أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه التّوفيق والإعانة ولا حول ولا قوّة إلا بالله (١).
الحمد لله الّذي لا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، ولا يدرك كنه حقيقته العارفون ، ولا يحيط بجلال صمديته العالمون ، تعالى عن أن تحيط به الأوهام والظّنون ، وجل [عن (٢)] أن تخلقه الأعوام والسّنون ، الخالق لكلّ موجود سواه ؛ فهو كائن بعد ما لم يكن ، وفاسد بعد أن يكون.
والصّلاة على محمد رسوله القائم بشرعه ، والمظهر لدينه بعد أن كان مكنونا ، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ، ومعادن السّرّ المصون. وبعد :
فإنه لما كان كمال كلّ شيء وتماميّته بحصول كمالاته الممكنة له ؛ كان كمال الأنفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات : وهى الإحاطة بالمعقولات ، والعلم بالمجهولات.
ولمّا كانت العلوم متكثّرة ، والمعارف متعدّدة ، وكان الزمان لا يتّسع لتحصيل جملتها ، والعمر يقصر عن الإحاطة بكليّتها ، مع تقاصر الهمم وقصورها ، وضعف الدّواعى وفتورها ، وكثرة القواطع واستيلاء الموانع ، كان (٣) الواجب السّعى في تحصيل أكملها ، والإحاطة بأفضلها ؛ تقديما لما هو الأهمّ فالمهم (٤) وما الفائدة في معرفته (٥) أتم.
ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالنّظر أبصار البصائر ، وتمتدّ نحوه أعناق الهمم والخواطر ؛ ما كان موضوعه أجلّ الموضوعات ، وغايته أشرف الغايات ، والحاجة إليه في تحصيل السّعادة الأبديّة من الأبديات ، وإليه مرجع العلوم الدّينيّة ، ومستند النواميس الشرعية ، وبه صلاح العالم (٦) ونظامه ، وحلّه وإبرامه ، والطّرق الموصلة (٧) إليه يقينيّات ،
__________________
(١) من أول (وبه التوفيق ...) ساقط من (ب).
(٢) ساقط من أ.
(٣) فى أ (وكان).
(٤) فى أ (فالأهم).
(٥) (فى معرفته) ساقط من (ب).
(٦) فى ب (العلم).
(٧) فى ب (الواصلة).
والمسالك المرشدة نحوه قطعيّات ، وذلك هو العلم الملقّب بعلم الكلام ، الباحث في ذات واجب الوجود ، وصفاته ، وأفعاله ، ومتعلّقاته ؛ فكان أولى بالاهتمام بتعجيله ، والنّظر في تحقيقه وتحصيله.
ولمّا كنّا مع ذلك قد حقّقنا أصوله ، ونقّحنا فصوله ، وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه ، وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين ، وحزنا غايات أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ، واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللّباب. سألنى بعض الأصحاب (١) ، والفضلاء من الطّلاب ؛ جمع كتاب حاو لمسائل الأصول ، جامع (٢) لأبكار أفكار أرباب العقول. مقتصد لا يخرجه التّطويل إلى الملل ، ولا فرط (٣) الاختصار إلى النّقص والخلل ؛ فأجبته إلى دعوته ، والحقته (٤) بأمنيته / رجاء للفوز يوم المعاد ، والغبطة عند قيام الأشهاد ، وهو المسئول أن يلهمنا الرّشد فيما رمناه ، ويسدّدنا لما قصدناه ، وأن يقيلنا من العثار ، وسوء الإكثار ، إنّه قريب ممّن دعاه ، مجيب لمن قصده واستجداه ، وسمّيته :
أبكار الأفكار
وجعلته مشتملا على ثمانى قواعد ؛ متضمّنة لجميع مسائل الأصول :
الأولى (٥) : في العلم وأقسامه.
الثانية : في النّظر وأقسامه وما يتعلّق به.
الثالثة : في الطّرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية (٦).
الرابعة : في انقسام المعلوم إلى الموجود والمعدوم ، وما ليس بموجود ولا معدوم.
__________________
(١) فى ب (أصحابى)
(٢) كلمة (جامع) ساقطة من (ب).
(٣) فى ب (وافراط)
(٤) فى ب (واتحفته)
(٥) الأعداد في (أ) وردت مخالفة للقاعدة وقد صححتها ، وأما في (ب) فوردت مرقمة بالحروف الأبجدية أ ، ب ... الخ.
(٦) ساقط من (ب)
الخامسة : في النبوّات.
السادسة : في المعاد وما يتعلّق به من السّمعيّات ، وأحكام الثّواب والعقاب.
السابعة : في الأسماء والأحكام.
الثامنة : في الإمامة ومن له الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر.
القاعدة الأولى
في حقيقة العلم وأقسامه
وتشتمل على أربعة أقسام :
الأول (١) : في حدّ العلم وحقيقته.
الثّاني : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه.
الثّالث : في العلم الكسبى.
الرّابع : في أحكام العلم.
__________________
(١) ورد الترقيم خطأ في (ب) حيث ذكر الأول : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه. ونسى ترقيم الأول : في حد العلم وحقيقته ـ وبالتالى فقد ذكرها ثلاثة أقسام فقط.
القسم الأول
في حدّ العلم وحقيقته (١)
أمّا حقيقة العلم : فقد اختلف العلماء في العبارات الدّالّة عليها.
فقال بعض المعتزلة (٢) : العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه.
وهو باطل بالمعتقد عن تقليد وجود الرّبّ تعالى ؛ فإنّه معتقد للشىء على ما هو عليه ، وليس اعتقاده علما. (٣) وهذا ممّا لا يندفع وإن زيد في الحدّ : مع سكون النّفس إليه (٣). ثم إنّه يخرج منه العلم بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فإنّه علم ، وما تعلّق به ليس بشيء بالاتفاق.
ومنهم (٤) من زاد في الحدّ : إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وهذه الزّيادة ، وإن اندفع بها الإشكال الأول فلا يندفع بها الإشكال الثّاني.
ومن زعم أن العلم لا يتعلّق بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فحكمه بذلك علم تصديقى ، والعلم التّصديقى يستدعى علمين تصوريين ، وأحد التّصورين المعدوم المستحيل الوجود ؛ فيكون مناقضا لقوله : والعلم التّصديقى. مع كونه مكابرا للبديهة ، وما يجده كلّ عاقل من نفسه من العلم باستحالة الجمع بين النفى والإثبات ، وهو غير متصوّر مع كون النفى غير معلوم.
__________________
(١) عن حقيقة العلم وآراء العلماء فيه : انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢. ص ١٣ ـ ٢٢. ط أولى نشر المؤسسة المصرية حيث يعرض آراء متقدمى المعتزلة ، ثم يرد عليها. كما يعرض آراء متقدمى الأشاعرة ـ الواردة هنا ـ كالأشعرى ، والباقلانى ، وابن فورك. عرضا واضحا يدل على معرفته التامة بمذهبهم ؛ فقد عاش شبابه بينهم قبل تحوله إلى الاعتزال. ثم يرد عليهم.
وانظر الإنصاف للباقلانى. طبع الخانجى ص ١٣. والتمهيد له أيضا طبع دار الفكر العربى ص ٣٤ وأصول الدين للبغدادى. طبع مطبعة الدولة باستانبول ص ٥ ، ٦ والإرشاد لإمام الحرمين. نشر الخانجى ص ١٢ ، ١٣ والمحصل للرازى. طبع الحسنية ص ٦٩ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٥ على هامش المحصل.
وانظر شرح المواقف للجرجانى. ط دار الطباعة العامرة ص ٢٩ ـ ٣٦ حيث يختصر صاحب المواقف ما أورده الآمدي مفصلا هنا. وأيضا شرح المقاصد للتفتازانى. ط دار الطباعة العامرة باستانبول ص ١٣ ـ ١٥.
(٢) القائل : هو الكعبى ، انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.
(٣) من أول (وهذا مما لا يندفع ...) ساقط من ب. أما صاحب الزيادة : فهو أبو هاشم. انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.
(٤) هو الجبائى ، انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.
وقال القاضى أبو بكر (١) : العلم (٢) معرفة المعلوم على ما هو به (٣)
وهو باطل من وجهين :
الأول (٤) : أنّ لله تعالى علما عنده بعلم ، ولا يقال لعلمه معرفة بالإجماع ؛ فلا يكون الحدّ جامعا.
الثانى : أنّه عرّف العلم بالمعلوم. والمعلوم مشتقّ من العلم ، والمشتق من الشيء يكون أخفى من ذلك الشّيء ، وتعريف / الأظهر (٥) بالأخفى ممتنع. كيف وفيه زيادة لا حاجة إليها وهى قوله : على ما هو به ؛ فإنّ المعرفة بالمعلوم لا تكون إلا على ما هو به.
وقال الشيخ الأشعرىّ (٦) : فيه عبارات :
الأولى : العلم هو الّذي يوجب كون من قام به يكون عالما.
الثانية : هو الّذي يوجب لمن قام به اسم العالم.
الثالثة : العلم إدراك المعلوم على ما هو به.
والعبارتان الأوليان مدخولتان ؛ من حيث أنه أخذ العالم في حدّ العلم ؛ وهو أخفى من العلم. والثالثة [مدخولة أيضا (٧)] من جهة أنه أخذ المعلوم في تعريف العلم ؛ وهو أخفى منه (٨).
__________________
(١) القاضى الباقلاني : محمد بن الطّيّب بن محمد بن جعفر بن القاسم. البصرى ، ثم البغدادى ، المعروف بالباقلانى (أبو بكر) متكلم أشعرى ولد بالبصرة سنة ٣٣٨ ه. وسكن بغداد ، له مؤلفات كثيرة في الرد على المعتزلة ، والشيعة ، والخوارج ، والجهمية وغيرهم وتوفى سنة ٤٠٣ ه. يقول عنه ابن تيمية : إنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعرى ، وليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده. (انظر وفيات الأعيان ٣ / ٤٠٠ ، وشذرات الذهب ٣ / ١٦٩).
(٢) ساقط من (ب).
(٣) انظر التمهيد ص ٣٤ والإنصاف ص ١٣.
(٤) ورد الترقيم في (ب) بالحروف الأبجدية في كل الكتاب وسأكتفى بذكر ما ورد في (أ) بدون تنبيه ، اكتفاء بما أوردته هنا.
(٥) فى ب (الشيء).
(٦) أبو الحسن على بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم. من نسل الصحابى الجليل أبو موسى الأشعرى. مؤسس مذهب الأشاعرة ولد في البصرة سنة ٢٦٠ ه وتوفى في بغداد سنة ٣٢٤ ه (انظر وفيات الأعيان ٢ / ٤٤٦ وطبقات الشافعية ٢ / ٢٤٥).
(٧) فى أ (أيضا فمدخولة).
(٨) فى ب (من العلم).
وأيضا : فإنه أخذ الإدراك في حدّ العلم ، والإدراك ـ على أصله ـ نوع من العلم ؛ وتعريف الجنس بنوعه ممتنع. ثم لا حاجة إلى الزيادة وهى : على ما هو به ؛ كما تقدّم.
قال الأستاذ أبو بكر بن فورك (١) : العلم ما صحّ بوجوده من الّذي قام به إتقان الفعل وإحكامه.
وهو باطل ؛ فإنّه إن أراد به ما يصحّ به إحكام الفعل وإتقانه بطريق الاستقلال ؛ فهو محال ، فإنّ إتقان الفعل كما يتوقّف على العلم ، يتوقّف على القدرة. وإن أراد به أنّه يتوقّف عليه الإتقان ولا يستقلّ به ؛ فيلزم عليه القدرة ؛ فإنّها أيضا كذلك ؛ وليست علما.
وأيضا : فإنّ الواحد منّا له علم ، وهو غير مؤثّر في إتقان فعل من الأفعال القائمة به ، ولا الخارجة عنه ؛ إذ هو غير موجد لهما على أصلنا.
وقد قيل في إبطاله أيضا : إنّ العلم قد يكون بما لا يصحّ به إتقانه [كعلم (٢)] الواحد منا بنفسه وبالله تعالى ، وبالمستحيلات ؛ فإن ما تعلق به ليس فعلا ، ولا ممّا يصح إتقانه [به (٣)] وإنما يلزم هذا الإبطال أن لو قيل : العلم هو ما يصحّ به إتقان كلّ ما يتعلق به. وأما إذا أريد به ما يصحّ به في الجملة إتقان الفعل ، فلا.
وقال الشيخ أبو القاسم الأسفرايينى (٤) : العلم ما يعلم به.
وفيه أيضا : تعريف العلم بما هو أخفى منه.
__________________
(١) فى ب (وقال الأستاذ وابن فورك).
الأستاذ أبو بكر بن فورك : محمد بن الحسن بن فورك : المتكلم ، الأصولى ، الأديب ، النحوى ، الواعظ. من متكلمى الأشاعرة ، له تصانيف كثيرة في أصول الدين ، وأصول الفقه توفى سنة ٤٠٦ ه.
(انظر وفيات الأعيان ٣ / ٤٠٢ والأعلام ٦ / ٣١٣ ومعجم المؤلفين ٩ / ٢٠٨).
(٢) فى أ (لعلم).
(٣) كلمة (به) ساقطة من (أ).
(٤) أبو القاسم الأسفرايينى :
هو أبو القاسم عبد الجبار بن على بن محمد بن حسكان الأسفرايينى الإسكافى ، المتوفى سنة ٤٥٢ ه ، كان تلميذا لأبى إسحاق الأسفرايينى ، وكان من كبار المتكلمين الآخذين بمذهب الأشعرى ، وكان يشتغل بالمناظرة والتدريس والفتوى.
من أهم تلاميذه إمام الحرمين الجوينى.
(انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكى ٣ / ٢٢).
وقال بعض الأصحاب : العلم إثبات المعلوم على ما هو به.
وهو فاسد من ثلاثة أوجه (١) :
الأول : أنّ فيه تعريف العلم بالمعلوم ؛ وهو فاسد ؛ على ما تقدم.
الثانى : أنّه إذا كان العلم إثبات المعلوم ؛ فالعالم بالمعلوم يكون مثبتا للمعلوم ؛ ويلزم من ذلك أن يكون علمنا بوجود الرّب تعالى : إثباتا له ؛ وهو محال.
الثالث : أنّ الإثبات قد يطلق ويراد به إيجاد الشّيء ، وقد يطلق ويراد به تسكين الشيء عن الحركة ، وقد يطلق تجوّزا على العلم.
ولا يخفى أنّ إرادة الإثبات بالاعتبار الأول والثّاني فيما نحن فيه ؛ ممتنع. والثالث / فيه تعريف العلم بالعلم ؛ وهو ممتنع.
وقال غيره من الأصحاب : العلم تبيين المعلوم على ما هو به.
ولا يخفى ما فيه من الزّيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه. والّذي يخصه أن التبيين مشعر بالظّهور بعد الخفاء ، والوضوح بعد الإبهام ؛ وذلك ممّا يوجب خروج علم الرّبّ تعالى عن الحدّ.
وقال غيره : العلم هو الثّقة (٢) بأن المعلوم على ما هو عليه.
ولا يخفى ما فيه من الزّيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه.
كيف وأنّه يلزم من كون العلم هو الثقة (٢) بالمعلوم ؛ أن يكون من قام [به] (٣) العلم واثقا ؛ وذلك يوجب كون البارى تعالى واثقا بما هو عالم به ، وإطلاق ذلك على الله ـ تعالى ـ ممتنع شرعا.
وقالت الفلاسفة : العلم عبارة عن انطباع صورة المعلوم في النّفس.
ويلزم عليه أنّ من علم الحرارة والبرودة : أن تكون صورة الحرارة ، والبرودة ؛ منطبعة في نفسه ؛ ويلزم من ذلك أن يكون العالم بهما حارا ، أو باردا ؛ وهو محال.
__________________
(١) قارن بما ورد في شرح المواقف ١ / ٨١ فمن الواضح أنه نقل هذا عن الآمدي.
(٢) من أول (بأن المعلوم على ما هو ...) ساقط من (ب).
(٣) كلمة (به) ساقطة من (أ).
فإن قيل : المنطبع إنّما هو مثال الحرارة ، والبرودة ، لا نفس الحرارة والبرودة.
قيل : فالمثال إن كان مساويا في الحقيقة للمثل ؛ فالإشكال لازم ، وإلا فليس مثلا له ، ولا العلم متعلّقا به (١).
ولعسر تحديد العلم ؛ اختلف العلماء المتأخرون.
(٢) فقال بعضهم (٢) : إنّه لا طريق إلى تعريفه بالحدّ ؛ بل تعريفه إنّما هو بالقسمة ، والمثال.
وقال بعضهم (٣) : العلم بالعلم بديهى ؛ لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا بالعلم ، فلو كان غيره معرّفا له ؛ لكان دورا ؛ ولأن الإنسان يعلم بالضرورة وجود نفسه ، والعلم أحد تصورى هذا التصديق البديهى ، وما يتوقّف عليه البديهى يكون بديهيا ؛ فتصوّر العلم بديهى ؛ وهما باطلان :
أما القول الأول : فلأن الطريق المذكور في التعريف إن حصلت به معرفة العلم وتمييزه عن غيره ؛ فلا معنى للحدّ إلا هذا. وإن لم يحصل به تمييز العلم عن غيره ، فلا يكون معرفا للعلم.
وأما القول الثانى : فغير لازم ، فإنّ الدّور يوجب أن لا يكون التّحديد بأمر خارج عن العلم ، فلا يلزم من ذلك امتناع التّحديد مطلقا ؛ إذ الحدّ أعمّ من الحدّ بأمر خارج عن المحدود على ما لا يخفى إلا أن يكون العلم بسيطا ، وليس كذلك (٤) ؛ إذ هو نوع من مقولة الكيف ؛ على رأى. ومن مقولة المضاف ، على رأى ؛ فيكون مركبا.
كيف وأنه لا دور ؛ (٥) إذ الدّور إنمّا يكون (٥) مع اتحاد جهة التّوقّف ، وتوقّف غير العلم على العلم لا من جهة (٦) كون العلم (٦) صفة مميّزة له ؛ بل من جهة كونه مدركا به ، وتوقف / العلم على الغير بالضّد ؛ فلا دور أصلا.
__________________
(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي). وهى زيادة من الناسخ ، وهذه العبارة ترد كثيرا في النسخة (ب) عند ما يصرح الآمدي برأيه ، وأرجح أن بعض من اقتنوا النسخة ذكر ذلك للتوضيح ، فلما نقلت عنها هذه النسخة ظنه الناسخ ـ خطأ ـ من كلام الآمدي.
(٢) فى ب (فمنهم من قال). انظر الإحكام للآمدى ١ / ٩ ، ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ ، حيث يحدد هذا البعض بأنهما : إمام الحرمين ، والغزالى. ثم انظر شرح المواقف للجرجانى ص ٢٨ حيث يوضح أنهما : إمام الحرمين والغزالى أيضا. قالا : وطريق معرفته بالقسمة والمثال. ثم يرد عليهما مختصرا ما أورده الآمدي هنا.
(٣) انظر الإحكام للآمدى ١ / ٩ ، ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ ، وانظر شرح المواقف للجرجانى ص ٢٦ حيث يحدده بالإمام الرازى ثم يرد عليه موضحا ما أورده الآمدي هنا. ثم انظر ص ٦٩ من المحصل للرازى.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) فى ب (فالدور إنما يلزم).
(٦) فى ب (كونه).
وعلم الإنسان بوجود نفسه وإن كان بديهيا ، فلا يلزم أن تكون العلوم التصورية بديهية لوقوع النسبة البديهية بينهما ؛ فإنه لا معنى للقضية البديهية إلا إذا ما حصل العلم بمفرداتها بادر العقل إلى النّسبة الواجبة لها من غير توقّف على نظر ولا استدلال. وسواء كانت المفردات معلومة بالبديهية ، أو النظر. ولهذا فإن النفس أحد التصورات في المثال المذكور ؛ والعلم بمعنى النّفس غير بديهى (١).
والأشبه في تحديده أن يقال :
العلم عبارة عن (٢) صفة يحصل بها لنفس المتّصف تمييز حقيقة ما ، غير محسوسة في النفس ـ احترازا من المحسوسات ـ حصل عليه حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الّذي حصل عليه (٢) ، ويدخل فيه العلم بالإثبات ، والنفى ، والمفرد ، والمركب (٣). وتخرج عنه الاعتقادات والظّنون حيث (٤) أنّه لا يبعد (٤) فى النّفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الّذي حصل عليه في النفس ، وهو وجودى لا سلبى ؛ لأنّه لو كان سلبيا ؛ فسلبه يكون إثباتا ؛ لأنّ سلب السّلب إثبات. ولو كان كذلك ؛ لما صحّ سلب العلم عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من اتّصاف العدم المحض بالصّفة الثبوتيّة ؛ وهو محال.
فإن قيل : هذا وإن دلّ على أنّ العلم ثبوتى ؛ فهو معارض بما يدل على كونه سلبيّا ؛ وذلك لأن الجهل البسيط نقيض العلم. والجهل البسيط ليس أمرا سلبيا وإلا كان سلبه إثباتا كما ذكرتموه. ولو كان إثباتا ؛ لما صحّ سلب الجهل عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من إثبات الصّفة الثبوتيّة للعدم المحض ؛ وهو محال.
وإذا كان الجهل البسيط ثبوتيّا ؛ فالعلم المناقض له يكون سلبيا.
__________________
(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).
(٢) فى ب (حصول صورة معنى في النفس لا يتطرق إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الّذي حصل عليه ، ونعنى بحصول المعنى في النفس تميزه في النفس عما سواه).
(٣) انظر الإحكام ١ / ١٠ حيث يعرف العلم بأنه عبارة عن (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعانى الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه).
وانظر أيضا : تعريفه في منتهى السئول ١ / ٥. حيث يعرفه بأنه عبارة عن (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها الميز بين حقائق الأمور الكلية ميزا لا يتطرق إليه احتمال مقابله).
(٤) فى ب (حيث لا يبعد له).
قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان الجهل البسيط نقيضا للعلم ؛ وليس كذلك ؛ [بل (١) هو مقابل له ؛ والمتقابلان (١)] أعم من المتناقضين. ولا يلزم من كون أحد المتقابلين ثبوتيا أن يكون الأخر سلبيا ؛ (٢) ولهذا فإنّهما يجتمعان في الكذب بالنسبة إلى ما هو غير قابل للعلم ، ولو كانا متناقضين لما اجتمعا في الكذب (٢). وقد قيل : إنّ العلم صفة إضافيّة بين العالم والمعلوم ؛ وفيه نظر.
فإنّه إن قيل : إنّ الإضافة عدم ؛ فسلب الإضافة يكون ثبوتيا. ويلزم منه أن يكون سلب الإضافة عن الأعدام المحضة ؛ موجبا لاتصاف العدم المحض بالصّفة الثّبوتيّة ؛ وهو محال.
وإن قيل : إن الإضافة وجود ـ فيلزم [أن تكون الإضافة بين] (٣) المتقدم والمتأخر ؛ صفة ثبوتية لهما. مع أنّ أحدهما معدوم. وأن تكون الإضافة / بالتقابل بين السّلب والإيجاب صفة ثبوتية لهما ؛ والسلب عدم محض.
وإذا كان كلّ واحد من الأمرين محالا ؛ فالعلم لا يكون صفة إضافية.
وإذا عرف معنى العلم ؛ فهو حاصل متحقّق باتفاق العقلاء. ولم يخالف في ذلك غير السّوفسطائية (٤) ، وسيأتى (٥) الكلام معهم فيما بعد إن شاء الله تعالى (٥).
وهو ينقسم إلى : قديم ، وإلى حادث.
أما العلم القديم : فهو علم الله ـ تعالى ـ وسيأتي الكلام فيه فيما بعد (٦).
وأمّا العلم الحادث : فينقسم إلى ضرورى ، وإلى كسبى ؛ فلا بدّ من الإشارة إليهما (٧).
__________________
(١) فى أ ـ (بل مقابل له فالمتقابلان).
(٢) من أول (ولهذا فإنهما ...) ساقط من (ب).
(٣) فى أ ـ (أن للإضافة من).
(٤) السّوفسطائيّة : هم الذين شكوا في وجود الحقائق ، وقالوا : إن حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد ، وصححوا جميع الاعتقادات مع تضادها وتنافيها ، وكانوا يستخدمون مقدمات خاطئة ليتوصلوا بها إلى نتائج الغرض منها إسكات الخصم. ومن أشهر رجالهم بروتاجوراس المتوفى ق. م ، ومعاصره جورجياس المتوفى عام ٣٨٠ ق. م. ولمزيد من البحث والدراسة انظر الفصل لابن حزم ١ / ٤٣ ـ ٤٥ القسم الأول : السوفسطائية.
(٥) فى ب (وبيان الكلام معهم ما يأتى فيما بعد).
(٦) انظر ل ٧٢ / ب وما بعدها.
(٧) فى ب (إليه).
القسم الثانى
في العلم الضّرورى (١)
واختلف النّاس فيه.
وقد قال القاضى أبو بكر : (٢)
العلم الضّرورى : هو الّذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد عن الانفكاك عنه سبيلا.
وهذه العبارة وإن وقع (٣) الاحتراز فيها (٣) عن علم الله ـ تعالى ـ إلا أنّه لا مانع من زوال العلم الضّرورى ، وثبوت أضداده كما يأتى ؛ فلا يكون جامعا.
وإن قيل : المراد به منع الانفكاك مقدورا للعبد ، أو عادة (٤) ، فيدخل العلم النظرى (٤) بعد حصوله ، فإنّه كذلك وليس ضروريّا عنده ؛ فلا يكون الحدّ مانعا ، وإنّما يصح أن لو أريد به منع الانفكاك قبل النّظر مقدورا للمكلّف ، أو عادة (٥).
والحقّ أن الضّرورى قد يطلق على ما أكره عليه ، وعلى ما تدعو الحاجة إليه دعوا قويّا : كالحاجة إلى الأكل في المخمصة ، وعلى (٦) ما سلب فيه الاقتدار على الفعل والترك : كحركة المرتعش. إلا أنّ إطلاق العلم الضّرورى على العلم الحادث ؛ إنّما هو بهذا الاعتبار الأخير.
وعلى هذا : فالعلم الضّرورى : هو العلم الحادث الّذي لا قدرة للمخلوق على تحصيله بالنّظر والاستدلال. (٧)
وذلك كالعلم بالمحسوسات (٨) الظّاهرة (٨) : كالعلم بالمسموعات ، والمبصرات ، والمشمومات ، والمذاقات ، والملموسات.
__________________
(١) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٨ ، ٩ ، ٣١ ، ٣٢ والمغنى للقاضى عبد الجبار ١٢ / ٥٩ ، وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٤٨ والإرشاد للجوينى ص ١٣ ـ ١٥ والشامل له أيضا ص ١١١ ـ ١١٤ وشرح المواقف للجرجانى ص ٣٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ١٥.
(٢) انظر التمهيد ص ٣٥ والإنصاف ص ١٤.
(٣) فى ب (فيها الاحتراز).
(٤) فى ب (فيدخل فيه العلم النظرى وثبوت أضداده).
(٥) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).
(٦) فى ب (وإلى).
(٧) انظر الإحكام للآمدى ١ / ١٠ ومنتهى السئول ١ / ٥ له أيضا.
(٨) فى ب (بالحس الظاهر).