.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ