السيد محمّد الصدر
المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣
مَعقل
يقول المؤرّخون : إنّ مَعقلاً حين أراد التجسّس لابن زياد ، أقبلَ إلى المسجد ، فرأى مسلم بن عوسجة يُصلّي فيه فسألَ عنه؟ فقيل له : هذا يبايع للحسين بن علي ، فجاءه وجلس إلى جانبه ، حتّى إذا فرغَ من صلاته سلّم عليه وأظهرَ لهُ أنّه رجل من أهل الشام ، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري ، وممّن أنعمَ الله عليه بحبّ أهل البيت وحُبّ مَن أحبّهم وتباكى له ، وقال له : إنّ عنده ثلاثة آلاف درهم يريد بها لقاء رجل من أهل البيت ، بَلَغه أنّه قدمَ إلى الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقبلَ منهُ مسلم بن عوسجة وأخذ منه البيعة على يده فوراً. ثمّ أخذهُ إلى مسلم بن عقيل ، فأخذَ عليه البيعة والمواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، فأعطاهُ (مَعقل) من ذلك ما رضي به ، ثمّ أمرَ مسلم أبا ثمامة الصائدي (١) بقبض المال منه ، وكان قد عيّنه مسلم لقبض الأموال من الناس وتجهيزهم بما يحتاجونه من السلاح والعتاد ، وظلّ معقل يختلف إلى دار هانئ كلّ صباحٍ ومساء ، فهو أوّل داخل وآخر خارج ، فينطلق بجميع الأخبار والأسرار ، فيقرؤها في أُذن ابن زياد (٢) ، ممّا أدى في النتيجة إلى فشل مهمّة هذه الجماعة المُحقّة وتفرّقها عن مسلم بن عقيل.
فهنا قد يرد السؤال عن السبب في انخداع مسلم بن عوسجة ومسلم بن
__________________
(١) أبو تمّام الصادئدي : هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائدي ، من شهداء الطف ، كان من فرسان العرب ووجوه الشيعة ، وكان بصيراً بالأسلحة ، ولهذا لمّا جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قامَ معه وصار يقبض الأموال ، ويشتري بها الأسلحة بأمر مسلم بن عقيل.
وفي كتاب (نَفَس المهموم) أنّ أبا تمّام قال للحسين عليهالسلام : يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفدى ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل إنشاء الله ، وأحبُ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها ، قال : فرفعَ الحسين رأسه ثمّ قال : «ذكرتَ الصلاة جَعلكَ الله من المصلّين الذاكرين ، نعم ، هذا أوّل وقتها» (الكُنى والألقاب : ج ١ ، ص ٣٣).
(٢) الإرشاد للمفيد : ص ٢٠ ، مُثير الأحزان لابن نما : ص ٢١ ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٤٢.
عقيل وأصحابهما ، بهذا الرجل المُعيّن ضدّهم ، ولئن كان مسلم بن عوسجة رجلاً اعتيادياً ، مهما كان عالي الإيمان ، فإنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ، قد أثبتنا له أنّه مؤيّد ومُسدّد بالإلهام ، فكيف لم يلتفت إلى ذلك؟!
وجواب ذلك يكون على عدّة مستويات :
المستوى الأوّل : إنّ هذا موجود في قضاء الله وقدره ، وكلّما كان ذلك ، فلابدّ من حدوثه ، ومطابق للحكمة الإلهيّة ، سواء عَلمنا بسببه أو جهلنا.
المستوى الثاني : مستوى مَن نعلم أو نحتمل عدم تسديده وتأييده بالإلهام المباشر ـ لو صحّ التعبير ـ وهم أصحاب مسلم بن عقيل سواه ، فمن الواضح أنّ العادة في تلك الأجيال ، وهي عادة استمرّت مئات وآلاف السنين ، حتّى لم تكن كتابة وأوراق تدلّ على الشخصيّة ، كما في الدول الحاليّة ، فكان الناس يسألون الفرد عن اسمه وانتسابه ، ويُصدّقون منه ذلك على السجيّة والعادة المتّبعة ، وواضحٌ أنّه لو كذَبَ أيّ شخص في اسمه أو نَسبه ، فسوف يقع في أنواع من المصاعب اجتماعياً واقتصادياً ، أو يُحتمل وقوعه في ذلك على بعض التقادير ، فكان الناس يُصَدَّقون في أقوالهم تلك ، وكانوا يُصدِّقون أقوال الآخرين في ذلك ، وليس أصحاب مسلم بن عقيل سلام الله عليه وعليهم إلاّ جماعة من ذلك المجتمع المعتاد على ذلك.
فإذا انضمّ إلى ذلك حُسن الظاهر والملاينة والمُسايسة ، فقط أصبحَ الفرد ناجحاً في الامتحان أو الاختبار الاجتماعي ، وانتهى الأمر.
المستوى الثالث : مستوى النظر إلى المواثيق المغلّظة التي أخذها مسلم بن عقيل وأصحابه على (معقل) ، وقد أعطاهم من نفسه ما يريدون ، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ شخصاً ما من المسلمين يمكن أن يحيف بالعهد ، أو يحيف باليمين ، وإنّما قيام العلاقات بين الأفراد والمجتمعات كانت ولا زالت على
شرف الالتزام بالعهود ، وإلاّ كان الفرد ساقطاً بالمرّة أمام الله والناس ، ولم يكن يخطر على البال أنّ هذا الإنسان من الساقطين وبهذه الدرجة.
وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما وردَ في تفسير قوله تعالى عن قول إبليس : (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١) ، من أنّ آدم وزوجته لم يتصوّرا شخصاً يُقسم بالله كذباً ، يعني أنهّما حين سمعا إبليس يُقسم بالله سبحانه صدّقاه وأكلا من الشجرة. أقول : فكذلك الحال في مسلم وأصحابه من حيث إنّ العهد مُلزم في الدنيا ، واليمين مُلزم في الآخرة ، فماذا بقيَ ممّا يكون أن يفعلوه أمامه؟
المستوى الرابع : إنّ مُسلماً وأضرابه من خاصّة أصحاب المعصومين عليهمالسلام ، وإن قلنا بأنّهم مؤيّدون ومسدّدون بالإلهام ، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يؤخذ على أوسع نطاق :
أوّلاً : لأنّهم ليسوا معصومين بالعصمة الواجبة ، كما يُعبّر عنها في (علم الكلام) ، والمعصوم بالعصمة الواجبة يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، مضافاً إلى عصمته من الذنوب والمحرّمات ، بخلاف المعصوم بالعصمة غير الواجبة ، فإنّه يكون معصوماً من الذنوب لا من الخطأ والنسيان.
ثانياً : إنّ الإلهام والتسديد إلى أمثال هؤلاء يختلف في السعة والضيق أو القلّة والكثرة ، ينالُ منه كلّ منهم بمقدار قابليّته واستحقاقه وعمله وغير ذلك من الأسباب ، وليس بالضرورة أن يناله بشكلٍ مطلق ومستمرّ ، إذاً فمن الجائز أن يُحجب الإلهام والتسديد عن الفرد حيناً أو أحياناً ، بمقدار ما تقتضي الحكمة
__________________
(١) سورة الأعراف : آية (٢٠ ـ ٢١).
الإلهيّة ذلك. وهناك مستويات أخرى للجواب لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.
تفرّقُ الناس عنه
ولعلّ السؤال الأخير الذي يمكن عَرضهُ في هذا الصدد : ما قالهُ بعض الأذكياء لبعض العلماء عمّا رويَ في التاريخ ، من أنّ مسلم بن عقيل تفرّق عنه أصحابه كلّهم في يومٍ واحد أو عشيّة واحدة ، حتّى أصبحَ يتلدّد في أزقّة الكوفة في ظلام الليل لا يجد مَن يؤويه (١) ، مع العلم أنّ من الكوفيين مَن هم على درجة عالية من الإخلاص للحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل والحسين عليهماالسلام أمثال : حبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة ، وآخرين ، بدليل أنّ هذين المذكورَين قد استشهدا مع الحسين في كربلاء ، إذاً فإخلاصهم مُحرز فلماذا تفرّقوا عن مسلم في تلك الليلة وتركوه وحيداً حائراً؟
وقد أجاب ذلك العالِم : بأنّهم أعدّوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسين عليهالسلام ، أقول : وهذا وحدهُ لا يكفي للإقناع ؛ لأنّ حادثة الحسين عليهالسلام كانت في ضمير المستقبل بالنسبة إليهم ، ولم يكونوا يعلمون من حصولها شيئاً ، فكيف نتعقّل كونهم استهدفوها بصراحة؟
ولكنّ تفصيل الجواب أن يقال : إنّ المخلِصين الكاملين كانوا قلّة لا يستطيعون وحدهم الدفاع عن مسلم بن عقيل ، ولا حفظ حياته وحياتهم.
فلمّا رأوا فشل الحركة وتفرّق الجيش عنه ، لم يشعروا بوجوب المحافظة على حياته شرعاً ، لليقين بكونه مقتولاً لا محالة ، حتّى ولو كانوا هم إلى جنبه بل سيقتلون معه أيضاً ، إذاً فمسؤوليّة الدفاع عنه والحفاظ عليه ساقطة عنهم يقيناً ، إذاً فخيرٌ لهم أن يحافظوا على حياتهم ، وهم كوفيون يَعرفون المدينة
__________________
(١) اللهوف لابن طاووس : ص ٢٣ ، تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٠٩ ، مقاتل الطالبيين : ص ١٠٢.
وطبيعة سكّانها ، وهو غريب جديد العهد بهذا المجتمع.
وأمّا سببُ محافظتهم على أنفسهم ، فلا ينبغي الإشكال فيه في الدنيا والآخرة. أمّا في الدنيا فواضح ؛ لصعوبة تعريض النفس للقتل ، وخاصّةً إذا كان بلا موجب وبشكل غير مُنتج كما عَرفنا. وأمّا في الآخرة (أعني في التكليف الشرعي في الدين) ؛ فلأنّ بقاءهم خيرٌ من موتهم ، لاحتمال أن يُفيدوا المجتمع بقليلٍ أو بكثير ، وأن لا يُخلو الساحة بالمرّة لعُبيد الله بن زياد وجماعته يفعلون ما يشاءون ، دون وازعٍ من دين ، أو ضمير ، أو رقيب ، أو حسيب.
مضافاً إلى احتمال تأييدهم للحسين عليهالسلام ؛ فإنّهم كانوا عالِمين بأنّه مُقبل عليهم وقريب الوصول إليهم ، بالرغم من طول السفر وبُعد الشقّة ، إذاً فلعلّهم يستطيعون رؤيته ، أو معونته ، أو نصرته ، أو امتثال أوامره.
صحيحٌ أنّهم لم يكونوا يعلمون بحادثة كربلاء كما وقعت ؛ لأنّها لم تكن قد وقعت ، إلاّ أنّ نصرتهم للإمام الحسين عليهالسلام إجمالاً ـ ولقاءه وامتثال أوامره أيّاً كانت ـ هذا ممّا كان هؤلاء الخاصّة يستهدفونهُ بصراحة ووضوح ، فإن بقيَ الحسين وانتصرَ بقوا معه ، وإن قُتل قُتلوا معه ، وعلى أيّ حال فينبغي لهم في التكليف الشرعي الذي يعرفونه ، أن يحافظوا على حياتهم الآن ليطبّقوا مثل هذا التكليف في المستقبل عند لقاء الحسين عليهالسلام.
بقيَ السؤال الذي يخطر في الذهن : وهو أنّ مسلم بن عقيل عليهالسلام لماذا بقيَ مُتلدِّداً في أزقّة الكوفة ، وقد كان من الأفضل له أن يلتجئ إلى بيت أحد الثقاة من أصحابه ، أو أن يخرج إلى البرّ ويلتحق بالأعراب فلا يعرفهُ أحد.
والجواب عن ذلك يكون على مستويات :
المستوى الأوّل : إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) رجلٌ غريب في الكوفة ، لا يعرف بيوتها ولا طُرقاتها ، وقد كان أصحابه يقصدونه من منازلهم وهو لا يعلم أين تقع منازلهم ، ولم يكن خلال هذه المدّة التي عاشَ فيها في
الكوفة متيّسراً لهُ المشي في الطُرقات والتعرّف على البيوت ؛ لأنّه كان بمنزلة القائد ، فلابدّ لهُ من البقاء في مركزه ، وإنّما يشتغل له الأتباع فقط.
المستوى الثاني : إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) أدركَ لا محالة ما التفتنا إليه قبل قليل ، من تفرّق خاصّته عنه ، وأدركَ سبب ذلك ، وهذا السبب ممّا ينبغي أن يحترمه تجاههم ، مضافاً إلى إدراكه كراهتهم البقاء معه في ذلك الحين ، وكان إذا أراد متابعتهم فسوف يعمل ما يكرهونه ويدخل بيوتهم عنوة عنهم ، ويبقى فيها فيكون حراماً عليه.
المستوى الثالث : إنّه لا يوجد في ذلك الحين من أصحابه مَن يستطيع حمايته على الإطلاق ؛ لأنّ بعضهم كان قد سُجن : كهاني بن عروة ، والمختار بن عبيدة الثقفي ، وآخرون ، إذاً فدُورُهم مُغلقة في وجهه ، وهم منكوبون قبل نكبته ، وبعضهم مراقَب ومطارَد ، وليس أسهل على الحكّام من أن يجدوا مسلماً في بيت أحد أصحابه ، فإنّها أرجح الاحتمالات لوجوده ، بخلاف ما إذا تخفّى في محلّ غير مُلفت للنظر كما فعل.
المستوى الرابع : إنّ خروجه بالبرّ لم يكن مُنجياً له ؛ لأنّه لم يكن يملك فرساً ، أو أيّة دابة في ذلك الحين ، وإنّما كان يمشي راجلاً في الطُرقات ومتعباً بعد يومٍ حافل بالنشاط والحركة.
إذاً ، فحتّى لو خرجَ إلى البرّ فسوف لن يستطيع أن يبتعد كثيراً ، حتّى يطلع الصبح وسوف يَدركه أعداؤه لا محالة ، بل سوف يُقبض عليه عاجلاً ؛ لأنّ ابن زياد جَعلَ في المدينة وأطرافها عيوناً ساهرة تراقب الحال باستمرار ، فما أسهل ما يقع مسلم بن عقيل بيد أحد هؤلاء أو جماعة منهم ، إذاً فما فعلهُ (سلام الله عليه) كان أفضل الاحتمالات وهو : الالتجاء إلى محلّ غير مُلفت للنظر على الإطلاق ، عسى الله أن يكتب لهُ فيه الخير.
المستوى الخامس : إنّه قد يقع السؤال عن إمكانه النجاة بالمعجزة ، أو طيّ الأرض ونحو ذلك ، وقد ناقشنا ذلك فيما سبق ، والتفتنا إلى أنّه لم يكن في الحكمة الإلهيّة حصول المعجزات لنصرة أهل الحق ، بل يبقى الأمر مطابقاً للقانون الطبيعي باستمرار ، وإلاّ لم تكن أيّة حاجة إلى أيّ حربٍ خاضها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أو أمير المؤمنين ، أو الحسين عليهمالسلام ، أو أيّ شخصٍ آخر.
تألّبُ الناس ضدّه
وكما نفينا فيما سبق إمكان المبالغة في تألّب الناس ضدّ الحسين عليهالسلام ، كذلك ننفي هنا المبالغة في تألّب الناس ضدّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ؛ وذلك أنّ مقتضى كلام الخطباء الحسينيين عنه : أنّه عليهالسلام جَمع الناس في أحد الأيّام كجيش محارِب وزوّدهم بالأسلحة ، وأمّر عليهم الأمراء والقوّاد ، ونادى بشعار المسلمين يوم بدر : يا منصور ، أمِت أمت (١).
واجتمعت إليه الكوفة برمّتها ، حتّى إذا كان المساء نفسه تفرّقوا عنه ، حتّى بقيَ وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة ، فلمّا كان الصباح نفسه تألّبوا جميعاً ضدّه وقاتلوه ، حتّى النساء والأطفال كانوا يرمونه من السطوح بالحجارة ، ويشعلون النار في أطناب القصب ويرمونها عليه.
وهذه (خريطة) ذهنية غير معقولة ، ولئن كان يمكن حصولها في مدّة طويلة ، فلا يمكن حصولها في مدّة قصيرة في عشيّة واحدة ، فلئن كان يمكن تفرّق الناس عنه لمدى الضغط والمكر الذي مارسه ابن زياد وأصحابه ، غير أنّه لا يمكن تألّبهم ضدّه إلى هذه الدرجة ، فإذا عَلمنا أنّه كان يحارب وحده حين هجموا عليه في الدار ، بقصد إلقاء القبض عليه ، إذاً لم يكن الحاكم في حاجة إلى جيش عَرمرم ضدّه مهما كان شجاعاً ومقاتلاً بارعاً.
__________________
(١) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٠٧ ، الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٧١ ، ط مصر.
ويكفي أن يجد ابن زياد من أصحابه عدّة مئات يكفونه المؤونة ، بدون حاجة إلى أن نتصوّر إلى أنّ الكوفة كلّها قد انقلبت ضدّه في عشيّة واحدة.
وقد نظرتُ في المصادر التاريخيّة فوجدتُ أنّ الرمي من سطوح المنازل ضدّ مسلم بن عقيل ، مذكورٌ فعلاً (١) ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الشعب كلّه فعل ذلك ؛ وذلك :
أوّلاً : إنّه لا وجود لذكر النساء والأطفال الفاعلين لذلك.
ثانياً : إنّنا لو سلّمنا ذلك ، فإنّما هم شَرذِمة من عوائل أعدائه.
ثالثاً : إنّ أصحاب بعض البيوت من أعدائه من الرجال فعلوا ذلك.
رابعاً : إنّ الجيش المعادي له الذي أرسلهُ ابن زياد للقبض عليه ، وجدَ من الحيَل للسيطرة عليه أن يدخل البيوت عَنوة ويرميه البعض من السطوح بالحجارة والنار ، فإذا كان ذلك محتملاً ، والاحتمال مبطل للاستدلال ، فلماذا نفترض ما هو مُستبعد في نفسه ، وهو انقلاب الشعب كلّه ضدّه في عشيّة وضُحاها.
تأسيسهُ للجيش
سَمعنا قبل قليل ما نقلهُ التاريخ من تأسيسه (سلام الله عليه) ـ في أيّامه الأخيرة من حياته ، ومن وجوده في الكوفة ـ جيشاً مهمّاً أمّر عليه القادة ونادى بشعار رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأصبحَ هو القائد العام له ، ولكنّهم تفرّقوا عنه بسبب مكر أعدائه.
والمهمّ الآن أنّه قد يخطر في الذهن سؤالان :
الأوّل : إنّه لماذا أراد تأسيس الجيش مع أنّنا عرفنا فيما سبق أنّه غير مخوّل
__________________
(١) مناقب ابن شهرآشوب : ج ٢ ، ص ٢١٢ ، مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٠٩.
بذلك ، وإنّ نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسين عليهالسلام معه لا تساعد على ذلك؟
الثاني : إنّه لماذا لم يحتل بهذا الجيش قصر الإمارة في نفس اليوم ويقضي على عبيد الله بن زياد ويستلم الحكم ، ولقد كان ذلك أفضل بكلّ تأكيد له وللحسين عليهالسلام وللدين عموماً ، من هذا التأخير الذي حَصل والذي أدّى إلى فشل تلك المهمّة؟
أمّا السؤال الأوّل ، فيمكن أن يجاب عنه بعدّة مستويات :
المستوى الأوّل : إنّ تأسيس هذا الجيش لمجرّد الدفاع عن الوضع الذي كان فيه مسلم بن عقيل عليهالسلام وأصحابه ـ أو قل : إنّه محاولة لإرجاع الوضع المرتبك الذي استطاع ابن زياد زرعهُ ضدّه ، إلى أوّل حالة من حرّية التحرّك والكلام ـ لم يكن فيه بأس على الإطلاق ؛ لأنّه لا يستلزم إهراق أيّ دم.
المستوى الثاني : إنّ تأسيس الجيش والسيطرة على الحكم في الكوفة وإن لم يكن مذكوراً في كتاب الحسين عليهالسلام ، غير أنّ مسلم بن عقيل ضمناً مخوّل لا محالة بأن يفعل في الكوفة كلّ ما يرى فيه المصلحة والإصلاح ، فإن وجدَ في حال الكوفة ومن حال أصحابه إمكان أو وجوب تأسيس مثل هذا الجيش ، لم يكن فيه بأس ، حتّى لو استلزمَ الحرب وإراقة الدماء ، لكنّنا سبقَ أن قلنا : إنّ مسلماً (سلام الله عليه) كان يتجنّب ذلك جهد الإمكان ، لكي لا يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه في التسبيب لضرب المجتمع بعضه بعضاً وهو جديد عهد بالإسلام ، وقد فعل ذلك إلى آخر لحظات حياته.
مضافاً إلى أنّنا يحسن أن نلتفت إلى أنّه إذا كان قاصداً للسيطرة على الحكم ، فالمظنون جدّاً أنّها سوف تتمّ بدون إراقة دماء على الإطلاق ، أو بدماء
قليلة جدّاً ، لإمكان السيطرة على قصر الإمارة بسهولة وسرعة مع نجاح الجيش العقيلي وانضباطه.
المستوى الثالث : إنّ تأسيس هذا الجيش ، ليس لكلّ ما ذكرناه ، بل لاستقبال الحسين عليهالسلام به حين يرِد الكوفة ، فَيرِد على جيش منظّم ومن نقطة قوّة عالية وكافية ، وهذا سبب محترم جدّاً لانتصاره وسيطرته على العراق كلّه لو شاء الله لهُ الاستمرار.
ومسلم عليهالسلام وإن لم يصرِّح بذلك لأحدٍ ، لكنّه من الأرجح جدّاً أن يكون قد احتملَ ذلك ، وإذا تمّ لهُ الجيش لم يكن في الإدارة المعادية له في الكوفة أيّة أهميّة عملية وهي ضعيفة عندئذٍ ، بل يمكن السيطرة عليها لحظة ورود الحسين عليهالسلام ، أو قبل ذلك لو اقتضت المصلحة ذلك.
وأمّا الجواب على السؤال الثاني : فلعلّ نفس إثارة السؤال يُعتبر هَذراً وسُخفاً ، وإن كان طالما خطرَ في عددٍ من الأذهان ، لوضوح أنّ العمل الجادّ والحقيقي يكاد أن يكون مستحيلاً في اليوم الأوّل ، حين لم يكن الجيش مرتّباً ولا مضبوطاً لحد الآن ، وإنّما يُعتبر اليوم الأوّل جَمعاً للأفراد وتسجيلاً لهم في هذا الجيش. وينصّ التاريخ أنّ الكوفة بقيت خلال ذلك اليوم في حركة ولغط طيلة ذلك اليوم (١) ، وليس هناك من هدفٍ لهم إلاّ التجمّع وتطبيق الشعار الذي قاله مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ، وأمّا مسلم نفسه فمعَ استمرار هذا الارتباك واللغط وكثرة الحركة ، فمن المتعذّر عليه إصدار الأمر باحتلال قصر الإمارة بهذه السرعة والسهولة ، ولعلّ فيه أو في خارجه مَن يحارب إلى جانبه فيصل الأمر إلى ما لا تُحمد عُقباه.
ونحن لو التفتنا إلى تفرّق الناس عن مسلم عليهالسلام لمجرّد التهديد
__________________
(١) مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٠٧ ، مُروج الذهب للمسعودي : ج ٣ ، ص ٦٩.
والخديعة ، فكيف لا يكون تفرّقهم عنه إذا دخلوا تحت ضغط الحرب الحقيقية.
وهذا أمرٌ لا يفوت إدراكه لمسلم عليهالسلام وقد عاشرهم هذا الردح من الزمن. إذاً فتأسيسه للجيش ليس للحرب الفعلية ؛ وإنّما للدفاع الفعلي ، أو قل للاطمئنان الفعلي ودَفع مكر الأعداء عنه أوّلاً ، وانتظار دخول الإمام الحسين عليهالسلام إلى الكوفة ثانياً ، ثمّ يكون هو المتكفّل بما يفعل ويأمر بعد أن ساعدهُ مسلم عليهالسلام بتأليب القلوب والنفوس إلى جانبه ، غير أنّ كلّ ذلك أو غير ذلك ، ممّا لا يَذعن له أعداؤه بطبيعة الحال ، ومن هنا تسبّب ابن زياد إلى إفشال هذه المهمّة على كلّ حال.
أسئلةٌ حول واقعة الطف
بعد أن انتهينا من المهمّ من موارد ومقدّمات واقعة الطف ـ لو صحّ التعبير ـ فلنا الآن أن نلتفت إلى الواقعة نفسها ؛ لنسمع ما قد يُثار حولها من استفهامات يمكننا أن نعرضها في الجهات التالية :
الجهة الأولى : إنّه وردَ في التاريخ أنّ الحسين عليهالسلام جَمع أصحابه ليلة اليوم العاشر من المحرّم ، وأذِنَ لهم بالانفصال عنه والتفرّق في البلدان لكي ينجوا من القتل ، وقال فيما قال : (ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً ، فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام ، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوهُ جَمَلاً ، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذَروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري) (١) ، فرفضوا ولم يتفرّقوا ، فهنا قد تَرد عدّة أسئلة :
إحداها : لماذا أذِن لهم بالتفرّق عنه مع حاجته إليهم في الدفاع عنه؟
ثانيها : لماذا لم يتفرّقوا عنه ، وماذا كان هدفهم في ذلك؟
ثالثها : إنّهم كان يجب عليهم أن يهربوا ؛ لأنّ التعرّض للقتل حرام ، فلماذا لم يفعلوا؟
__________________
(١) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٣٨ ، الكامل لابن الأثير : ج ٤ ، ص ٢٤ ، الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٤٦.
أمّا عن السؤال الأوّل : فأوّل خطوة ينبغي اتخاذها بهذا الصدد هو : نفي ما زَعمه السائل من أنّ الحسين عليهالسلام كان محتاجاً إلى أصحابه في الدفاع عنه ، بل لم يكن من حاجة إلى ذلك أصلاً ؛ لأنّه يعلم أنّه مقتول لا محالة ، ولم يكن في وضعٍ يؤهّله للنجاة طبيعياً بكلّ صورة ، ولم يكن كلّ أصحابه بالعدد الكافي للدفاع عنه ، وإنّما يدور الأمر بين مقتله وحده أو قتله مع أصحابه ، أمّا التسبيب إلى نجاته فهو غير محتمل إطلاقاً.
وقد كان ذلك غير محتمل في زمنٍ سابق حال وجوده في الحجاز ، أو حين بَلَغه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهو في الطريق ، أو حين جعجعَ به الحرّ الرياحي ، ففي مثل وقته هذا وقد تجهّز عليه الجيش كلّه ، يكون العلم بالنتيجة أولى وروداً وأوضح ثبوتاً ، هذا مضافاً إلى ما حصلَ فعلاً تاريخيّاً : وهو أنّ أصحابه صَمدوا معه وحاربوا إلى جنبه ، ومع ذلك لم يدفعوا عنه القتل وهذا كان معلوماً سَلفاً ، وقد ثبتَ بالتجربة صدقه.
فإذا انتفت حاجتهُ إليهم عمليّاً لم يكن هناك إشكال شرعي في الإذن لهم بالتفرّق ، ولا يجب عليه الاحتفاظ بهم ؛ لأنّهم سوف لن يسعفوه بشيء.
بل الأمر قد يكون بالعكس : وهو أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد يحسّ بتكليفه الشرعي بلزوم أمرهم بالانصراف ، إنقاذاً لهم من الموت الذي يمكن أن يكونوا في غنىً عنه ، مضافاً إلى جهة أخرى وهي : الحفاظ على النفوس ، يعني الحفاظ على جماعة من المؤمنين الذين يصلحون للدعوة إلى قضية الحسين عليهالسلام وهداية الناس ، وقد قام عليهالسلام بهذه المهمّة ، ومن هنا قد يتخيّل الفرد أنّه يجب عليهم أن يتفرّقوا لأجل إحراز هذه النتائج ، وسيأتي الكلام عنه.
إلاّ أنّ الحقيقة أنّ المقصد الرئيسي ـ حسب ما نفهم ـ لم يكن هو ذلك ، بل كان لأجل اختبار هِممهم في نصره وفي السير في سبيل الشهادة ، وتحصيل طاعة الله ورضاه سبحانه من هذه الناحية ، ومن هنا يمكن أن يقعوا تحت طائلة نفسية
قوية في التضاد ، أو في الشعور المتضاد في ضرورة البقاء وضرورة الذهاب ، إلاّ أنّهم مع ذلك لم يفكّروا طرفة عينٍ في الذهاب ، بل أدركوا بكلّ وضوح ضرورة البقاء مع الحسين ونيل الشهادة بين يديه ، جزاهم الله خير جزاء المحسنين ، وبذلك صاروا أفضل الشهداء على الإطلاق (١).
__________________
(١) ويمكن الاستدلال على أنّ أصحاب الحسين عليهالسلام هم أفضل الشهداء ؛ وذلك على مستويين :
الأوّل : وهو قول الإمام الحسين عليهالسلام عندما خطبَ بأصحابه ، ومَن معهُ من آل هاشم ليلة العاشر من المحرّم حيث قال : «أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً ...... إلخ) ، نقلهُ ابن طاووس في اللهوف ، والفتّال في روضة الواعظين ، والطبري في تاريخه ، وابن الأثير في الكامل ، والخوارزمي في مقتله ، والمفيد في الإرشاد ، وابن شهرآشوب في المناقب ، وغيرهم كثير».
وبهذا يكون قد صرّح الإمام عليهالسلام أنّ أصحابه أفضل الأصحاب فقوله : (..... لا أعلم ......) ينفي فيها عن وجود أصحاب أفضل من أصحابه قد وجِدوا قبل زمانه ، سواء كان قبل الإسلام أو بعد الإسلام ، ممّن صاحبَ جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله ، أو أباه أمير المؤمنين عليهالسلام ، أو أخاه الحسن عليهالسلام ، بل يتعدّى الأمر إلى ما بعد زمانه باعتبار أنّ الأئمّة عليهمالسلام ـ ومن ضمنهم الإمام الحسين عليهالسلام ـ يعلمون من جدّهم الرسول صلىاللهعليهوآله ما يحدث بعدهم إلى يوم القيامة.
الثاني : إنّا لو أخذنا أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله وبالخصوص البدريّون ـ باعتبار أنّه الصحابة الأوائل ، أو أفضل الصحابة بشهادة جميع المذاهب الإسلاميّة وفيهم يُضرب المثل ، وجَعلِهم القدوة لمَن أراد الجهاد في سبيل الله ، فترى الإمام عليهالسلام يخاطب أبا الفضل عليهالسلام عند زيارته : «وأشهدُ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون» ـ وقارنّا بينهم وبين أصحاب الحسين عليهالسلام ، لوجَدنا فروقاً كثيرة بين الفريقين وبالأخص ممّن قُتل بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله في بدر ، وبين يدي الحسين عليهالسلام في كربلاء ، فمن هذه الفروق وبما يَسمح به المقام :
١ ـ إنّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله البدريين حينما خَرجوا مع النبي صلىاللهعليهوآله إلى بدرٍ ، كان عنوان خروجهم الغنيمة ، وذلك بالاستيلاء على قوافل قريش ، ولكن عندما فاتهم أبو سفيان وجاء أبو جهل ومَن معه وأصرّ على محاربة الرسول صلىاللهعليهوآله ، عند ذلك وطّد الرسول نفسه ومَن معه للقتال ، فتغيّر العنوان من حرب اقتصادية إلى حرب عسكرية بينما أصحاب الحسين عليهالسلام فقد كانوا يعلمون منذ البداية أنّه لا يوجد غنيمة ؛ وإنّما ذهابهم إلى موتٍ لابدّ منه ، فالحسين أخبرهم بهذا منذ بداية خروجه ، فنراه مثلاً في إحدى خُطبه يقول : «وكأنّي بأوصالي هذه تُقطّعها عَسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء .... إلخ».
__________________
إذاً أصحاب الحسين كانوا يعلمون أنّهم قادمون إلى الموت وليس إلى الغنيمة ، بل للقتال فقط.
٢ ـ إنّ أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله وعِدوا بإحدى الطائفتين : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) سورة الأنفال / ٧ أي : إمّا الإبل (والتي تَحمل الأموال والغنائم) ، وإمّا النفير (أي القتال ، ونتيجة الحرب تكون لهم) ، وكلا الطائفتين فيها فائدة دنيوية إضافةً إلى الثواب الأخروي. أمّا الحسين عليهالسلام فلم يُخبر أصحابه إلاّ بطريقٍ واحد ، وهو الموت الذي يؤدّي بهم إلى دخول الجنّة.
٣ ـ من الناحية العسكرية : إنّ الجيش الذي واجهَ الرسول في بدر ، لم يكن جيش دولة منظّمة ؛ إنّما كان جيش قَبَلي (أي عشائري) ، وتركيبتهُ تركيبة قَبَلية.
أمّا الجيش الذي زَحفَ إلى الحسين عليهالسلام ، فقد كان جيشاً نظامياً فهو يمثّل جيش دولة كبرى ، وهذه الدولة استفادت من تجاربها بحروبها مع الغرب والشرق : (كالروم ، والفرس) ببناء جيش منظّم ، إذاً فتركيبتهُ من الناحية الفنّية العسكرية يختلف تماماً عن الجيش الذي واجه الرسول صلىاللهعليهوآله في بدر.
٤ ـ من الناحية التعبوية : فلو أخذنا النسبة بين أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله وبين المشركين الذين قاتلوهم في بدر ، فهي الثلث تقريباً ؛ لأنّ المسلمين كانوا (٣١٣) ، بينما المشركين كانوا في حدود الألف تقريباً.
أمّا لو أخذنا النسبة بين أصحاب الحسين عليهالسلام إلى نسبة الجيش الزاحف عليهم ، لوجدناهم ثلث عشر العشر على أقلّ تقدير ، فلو أخذنا الرواية التي تقول : إنّ أعداء الحسين الذين قاتلوه في كربلاء (٣٠ ألف) ، والتي هي عن الإمام الحسين عليهالسلام ، وأخذنا أكبر رقم ذُكر عن عدد أصحاب الحسين والذي هو مئة ألف ، فنجد النسبة بينهما ثلث عُشر العشر ؛ لأنّ عُشر (٣٠٠٠٠) هو (٣٠٠٠) ، وعُشر الثلاثة آلاف هو ثلاثمئة وثُلثها مئة.
٥ ـ إنّ أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله كان لديهم وضوح في المعركة بشكلٍ كامل ؛ ذلك لأنّ معركة بدر كانت بين كفرٍ صريح يمثّله أبو جهل وعتبة وأضرابهم ، وبين الإسلام الذي يمثّله المصطفى صلىاللهعليهوآله ، فهو واضح ليس فيه لبس.
بينما في معركة الطف كانت هناك عدّة فتن وشُبهات تغصّ بها الأمّة الإسلامية ، فمن تلك الفتن مثلاً : إنّ كلا المُتقاتلين ينتمون إلى الأمّة الإسلاميّة فهما ذات قبلة واحدة ظاهراً ، إضافة إلى الفتن الأخرى كفتنة الخلافة ، وهل هي بالتعيين أم بالشورى؟ وفتنة مقتل الخليفة الثالث ، وما ترتّب عليه من الحروب الثلاثة : (الجمل ، وصفّين ، والنهروان) ، والأحاديث التي خرّجها بنو أميّة في طاعة وليّ الأمر المطلقة ، سواء كان عادلاً أو جائراً ........ وأنّ الحسين قد خرجَ على إمامه وخليفة عصره (أي يزيد) ، وأنّه بخروجه يُلقي نفسه في التهلكة المحرّمة ، وشقّ عصا المسلمين بذلك ، وجَعل الفتنة بينهم ، وقَتل الكثير منهم .......... إلخ ، ممّا كان يجعل وجود شبهات وتساؤلات حول نهضة الحسين عليهالسلام.
٦ ـ إنّ أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله عند خروجهم لواقعة بدر تركوا عوائلهم في المدينة ، وبذلك قد اطمئنّوا عليهم وأنّهم في أمان. أمّا الحسين عليهالسلام وكثير من أصحابه كانت عوائلهم معهم ، وهنا يكون
فهذا هو مختصر الكلام في الجواب عن السؤال الأوّل.
وأمّا السؤال الثاني : وهو عن سبب التحاقهم به وعدم تفرّقهم عنه ـ بالرغم ممّا سبقَ قبل قليل من احتمال وجوب ذلك في ذِممهم ـ.
فجواب ذلك يتمّ على عدّة مستويات نذكر منها :
المستوى الأوّل : إنّ المهمّ في نظر المؤمن ليس هو النظر إلى التكليف الشرعي بالذات ، بل إلى رضاء الله عزّ وجل ، وإنّما يكون تطبيق التكليف وطاعته مقدّمة لذلك وأسلوباً لتحصيله ، فإذا أحرزَ الفرد أنّ هناك منبعاً لرضا الله عزّ وجل أفضل وأهم وأعلى من مجرّد تطبيق بعض الأحكام ، كما أحرز أصحاب الحسين عليهالسلام ، كان لهم بل لزمهم اختيار الأفضل والمحلّ الأعلى لا محالة.
__________________
خوفهم على عوائلهم من السبي والأذى أمراً راجحاً جدّاً ، فيكون سبباً مهماً في تخاذلهم ورجوعهم عن القتال للحفاظ على تلك العوائل والأعراض.
٧ ـ إنّ الرسول وأصحابه سُدّدوا بتسهيلات كثيرة من السماء : كنزول الملائكة للقتال معهم ، وهطول المطر لإطفاء ظمأهم وتسديد الرَمية التي يرمونها ، والربح التي اقتلعت أخبية الأعداء ، والحصى التي رمى بها الرسول جبهة المشركين فانهزموا على إثر ذلك ، والنُعاس كما في قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) (الأنفال : آية ١١) لتستريح أعصابهم.
والأمر الآخر أيضاً : إنّ الله قلّل عدد المشركين في أعين المسلمين .....إلخ ، إذاً فهناك تسديدات وتسهيلات سماويّة لأصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله.
أمّا الحسين عليهالسلام وأصحابه فالأمر يختلف ؛ إنّما شاء الله أن تسير الأمور في واقعة الطف بشكل طبيعي ، بل وبوجود بعض الابتلاءات للحسين عليهالسلام وأصحابه ، كابتلائهم بالعطش بقطع الماء عنهم.
فلو عَلمنا ـ كما أشرنا إلى ذلك مُسبقاً ـ أنّ شهداء بدر على ما قيل هم أفضل الشهداء ، فمع هذه الفروق وغيرها يكون أصحاب الحسين عليهالسلام قد تفوّقوا عليهم وبذلك تكون الأفضليّة لهم.
المستوى الثاني : إمكان المناقشة في ذينك التكليفين اللزوميين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق ، وذلك بالقول إنّهما كانا ساقطَين تماماً عن ذمّة هؤلاء الجماعة الناصرين للحسين عليهالسلام ، بالرغم من أنّ مقتضى القواعد المعروفة ثبوتها في كثيرٍ من الموارد الأخرى.
أمّا التكليف الشرعي بهداية الناس والدفاع الكلامي عن قضية الحسين خاصّة والدين عامّة ؛ فلأنّ ذلك كلّه لم يكن يتوقّف عليهم ولا يستند إليهم ، بل هم يعرفون وجود ناس آخرين على قدر الحاجة متفرّقين في البلدان يمكن أن يقوموا بهذه المهام ، ومن المعلوم أنّه مع وجود ما يكفي للحاجة يكون التكليف الإلزامي الكفائي ساقطاً عن الآخرين.
وأمّا المحافظة على النفس وحرمة إلقاء النفس في التهلكة ، أو قل وجوب الهرب عن مثل هذا السبب : فلا شكّ أنّهم عَلموا بجواز البقاء مع الحسين عليهالسلام ، حتّى لو أذنَ لهم بالتفرّق ؛ فإنّه لم يأذن لهم إلزاماً ، وإنّما أذِن لهم جوازاً للقتل ، وإذا عرفوا منه ـ وهو آمرهم وإمامهم ومصدر شريعتهم ـ جواز البقاء والتعرّض للقتل ، إذاً فقد سقطَ تكليفهم بذلك أمامَ الله عزّ وجل ، فلم يبقَ أمامهم إلاّ البقاء وتحصيل المقامات العليا التي ينالونها بالشهادة.
المستوى الثالث : مستوى الامتحان أو التمحيص الذي مرّوا به وأحسّوا به.
وقد أسلفنا أنّه من الواضح أنّ المقصود الرئيسي للحسين عليهالسلام في الإذن لأصحابه بالانصراف : هو امتحان درجة همّتهم في نَصره واستعدادهم للفداء دونه ، ومن هنا وردَ في الرواية : «ولقد بَلَوتهم ، فلم أجدُ فيهم
إلاّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل إلى محالب أمّه» (١).
فهذه هي نتيجة التمحيص والامتحان وهي نتيجة ناجحة ، ولو كانوا قد قالوا غير ذلك لفشلوا في نظر الحسين عليهالسلام ، ولم يؤدّوا تكليفهم الكامل أمام الله وأمام إمامهم ومصدر شريعتهم ، والظاهر أنّ فيما ذكرناه الكفاية عن الدخول في المزيد من التفصيل.
الجهة الثانية : قالوا في تاريخ واقعة الحسين عليهالسلام : إنّ العبّاس عليهالسلام حين ذهبَ ليملأ القربة بالماء ، وحاربَ أعداءه إلى أن وصلَ إلى ضفّة النهر ، قالوا : ثمّ اغترفَ غرفة من الماء وأدناها من فمه ليشرب ، ثمّ رمى بها من يده وقال :
يا نفسُ من بعد الحسين هوني |
|
وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني |
هذا الحسين وارد المَنون |
|
وتشربينَ بارد المعينِ |
تالله ما هذا فعالُ ديني (٢)
فقد يخطر في البال السؤال عمّا إذا كان الأولى بالعبّاس عليهالسلام شُرب الماء ، للتقوّي على الأعداء ، ومن ثَمّ نصرة الحسين عليهالسلام ، ومن ثمّ نصرة الدين أساساً؟
إلاّ أنّه ينبغي أن يكون الجواب واضحاً بعد كلّ الذي سبقَ أن عرفناه ؛ وذلك على عدّة مستويات ، نذكر منها :
المستوى الأوّل : إنّه لم يكن يوجد أيّ سبب في ذلك الحين ممّا يؤدي إلى نجاة الحسين عليهالسلام من القتل ، فحتّى لو شَرب العبّاس الماء بالمقدار الذي
__________________
(١) الدمعة الساكبة : ص ٣٢٥.
(٢) البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤١ ، رياض المصائب : ص ٣١٣.
يحتاجه جسمه أو أكثر ، وتشجّع وقاتلَ أكثر ممّا قاتل ، فإنّه لم يكن بالممكن أن ينجو هو ولا أخوه الحسين عليهالسلام من القتل ، بل السبب لقتلهم موجود ومتحكّم لا محالة.
المستوى الثاني : إنّه وجدَ من الخيانة لأخيه وذويه أن يكون ريّاناً بالماء وهم عطاشا ، وهذا ما يُصرّح به التاريخ (١) ، وقد نطقَ به الشعر الذي نقلناه عنه بصراحة ، وهو أدب إسلامي عالي أمام الله سبحانه ، ومن هنا قال : تالله ما هذا فعال ديني.
المستوى الثالث : إنّه شعرَ بتكليفه في ذلك الحين بوجوب الإعراض عن شُرب الماء وأطاع تكليفه ذاك ، وهذا الشعور يكون بأحد أساليب : إمّا بالإلهام ، أو بالرواية عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أو عن فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، كما نُقل في بعض الروايات (٢).
المستوى الرابع : إنّه عليهالسلام أراد أن يموت عطشاناً عَمداً أمام الله سبحانه ؛ لأنّ ذلك أكثر أجراً وأعلى مقاماً ، ومن هذا القبيل ما رويَ عن أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام عندما دُعي إلى مأدبة ، فأكلَ ثلاث لقم فقط ثمّ سحبَ يده ، فقال له ابن عبّاس : هلاّ أكلتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال : «إن هي إلاّ ثلاث وأريد أن ألقى ربّي خميصاً» (٣).
__________________
(١) نفس المصدر.
(٢) مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ١٦٢.
(٣) الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ١٩٥.
إذاً فكان أمير المؤمنين يريد أن يلقى الله جوعاناً ، فكذلك ابنه العبّاس يريد أن يلقى الله عطشاناً.
وينبغي أن نلتفت أنّ المستوى الأوّل هو الأهمّ فقهيّاً ، وهو الذي فتحَ الباب للعبّاس عليهالسلام إلى أحد المستويات الثلاثة الأخرى ؛ لوضوح أنّ شرب الماء لو كان سبباً للنجاة كان واجباً ، ولا تقوم أمامه المستويات الأخرى إطلاقاً ، إلاّ أنّنا عرفنا أنّه لا يُحتمل فيه ذلك.
الجهة الثالثة : إنّه نقلَ إلينا التاريخ : أنّ عليّ بن الحسين الأكبر عليهالسلام خرجَ إلى الحرب فترةً من النهار ثمّ رجعَ إلى الحسين عليهالسلام فقال : يا أبه ، العطش قد قَتلني وثِقل الحديد قد أجهدَني ، فهل إلى شُربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء. فبكى الحسين عليهالسلام وقال : «واغوثاه ، من أين آتي لك بالماء ، قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك رسول الله ، فيسقيك بكأسه الأوفى شُربة لا تظمأ بعدها أبداً» (١).
ورويَ أنّ الحسين عليهمالسلام قال له : «يا بُني هات لسانك ، فأخذَ لسانه فمصّه ودفعَ إليه خاتمه الشريف : وقال له : يا بُني أمسكهُ في فَمك وارجع إلى قتال عدوّك» (٢).
أقول : وفي النتيجة أنّه لم يَدفع له شربة ماء ، فقد يُثار السؤال عن السبب في ذلك وخاصّة عن استعمال المعجزة في هذا الصدد؟
وجوابُ ذلك على عدّة مستويات نذكر منها :
__________________
(١) مقتل الخوارزمي : ج ٢ ، ص ١٣ ، اللهوف لابن طاووس : ص ٤٨ ، ابن نما الحلّي : ص ٥١.
(٢) نفس المصدر ، البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤٤.