المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤
لكنّ ريب الزمان ذو غِيرٍ |
|
والكفّ منّي قليلة النفقة |
فأخذها الأعرابي شاكراً وهو يدعو له عليهالسلام بالخير ، وأنشد مادحاً :
مطهّرون نقيّات جيوبهمُ |
|
تجري الصلاةُ عليهم أينما ذكروا |
وأنتمُ أنتمُ الأعلون عندكمُ |
|
علمُ الكتاب وما جاءت به السورُ |
مَنْ لم يكن علويّاً حين تنسبُه |
|
فما له في جميع النّاس مفتخرُ (١) |
٤ ـ شجاعته عليهالسلام :
إنّ المرء ليعجز عن الوصف والقول حين يطالع صفحة الشّجاعة من شخصية الإمام الحسين عليهالسلام ؛ فإنّه ورثها عن آبائه وتربّى عليها ونشأ فيها ، فهو من معدنها وأصلها ، وهو الشّجاع في قول الحقّ والمستبسل للدفاع عنه ، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّد صلىاللهعليهوآله الذي وقف أمام أعتا قوّة مشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في سبيل الله تعالى.
ووقف مع أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام يُعيد الإسلام حاكماً ، وينهض بالاُمّة في طريق دعوتها الخالصة ، يُصارع قوى الضلال والانحراف بالقول والفعل وقوّة السّلاح ؛ ليعيد الحقّ إلى نصّابه.
ووقف مع أخيه الإمام الحسن عليهالسلام موقف الأبطال المضحّين من أجل سلامة الاُمّة ، ونجاة الصّفوة المؤمنة المتمسّكة بنهج الرسالة الإسلاميّة.
ووقف صامداً حين تقاعست جماهير المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية وضلاله ، وأزلامه والتيار الذي قاده لتشويه الدين القويم.
ولم يخشَ كلّ التهديدات ، ولا ما كان يلوح في الاُفق من نهاية مأساوية
__________________
(١) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٣ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٦٥.
نتيجة الخروج لطلب الإصلاح ، وإحياء رسالة جدّه النبيّ صلىاللهعليهوآله ، والوقوف في وجه الظلم والفساد ، فخرج وهو مسلّم لأمر الله وساع لابتغاء مرضاته ، وها هو عليهالسلام يردُّ على الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له : اُذكّرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ ، ولئن قوتلت لتهلكنّ. فقال له الإمام أبو عبد الله عليهالسلام :
أبالموت تخوّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لك ، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه :
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى |
|
إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما |
وواسى رجالاً صالحين بنفسه |
|
وخالف مثبوراً وفارق مجرما |
فإنْ عشت لم أندم وإنْ متّ لم اُلَم |
|
كفى بك ذلاً أن تعيش وتُرغما (١) |
ووقف عليهالسلام يوم الطفّ موقفاً حيّر به الألباب وأذهل به العقول ، فلم ينكسر أمام جليل المصاب حتّى عندما بقي وحيداً ، فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة حتّى شهد له عدوّه بذلك ، فقد قال حميد بن مسلم : فوالله ، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه ؛ إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتدّ عليها الذئب (٢).
٥ ـ إباؤه عليهالسلام :
لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى صورها وأكملها في إباء الإمام
__________________
(١) تأريخ الطبري ٤ / ٢٥٤ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧٠.
(٢) أعلام الورى ١ / ٤٦٨ ، وتأريخ الطبري ٥ / ٥٤٠.
الحسين عليهالسلام ورفضه للصبر على الحيف والسّكوت على الظلم ، فسنّ بذلك للأجيال اللاحقة سنّة الإباء والتضحية من أجل العقيدة وفي سبيلها ، حين وقف ذلك الموقف الرسالي العظيم يهزّ الاُمّة ويشجّعها أن لا تموت هواناً وذلاً ، رافضاً بيعة الطليق ابن الطليق يزيد بن معاوية قائلاً : «إنّ مثلي لا يبايع مثله».
وها هو يصرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة مجسّداً ذلك الإباء بقوله عليهالسلام : «يا أخي ، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية» (١).
ورغم أنّ الشيطان كان قد استحكم على ضمائر النّاس فأماتها حتّى رضيت بالهوان ، لكن الإمام الحسين عليهالسلام وقف صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الاُموية قائلاً : «والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد ، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون» (٢).
لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسين عليهالسلام تعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات ، كما تنمّ عن عزّته واعتداده بالنفس ، فقد قال عليهالسلام :
«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيَّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (٣).
وهكذا علّم الإمام الحسين عليهالسلام البشرية كيف يكون الإباء في المواقف ، وكيف تكون التضحية من أجل الرسالة.
__________________
(١) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٢٣ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٨ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٩.
(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٨٠ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٣٣٠ ، وإعلام الورى ١ / ٤٥٩ ، وأعيان الشيعة ١ / ٦٠٢.
(٣) أعيان الشيعة ١ / ٦٠٣ ، والاحتجاج ٢ / ٢٤ ، ومقتل الحسين عليهالسلام ـ للخوارزمي ٢ / ٦.
٦ ـ الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ:
لقد كانت نهضة الإمام الحسين عليهالسلام وثورته بركاناً تفجّر في تأريخ الرسالة الإسلاميّة ، وزلزالاً صاخباً أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ ، والكلمة الطيبة التي دعت كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلاميّة إلى مواصلة المسيرة في بناء المجتمع الصالح وفق ما أراده الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله.
وقد نهج الإمام الحسين عليهالسلام منهج الصراحة والمكاشفة ، موضّحاً للاُمّة الخلل والزيغ والطريق الصحيح ، فها هو بكلّ جرأة يقف أمام الطّاغية يحذّره ويمنعه عن التمادي في الغيّ والفساد ... فهذه كتبه عليهالسلام إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار في ظلمه ، ويكشف للاُمّة مدى ضلالته وفساده (١).
وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن معاوية ، وقال ـ موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد ـ : «إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب للخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله» (٢).
وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومَنْ أعلن عن نصرته ، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وخذلان النّاس له ، فقال عليهالسلام للذين اتّبعوه طلباً للعافية : «قد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ، ليس عليه ذمام» (٣).
__________________
(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٨٩ و١٩٥.
(٢) الفتوح ٥ / ١٤ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٤ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٥.
(٣) الإرشاد ٢ / ٧٥ ، وتأريخ الطبري ٣ / ٣٠٣ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٤.
فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين ، وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه ، ولم يخادع ولم يداهن في الوقت الذي كان يعزّ فيه الناصر.
وقبل وقوع المعركة أذن لكلّ مَنْ كان قد تبعه من المخلصين في الانصراف عنه قائلاً : «إنّي لا أعلم أصحاباً أصحّ منكم ولا أعدل ، ولا أفضل أهل بيت ، فجزاكم الله عنّي خيراً. فهذا الليل قد أقبل ، فقوموا واتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه ، أو رجل من إخوتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يطلبون غيري ، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم» (١).
والحقّ أنّ مَنْ يطالع كلّ تفاصيل نهضة الإمام الحسين عليهالسلام سيجد الصّدق والصّراحة ، والجرأة في كلّ قول وفعل في جميع خطوات نهضته المباركة.
٧ ـ عبادته وتقواه عليهالسلام :
ما انقطع أبو عبد الله الحسين عليهالسلام عن الاتّصال بربّه في كلّ لحظاته وسكناته ، فقد بقي يجسّد اتّصاله هذا بصيغة العبادة لله ، ويوثّق العُرى مع الخالق جلّت قدرته ، ويشدّ التضحية بالطاعة الإلهية متفانياً في ذات الله ومن أجله ، وقد كانت عبادته ثمرة معرفته الحقيقية بالله تعالى.
وإنّ نظرة واحدة إلى دعائه عليهالسلام في يوم عرفة تُبرهن على عمق هذه المعرفة وشدّة العلاقة مع الله تعالى ، وننقل مقطعاً من هذا الدعاء العظيم :
قال عليهالسلام : «كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من
__________________
(١) الفتوح ٥ / ١٠٥ ، وتأريخ الطبري ٣ / ٣١٥ ، وأعيان الشيعة ١ / ٦٠٠.
الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهِر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً ...
إلهي هذا ذُلّي ظاهر بين يديك ، وهذا حالي لا يخفى عليك. منك أطلب الوصول إليك ، وبك استدلّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدق العبودية بين يديك ...
أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك ووحّدوك ، وأنت الذي أزلتَ الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك ، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ...
ماذا وَجدَ مَنْ فقدك؟! وما الذي فقد مَنْ وجدك؟! لقد خاب مَنْ رضي دونك بَدلاً ، ولقد خسر مَنْ بغى عنك مُتحوّلاً ...
يا مَنْ أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين ، ويا مَنْ ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين ...» (١).
ولقد بدا عليه عظيم خوفه من الله وشدّة مراقبته له حتّى قيل له : ما أعظم خوفك من ربّك! فقال عليهالسلام : «لا يأمن يوم القيامة إلاّ مَنْ خاف من الله في الدنيا» (٢).
صور من عبادته عليهالسلام :
إنّ العبادة لأهل بيت النبوّة عليهمالسلام هي وجود وحياة ، فقد كانت لذّتهم في مناجاتهم لله تعالى ، وكانت عبادتهم له متّصلة في الليل والنهار وفي السرّ والعلن ، والإمام الحسين عليهالسلام ـ وهو أحد أعمدة هذا البيت الطاهر ـ كان يقوم
__________________
(١) المنتخب الحسني للأدعية والزيارات / ٩٢٤ ـ ٩٢٥.
(٢) بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٠.
بين يدي الجبّار مقام العارف المتيقّن والعالم العابد ، فإذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله ، فقيل له في ذلك فقال عليهالسلام : «حقّ لمَنْ وقف بين يدي الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله» (١).
وحرص عليهالسلام على أداء الصّلاة في أحرج المواقف ، حتّى وقف يؤدّي صلاة الظهر في قمّة الملحمة في اليوم العاشر من المحرّم (٢) وجيوش الضلالة تحيط به من كلّ جانب وترميه من كلّ صوب.
وكان عليهالسلام يخرج متذلّلاً لله ساعياً إلى بيته الحرام يؤدّي مناسك الحجّ بخشوع وتواضع ، حتّى حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه (٣).
وقد اشتهرت بين محدّثي الشيعة ومختلف طبقاتهم مواقفه الخاشعة في عرفات أيّام موسم الحجّ ، ومناجاته الطويلة لربّه وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل والناس حوله.
لقد كان عليهالسلام كثير البرّ والصدقة ، فقد روي أنّه ورث أرضاً وأشياء فتصدّق بها قبل أن يقبضها ، وكان يحمل الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة ، لم يبتغ بذلك إلاّ الأجر من الله والتقرب إليه (٤).
__________________
(١) جامع الأخبار / ٧٦ ، وراجع إحقاق الحقّ ١١ / ٤٢٢.
(٢) ينابيع المودّة / ٤١٠ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ / ١٧.
(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ١٩٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٠١.
(٤) حياة الإمام الحسين عليهالسلام ١ / ١٣٥.
الباب الثاني
وفيه فصول :
الفصل الأوّل :
نشأة الإمام الحسين عليهالسلام
الفصل الثاني :
مراحل حياة الإمام الحسين عليهالسلام
الفصل الثالث :
الإمام الحسين عليهالسلام من الولادة إلى الإمامة
الفصل الأول
نشأة الإمام الحسين عليهالسلام
هو أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، ثالث أئمّة أهل البيت الطاهرين ، وثاني سبطَي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وسيّد شباب أهل الجّنة ، وريحانة المصطفى ، وأحد الخمسة أصحاب العبا ، وسيّد الشهداء ، واُمّه فاطمة عليهاالسلام بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله.
تأريخ الولادة :
أكّد أغلب المؤرّخين أنّه عليهالسلام ولد بالمدينة في الثالث من شعبان في السّنة الرابعة من الهجرة (١).
وثمّة مؤرّخون أشاروا إلى أنّ ولادته عليهالسلام كانت في السّنة الثالثة (٢).
رؤيا اُمّ أيمن :
أوّلَ رسول الله صلىاللهعليهوآله رؤيا للسيدة اُمّ أيمن ـ كانت قد فزعت منها حين
__________________
(١) تأريخ ابن عساكر ١٤ / ٣١٣ ، ومقاتل الطالبيين / ٧٨ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٩٤ ، واُسد الغابة ٢ / ١٨ ، والإرشاد / ١٨.
(٢) اُصول الكافي ١ / ٤٦٣ ، والاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ١ / ٣٧٧.
رأت أنّ بعض أعضائه صلىاللهعليهوآله مُلقىً في بيتها ـ بولادة الحسين عليهالسلام الذي سيحلّ في بيتها صغيراً للرضاعة. فقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال :
أقبل جيران اُمّ أيمن إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالوا : يا رسول الله ، إنّ اُمّ أيمن لم تنم البارحة من البكاء ، لم تزل تبكي حتّى أصبحت. فبعث رسول الله إلى اُمّ أيمن فجاءته ، فقال لها : يا اُمّ أيمن ، لا أبكى الله عينكِ ، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّكِ لم تزلي الليل تبكين أجمع ، فلا أبكى الله عينكِ ، ما الذي أبكاكِ؟ قالت : يا رسول الله ، رأيت رؤيا عظيمة شديدة ، فلم أزل أبكي الليل أجمع، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآله : فقصّيها على رسول الله ؛ فإنّ الله ورسوله أعلم، فقالت : تعظم عليّ أن أتكلّم بها، فقال لها : إنّ الرؤيا ليست على ما تُرى ، فقصّيها على رسول الله. قالت : رأيت في ليلتي هذه كأنّ بعض أعضائك مُلقىً في بيتي! فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآله : نامت عينكِ يا اُمّ أيمن ، تلد فاطمة الحسين فتربّينه وتُلبنيه (١) ، فيكون بعض أعضائي في بيتك (٢).
الوليد المبارك :
ووضعت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام وليدها العظيم ، وزفّت البشرى إلى الرّسول صلىاللهعليهوآله ، فأسرع إلى دار عليّ والزهراء عليهماالسلام ، فقال لأسماء بنت عميس : «يا أسماء ، هاتي ابني»، فحملته إليه وقد لُفّ في خرقة بيضاء ، فاستبشر النبي صلىاللهعليهوآله وضمّه إليه ، وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثمّ وضعه في حجره وبكى ، فقالت أسماء : فداك أبي واُمّي! ممّ بكاؤك؟! قال صلىاللهعليهوآله : «من ابني هذا». قالت : إنّه ولد الساعة، قال صلىاللهعليهوآله : «يا أسماء ،
__________________
(١) أي : تسقينه اللبن.
(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٤٢.
تقتله الفئة الباغية من بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي ...» (١).
ثمّ إنّ الرّسول صلىاللهعليهوآله قال لعليّ عليهالسلام : «أيّ شيء سمّيت ابني؟». فأجابه عليّ عليهالسلام : «ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله». وهنا نزل الوحي على حبيب الله محمّد صلىاللهعليهوآله حاملاً اسم الوليد من الله تعالى ، وبعد أن تلقّى الرّسول أمر الله بتسمية وليده الميمون ، التفت إلى عليّ عليهالسلام قائلاً : «سمّه حسيناً».
وفي اليوم السابع أسرع الرّسول صلىاللهعليهوآله إلى بيت الزهراء عليهاالسلام فعقّ عن سبطه الحسين كبشاً ، وأمر بحلق رأسه والتصدّق بزنة شعره فضّة ، كما أمر بختنه (٢).
وهكذا أجرى للحسين السبط ما أجرى لأخيه الحسن السبط من مراسم.
اهتمام النبيّ صلىاللهعليهوآله بالحسين عليهالسلام :
لقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول الله صلىاللهعليهوآله بشأن الحسين عليهالسلام وهي تبرز المكانة الرفيعة التي يمثّلها في دنيا الرسالة والاُمّة.
ونختار هنا عدّة نماذج منها للوقوف على عظيم منزلته :
١ ـ روى سلمان أنّه سمع رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول في الحسن والحسين عليهماالسلام : «اللّهمّ إنّي اُحبّهما فأَحِبَّهما ، واُحبّ مَنْ أحبّهما» (٣).
٢ ـ «مَنْ أحبّ الحسن والحسين أحببته ، ومن أحببته أحبّه الله ، ومن أحبّه الله (عزّ وجلّ) أدخله الجّنة ، ومن أبغضهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه الله ، ومن أبغضه الله __________________
(١) إعلام الورى بأعلام الهدى ١ / ٤٢٧.
(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٥ ، إعلام الورى ١ / ٤٢٧.
(٣) الإرشاد ٢ / ٢٨.
خلَّده في النار» (١).
٣ ـ «إنّ ابنيَّ هذين ريحانتاي من الدنيا» (٢).
٤ ـ رُوي عن ابن مسعود أنّه قال : كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يصلّي فجاء الحسن والحسين عليهماالسلام فارتدفاه ، فلمّا رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً ، فلمّا عاد عادا ، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن وهذا على فخذه الأيسر ، ثمّ قال : «مَنْ أحبّني فَلْيُحبّ هذين» (٣).
٥ ـ «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط» (٤).
٦ ـ «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما ، واُمّهما أفضل نساء أهل الأرض» (٥).
٧ ـ «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجّنة» (٦).
٨ ـ عن برّة ابنة اُميّة الخزاعي أنّها قالت : لمّا حملت فاطمة عليهاالسلام بالحسن خرج النبيّ صلىاللهعليهوآله في بعض وجوهه ، فقال لها : «إنّكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل ، فلا ترضعيه حتّى أصير إليكِ». قالت : فدخلت على فاطمة حين ولدت الحسن عليهالسلام ، وله ثلاث ما أرضعته ، فقلت لها : أعطينيه حتّى اُرضعه. فقالت : «كلاّ». ثمّ أدركتها رقّة الاُمهات فأرضعته ، فلمّا جاء النبيّ صلىاللهعليهوآله قال لها : «ماذا صنعتِ؟». قالت : «أدركني عليه رقّة الاُمهات فأرضعته». فقال : «أبى الله
__________________
(١) الإرشاد ٢ / ٢٨.
(٢) الإرشاد ٢ / ٢٨ ، وصحيح البخاري ٢ / ١٨٨ ، وسنن الترمذي ٥ / ٦١٥ ح ٣٧٧٠.
(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦ ، وكفاية الطالب / ٤٢٢ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.
(٤) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦١ ، ومسند أحمد ٤ / ١٧٢ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٦٥٨ ح٣٧٧٥.
(٥) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦١ ، وعيون أخبار الرضا ٢ / ٦٢.
(٦) سنن ابن ماجة ١ / ٥٦ ، والترمذي ٥ / ٦١٤ ح٣٧٦٨ ، وبحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٥.
(عزّ وجلّ) إلاّ ما أراد».
فلمّا حملت بالحسين عليهالسلام قال لها : «يا فاطمة ، إنّكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتّى أجيء إليكِ ولو أقمت شهراً». قالت : «أفعل ذلك». وخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله في بعض وجوهه ، فولدت فاطمة الحسين عليهالسلام ، فما أرضعته حتّى جاء رسول الله ، فقال لها : «ماذا صنعت؟». قالت : «ما أرضعته». فأخذه فجعل لسانه في فمه ، فجعل الحسين يمصّ حتّى قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «إيهاً حسين! إيهاً حسين!». ثمّ قال : «أبى الله إلاّ ما يريد ، هي فيك وفي ولدك» (١) ، يعني الإمامة.
٩ ـ إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان جالساً فأقبل الحسن والحسين عليهماالسلام ، فلمّا رآهما النبيّ صلىاللهعليهوآله قام لهما واستبطأ بلوغهما إليه ، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه ، وقال : «نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم الراكبان أنتما ، وأبوكما خير منكما» (٢).
كنيته وألقابه :
أمّا كنيته فهي : أبو عبد الله.
وأمّا ألقابه فهي : الرشيد ، والوفي ، والطيّب ، والسيّد ، والزكيّ ، والمبارك ، والتابع لمرضاة الله ، والدليل على ذات الله ، والسبط. وأشهرها رتبةً ما لقّبه به جدّه صلىاللهعليهوآله في قوله عنه وعن أخيه : «إنّهما سيّدا شباب أهل الجّنة». وكذلك السبط ؛ لقوله صلىاللهعليهوآله : «حسين سبط من الأسباط» (٣).
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٥٤ ، وراجع المناقب ٣ / ٥٠.
(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، راجع ذخائر العقبى / ١٣٠.
(٣) أعيان الشيعة ١ / ٥٧٩.
الفصل الثاني
مراحل حياة الإمام الحسين عليهالسلام
تنقسم حياة كلّ إمام من الأئمّة المعصومين عليهمالسلام إلى قسمين متميّزين :
الأوّل : من الولادة إلى حين استلامه لمقاليد الإمامة والولاية المناطة إليه من الله ، والمنصوص عليها على لسان رسوله والأئمّة عليهمالسلام أنفسهم.
والثاني : يبدأ من يوم تصدّيه لإدارة اُمور المسلمين والمؤمنين إلى يوم استشهاده.
وقد يشتمل كلّ قسم على عدّة مراحل حسب طبيعة الظروف والأحداث التي تميّز كلّ مرحلة.
ونحن ندرس الفترة الاُولى بجميع مراحلها وأهمّ أحداثها ـ وهي فترة الولادة حتّى الإمامة ـ في الفصل الثالث من الباب الثاني ، بينما ندرس الفترة الثانية بمراحلها المختلفة بشكل تفصيلي في الباب الثالث.
وينبغي أن نعرف أنّ الفترة الاُولى من حياة الإمام الحسين عليهالسلام كانت ذات أربع مراحل هي :
١ ـ حياته في عهد جدّه صلىاللهعليهوآله ، وهي من السّنة (٤) إلى (١٠) هجرية.
٢ ـ حياته في عهد الخلفاء الثلاثة ، وهي من السّنة (١١) إلى (٣٥) هجرية.
٣ ـ حياته في عهد الدولة العلوية المباركة ، أي منذ البيعة مع أبيه إلى يوم
استشهاده (صلوات الله عليه) ، وهي من السّنة (٣٥) إلى (٤٠) هجرية.
٤ ـ حياته في عهد أخيه الحسن المجتبى عليهالسلام وهي عشر سنوات تقريباً ، أي من أواخر شهر رمضان سنة (٤٠) هجرية إلى بداية أو نهاية صفر سنة (٥٠) هجرية حيث استشهد الحسن عليهالسلام ، وتصدّى هو للأمر من بعده.
وأمّا الفترة الثانية من حياته وهي التي تبدأ بعد استشهاد أخيه عليهالسلام وتنتهي باستشهاده بأرض الطفّ يوم عاشوراء سنة (٦١) هجرية ، فهي ذات مرحلتين متميّزتين :
١ ـ المرحلة الاُولى : مدّة حياته خلال حكم معاوية ، حيث بقي (صلوات الله عليه) ملتزماً بالهدنة التي عُقدت مع معاوية بالرغم من تخلّف معاوية عن كلّ الشّروط التي اشتُرطت عليه من قبل الإمام الحسن عليهالسلام ، وقد جسّد تمرّده على كلّ شروط الصلح بإيعاز السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن عليهالسلام ؛ ليتخلّص من رقيب مناهض ، ويزيل الموانع عن ترشيح ولده الفاسق يزيد.
٢ ـ المرحلة الثانية : وتبدأ بفرض معاوية ابنه يزيد حاكماً متحكّماً في رقاب المسلمين بعد موت أبيه ، وسعيه لأخذ البيعة من الحسين عليهالسلام للقضاء على المعارضة التي كان قد عرف جذورها أيام أبيه.
ومن هنا تبدأ نهضته التي كانت بركاناً تحت الرماد ، فانفجرت بانفجار الفسق والفجور وظهورهما على مسرح القيادة وجهاز الحكم ، فبدأ حركته من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق ، وتوّج صبره وجهاده بدمائه الطاهرة ودماء أهل بيته وأصحابه الأصفياء التي قدّمها في سبيل الله تعالى.
الفصل الثالث
الإمام الحسين عليهالسلام من الولادة إلى الإمامة
الإمام الحسين عليهالسلام في عهد الرّسول صلىاللهعليهوآله
في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآله والرسالة الإسلاميّة مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهما عليهمالسلام ، ومعاني ودلالات عميقة ؛ حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة ، ويتحمّل عبء الخلافة ، ومسؤولية صيانة الدين والاُمّة.
وكان لا بدّ لهذا البيت أن ينال القسط الأوفى ، والحظّ الأوفر من فيض حبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ورعايته واُبوّته ، فلم يدّخر النبيّ صلىاللهعليهوآله وسعاً أن يروّي شجرته المباركة في بيت عليّ عليهالسلام ، ويتعهّدها صباح مساء مُبيّناً أنّ مصير الاُمّة مرهون بسلامة هذا البيت وطاعة أهله ، كما يتجلّى ذلك في قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ علياً راية الهدى بعدي ، وإمام أوليائي ، ونور مَنْ أطاعني» (١).
وحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين عليهالسلام ؛ أخذ مكانته السّامية في قلب النبيّ صلىاللهعليهوآله وموضعه الرفيع في حياة الرسالة.
__________________
(١) حلية الأولياء ١ / ٦٧ ، ونظم درر السّمطين / ١١٤ ، وتاريخ ابن عساكر ٢ / ١٨٩ ح ٦٨٠ ، ومقتل الخوارزمي ١ / ٤٣ ، وجامع الجوامع ـ للسيوطي ٦ / ٣٩٦ ، ومنتخب الكنز ٦ / ٩٥٣ ح٢٥٣٩ ، والفصول المهمّة ـ لابن الصباغ / ١٠٧ ، وتاريخ الخلفاء ـ للسيوطي / ١٧٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٣٥ ، وكنز العمّال ٥ / ١٥٣ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٣٢٨ ح٣٨٧٤ ، واُسد الغابة ٢ / ١٢.
وبعين الخبير البصير ، والمعصوم المسدّد من السّماء وجد النبيّ صلىاللهعليهوآله في الوليد الجديد وريثاً للرسالة بعد حين ، ثائراً في الاُمّة بعد زيغ وسكون ، مُصلحاً في الدين بعد انحراف واندثار ، مُحيياً للسنّة بعد تضييع وإنكار ، فراح النبيّ صلىاللهعليهوآله يهيّئه ويعدّه لحمل الرسالة الكبرى مستعيناً في ذلك بعواطفه وساعات يومه ، وبهديه وعلّمه ؛ إذ عمّا قليل سيضطلع بمهام الإمامة في الرسالة الخاتمة بأمر الله تعالى.
فها هو صلىاللهعليهوآله يقول : «الحسن والحسين ابناي ، مَنْ أحبّهما أحبّني ، ومَنْ أحبّني أحبّه الله ، ومَنْ أحبّه الله أدخله الجّنة ، ومَنْ أبغضهما أبغضني ، ومَنْ أبغضني أبغضه الله ، ومَنْ أبغضه الله أدخله النّار» (١).
وهل الحبّ إلاّ مقدّمة الطاعة وقبول الولاية! بل هما بعينهما في المآل.
لقد كان النبي صلىاللهعليهوآله يتألّم لبكائه ، ويتفقّده في يقظته ونومه ، يوصي اُمّه الطاهرة فاطمة (صلوات الله عليها) أن تغمر ولده المبارك بكلّ مشاعر الحنان والرفق (٢).
حتّى إذا درج الحسين عليهالسلام صبيّاً يتحرّك شرع النبيّ صلىاللهعليهوآله يُلفت نظر النّاس إليه ، ويهيّئ الأجواء لأن تقبل الاُمّة وصاية ابن النبيّ صلىاللهعليهوآله عليها ، فكم تأنّى النبيّ صلىاللهعليهوآله في سجوده والحسين يعلو ظهره صلىاللهعليهوآله ؛ ليظهر للاُمّة حبّه له ، وكذا مكانته ، وكم سارع النبيّ يقطع خطبته ليلقف ابنه القادم نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره (٣)؟ كلّ ذلك ليدلّ على منزلته ودوره الخطير في مستقبل الاُمّة.
__________________
(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦ ، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليهالسلام ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.
(٢) مجمع الزوائد ٩ / ٢٠١ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٩١ ، وذخائر العقبى / ١٤٣.
(٣) مسند أحمد ٥ / ٣٥٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٣ ، وكنز العمال ٧ / ١٦٨ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٦١٦ ح٣٧٧٤.