

بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة المركز
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة
والسلام علىٰ أشرف مبعوث للعالمين ، نبينا محمد المصطفىٰ وعلىٰ آله الطيّبين الطاهرين ، ومن أخلص لهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلىٰ يوم الدين. وبعد :
فقد أصبح من البداهة والضرورة بمكان أنّ
أيّ قائدٍ من القوّاد ـ المخلصين لمبادئهم وشعوبهم ـ لا يعقل أن يترك أُمّته وأتباعه من بعده هملاً وبلا راع... ولذا نراهم ـ دائماً ـ يفكّرون في من يخلفهم عند غيابهم ـ حتىٰ في المدة القصيرة ـ ليقوم بالوظائف والمهام اللازمة.
وإذا كان ترك الأُمّة سدىً من سائر
القادة مستحيلاً ، كان ذلك من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
مستحيلاً بالأولوية القطعية ، فإنّه سيد العقلاء
وأشرف المخلوقين من
الأولين والآخرين ، وشريعته أفضل الشرائع ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
إذن ، لابدّ من خليفةٍ له يخلفه في
أُمّته ، ولابدّ أيضاً من أن يكون هو ـ قبل غيره ـ المهتمّ بهذا الأمر.
لاشك وأن الأُمّة يوم فقدت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت تتذكّر
ما رأته وما سمعته من خلال أيام رسالته في هذا المجال ، لا سيّما أيامه الأخيرة حيثُ أوصىٰ بأشياء ، فإنّهم كانوا يحفظون وصاياه تلك ـ في الأقل لقرب العهد بها ـ وهي الوصايا التي ما زالت الأُمّة تحتفظ بها حتىٰ يومنا هذا.
فهل كان الذي سمعوه منه وحفظوه هو ( النص
) علىٰ واحدٍ معيّنٍ من بعده ، أو ترك الأمر إلىٰ الأُمّة نفسها لتختار له خلفاً يقوم بوظائفه وشؤونه ؟
وعلىٰ الجملة ، فهل الأساس في
الإمامة والخلافة ـ علىٰ ضوء الكتاب والسُنّة ـ هو ( النص ) أو ( الشورىٰ ) ؟
ولكنا إذا ما عدنا إلىٰ خلفيات
الواقع التاريخي لمسألة الخلافة في الإسلام ، ودرسناها بحياد تام ؛ لوجدناها قد حسمت بعيداً عن كلا الأمرين وذلك بإجراء سريع عاجل علىٰ أثر مبادرة جماعة من الأنصار مع نفر قليل من المهاجرين إلىٰ اجتماع السقيفة في وقت انشغال المسلمين وعلىٰ رأسهم أهل البيت عليهمالسلام
وبنو هاشم كلهم
بتجهيز النبي الأعظم
صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وإلقاء النظرة الأخيرة علىٰ الجسد المطهّر العظيم ومن ثم مواراته الثرىٰ في موكب حزين.
ومع قلّة المجتمعين في السقيفة فإنّ
مادار بينهم لم يسفر عن رضا الجميع ولا عن اتّفاقهم أو تشاورهم ، بل تطاير الشرُّ فيها ، وكانت بيعتهم ـ كما قال عمر ـ ( فلتة وقىٰ الله شرّها ).
وهذا يعني أنّ الشورىٰ لم تتحقق
بين أصحاب السقيفة أنفسهم فضلاً عمن غاب عنها ورفضها كأهل البيت عليهمالسلام
، وأصحابهم ، وبني هاشم كلهم ، والامويين أيضاً كما يدلّ عليه موقف عميدهم ، فهذا هو الواقع التاريخي الذي ساد بعد اجتماع السقيفة.
ولأجل صيانته ، والحفاظ علىٰ كرامة
السلف الماضين حاولت طائفة التنظير لمسألة الخلافة من خلال ذلك الواقع فتشبثت بالشورىٰ ، لكن لما اصطدمت بالواقع التاريخي الذي أشرنا إليه ، عادت إلىٰ النص...
وحينئذٍ يأتي البحث عن من هو ( المنصوص
عليه ) من قبل الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟
وهذا الكتاب الذي نقدّمه باعتزاز
إلىٰ القراء قد أُجريت فيه موازنة دقيقة ، وحوار علمي بين منطق أصحاب ( الشورىٰ ) وبين منطق أصحاب ( النص والتعيين ) ، مع إيراد أقوىٰ ما يمتلكه الطرفان من الأدلة ومناقشتها بحياد وموضوعية ، مع بيان أي من المنطقين هو
المتماسك وأيُّهما
المتهافت.
نترك للقارئ والباحث حريّة اختيار ما
توصل إليه البحث من نتائج في ضوء استخدام المصادر المعتبرة ، مع أصالة المنهج المتبع ، وقوة التحليل.
والله الهادي إلىٰ سواء السبيل
مركز الرسالة
تمهيد
لا تزال مشكلة ( أساس نظام الحكم في
الإسلام ) تُعدّ من اُمّهات المشاكل التي لم يُحسم فيها القول بين المسلمين بعد..
إنّها واحدة من المشاكل الكبرىٰ التي
تعرّضت دائماً لإشكالات الرُؤىٰ المذهبية ، شأنها شأن أخواتها من المشكلات
التاريخية والعقيدية.
ليس النزاع في أصل النظام ، فإنّ أحداً
لا يستطيع أن يتصوّر أُمّة تحيا بلا نظام ، ونظاماً يسود بلا قيادة..
وقديماً تحدّث الفقهاء وفلاسفة السياسة
المدنية عن هذا الأصل :
ـ فأحمد بن حنبل يُعرّف الفتنة بأنها
حال الاُمّة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس.
ـ وتحدّث المسعودي عن حاجة الدين
إلىٰ الملك ، وحاجة الملك إلىٰ الدين ، ورأىٰ أنّه لا غنىٰ لأحدهما عن الآخر..
ـ ورأىٰ ابن حزم أنّ ذلك معلوم
بضرورة العقل وبديهته ، وأنّ قيام الدين ممتنع غير ممكن إلاّ بالاسناد إلىٰ واحد يكون علىٰ رأس هذا النظام.
ـ وعبّر ابن خلدون عن هذا النظام بأنّه
قوانين سياسية مفروضة يسلّمها الكافة وينقادون إلىٰ أحكامها ، فإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولم يتم استيلاؤها (
سُنَّةَ
اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ
).
وقبل هذا كلّه قد تعامل المسلمون مع هذا
الأصل كضرورة واقعية إثر وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أما النزاع الدائر فهو في أساس ذلك
النظام.. في الاسلوب الذي يقود رأس النظام إلىٰ موقع الرئاسة..
لقد حاول البعض علىٰ امتداد
تاريخنا السياسي التركيز علىٰ نظرية الشورىٰ أصلاً في النظام ، مستنداً علىٰ أمثلة تاريخية معدودة ، صاغ
منها اُنموذجاً للشورىٰ في الإسلام.
وتناولت ذلك كتب العقائد والأحكام
السلطانية ثم تقدّمت به خطوة أُخرى إلىٰ أمام لتنتزع لهذه النظرية أصالتها من مصادر التشريع الإسلامي ؛ القرآن والسُنّة.. لتكتسب نظرية الشورىٰ بعد ذلك أصالة دينية متقدمة علىٰ شهودها التاريخي ، بل ومبرّرة له.
وكلّ ذلك يدور حول الخلافة الاُولى
للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم..
فشكّل الاتجاهان ـ دراسات التاريخ السياسي ، والدراسات العقيدية ـ وحدة موضوعية كافحت علىٰ امتداد هذا الزمن الطويل من أجل تدعيم تلك النظرية وتأصيلها..
لكن هل استطاعت هذه المسيرة المتوحّدة
أن تُقدّم الكلمة الأخيرة في الموضوع ، وتضع الحل الحاسم للأسئلة التي تثار حوله ؟
هل استطاعت أن تثبت أصالة الشورىٰ
طريقا إلىٰ خلافة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟
هل استطاعت أن تثبت ما هو أوسع من ذلك ؛
أصالة الشورىٰ في حل
مشكلة النظام
السياسي في الإسلام ؟
هل استطاعت أن تنفي الاُطروحات الاُخر
المزاحمة للشورىٰ ، من قبيل : النصّ ، والغلبة وغيرها ؟
ما هو مستوىٰ النجاح الذي حققّته
في كلِّ واحد من هذه الميادين ؟
وماذا عن قدرة الاطروحات الاُخرىٰ
علىٰ منازعة نظرية الشورىٰ والحلول محلّها بديلاً في تعيين أساس نظام الحكم في الإسلام ؟
مواضيع عديدة تتفرّع عن هذه الأسئلة
الكبيرة تبنّىٰ هذا البحث المقتضب دراستها ومناقشتها ، مناقشة موضوعية عُمدتها البرهان العلمي والدليل الحاسم ، بعيداً عن الالتفاف علىٰ النصوص ، وتحويل القطعي إلىٰ ظنّي ، والصريح إلىٰ مؤوّل ، والخاص إلىٰ العام ، والصحيح
إلىٰ ضعيف ، ونحو ذلك من أساليب الجدل..
ويقع البحث في قسمين رئيسيين ؛ يتناول
القسم الأول نظرية الشورىٰ من جميع وجوهها ، فيدرس الشورىٰ في القرآن والسنة ، ثم الشورىٰ في واقعها التاريخي وفي الفقه السياسي ، مع أهم ما يتّصل بهذه العناوين من مباحث.
فيما يتناول القسم الثاني ( نظرية النصّ
) وفق المنهج نفسه ، مستوفياً ما يتعلّق بهذا الموضوع بحثاً ونقداً.
ليخلص إلىٰ النتيجة التي يقررّها
البحث في كلا قسميه..
والله المسدّد للصواب

الشورىٰ
في الكتاب والسُنّة
ثلاثة نصوص في القرآن الكريم تتحدث عن
الشورىٰ ، ولكن علىٰ مستويات مختلفة :
النصّ الأول :
قوله تعالىٰ في شأن الرضاع : ( وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ...
فَإِنْ
أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
) .
وهذا حديث في أجواء الاُسرة الواحدة ، يتشاور
الأبوان في شأن وليدهما الرضيع ، هل تُتمّ اُمّه رضاعه إلىٰ الحولين ، أم تفصله عن الرضاع ؟ تفاهم ثنائي في مسألة علىٰ ضوء المعرفة بحال الأم وحال الرضيع ، وجوّ الاُسرة العامّ ، ينتهي إلىٰ قرار مشترك لا إكراه فيه.
وربما النتهىٰ قرارهما بعد
التشاور إلىٰ أن يسترضعا له مرضعة غير اُمّه ( وَإِنْ
أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ )
.
__________________
فهذه الآية الشريفة تعالج قضيّةً من
قضايا الاُسرة ، وما يتعلّق منها بالرضيع خاصّة ، ضماناً لمصلحته ، وحفاظاً علىٰ سلامة الجوّ الاُسري الذي قد يحطّمه استبداد أحد الزوجين بالامر كلّه .
النصّ الثاني :
في الحديث عن غزوة اُحد وما انتهت إليه
من هزيمة القسم الأعظم من جيش المسلمين وتركهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع بضعة نفر من أصحابه يكافحون العدوّ لوحدهم ، ممّا هو مدعاة لإشعارهم بتقصيرهم الشديد وذنبهم الكبير الذي ارتكبوه ، خصوصاً وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يخرج إلىٰ اُحد إلاّ برأيهم ورغبتهم وإلحاحهم ، لكنّ الذي وجدوه من النبيّ القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم هو عكس ما يظنّون ممّا هو معتاد لدىٰ القادة إزاء الجند المنهزم عن قائده ساعة الحرب ! وجدوا منه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليناً معهم وإكراماً زادهم شعوراً بالتقصير حين لم يلجئهم إلىٰ التماس الأعذار ، أو التذلّل.
فبارك الله تعالىٰ هذا الخُلق
الكريم ، وهذا السلوك الحكيم ، إذ جاء التنزيل : ( فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )
فإنّما كان
لينك معهم وغضّك عن ذنبهم برحمة من الله تعالىٰ ، وأيّ رحمة ، أيّ رحمةٍ هذه التي جعلتك تلين لجند أخرجوك إلىٰ القتـال برأيهم ، فلمّا حمي الوطيس فرّوا عنك ونجوا بأنفسهم ؟!
وإتماما لهذه الرحمة الواسعة ، تنزّل
الأمر الالهي بما يدعو إلىٰ إعادة __________________
المجتمع الاسلامي
إلىٰ تماسكه الأوّل ، بل أكثر ، وإعادة هذا الرعيل الكبير إلىٰ موقع إجتماعي طبيعي يستطيع من خلاله أن يستأنف نشاطه ويصحح عثرته ، فقال تعالىٰ : (
فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ )
فلم تقف
الرحمة عند اللين والعفو والاستغفار ، بل امتدت إلىٰ مشاورتهم في الاُمور التي تصحّ المشاورة فيها ، عندئذٍ فقط سيجدون أنفسهم أعضاء فاعلين في هذا البناء الاجتماعي الذي ينشده الإسلام.
لكنّ التنزيل لم يترك الأمر بالمشورة
مرسلاً ، بل وضع له نظاماً واضح المعالم ، فالنبيّ القائد المستشير حين يعزم علىٰ أمرٍ فيه الصواب والصلاح ينبغي أن ينفذ فيه ، سواء كان موافقاً لآراء المستشارين أو مخالفاً لها : ( فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
) .
موضوع الشورىٰ
وأهدافها
الشورى التي دعت إليها هذه الآية
الكريمة ما هو موضوعها ، وما هي أهدافها ، بعد أن عرفنا أنّ الشورىٰ في المورد الأوّل كان موضوعها الرضاع ، وأهدافها : ضمان مصلحة الرضيع ، وسلامة المحيط الاُسري ؟
إنّ الشورىٰ هنا مختلفة عن الاُولى
، فالمستشير هنا هو النبيّ القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم
، والمستشار هم جمهور الناس من أصحابه.
فما هي الاُمور التي كان صلىاللهعليهوآلهوسلم مدعوّاً
لاستشارتهم فيها ؟ أهي أمور الدين ، أم اُمور الدنيا ؟
__________________
ولأي شيءٍ هذه المشورة ، ألأجل أن
يستنير بآرائهم ويهتدي بها إلىٰ الصواب ؟ أم ماذا ؟ للمفسّرين هنا كلام تتّفق معانيه وأدلّته كثيرا ، وتختلف قليلاً ، فممّا اتّفقوا فيه كلامهم في حدود الاجابة علىٰ سؤالنا الأوّل ؛
أيّ الاُمور هذه التي يستشيرهم فيها ؟
قال الشوكاني ـ وقوله جامع لأقوال
المفسّرين ـ : إن المراد أيّ أمرٍ كان ممّا يشاوَر في مثله ، أو في أمر الحرب خاصّة كما يفيده السياق... والمراد هنا المشاورة في غير الاُمور التي يرد الشرع بها .
فالمشاورة إذن ليست في أمور الدين
والأحكام ، فهذه من شأن التنزيل وحده ، وليست محلاًّ للرأي والنظر.
فموضوع المشاورة إذن هو أمور الدنيا ، وقد
تقدّم أنّ السياق يدلّ علىٰ أنّ المراد هو شأن الحروب وخططها ، وليس السياق وحده يدلّ علىٰ هذا ، بل التاريخ أيضاً أثبت أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد استشار أصحابه في بعض شؤون الحرب ، كالذي حدث في اختيار لقاء العدوّ يوم بدر ، وفي اُسارىٰ بدر ، وفي الخروج إلىٰ اُحد ، وفي الخندق.
أمّا وراء شؤون الحرب ، فإن حصل فنادرٌ
جدّاً ، وحتىٰ شؤون الحرب لم تكن كلّها خاضعة للشورىٰ ، بل كان قرار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في اختيار
الحرب وتحديد مكانها وزمانها حاسماً وسابقاً لأيّ مستوىٰ من مستويات الشورىٰ ، وهو قرار باق وحاكم حتّىٰ لو كثر فيه الخلاف ، كما هو واضح جدّاً في بعثة اُسامة ، وفي اختيار زيد بن حارثة أميراً علىٰ جيش مؤتة ولو __________________
بعد جعفر بن أبي
طالب ، وفي عقد الصلح في الحديبية مع مشركي قريش ، وغير ذلك كثير.
وسوف يُطلّ علينا البحث في أهداف هذه
الشورىٰ بمزيد من الوضوح في موضوع الشورىٰ ومساحتها.
أمّا أهداف هذه الشورىٰ :
فتطالعنا بها أحاديث مرفوعة إلىٰ النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وأقوال لقدماء المفسّرين أو متأخّريهم.. ومن مجموع ما ورد يظهر لهذه الشورىٰ بعدان :
البعد الأول :
نكتشفه في النصوص الآتية :
ـ عن قتادة ، قال : أمر الله نبيّه أن
يشاور أصحابه في الاُمور ، وهو يأتيه وحي السماء ، لأنّه أطيب لأنفس القوم ، وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضاً وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم علىٰ الرشدة .
إنّه إذن أمر للقائد أن يشاور قومه
وأصحابه ، لما في ذلك من المنافع المذكورة.
ـ وعن الحسن ، قال : قد علم الله أنّه
ما به إليهم من حاجة ، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده .
فهي إذن سنّة من السنن المُلزمة للقائد
، مارسها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليكون من __________________
بعده من القادة أولىٰ
بممارستها والرجوع إليها.
ـ قال الرازي : ليقتدي به غيره في
المشاورة ، ويصير سنّة في اُمّته .
فنحن مازلنا في دائرة واحدة ، وهي دائرة
الشورىٰ التي يمارسها القائد في تخطيطه السياسي والاجتماعي والتنظيمي ، مع قواعد شعبية واسعة ، أو مع طليعة ممتازة ، أو مع واحد تميّز بخبرة خاصّة في شأن من الشؤون التي يمكن أن تتسع لها الشورىٰ ، من غير الاحكام والتشريعات وما تخصّصت النصوص الشرعية في بيانه.
إذن نحن إزاء شورىٰ يمكن أن نطلق
عليها اسم ( شورىٰ الحاكم ).
هل
اتّخذت هذه الشورىٰ نظاماً ثابتاً ؟
منذ أن نزلت هذه الآية الكريمة وحتّىٰ
وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، هل اتّخذت الشورىٰ شكلاً معيناً ونظاماً ثابتاً ؟
ومن جميع أمثلة الشورىٰ وتطبيقاتها
ـ ومعظمها في شؤون الحرب ـ نجد أنّ النبي القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يختار للمشورة أحياناً من يشاء ، وأحيانا يستمع إلىٰ مشير يبدي رأيه ابتداءً ، دون أن ينتخب أشخاصاً بأعيانهم للمشاورة في النوازل..
ـ فيوم الخندق ؛ أشار عليه سلمان
الفارسي رضياللهعنه
بحفر خندق حول المدينة ، فأخذ برأيه ، وأمر بحفر الخندق ، فحُفر ، وعاد علىٰ الإسلام والمسلمين بكلِّ خير.. .
__________________
ـ وأيّام الخندق ذاتها ؛ أراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يفتّ في
عضد الاحزاب ويفرّق شملهم ليخفّف علىٰ أهل المدينة ضنك الحصار ، بأن يصالح كبير غطفان عيينة بن حصن علىٰ سهم من ثمر المدينة لينسحب بمن معه من غطفان وهوازن ويخذل الأحزاب ، فدعا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لذلك الأمر سيّدي الأوس والخزرج من الأنصار : سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فاستشارهما في ذلك ، فقالا : يا رسول الله ، إن كنت اُمرتَ بشيء فافعله وامضِ له ، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلاّ السيف.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «لم اُؤمر بشيء ، ولو اُمرت بشيء ما شاورتكما.. بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلاّ لأنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كلِّ جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلىٰ أمرٍ ما ». وسُرّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقولهما ، فقال لعيينة بن حصن ، ورفع صوته بها « ارجع ، فليس بيننا وبينكم إلاّ السيف » .
وفي هذا كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد اختبر
صبر الانصار وثباتهم وصدق إيمانهم.
كما كشف هذا الحوار صراحةً أنّه لا محلّ
للشورىٰ في ما كان عن أمر من الله ورسوله.
ـ وفي حدثٍ ثالث كان المستشار علي عليهالسلام وزيد بن حارثة ، ذلك
حين كان حديث الإفك.
ـ وفي حدثٍ رابع استمع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلىٰ مشورة
امرأة واحدة ، هي اُمّ __________________
المؤمنين اُمّ
سَلَمة ، ذلك يوم الحديبية ، بعد إمضاء الصلح ، إذ أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي الذي ساقوه ، فلم ينحر أحد ، فبان الغضب بوجه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعاد إلىٰ خيمته ، فقالت له اُمّ سَلَمة ، لو نحرتَ يا رسول الله ، لنحروا بعدك.. فنحر صلىاللهعليهوآلهوسلم هديه ، فنحروا
بعده .
هذه هي أشهر نماذج الشورىٰ التي
يعرضها التاريخ ، بغضّ النظر عن صحّة أسانيدها أو ضعفها ، منذ نزلت آية الشورىٰ هذه حتّىٰ قُبض النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم..
فليس هناك شيء أكثر ممّا كان قبل نزولها.. وليس هناك نظام محدّد ، ولا أشخاص معيّنون.. ليس هناك أثر لما دعاه البعض ( هيئة العشرة )..
تلك هيئة ليس لها أثر أيّام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّها ، ولا
استطاع مدّعيها
أن يأتي بشاهد تاريخي واحد علىٰ وجودها في أيام النبيّ ، ولا يستطيع أن يأتي بشاهد واحد يؤيّدها من حياة أبي بكر كلّها وحياة عمر كلّها ، حتّىٰ اختياره الستة المعروفين لشورىٰ الخلافة !
وأضعف من هذه الدعوىٰ ما جاء في
محاولة البرهنة عليها من أشياء متكلَّفة ، واُخرىٰ لا واقع لها ، واُخرىٰ تفيد نفيها بدلاً من
إثباتها !
ومن أنكر وأغرب ما استدلّ به ، وهو يراه
أقوىٰ أدلّة الإثبات ، ثلاثة أشياء ، هي :
__________________
الأول :
قوله : يتحدّث سعيد بن جبير عن هذه الحقيقة الهامّة ، فيقول : ( وكان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن بن عوف وسعيد بن زيد ، كانوا أمام رسول الله في القتال ووراءه في الصلاة ). ثم يستنتج من هذا القول أنّ هؤلاء العشرة لم يكونوا فقط وزراء الرسول ومجلس شوراه ، وانّما كانوا يديمون الوقوف خلفه مباشرة في الصلاة ، كما يلتزمون الوقوف أمامه عند الحرب والقتال !!
إننا بغضّ النظر عن صحّة نسبة مثل هذا
القول إلىٰ سعيد بن جبير ، أو عدمها ، لو سألنا الباحث أن يكتشف لنا حرباً واحدةً فقط من حروب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقف فيها هؤلاء العشرة أمام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقت القتال ، لعاد بعد بحث طويل في خيبة أمل !
الثاني :
قوله : هؤلاء العشرة فيهم أوّل ثمانية دخلوا في دين الإسلام ، فهم أوّلون في الإسلام ، ومهاجرون ..
وهذا كلام مع ما فيه من تهافت فهو دعوىٰ غير صحيحة أيضاً.. فهل كان سبق الثمانية إلىٰ الإسلام هو الذي رفع الاثنين الآخرين ؟!
ثمّ أين هذا السبق ، وكلّهم ـ ما خلا
عليّ ـ مسبوق ؟! إنّهم ، غير علي ، مسبوقون إلىٰ الإسلام ، سبقتهم خديجة ، وجعفر بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأخوه عثمان ، وسبقهم زيد بن حارثة ، وسبقهم أبو ذرّ الغفاري خامس الإسلام ، وسبقهم آخرون .
__________________
الثالث :
وهو أكثرها نكارة ، ما نقله عن المستشرق فان فلوتن ، بعد أن قدّم له بسؤال مثير ، فقال : ( ولكن هل خرجت الشورىٰ علىٰ عهد رسول الله من النطاق الفردي غير المنظّم ، إلىٰ نطاق التنظيم المحكوم بمؤسّسة من المؤسّسات ) ؟
فلمّا لم يجد لهذا التساؤل الهام جواباً
من التاريخ ، تعلّق بالخطأ الذي وقع فيه فان فلوتن لسوء فهمه لمفردات العربية ، فحين قرأ عن أصحاب الصفّة وهم المقيمون في المسجد علىٰ صفّة كبيرة فيه ، والبالغ عددهم سبعين رجلاً ، ظن أنّ الصفّة تعني ( الصفوة ) ! فظنّ أنّ صفوة الصحابة كانوا سبعين رجلاً لا يفارقون المسجد كمؤسّسة استشارية تتّخذ من المسجد مقرّاً لها ، ولم يفهم أنّ أصحاب الصفة هؤلاء هم أضعف المسلمين حالاً ، لا يملكون مأوىً لهم فاتخذوا المسجد مأوىٰ !!
وليس هذا بمستغرب من مستشرق لا يتقن
العربية ، ولا تعنيه فداحة الخطأ العلمي بقدر ما يعنيه الادلاء برأيه.. لكنّ المستغرب أن يأتي باحث كبير كالشيخ محمد عمارة فيعتمد هذا الخطأ العلمي مصدراً لتثبيت قضية هامّة كهذه ، قائلاً : ( نعم ، فهناك ما يشير إلىٰ وجود مجلس للشورىٰ في
عهد الرسول كان عدد أعضائه سبعين عضواً ) ويصرّح أن مصدره فان فلوتن !
أنتم
أعلم باُمور دنياكم !
هذا وجه آخر من وجوه تفسير مشاورة
الرسول أصحابه : إنّ علوم الخلق متناهية ، فلابدّ أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر __________________
بباله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا سيّما في
ما يُفعل من اُمور الدنيا ، ولذلك قال : « أنتم أعلم بأمور دنياكم »
!
لكنّ هذا وجه مردود من أوّل نظرة ،
حتىٰ علىٰ فرض صحّة الحديث « أنتم أعلم بأمور دنياكم ».. ذلك أنّ هذا كان في واقعة محدّدة ، هي قضية تأبير النخل في عام من الأعوام ، وقضية مثل هذه لا تدخل في شؤون النبوّة ولا في شؤون القيادة السياسة والاجتماعية ، فلم يكن قائد من قوّاد الاُمم مسؤولاً عن نظام تأبير النخل ! أو عن إصلاح شؤون بيوت الناس من ترتيب أثاثها وترميم قديمها ! أو كيفية خياطة الثياب ! أو طريقة رصف السلع في الأسواق !
هذه هي أمور دنيا الناس التي يباشرونها
بأذواقهم وبخبراتهم الخاصة الخاضعة لظروفها الزمانية والمكانية.
أمّا أن يقال إنّ من الناس من هو أعلم
من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بشؤون سياسة الدولة ، وأقدر منه علىٰ تقدير مصالحها وحفظها ، فهذا من الفكر الشاذّ الذي لا يستقيم ومبادئ الإسلام.
فمن المستنكر جدّا أن يستفاد من حديث « أنتم
أعلم باُمور دنياكم » انّهم أعلم منه بسياسة البلاد وبتخطيط النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية !
إنّه لا يتجاوز في معانيه تلك الأمثلة
المتقدّمة في شؤون الناس الخاصّة التي يتعاهدونها بأنفسهم ، وليس القائد ـ نبيّاً أو غيره ـ بمسؤول عن __________________
تنظيمها.
إذن فخلاصة ما وقفنا عليه في هذا البعد
الأول : أنّ الشورىٰ التي اُمر بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وزاولها إنّما هي شورىٰ الحاكم ، القائد ، يشاور من يشاء من أهل الخبرة أو أهل الصلة المباشرة بالأمر ، وليس هناك ما يشير من قريب أو بعيد إلىٰ اعتماد الشورىٰ في تعيين رأس النظام السياسي والاجتماعي في الإسلام ، هذا حتّىٰ لو تحقّق في التاريخ وقوع مشاورة في ما يتّصل بخطط سياسية أو اجتماعية.
البعد الثاني :
ثمّة بُعد ثانٍ للشورىٰ هو أبعد
من الأوّل عن شؤون النظام السياسي ؛ إنّه البعد الاجتماعي ، المتمثّل بمزاولة الناس للشورىٰ في شؤونهم الخاصّة ، ولم نقل إنّها ذات بعد شخصي فقط ، ذلك لأنّها علاقة بين طرفين ، المشير والمستشار ، وعلىٰ الثاني مسؤوليته في النصح والصدق والأمانة ، فعادت علاقة اجتماعية ، ذات أثر اجتماعي هامّ.
ـ فقد روىٰ ابن عباس أنّه لما
نزلت ( وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ )
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكن جعلها الله تعالىٰ رحمةً لاُمّتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ، ومن تركها لم يعدم غيّا » .
فلم يكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم محتاجاً
إلىٰ الشورىٰ في اُمور الدنيا ليستنير برأيٍ ويهتدي إلىٰ صواب ، بل كان غنيّاً عن ذلك ، وإنّما هي رحمة للعباد لئلاّ يركبوا رؤوسهم في شؤونهم وأعمالهم ويتمادوا بالغطرسة والاعتداد __________________
بالرأي الذي يوردهم
المهالك ! ويوضّحه الحديث الشريف : « ما تشاور قوم قط إلاّ هدوا وأرشدَ أمرُهم » .
والحديث الشريف : « استرشدوا العاقل
ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا » .
وقد ورد حديث كثير في الحثّ علىٰ المشورة
بهذا المعنىٰ ، وحديث يخاطب المستشار بمسؤوليته : « المستشار مؤتمن » .
« من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده
فقد خانه » .
هذا البعد الاجتماعي للشورىٰ هو
الذي يبرز في خطاب النصّ الثالث من نصوصها..
النصّ الثالث :
قوله تعالىٰ : ( وَأَمْرُهُمْ
شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) .
جاءت هذه الآية الكريمة ضمن سياق عام
يتحدّث عن خصائص المجتمع الأمثل ، قال تعالىٰ :
(
... وَمَا
عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ * __________________
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ
*
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ
إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ
) .
فهي ناظرة إلىٰ ظواهر يتميّز بها
المجتمع الإسلامي التي تمثّل أهداف الإسلام وآدابه ، فمع ما يتحلّون به من الايمان ، وحسن التوكّل علىٰ الله تعالىٰ ، واجتناب الكبائر والفواحش ، والعفو والمسامحة ، والاستجابة لأمر ربّهم ، واحياء الصلاة ، وردّ البغي والعدوان ، فهم أيضاً ( شأنهم المشاورة بينهم.. ففيه الإشارة إلىٰ أنّهم أهل الرشد واصابة الواقع ، يمعنون
في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول. فالآية قريبة المعنىٰ من قوله تعالىٰ : (
يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
) ) .
وعلىٰ هذا انطلق المفسّرون في
ظلال هذا النصّ يتحدّثون عن استحباب مشاورة الناس لمن أهمّه أمر ، والاسترشاد بعقول الآخرين وآرائهم الناضجة ، دائرين في دائرة ذلك البعد الاجتماعي الذي تقدّم آنفاً..
« ما تشاور قوم قطّ إلاّ هُدوا وأرشد
أمرهم ».
« استرشدوا العاقل ترشدوا ، ولا تعصوه
فتندموا ».
« من أراد أمرا فشاور فيه ، اهتدىٰ
لأرشد الاُمور » .
__________________
شورىٰ الحاكم
أيضاً :
في حديث واحد ممّا قيل في ظلال هذا
النصّ ، أخرجه السيوطي ، منسوب إلىٰ عليّ عليهالسلام
قال : « قلتُ : يا رسول الله ، الأمر ينزل بنا بعدك ، لم ينزل فيه قرآن ، ولم يُسمَع منك فيه شيء ؟
قال : اجمعوا له العابد من اُمّتي ، واجعلوه
بينكم شورىٰ ، ولا تقضوه برأي واحد » .
والبحث فيه علىٰ فرض صحّته ، علماً
أنّه لم يرد في شيء من مصادر الحديث المعتمدة..
فهو حديث عن أمر لم ينزل فيه قرآن ، ولم
يرد فيه شيء عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ممّا قد يستجدّ بعده من اُمور لم يكن لها موضوع ، أو ضرورة تدعوه لطرقها وتقديم الإرشاد فيها.. وهذا موضوع عام لسائر مستجدّات الحياة المدنية والاجتماعية والتنظيمية..
ثمّ يأتي جواب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه موجّها
إلىٰ جهة تتولّىٰ مهامّ القيادة ، وتقع عليها مسؤولية الحكم : « اجمعوا له العابد من اُمّتي » فهناك جهة مسؤولة هي التي تتولّىٰ مهمّة جمع الصالحين من المؤمنين للمشاورة.
أمّا إذا كان الأمر قد ورد فيه شيء عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقوله نافذ ، ولا محلّ للشورىٰ والرأي فيه.
والبحث في هذا الحديث انما كان
علىٰ فرض صحته ، والثابت أنّه لم __________________
يصحّ وليس له أصل ، قال
فيه ابن عبد البر : هذا حديث لا أصل له ! وقال الدارقطني : لا يصحّ ! وقال الخطيب : لا يثبت عن مالك !
__________________
الشورىٰ
في التاريخ والفقه السياسي
الذي يتركّز عليه البحث في التاريخ وفي
الفقه السياسي هو موضوع الشورىٰ في اختيار الحاكم ( خليفة الرسول ).
وقد ثبت في البحث المتقدّم أنّ شيئاً ما
لم يرد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ممّا يمكن أن يُلتمس منه ايكال أمر اختيار خليفة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ الشورىٰ ، بل الأدلة المتقنة من الكتاب والسُنّة قائمة علىٰ عدم إيكاله إلىٰ أحدٍ
من الأُمة مطلقا. ومما يشهد بذلك أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما عرض الإسلام علىٰ القبائل اشترط عليه بعضهم أن يكون الأمر لهم من بعده ، فرفض في تلك الظروف الصعبة هذا الشرط قائلاً : « إنَّ الأمر لله يضعه حيثُ يشاء » .
وعدم ورود شيء عن النبيّ في هذا الموضوع
، قضية مفروغ منها ، متّفق عليها ، لا نزاع فيها.. فمتىٰ ولد التفكير في اسناد هذا الامر
إلىٰ الشورى ؟
أول ظهور لمبدأ
الشورىٰ
هذا أمر اثبته أصحاب التاريخ وأصحاب
الحديث ، بلا نزاع فيه ولا خلاف.. اتفقوا علىٰ أنّ ذلك مبدأ سنّه عمر بن الخطاب قبل وفاته ، وليس __________________
له قبل هذا التاريخ
أثر..
قال القرطبي ، بعد كلام في استحباب
الشورىٰ : ( وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافةَ ـ وهي أعظم النوازل ـ شورىٰ ) .
وقال ابن كثير : ( وَأَمْرُهُمْ
شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) أي لا يبرمون أمرا حتّىٰ يتشاوروا فيه ، ليتساعدوا بآرائهم ، في مثل الحروب وما جرىٰ مجراها ، كما قال تبارك وتعالىٰ : (
وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ ) ولهذا كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيّب بذلك قلوبهم. وهكذا لمّا حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورىٰ .
فانظر إلىٰ هذا التحوّل الكبير في
المدىٰ الذي حدث قبل وفاة عمر ، ولم يكن له قبلها أثر ! أمّا كيف حدث هذا التحوّل الكبير ؟ وتحت أيّ دافع ؟
فهذا سؤال هام أجاب عنه عمر بن الخطاب
بنفسه في ذات الوقت الذي جعل فيه الخلافة شورىٰ ، ذلك في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وأخبارها ، ثم قال : ( لا يغترنّ أمرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا إنّها قد كانت كذلك ، ولكن وقىٰ الله شرّها ! فمن بايع
رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرّةً أن يُقتلا ) .
__________________
أمّا سبب هذه الخطبة التي أفرزت (
الشورىٰ ) مبدءاً في اختيار الخليفة لأوّل مرّة ، فيحدّثنا عنه القسطلاني وهو يفكَ ألغازها..
فبعد أن يأتي باسنادها الذي أورده
البخاري عن ابن عباس ، وفيه أنّ عبدالرحمن بن عوف جاء إلىٰ ابن عباس في موسم الحجّ وكان يتعلّم عنده القرآن ، فقال له : لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ إذ بلغه أنّ " فلاناً " قال : لو قد مات عمر لبايعت " فلاناً
" فما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة ، فهمّ عمر أن يخطب الناس ردّاً علىٰ هذا القول ، فنهيته لاجتماع الناس كلّهم في الحج وقلت له إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد ، فإنّه أبعد عن اثارة الشغب.. فلمّا رجعوا من الحجّ إلىٰ المدينة قام عمر في خطبته المذكورة..
فمن هو " فلان " القائل ؟ ومن
هو " فلان " الآخر ؟
حين تردّد بعض الشارحين في الكشف عن
هذين الاسمين ، استطاع ابن حجر العسقلاني أن يتوصل إلىٰ ذلك بالإسناد الصحيح المعتمد عنده ، والذي ألغىٰ به كل ماقيل من أقوال أثبت ضعفها ووهنها ، فقال : وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قويّ ، من رواية هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري ، بالاسناد المذكور في الاصل ، ولفظه : ( قال عمر : بلغني أنّ الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً.. ) الحديث !!
فذلك إذن هو السرّ في ثورة عمر !
__________________
وذلك هو السرّ في ولادة مبدأ
الشورىٰ في الخلافة !
الشورىٰ التي سنتحدّث عن تفاصيلها
وأحكامها وما قيل فيها ، باستيعاب يتناسب مع حجم هذا الكتاب.
الشورىٰ
في اطارها النظري
إنّ الأساس الذي قامت عليه نظرية
الشورىٰ هو أنّ أمر الخلافة متروك إلىٰ الأُمّة.. ومن هنا ابتدأت الأسئلة تنهال علىٰ هذه النظرية ؛ عند
البحث عن الدليل الشرعي في تفويض هذا الامر إلىٰ الأُمّة.. وعند محاولة إثبات شرعية الاسلوب الذي سوف تسلكه الأُمّة في الاختيار..
لقد رأوا في قوله تعالىٰ : ( وَأَمْرُهُمْ
شُورَىٰ بَيْنَهُمْ )
أفضل دليل شرعي يدعم هذه النظرية ، ومن هنا قالوا : إنّ أوّل وجوه انتخاب الخليفة هو الشورىٰ.
لكن ستأتي الصدمة لأوّل وهلة حين نرىٰ
أنّ مبدأ الشورىٰ هذا لم يطرق أذهان الصحابة آنذاك.
فانتخاب أوّل الخلفاء كان بمعزل عن هذا
المبدأ تماماً ، فإنّما كان "
فلتةً " كما وصفه عمر ، وهو
الذي ابتدأه وقاد الناس إليه !
ثمّ كان انتخاب ثاني الخلفاء بمعزلٍ
أيضاً عن هذا المبدأ !
نعم ، ظهر هذا المبدأ لأوّل مرّة
علىٰ لسان عمر في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وبيعة أبي بكر فحذّر من العودة إلىٰ مثلها ، فقال : ( فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرَّة __________________
أن يُقتلا ) . ذلك القول الذي عرفنا قبل قليل أنّه
ما قاله إلاّ ليقطع الطريق علىٰ عليّ عليهالسلام
ومن ينوي أن يبايع له !
لكنّه حين أدركته الوفاة أصبح يبحث عن
رجل يرتضيه فيعهد إليه بالخلافة بنصّ قاطع بعيداً عن الشورىٰ !
فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيته .
ثمّ قال : لو كان سالم مولىٰ أبي
حذيفة حيّاً لولّيته .
ثمّ قال : لو كان معاذ بن جبل حيّاً
لولّيته .
إذن لم يكن عمر يرىٰ أنّ الأصل في
هذا الأمر هو الشورىٰ ، وإن كان قد قال بالشورىٰ في خطبته الأخيرة إلاّ أنّه لم يعمل بها إلاّ اضطراراً حين لم يجد من يعهد إليه !
لقد أوضح عن عقيدته التامّة في هذا
الأمر حين قال قُبيل نهاية المطاف : ( لو كان سالمٌ حيّاً ماجعلتها شورىٰ ) !!.
ثمّ كانت الشورىٰ..
وأيّ شورىٰ !!
إنّها شورىٰ محاطة بشرائط عجيبة
لا مجال للمناقشة فيها ! وجملتها : __________________
١ ـ إنّها شورىٰ بين ستّة نفر ، وحسب
، يعيّنهم الخليفة وحده دون الأُمّة !
٢ ـ أن يكون الخليفة المنتخب واحداً من
هؤلاء الستّة ، لا من غيرهم !
٣ ـ إذا اتّفق أكثر الستّة علىٰ رجل
وعارض الباقون ، ضُربت أعناقهم !
٤ ـ إذا اتّفق اثنان علىٰ رجل ، واثنان
علىٰ آخر ، رجّحت الكفّة التي فيها عبد الرحمن بن عوف ـ أحد الستّة ـ وإنْ لم يُسَلّم الباقون ضُربت أعناقهم !
٥ ـ ألاّ تزيد مدّة التشاور علىٰ ثلاثة
أيّام ، وإلاّ ضُربت أعناق الستّة أهل الشورىٰ بأجمعهم !!
٦ ـ يتولّىٰ صهيب الرومي مراقبة
ذلك في خمسين رجلاً من حَمَلَة السيوف ، علىٰ رأسهم أبو طلحة الأنصاري
!
فالحقّ أنّ هذا النظام لم يترك الأمر
إلىٰ الأُمّة لتنظر وتعمل بمبدأ الشورىٰ ، بل هو نظام حدّده الخليفة ، ومنحه سمة الأمر النافذ الذي لامحيد عنه ، ولاتغيير فيه ، ولايمكن لصورة كهذه أن تُسمّىٰ شورىٰ بين
المسلمين ، ولابين أهل الحلّ والعقد.
لقد كانت تلك الظروف إذن كفيلة بتعطيل
أوّل شورىٰ في تاريخ الإسلام عن محتواها ، فطعنت إذن في تلك القاعدة الأساسيّة المفترضة ( قاعدة الشورىٰ ).
__________________
والحقّ أنّ هذه القاعدة لم يكن لها عين
ولا أثر من قبل.. فلم يكن أبو بكر مؤمناً بمبدأ الشورىٰ قاعدةً للنظام السياسي وأصلاً في انتخاب الخليفة ، ولا مارس ذلك بنفسه ، بل غلّق دونها الأبواب حين سلب الأُمّة حقّ الاختيار وممارسة الشورىٰ إذ نصّ علىٰ عمر خليفةً له ، ولم يُصغ
إلىٰ ماسمعه من اعتراضات بعض كبار الصحابة علىٰ هذا الاختيار.
علماً أنّ اعتراض هؤلاء الصحابة
المعترضين حينذاك لم يكن علىٰ طريقة اختيار الخليفة التي مارسها أبو بكر ، ولا قالوا : إنّ الأمر ينبغي أن يكون شورىٰ بين الأُمّة ، ولا احتجّ أحدهم بقوله تعالىٰ : ( وَأَمْرُهُمْ
شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) ، وإنّما كان اعتراضهم علىٰ اختياره
عمر بالذات ، فقالوا له : استخلفت علىٰ الناس عمر ، وقد رأيت مايلقىٰ الناس منه وأنت معه ، فكيف به إذا خلا بهم ؟! وأنت لاقٍ ربّك فسائلك عن رعيّتك !
بل كان عمر صريحاً كلّ الصراحة في تقديم
النصّ علىٰ الشورىٰ ، ذلك حين قال : (
لو كان سالمٌ حيّاً لَما جعلتها شورىٰ )
!!
إنّ عهداً كهذا ليلغي رأي الأُمّة
بالكامل ، وحتىٰ الجماعة التي يُطلق عليها ( أهل الحلّ والعقد ) !
قالوا : إذا عهد الخليفة إلىٰ آخر
بالخلافة بعده ، فهل يُشترط في ذلك رضى الأُمّة ؟
فأجابوا : إنّ بيعته منعقدة ، وإنَّ رضى
الأُمّة بها غير معتبر ، ودليل __________________
ذلك : أنّ بيعة
الصدّيق لعمر لم تتوقّف علىٰ رضىٰ بقيّة الصحابة !
لم يكن إذن لقاعدة الشورىٰ أثر في
تعيين الخليفة !!
لعلّ هذه الملاحظات هي التي دفعت ابن
حزم إلىٰ تأخير مبدأ الشورىٰ وتقديم النصّ والتعيين الصريح مِن قِبَل الخليفة السابق ، فقال : ( وجدنا عقد الإمامة يصحّ بوجوه ، أوّلها وأصحّها وأفضلها : أن يعهد الإمام الميّت إلىٰ إنسان يختاره إماماً بعد موته )
!
الشورىٰ أم
السيف ؟
لقد أدركنا جيّدا هبوط مبدأ
الشورىٰ في الواقع عن المرتبة التي احتلّها في النظريّة ، فتنازلنا عنه تنازلاً صريحاً ـ بعد إقراره ـ حين ذهبنا إلىٰ تصحيح واعتماد كلّ ماحدث علىٰ السّاحة رغم منافاته الصريحة لمبدأ الشورىٰ.
ولم نكتف بهذا ، بل ذهبنا إلىٰ تبرير
تلك الوجوه المتناقضة بلا استثناء ، وبدون الرجوع إلىٰ أيّ دليل من الشرع ، ودليلنا الوحيد كان دائماً : ( فعل الصحابة ) رغم أنّنا نعلم علم اليقين أنّ الصحابة لم يجتمعوا علىٰ رأي واحد من تلك الآراء والوجوه.
كما أنّنا نعلم علم اليقين أيضاً أنّ
خلاف المخالفين منهم وإنكار المنكرين كان ينهار أمام الحكم الغالب.
ورغم ذلك فقد عمدنا إلىٰ القرار
الغالب والنافذ في الواقع ، فمنحناه __________________
صبغة الإجماع ، بحجّة
أنّه لم يكن لينفذ في عهدهم إلاّ بإجماعهم عليه ، أو إقرارهم إيّاه.
وبهذا تنكّرنا لحقيقة أنّ القرار النافذ
كان يبتلع كلَّ ماصادفه من أصوات المخالفين والمنكرين ، ولايلقي لها بالاً ، وهذا هو الغالب علىٰ كلّ مايتّصل بالخلافة والمواقف السياسية الكبرىٰ.
فماذا أغنىٰ اعتراض بني هاشم ومَن
معهم مِن المهاجرين والأنصار علىٰ نتائج السقيفة ؟!
وما أغنىٰ إنكار الصحابة
علىٰ أبي بكر يوم استخلف عمر ؟!
وما أغنىٰ إنكار الصحابة سياسة
عثمان في قضايا كثيرة كتقديمه بني أُميّة علىٰ خيار الصحابة مع ماكان عليه أُولئك من حرص علىٰ الدنيا
وبُعدٍ عن الدِين ؟!
ثمّ لم يشتدّ هذا الإنكار ويعلو صداه حتّىٰ
تغلّب علىٰ شؤون الأُمّة والخليفة غلمانُ بني أُميّة ممّن اتفق الكل علىٰ أنّهم لم يكن معهم من الدين
والورع لا كثير ولا قليل ، كمروان بن الحكم وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية.
ومع هذا فلم يكن إنكارهم عندنا حجّة ، بل
كانوا به ملومين !
فمتىٰ إذن كان إنكار الصحابة حجّة
، ليكون سكوتهم إقراراً ؟!
فإذا كانت الخطوة الأُولىٰ في
التراجع عن مبدأ الشورىٰ هي القبول بتسليم الأمر إلىٰ الخليفة القائم ليستخلف بعده من يشاء ، فإنّ الخطوة الثانية كانت خطوة مُرّةً حقّاً.
فلمّا تجنّب الخلفاء مبدأ الشورىٰ
ومبدأ النصّ والاستخلاف معاً ، واختاروا مبدأ القهر والاستيلاء والتغلّب بالسيف ، قبلنا به واحداً من طرق الخلافة !
فكم بين الشورىٰ ، والتغلّب
بالسيف ؟!
إنّ إقرار مبدأ التغلّب بالسيف لَيُعدّ
أكبر انتكاسة لمبدأ الشورىٰ !
وإذا كانت الشورىٰ مستمدّة من
القرآن ، فمن أين استمدّت قاعدة التغلّب بالسيف ؟!
وثَمَّ سؤال أشدّ إحراجاً من هذا :
فإذا كانت الشورىٰ هي القاعدة
الشرعية المستمدّة من القرآن ، فماذا عن عهود الخلافة التي لم تتمّ وفق هذه القاعدة ؟!
وحين لم يتوفّر الجواب الذي ينقذ هذه
النظرية من هذا المأزق الكبير ، رأينا أنّ المهرب الوحيد هو أن نبرِّر جميع صور الخلافة التي تحقّقت في الواقع : فمرّةً بعقد رجل واحد ومتابعة أربعة ، ومرّة بنصّ من الخليفة السابق ، ومرّة في ستّة يجتمعون لانتخاب أحدهم ، ومرّة بالقهر والاستيلاء ، حتىٰ أدّىٰ هذا المبدأ الأخير إلىٰ أن تصبح
الخلافة وراثة بحتة لا أثر للدِين فيها.
مصير شروط الإمامة :
إنّ هذه الطريقة في تبرير الأمر الواقع
لم تسقط الشورىٰ وحدها ، بل أسقطت معها أهمّ شروط الإمامة الواجبة لصحّة عقدها ، والتي منها :
١ ـ العدالة :
إذ قالوا أوّلاً في بناء نظرية الخلافة : لاتنعقد إمامة الفاسق ، لأنّ المراد من الإمام مراعاة النظر للمسلمين ، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه ، فكيف ينظر في مصلحة غيره
؟!
وقالوا : إنّ هذا الفسق يمنع من انعقاد
الإمامة ، ومن استدامتها ، فإذا طرأ علىٰ من انعقدت إمامته خرج منها .
٢ ـ الاجتهاد :
إذ عدّوا في شروط الإمام : أن يكون من أفضلهم في العلم والدين ، والمراد بالعلم هو العلم المؤدّي إلىٰ الاجتهاد في النوازل والأحكام ، فلاتنعقد إمامة غير العالم بذلك ، لأنّه محتاج لأنْ يصرّف الأُمور علىٰ النهج القويم ويُجريها علىٰ الصراط المستقيم ، ولأنْ
يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس ، وإذا لم يكن عالماً مجتهداً لم يقدر علىٰ ذلك .
لكن سرعان ماانهارت هذه الشروط حين
تغلّب علىٰ الخلافة رجال لم يكن فيهم شيء منها ، لا العدالة ، ولا العلم المؤدّي إلىٰ الاجتهاد..
قال الفرّاء : قد روي عن أحمد ألفاظ
تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل ، فقال : ( ومن غلبهم بالسيف حتىٰ صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين ، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه ، برّاً كان أو فاجرا ، فهو أمير المؤمنين ) !
__________________
وقال القلقشندي : إن لم يكن الخليفة
المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة ، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً ، فوجهان لأصحابنا الشافعية ، أصحّهما : انعقاد إمامته أيضاً
!
التبرير :
إنّ مثل هذا الرأي الذي ينقض شرائط
الخلافة بعد أن نقض أساسها ، لا بُدّ له من تبرير مقبول.
والتبرير الذي قدّمته هذه النظرية هنا
هو : ( الاضطرار ) !
لأنّا لو قلنا : لاتنعقد إمامته ، لزم
ذلك بطلان أحكامه كلّها المالية والمدنيّة ، فيتعيّن علىٰ الخليفة الذي يأتي بعده وفق الشروط الشرعية أن يقيم الحدود ثانياً ، ويستوفي الزكاة والجزية ثانياً ، وهكذا .
والضرورة أيضاً تقتضي صحّة خلافته : لحفظ
نظام الشريعة ، وتنفيذ أحكامها
، ولأنّه لابُدّ للمسلمين من حاكم .
إذن قبولها علىٰ هذه الصورة
يستدعي السعي الدائم لإزاحتها وإرجاع الأمر إلىٰ صيغته الشرعية متىٰ ما وجدت الأُمّة سبيلاً إلىٰ ذلك.
هذا ماذهب إليه الشيخ محمّد رشيد رضا
وقد استعرض هذه الآراء ، فقال : معنىٰ هذا أنّ سلطة التغلّب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند __________________
الضرورة ، تنفذ
بالقهر ، وتكون أدنىٰ من الفوضىٰ !
ومقتضاه أنّه يجب السعي دائماً لإزالتها
عند الإمكان ، ولايجوز أن توطّن الأنفس علىٰ دوامها ، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلّبين يتقاذفونها ، ويتلقّفونها كما فعلت الأُمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم .
لكنَّ الواقع كان علىٰ العكس من
ذلك ، فقد حرّموا دائماً الخروج علىٰ السلطان الجائر والفاسق ، وعدّوا أيّ محاولة من هذا القبيل من الفتن التي نهىٰ عنها الدين وحرّم الدخول فيها..
يقول الزرقاني : أمّا أهل السُنّة
فقالوا : الاختيار أن يكون الامام فاضلاً عادلاً محسناً. فإن لم يكن فالصبر علىٰ طاعة الجائر أوْلىٰ من الخروج عليه ، لِما فيه من استبدال الخوف بالأمن ، وإهراق الدماء ، وشنّ الغارات ، والفساد ، وذلك أعظم من الصبر علىٰ جوره وفسقه !
كما ثبت عن أحمد بن حنبل أنّه قال : ( الصبر
تحت لواء السلطان علىٰ ماكان منه من عدلٍ أو جور ، ولايُخرَج علىٰ الأُمراء بالسيف وإنْ جاروا ) .
استعرض الشيخ أبو زهرة هذين القولين ، ثمّ
قال : وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السُنّة ؛ مالك ، والشافعي ، وأحمد .
__________________
فهل ينسجم هذا الاعتقاد مع أحكام
الاضطرار والإكراه ؟!
لقد طعن الشيخ محمّد رشيد رضا هذه
العقيدة في الصميم حين قال :
« وقد عُني الملوك المستبدّون بجذب
العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضّة والرُتَب والمناصب ، وكان غيرهم أشدّ انجذاباً ، ووضع هؤلاء العلماء الرسميّون قاعدة لأُمرائهم ولأنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمرُ الدِين والدنيا في الإسلام ، وهي : أنّه يجوز أن يكون أولياء الأُمور فاقدين للشروط الشرعية التي دلّ علىٰ وجوبها واشتراطها الكتاب والسُنّة ، وإنْ صرّح بها أئمّة الاُصول والفقه ، فقالوا : يجوز ، إذ فُقِدَ الحائزون لتلك الشروط.
مثال ذلك : إنّه يشترط فيهم العلم
المعبَّر عنه بالاجتهاد ، وقد صرّح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل ، وعدّوه من الضرورة ، وأطلق الكثيرون هذا القول ، وجرىٰ عليه العمل. وذلك من توسيد الأمر إلىٰ غير أهله الذي يقرّب خطوات ساعة هلاك الأُمة ، ومن علاماتها : ذهاب الأمانة ، وظهور الخيانة.. ولا خيانة أشدّ من توسيد الأمر إلىٰ الجاهلين..
روى مسلم وأبو داوود حديث ابن عبّاس : «
من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلىٰ بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه
، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » .
وطعنها أيضاً في قوله : ماأفسد
علىٰ هذه الأُمّة أمرها وأضاع عليها ملكها إلاّ جعل طاعة هؤلاء الجبّارين الباغين واجبة شرعاً علىٰ الإطلاق ، __________________
وجعل التغلّب أمراً
شرعيّاً كمبايعة أهل الحلّ والعقد للإمام الحقّ ، وجعل عهد كلّ متغلّب باغٍ إلىٰ ولده أو غيره من عصبته حقّاً شرعياً وأصلاً مرعياً
لذاته !.
وهذه حقيقة تاريخية ، وليست دعوىٰ
مجازفٍ أو متهاون.
صورتان :
صورتان نقف عندهما يسيراً بعد هذا الشوط
المضني ، لنواصل بعدهما المشوار..
الصورة الأولىٰ
: مذهب عظماء السَلَف ؟!
لقد أسقط مذهب الكثير من عظماء السلف
وأشرافهم فلا يُذكر لهم اسم ، ولايُشرَك لهم قول في هذه النظرية.
فلا ذكر للسبط الشهيد الإمام الحسين بن
عليّ وثورته ..
ولا لمئات المهاجرين والأنصار وبقيّة الصحابة في مدينة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونهضتهم علىٰ يزيد بن معاوية ..
ولا عبد الله بن الزبير.. ولا الشهيد زيد بن عليّ بن __________________
الحسين.. ولا
الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي ومن معه أصحاب ثورة التوّابين.. ولا القُرّاء في الكوفة وثورتهم !
كما أُسقط أيضاً مذهب أبي حنيفة من بين
أئمّة أهل السُنّة ، وذلك لأنّه ـ كما جاء في غير واحدٍ من المصادر ـ كان يساند الثائرين علىٰ خلفاء الزور فساند زيد الشهيد ابن زين العابدين عليهالسلام
وساند ثورات أولاد الامام الحسن عليهالسلام
حتىٰ مات في السجن وهو علىٰ موالاتهم ، وكان يسمّي خلفاء بني أمية وبني العباس ( اللصوص )
!.
كلّ أُولئك أُسقطوا من هذه النظرية ، فأُخرجوا
عن دائرة أهل السُنّة !!
لقد بالغ بعض كبار المتكلّمين باسم أهل
السُنّة في النَيْل من أُولئك العظماء الأشراف ، ووجوه القوم وكبارهم ، ولعلّ من أشهرهم ابن تيميّة الذي ذهلته العصبية حتىٰ تمرّد علىٰ جميع الضوابط الدينية والقيم الخُلقية ، فوصف نهضة سيّد شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته بأنّها فساد كبير ! ولايرضىٰ بها الله ورسوله ! وكذا وصف نهضة بقيّة المهاجرين والأنصار في المدينة المنوّرة ، ثمّ بالغ في إعذار يزيد في التصدّي لهم وقتلهم جميعاً لأجل حفظه ملكه ؛ ولم ينكر علىٰ يزيد إلاّ أنّه أباح المدينة ثلاثة أيام .
وقال في هذا الأمر أيضاً : ممّا يتعلّق
بهذا الباب أن يُعلَم أنّ الرجل العظيم في العلم والدِين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلىٰ يوم __________________
القيامة ، أهل البيت
وغيرهم ، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظنّ ونوع من الهوىٰ الخفيّ ، فيحصل بسبب ذلك مالاينبغي اتّباعه فيه وإنْ كان من أولياء الله المتّقين ، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة !!
تُرىٰ لماذا كان ابن تيميّة أعلم
بمداخل الفتنة وأبعد عن الهوىٰ الخفيّ من أُولئك العظماء من الصحابة وأهل البيت ؟! هل لأنّه رضي إمامةَ الفاجر والجاهل ، ورفضَها أُولئك ؟!
هكذا تُلقي هذه النظرية بنفسها في مأزقٍ
حرج حين تُعرِض عن ذلك الأثر الضخم من آثار عظماء السَلَف وأئمّتهم.
الصورة الثانية : الخارج
المأجور
مازال إظهار الخلاف للحاكم محرَّماً ، والخروج
عليه فتنةً وفساداً كبيراً ، مازال هذا الحكم ثابتاً لا يتزحزح..
إذن لماذا أصبح الخارج علىٰ الإمام
، مرّةً واحدة فقط في تاريخ الإمامة ، مأجوراً ؟!
حين كان الإمام هو عليٌّ بن أبي طالب ، أخصّ
الناس برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأكثرهم علما وجهادا وأوْلاهم بالعدل ، عندئذٍ فقط حقَّ للناس أن يخرجوا علىٰ الإمام !
وسوف لايكون خروجهم ـ هذه المرّة ـ فتنة
وفساداً ، بل هو اجتهاد ، وهم مأجورون عليه ، مثابون لأجله وإن أخطأوا !!
__________________
إنّها صور لو عرضتَ أيّا منها
علىٰ تلك النظرية لوجدت فتقاً لايُرتَق إلاّ بتكلّفٍ ظاهر ، والتواءٍ سافر.
ولنعد الآن إلىٰ دعائم هذه
النظرية..

ضرورة النصّ بين الخليفة والنبيّ :
لانزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في
النصّ علىٰ مَن يخلفه ، ولافي نفوذ هذا النصّ ، لأنّ الإمام أحقّ بالخلافة ، فكان اختياره فيها أمضىٰ ، ولا
يتوقّف ذلك علىٰ رضىٰ أهل الحلّ والعقد .
وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع
الفتنة واضطراب الأُمّة .
فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر
ويسأله أن ينصّ علىٰ من يخلفه .
تُرىٰ ، لماذا لا يكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أوْلىٰ
بالتفكير في ذلك ، وبرعاية هذه المصلحة ؟!
إنّه الرحمة المهداة ، بلا شكّ.. أليس
من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده ؟!
لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
) .
وأيضاً : فقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلم أنّنا
سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا !
__________________
لقد بصر ابن حزم بذلك ، فحاول أن
يتداركه ، فقال : وجدنا عقد الإمامة يصحّ بوجوه : أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الإمام الميّت إلىٰ إنسان يختاره إماماً بعد موته ، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته ، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأبي بكر ، وكما فعل أبو بكر بعمر ، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز.
قال : وهذا هو الوجه الذي نختاره ، ونكره
غيره ، لِما في هذا الوجه من اتّصال الإمامة ، وانتظام أمر الإسلام وأهله ، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الأُمّة فوضىٰ ، ومن انتشار الأمر وحدوث الأطماع .
لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك
النظرية ، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها ، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الأمر الواقع ، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً.
فتَرْكُ الأُمّة دون تعيين وليّ الأمر
الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الأُمّة فوضىٰ ، وتشتّت أمرها ، وظهور الأطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيبادر إلىٰ تلافيه ، ولو في مرضه الذي توفّي فيه.
وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن
اتّصال الإمامة ، وانتظام أمر الإسلام.
وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ
علىٰ مَن يخلفه ، وأدركه أيضاً __________________
عمر ، وأدركه سليمان
بن عبد الملك ، فكيف نظنّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّه قد أغفل ذلك ؟!
إنّها إثارات جادّة دفعته إلىٰ حلٍّ
وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية ، كما ينقذ الأمر الواقع بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ علىٰ أبي بكر بالخلافة !
إذن فلا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد ترك هذا
الأمر للأُمّة ، أو تركها فوضىٰ ، ولاكانت بيعة أبي بكر فلتة !
إنّها أُطروحة متينة ، كفيلة بقطع
النزاع ، لو تمّت.. !
ولكنّها ـ للأسف ـ لم تكن سوىٰ مجازفة
، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الأمل المنشود منها !
فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت
ثغراتها ، ولا هي أنقذت الأمر الواقع !
وذلك لسبب بسيط ، وهو أنّ النصّ
علىٰ أبي بكر لم يثبت ، بل لم يدّعِ وجوده أحد ، بل تسالمت الأُمّة علىٰ عدمه.
فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ
علىٰ أبي بكر بالخصوص ، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً.
عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في
الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..
عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه
نظرية أهل السُنّة في الإمامة ، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ علىٰ أصل واحد ، وهو البيعة لأبي بكر
بتلك
الطريقة التي تمّت
في السقيفة وبعدها !!
عليه أن ينفي ماصرّحوا به من ( الإجماع
علىٰ أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر )
!
ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه
المدرسة ومبادئها ، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها ، ومقابلة للإلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرىٰ القائمة
علىٰ أساس النصّ ، ولقطع دابر النزاع ، كما ذكر ابن حزم.
إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ ، ولكنّه
أراد نصّاً منسجماً مع الأمر الواقع ، وإنْ لم يسعفه الدليل !!
إقرار بقدر من النصّ
:
لم يختف النصّ إلىٰ الأبد في هذه
النظرية ، والشورىٰ هنا ليست مطلقة العنان ، فليس لأهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد.
إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورىٰ ، وهذا
الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت.
قالوا : إنّ من شرط الإمامة : النَسَب
القرشي ، فلا تنعقد الإمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه ، فقد ثبت عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّه قال : «
الأئمّة من قريش ».
وقال : « قدّموا قريشاً ولا
تتقدّموها ». وليس مع هذا النصّ
المسلَّم شبهةٌ لمنازع ، ولا قول لمخالف .
__________________
واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً
من الصميم ، من بني النضر بن كنانة ، تصديقاً للنصّ .
وقال أحمد : ( لا يكون من غير قريش
خليفة ) .
واستدلّوا علىٰ تواتر هذا النصّ
بتراجع الأنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة .
وقال ابن خلدون : بقي الجمهور
علىٰ القول باشتراطها ـ أي القرشية ـ وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأُمور المسلمين .
وهكذا ثبت النصّ الشرعي ، وثبت تواتره ،
وثبت الإجماع عليه.
وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا
النصّ ـ كأبي بكر الباقلاّني ـ فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه ، وردّ عليه ، فقال : لمّا ضعف أمر قريش ، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم ، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض ، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الأعاجم ، فاشتبه ذلك علىٰ كثير من المحقّقين حتىٰ ذهبوا إلىٰ نفي
اشتراط القرشية ، وعوّلوا علىٰ ظواهر في ذلك مثل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي »
.
__________________
قال : وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك ، لأنّه
خرج مخرج التمثيل ، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة .
وثبت النصّ واستقرّ ، ولا غرابة ، فهو
نصّ صحيح ، بل متواتر.
وهو فوق ذاك ينطوي علىٰ فائدة
أُخرىٰ ، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية ، إذ يضفي الشرعية علىٰ الخلافة في كافة عهودها ، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة ! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس ، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا.
لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد
الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان ، فهبّ معاوية غضبا فجمع الناس وخطبهم قائلاً : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله ، أُولئك جهّالكم ! فإيّاكم والأمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : «
إنّ هذا الأمر في قريش ، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار علىٰ وجهه »
.
وقفة مع هذا النصّ :
عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة ـ أبو
بكر وعمر وأبو عبيدة ـ هذا النصّ فاحتجّوا به علىٰ الأنصار في السقيفة ، فأذعن الأنصار ، وعاد القرشيّون بالخلافة ، أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ مالت عن أبي عبيدة ، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر ، بل لأنّه قد توفّي في خلافة عمر ، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه ، وقال : ( لو كان أبو عبيدة
حيّاً
__________________
لولّيتهُ )
.. والأمر
ماضٍ مع النصّ.
ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد
ذلك المبدأ ـ النصّ ـ أن ينهار ، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسىٰ ، كلّ ذلك علىٰ يد الرجل الذي كان
من أوّل المحتجّين به علىٰ الأنصار ، عمر بن الخطاب ! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً ، قال : ( لو كان سالم مولىٰ أبي حذيفة حيّا
لولّيتُه ) .
ولمّا لم يكن سالم حيّاً ، قال : (
لو كان معاذ بن جبل حيّا لولّيتُه )
..
فهل كان سالم قرشياً ؟! أم كان معاذ
كذلك ؟!
أمّا سالم : فأصله من إصْطَخْر ، من
بلاد فارس ، وكان مولىً لأبي حذيفة !
وأمّا مُعاذ : فهو رجل من الأنصار
الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة ، وفيهم عمر ، واحتجّوا عليهم بأنّ الأئمّة من قريش ، وهيهات أن ترضىٰ العرب بغير قريش ! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للأنصار في السقيفة ، ثمّ واصل خطابه قائلاً : ( ولنا بذلك الحجّة
الظاهرة ، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه ، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لإثم ، أو متورّط في هَلَكة )
؟!.
إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفىٰ
كثيراً من الغموض علىٰ عقيدة __________________
عمر في الخلافة ، ممّا
يزيد في إرباك نظرية الخلافة والإمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف ، من هنا اضطرّوا إلىٰ الضرب علىٰ اختلافات عمر حفاظاً علىٰ صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية ، كلّ ذلك لأجل تثبيت هذا المبدأ القائم علىٰ النصّ الشرعي : « الأئمّة من قريش ».
واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ
علىٰ الرأي المخالف !
وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار
لمبدأ النصّ علىٰ مبدأ الشورىٰ ، وذلك حين رأىٰ الخليفة ضرورة النصّ علىٰ من يخلفه ، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورىٰ !
فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي !
إذن ، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في
هذه النظرية ، وهو الحديث الشريف «
الأئمّة من قريش » وقد أخرجه البخاري
ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة.
ضرورة التخصيص في
النصّ :
١ ـ إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا
السياسي والاجتماعي توقفنا علىٰ حقيقة أنّ النصّ المتقدّم « الأئمّة من قريش »
بمفرده لايحقق للإمامة الأمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع.
وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة
أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الأربعة ، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدىٰ من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة ـ يزيد بن معاوية ـ ومَن بعده.
ففي صحيح البخاري : لمّا كان النزاع
دائراً بين مروان بن الحكم وهو
بالشام ، وعبد الله بن
الزبير وهو بمكّة ، انطلق جماعة إلىٰ الصحابي أبي برزة الأسلمي رضياللهعنه
فقالوا له : ياأبا برزة ، ألا ترىٰ ماوقع فيه الناس ؟! فقال : إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً علىٰ أحياء قريش ، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ علىٰ الدنيا ، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ
يقاتل إلاّ علىٰ الدنيا
!!.
٢ ـ وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة
توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..
لقد حذّر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاغترار
بالنسب القرشي وحسب ، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلىٰ هلاك الأُمّة وتشتّت أمرها !
ففي صحيح البخاري عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «
هَلَكَةُ أُمّتي علىٰ يَدَي غلمةٍ من قريش » .
كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين : «
الأئمّة من قريش » و «
هَلَكة أُمّتي علىٰ يدي غلمة من قريش »
؟!
أليس لقائل أن يقول : ماهو ذنب الأُمّة ؟!
إنّها التزمت نصّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
« الأئمّة من قريش »
فقادها هذا النصّ إلىٰ هذا المصير حين ذُبح خيار الأُمّة بسيوف قريش أنفسهم !
أليس النصّ هو المسؤول ؟!
حاشا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يضع
أُمّته علىٰ حافة هاوية ، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية.
إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ
جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتىٰ علىٰ المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة ، فوقعوا في
مافرّوا منه !
بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار
النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الأُمّة من فتن ، ثمّ هَلَكة !
فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الأُمّة
علىٰ أيديهم عندما يملكون أمر الأُمّة ، لكنّ الأُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الأوّل «
الأئمّة من قريش » فهل يكون هذا إلاّ إغراء ؟!
حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه ، وإنّما
هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش.
نوعان من التخصيص :
ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر
قريش ؛ تخصيص سلب ، وتخصيص إيجاب.
١ ـ تخصيص السلب : ثمّة نصوص
صريحة تستثني قوما من قريش ، فتبعدهم عن دائرة التكريم ، ناهيك عن التقديم : قال ابن حجر الهيتمي : في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : «
شرّ قبائل العرب : بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف ».
قال : وفي الحديث الصحيح ـ قال الحاكم :
علىٰ شرط الشيخين ـ عن أبي برزة رضياللهعنه
أنّه قال : كان أبغض الأحياء ـ أو الناس ـ إلىٰ رسول الله بنو أُميّة .
والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم ـ أبو
مروان ـ خاصّة كثير ومشهور.
فهل يصحّ أن تُسند الإمامة إلىٰ شرّ
قبائل العرب ، وأبغض الناس إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟!
ومن دقائق النصّ الأوّل إقرانه بني
أُميّة ببني حنيفة ، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب !!
فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع
فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ ، بدلاً من أن نسعىٰ لتبريره وإخضاعه للنصّ.
٢ ـ تخصيص الإيجاب : الحديث الذي
ميّز قريشاً بالاصطفاء علىٰ سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرىٰ ، بل خصّ منها طائفةً بعينها ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنّ الله اصطفىٰ كنانة من وُلد إسماعيل ، واصطفىٰ قريشاً من كنانة ، واصطفىٰ من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم »
.
__________________
وهذا تقديم لبني هاشم علىٰ سائر
قريش ..
ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح ، وأضاف
قائلاً : وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم ! فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتىٰ يحبّوكم لله ولقرابتي »
وإذا كانوا أفضل الخلائق ، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الأعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب ، بل وبني إسرائيل وغيرهم .
وليس المقام مقام تفضيل وحسب ، بل إنّ
قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين : لله ، ولقرابة الرسول !
فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في
حقّ التقدّم والإمامة ، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلىٰ أعلىٰ منزلة ، وفيها بنو أُميّة
الّذين خفضهم النصّ إلىٰ أردىٰ الرتب ؟!
إذا كان الواقع قد آل إلىٰ هذه
الحال ، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ ، لا أن نسعىٰ إلىٰ تبريره.
نتيجة البحث :
ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد
أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الإمامة ، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الإخفاق هو متابعة الأمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي.
وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من
المستحيل أن تجتمع في نظرية __________________
واحدة ، فتكون نظرية
منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم.
هذا كلّه ، وبقدر مايثيره من شكوك حول
صلاحية هذه النظرية ، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلىٰ اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول.
إلىٰ هذه النتيجة أيضاً خلص
الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الإمامة ، إذ قال : ( أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورىٰ وأهل الحلّ والعقد ، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق ، أو بين ماهو شرعي وبين مايجري في الواقع.
لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة
في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الإسلامية علىٰ الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ
علىٰ الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الأوائل.
وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء
وبين واقع الخلفاء ، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية ، هو مامكّن للرأي المعارض ـ القول بالنصّ ـ ممثّلاً في حزب الشيعة ) .
__________________
الرجوع
إلىٰ النصوص المباشرة في تعيين الخليفة
لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب
الحديث إذن بالحاجة إلىٰ النصّ في تعيين أوّل الخلفاء علىٰ الأقلّ ، لتتّخذ الأدوار اللاحقة له شرعيّتها من شرعيّته.
وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال
بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أساليبهم ، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها ، وكثيرا مايتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع !
وسوف يدور الحوار هنا في اتّجاهين
توزّعت عليهما النصوص المطروحة في هذا الباب..
الاتجاه الأوّل : النصوص الدالّة علىٰ خلافة أبي بكر :
لقد عرض بعض المتكلّمين في تثبيت خلافة
أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُنّة ، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُنّة لكونها أكثر تصريحاً ، ولأنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه.
أوّلاً ـ نصوص من
السُنّة :
النصّ الأوّل : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه
الذي توفّي فيه : « مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس ».
فرأىٰ بعضهم في هذا الحديث نصّا
علىٰ الخلافة وإن كان خفياً ؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامّة.
واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لأبي
بكر : إرتضاك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟! وأهمّ شيء في هذا القول الأخير أن ينسب إلىٰ عليّ بن أبي طالب
!!.
غير أنّ جملةً من الإثارات تحيط بهذا
النصّ وبهذه الواقعة ، قد تبتلع كلّ مايُبنىٰ عليهما من استنتاجات :
الإثارة الأُولىٰ
:
إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامة __________________
قول غريب ، وأغرب
منه قول الجرجاني : ( لا قائل بالفصل )
!.
فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً ،
ويقول : ( أمّا من أدّعىٰ أنّه إنّما قُدِّم قياساً علىٰ تقديمه إلىٰ الصلاة ، فباطل بيقين ؛ لأنّه ليس كلّ
من استحقّ الإمامة في الصلاة يستحقّ الإمامة في الخلافة ، إذ يستحقّ الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ ، فكيف والقياس كلّه باطل )
؟!.
والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من
القياس ووجه الاستدلال به ، فيقول : اتّخذ بعض الناس من هذا ـ النصّ ـ إشارة إلىٰ إمامة أبي بكر العامّة
للمسلمين ، وقال قائلهم : ( لقد رضيه عليهالسلام لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا )
ولكنّه لزوم ماليس بلازم ، لأنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الإشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة ، الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة ، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة ، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين .
والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة
نسبة هذا الكلام إلىٰ الإمام عليّ عليهالسلام
؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة ، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليهالسلام
لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر
، كما أنّ الصحيح المشهور عن __________________
عليّ عليهالسلام خلاف ذلك ، فجوابه
كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلىٰ الناس به ، قال : «
احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة »
!.
الإثارة الثانية : إنّ إمامة
الصلاة وفقا لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم ، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول علىٰ الفاضل ، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لأهل التقوىٰ والصلاح ، (
صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر ) !
الإثارة الثالثة : أخرج أحمد ومسلم
وأبو داود وابن ماجة والنسائي : أنّ عبد الرحمن ابن عوف قد صلّىٰ إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
. وهذه
الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر ـ كما سيأتي ـ فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر ، فتقديمه أوْلىٰ وفقاً لذلك القياس .
الإثارة الرابعة : في صحيح
البخاري : كان سالم مولىٰ أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في مسجد قباء ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو سلمة ، وعامر بن ربيعة .
وكان عمرو بن العاص أميراً علىٰ جيش
ذات السلاسل ، وكان يؤمّهم __________________
في الصلاة حتّىٰ
صلّىٰ بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة .
فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن
العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، وأوْلىٰ بالخلافة منهم ؟!
الإثارة الخامسة : نتابعها في
النقاط التالية :
أ ـ
ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة ، خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتهادىٰ بين رجلين ـ عليّ والفضل ابن العبّاس ـ فصلّىٰ بهم إماما وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّا بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن يمينه.
أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي
في كتاب صنّفه لهذا الغرض ، فقسّمه إلىٰ ثلاثة أبواب : فجعل الباب الأوّل في إثبات خروج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلىٰ تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها ، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء علىٰ ذلك ، فذكر منهم : أبا حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأثبت في الباب الثالث وَهَن الأخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة ، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوىٰ
!.
وقال العسقلاني : تضافرت الروايات عن
عائشة بالجزم بما يدلّ علىٰ أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان هو الإمام في تلك الصلاة .
__________________
ومن هنا قال بعضهم : متىٰ نظرنا
إلىٰ آخر الحديث احتجنا إلىٰ أن نطلب للحديث مخرجاً من النقص والتقصير ، وذلك أنّ آخره : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتىٰ أتىٰ المسجد وتقدّم فنحّىٰ أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلىاللهعليهوآلهوسلم
لَتَركه علىٰ إمامته وصلّىٰ خلفه ، كما صلّىٰ خلف عبد الرحمن بن عوف .
ب ـ
ممّا يعزّز القول المتقدّم ماورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « أُدعوا عليّاً ». فقالت عائشة : لو دعوت أبا بكر ! وقالت حفصة : لو دعوت عمر ! وقالت أُمّ الفضل : لو دعوت العبّاس ! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأسه فلم ير عليّاً
!!.
ج ـ
ويشهد لذلك كلّه ماثبت عن عليّ عليهالسلام
من أنّه كان يقول : «إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُصَلّ بالناس ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «
ليصلِّ بهم أحدهم » ولم يعيّن » !!
وكان عليٌّ عليهالسلام
يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً ، ويقول عليهالسلام
: «إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يقل : «
إنّكنّ لَصُويحبات يوسف » إلاّ إنكاراً لهذه الحال ، وغضباً منها لأنّها وحفصة تبادرتا إلىٰ تعيين أبويهما ، وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب » .
فهذه صور منسجمة ومتماسكة لاتُبقي أثرا
للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة ، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لايُستهان بها :
__________________
منها :
الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة ، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني ، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد .
ومنها :
ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة ، لذا لم تقم حجّته .
ومنها :
أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتنبّه له الرواة ، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث : ( خرج النبيّ يتهادىٰ بين رجلين ، أحدهما الفضل بن العبّاس ) ولاتذكر الرجل الآخر ، فلمّا عرض أحدهم حديثها علىٰ عبد الله بن عبّاس ، قال له ابن عبّاس : فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة ؟
قال : لا.
قال ابن عبّاس : هو عليّ بن أبي طالب ، ولكن
عائشة لاتطيبُ نفساً له بخير !.
الإثارة السادسة : أثبت جلُّ
أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأخير هذا ، مأموراً بالخروج في جيش أُسامة ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يشدّد كثيراً بين الآونة والأُخرىٰ علىٰ التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الأمر بتقديمه في الصلاة ؟! ناهيك عن قصد الإشارة إلىٰ استخلافه !
__________________
لقد أدرك ابن تيميّة مابين الأمرين من
منافاة وتعارض صريحين ، فنفىٰ نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُمّي في بعثة أُسامة !!
لكنّ مثل هذا النفي لاينقذ الموقف ، خصوصا
وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه ، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة ، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر .
أمّا نفي ذلك ، أو تحرّج بعض المؤرّخين
عن ذِكره ، فإنّما مرجعه إلىٰ الاختيار الشخصي في مساندة المذهب ، لاغير ، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به علىٰ إمامته سوف لايتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُمّي
في جيش أُسامة ، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثماني عشرة سنة !.
نصوص أُخر :
لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ
المتقدّم ، بل رجعوا إلىٰ مارأوا فيه نصّاً جليّاً علىٰ الخلافة ، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير علىٰ نفسها
بنفسها شكوكاً كثيرة لاتُبقي احتمالاً لصحّتها ، شكوكاً تثيرها الأسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص :
__________________
١ ـ أنّ امرأة سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئاً ، فأمرها
أن ترجع إليه ، فقالت : يارسول الله ، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك ؟ ـ كأنّها تُريد الموت ـ فقال : «
فإن لم تجديني فأتي أبا بكر »
.
وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة
واحدة ، وهي : إبراهيم ابن سعد ، عن أبيه ، عن محمّد بن جُبير بن مطعم ، عن أبيه جُبير بن مطعم : أنّ أمرأةً سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
...
فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم
، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّد ، ولم يروه عن محمّد غير سعد ( وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف ) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم ! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم بن سعد !
مناقشة الإسناد :
نظرة واحدة في هذا الإسناد ، بعيداً عن التقليد ، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه :
فجبير بن مطعم : من الطلقاء ، وهو صاحب
أبي بكر ، تعلّم منه الأنساب وأخبار قريش
، وكانت عائشة تُسمّىٰ له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وذكره
بعضهم في المؤلّفة قلوبهم. وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية والإسلام. وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص علىٰ أبي موسى الأشعري __________________
للمشورة في التحكيم ـ
وهم : جبير بن مطعم ، وعبدالله بن الزبير ، وعبدالله بن عمرو بن العاص ، وأبو الجهم بن حذيفة ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة ـ وكلّهم مائل عن عليّ عليهالسلام
، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّاً في البصرة ، وعبدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية ، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة
!.
محمّد بن جبير بن مطعم : وهو القائل
لعبد الملك بن مروان وقد سأله : هل كنّا نحن وأنتم ـ يعني أُميّة ونوفل ـ في حلف الفضول ؟ فقال له محمّد بن جُبير بن مطعم : لا والله يا أمير المؤمنين ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والإسلام !.
وقد اعتزل محمّد عليّاً والحسن عليهماالسلام في حربهما مع
معاوية ، فلمّا تمّ الصلح كان محمّد ممثَّلاً في وفد المدينة إلىٰ معاوية للبيعة .
وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن
عوف : فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُميّة علىٰ المدينة .
وأمّا ولده إبراهيم بن سعد : فهو صاحب
العُود والغناء ، كان يعزف __________________
ويغنّي ، جاءه أحد
أصحاب الحديث ليأخذ عنه ، فوجده يغنّي ، فتركه وانصرف ، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّىٰ قبله ! وعمل والياً علىٰ بيت المال ببغداد لهارون الرشيد .
هذا النصّ ، الذي جاء بهذه السلسلة
الوحيدة ، هو الذي رأىٰ فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً علىٰ خلافة أبي بكر ! غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه ، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً ، وأقلّ منه دلالة
!.
مناقشة المتن :
وخطوة أُخرىٰ إلىٰ الأمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليّ عليهالسلام
بعين هذا المتن !
لمّا حضر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قالت صفيّة
أُمّ المؤمنين : يا رسول الله ، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم ، وإنّك أجليت أهلي ، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ فإلىٰ مَن ؟
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إلىٰ عليّ بن أبي طالب ».
أخرجه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح .
إنّ الظروف السياسية الغالبة منذ وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحتىٰ عصر __________________
تدوين جوامع الحديث
، هي السبب الوحيد في ظهور الحديث الأول ودخوله في كتب الشيخين وغيرهما دون الحديث الثاني !
٢ ـ قالت عائشة : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه : «
ادعي لي أبا بكر أباك ، وأخاكِ ، حتّىٰ أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنّىٰ متمنٍّ
ويقول قائل : أنا أوْلىٰ ، ويأبىٰ الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر »
.
أسند مسلم هذا الحديث كما يلي : عبيدالله
بن سعيد ، عن يزيد بن هارون ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة.
فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث
أيضاً ، وهو صاحب الحديث المتقدّم ، صاحب العود والغناء ، صاحب هارون الرشيد.
أمّا الزهري وعروة وعائشة فهم من أشدّ
الناس ميلاً وانحرافاً عن عليّ عليهالسلام
، وموقفهم من الخلافة ومن عليّ عليهالسلام
خاصّة وبني هاشم عامّة معروف جدّاً !
وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً
إلىٰ عائشة ، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه !
ولعلّ أقوىٰ مايُثار هنا : أنّ
هذه الأحاديث قد رواها الشيخان ، فكيف يمكن طعنها والشكّ فيها ؟!
وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون
سواها ، الحقيقة التي كشف __________________
عنها النقاب مؤرّخون
وأئمّة لاشك في وثاقتهم وصدقهم :
ـ قال نفطويه في تاريخه : إنّ أكثر
الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في مايظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشم !
ـ وقال المدائني في كتابه في الأحداث : فرُوِيَتْ
أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ، لا حقيقة لها.. حتّىٰ انتقلت تلك الأخبار والأحاديث
إلىٰ الديّانين الّذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة مارووها ولا تديّنوا بها !
ـ وقال الإمام الباقر عليهالسلام : « حتّىٰ صار
الرجل الذي يُذكر بالخير ، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة ، ولم يخلق الله تعالىٰ شيئاً منها ، ولا كانت وقعت ،
وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلّة ورع » !
فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الأخبار
إلىٰ الصحيحين وغيرهما.. فمن أين يأتي الاستنكار وهم مارووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها ؟!
وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة
بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في مرضه : «
ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعده أبداً » فاختلفوا عنده ، وقال قوم
منهم : لقد غلبه __________________
الوجع ، حسبنا
كتاب الله
!.
وممّا يشهد لهذا القول ، بل يجعله يقيناً
لا شكّ فيه ، ماثبت عن ابن عبّاس في وصف اختلافهم عند النبيّ الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب ، فقد كان ابن عبّاس يصف هذا الحديث بأنّه ( الرزيّة ، كلّ الرزيّة ) ويذكره فيقول : ( يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! قالوا : وما يوم الخميس ؟! قال : اشتدّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجعه فقال : « ائتوني أكتب لكم كتابا لاتضلّوا بعدي » فتنازعوا ، وماينبغي عند نبيٍّ تنازع ! وقالوا : ماشأنهُ ! أهَجَر ؟ استفهموه !!. فقال : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير » قال ابن عباس : إن الرزيّة كلّ الرزيّة ماحال بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم ). ويبكي حتّىٰ يبلّ دمعُه الحصىٰ .
فلو كان الأمر كما وصفه الحديث المنسوب
إلىٰ عائشة « يأبىٰ الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر » لم تكن ثمّة
رزية يبكي لها ابن عبّاس كلّ هذا البكاء ويتوجّع كلّ هذا التوجّع.
إنّ بكاء ابن عبّاس وتوجّعه الشديد لهذا
الحديث لهو دليلٌ لاشيء أوضح منه علىٰ أنّ الذي أراده النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ذلك الكتاب لم يتحقّق ، بل تحقّق شيء آخر غيره لم يكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أراده ولا أشار إليه أدنىٰ إشارة.
وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً حين ندرك أنّ
ابن عبّاس هو واحد من __________________
سادة بني هاشم
الّذين لم يبايعوا لأبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر !.
فمع هذه الثوابت لايبقىٰ احتمال
لصحّة الحديث المنسوب إلىٰ عائشة !
٣ ـ حديث : « اقتدوا باللَّذَين مِن
بعدي ، أبي بكر وعمر ».
أخرجه الترمذي وابن ماجة ، واعتمده كثيرون في إثبات النصّ
علىٰ أبي بكر وعمر ، أو في إثبات صحّة خلافتهما .
لكنّ ابن حزم استهجن كثيراً الاستدلالَ
بهذه الرواية ، وعدّه عيباً يترصّدُ أمثالَه الخصوم ، فقال مانصّه : ( ولو أنّنا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً ، أو أبلسوا أسفاً ، لاحتججنا بما روي ( اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر ) ولكنّه لايصحّ ، ويُعيذنا الله من الاحتجاج بما لايصحّ ) .
٤ ـ نصوص أُخر نُسبت إلىٰ عليّ عليهالسلام ، إمعاناً في سدّ
الثغرات ، وقطع الطريق علىٰ الخصم ، استبعد المحبّ الطبري صحّة شيءٍ منها لتخلّف عليٍّ عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر ، ونسبته إلىٰ نسيان الحديث في مثل هذه المدّة أمر بعيد .
__________________
وهذا حقٌّ يؤيّده ما اشتهر عن عليّ عليهالسلام من ذِكر حقّه في
الخلافة .
هذه جملة مااعتمدوه من النصوص الحديثية
في النصّ علىٰ أبي بكر وتقديمه.
ثانيا ـ نصوص من
القرآن الكريم :
١ ـ قوله تعالىٰ : ( وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ) .
قالوا : الخطاب هنا للصحابة ، فوجب أن
يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكّن بها الدين ، ولم يوجد علىٰ هذه الصفة إلاّ خلافة الخلفاء الأربعة ، فهي التي وعد الله بها .
حتّىٰ صرّح بعضهم بأنّ الآية نازلة فيهم ، أو في أبي بكر وعمر خاصّةً .
وهذا الاستدلال ضعّفه المفسّرون بأمرين
:
الأوّل :
إنّ المراد في هذه الآية هو ( الوعد لجميع الأُمّة في ملك الأرض كلّها تحت كلمة الإسلام ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «
زُوِيَتْ لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ مُلك أُمّتي مازُوِيَ لي منها » ). وأنّ ( الصحيح في هذه الآية أنّها
في استخلاف الجمهور ، __________________
واستخلافهم هو أن
يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها...
ألا ترى إلىٰ إغزاء قريش المسلمين
في أُحد وغيرها ، وخاصّةً الخندق ، حتىٰ أخبر الله تعالىٰ عن جميعهم فقال : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا
) . ثمّ إنّ الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيراً ، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وهو المراد بقوله : (
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ ). وقوله : (
كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
) يعني بني
إسرائيل ، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر ، وأورثهم أرضهم وديارهم .. وهكذا كان الصحابة مستضعَفين خائفين ، ثمّ إنّ الله تعالىٰ أمّنهم ومكّنهم وملّكهم ، فصحّ أنّ الآية
عامّة لأُمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
غير مخصوصة ، إذ التخصيص لايكون إلاّ بخبر ممّن يجب له التسليم ، ومن الأصل المعلوم التمسّك بالعموم ) .
والثاني :
ماذكروه في سبب نزول الآية ، فإنّه منطبق تماما علىٰ ماذُكر آنفاً ، لايُساعد علىٰ تخصيصها في الخلفاء الأربعة أو بعضهم ، وإنْ كان فيه مايفيد تخصيصها بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأصحابه .
ففي رواية البراء ، قال : فينا نزلت
ونحن في خوف شديد.
__________________
وفي رواية أبي العالية ، يصف حال أصحاب
الرسول وهم خائفون ، يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح ، فشكوا ذلك إلىٰ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فأنزل الله الآية ، فأظهر الله نبيّه علىٰ جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح.
ومثلها رواية أُبيّ بن كعب ، وقوله في
رواية ثانية عنه : لمّا نزلت علىٰ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
( وَعَدَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
) الآية ، بشّر
هذه الأُمّة بالسَنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب .
أمّا رواية عبد بن حُميد عن عطيّة ففيها
تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الأربعة ، إذ قال عطيّة : هم أهل بيتٍ هاهنا ! وأشار بيده إلىٰ القِبلة .
وفي هذا عطف علىٰ ماذهب إليه غالب
مفسّري الشيعة من أنّ المراد بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا : النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والأئمّة من أهل بيته عليهمالسلام.
وأنّ هذه الآية تبشّر بالمهدي الموعود من أهل البيت ودولته .
فمع هذا القول ، أو مع ظهور ما تقدم من
إفادتها العموم ، لا يبقىٰ وجه للتمسّك بها هنا.
٢ ـ قوله تعالىٰ ( قُل
لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي
بَأْسٍ
__________________
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ
فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا
) . فقد جعل الداعي مفترض الطاعة ، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان ، فوجبت طاعتهم بنصّ القرآن ، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحّت إمامتهم وخلافتهم .
والصحيح الذي يوافق تاريخ نزول الآية
الكريمة ، ويوافق الوقائع ، هو ماذكره الرازي من أنّ الداعي هو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، إذ كانت
الآية المذكورة نازلة في الحديبية بلا خلاف ، وهي في سنة ستّ للهجرة ، وبعدها غزا النبيّ هوازن وثقيف وهم أُولو بأس شديد ، في وقعة حنين الشهيرة وذلك بعد فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ، وفتح مكّة هو الآخر دعوة إلىٰ قتال قوم أُولي بأس شديد قاتَلوا الإسلام وأهله حتّىٰ أظهره الله عليهم في الفتح ، ثمّ كانت غزوة مؤتة الشديدة ، ثمّ غزوة تبوك وهي المعروفة بجيش العسرة ، التي استهدفت محاربة الروم علىٰ مشارف الشام ، ثمّ دعاهم مرّةً أُخرىٰ لقتال الروم في جيش أُسامة الذي جهّزه وأمر بإنفاذه وشدّد علىٰ ذلك في مرضه الذي توفّي فيه.
فكيف يقال إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم
يَدْعُهُم إلىٰ قتال بعد نزول الآية ؟!
ولأجل الفرار من هذا المأزق ذهبوا
إلىٰ آية سورة التوبة النازلة في المخلَّفين : (
فَإِن
رَّجَعَكَ اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ
فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا
__________________
مَعَ الخَالِفِينَ
) .
قال ابن حزم بعد أن ذكر هذه الآية
مانصّه : وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شكّ التي تخلّف فيها الثلاثة المعذورون الّذين تاب الله عليهم في سورة براءة ، ولم يغزُ عليهالسلام بعد غزوة تبوك إلىٰ أن مات. وقال تعالىٰ أيضاً : (
سَيَقُولُ
المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ
قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ )
فبيّن أنّ العرب لايغزون مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد تبوك !.
وهذا أوّل التهافت ! فالآية الثانية ، آية
سورة الفتح ، نزلت في الحديبية سنة ستّ للهجرة بلا خلاف ، أي قبل تبوك بثلاث سنين ! ويتّضح التهافت جليّاً حين يواصل القول مباشرةً : ( ثمّ عطف سبحانه وتعالىٰ عليهم إثر منعه إيّاهم من الغزو مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وغلق باب التوبة فقال تعالىٰ : ( قُل
لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) فأخبر تعالىٰ أنّهم سيدعوهم غير
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ قومٍ يقاتلونهم أو يُسلمون ) .
وهكذا قلب ترتيب الآيات ، فقدّم آية
التوبة النازلة بعد تبوك سنة تسع ، وأخّر آية الفتح النازلة في الحديبية سنة ستّ ، ليتّفق له مايريد !!
__________________
وهذا هو الخطأ الأوّل ، فكيف يكون مانزل
سنة تسع من الهجرة مقدَّماً علىٰ مانزل سنة ستّ ؟!
وأمّا الخطأ الثاني فليس بأقلّ ظهوراً
من الأوّل : فآية سورة الفتح النازلة في الحديبية في السنة السادسة قد جاء فيها الإخبار عن وقوع الدعوة ، وتعليق الثواب والعقاب بالطاعة والعصيان منهم ، فنصّ الآية يقول : ( سَتُدْعَوْنَ
إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ...
) وقد وقعت
الدعوة منه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حقّاً في حُنين ومؤتة وتبوك.
أمّا آية سورة التوبة في المخلَّفين
المنافقين فقد أغلقت عليهم طريق التوبة ومنعت خروجهم مع النبيّ ومع غيره أيضاً ، إذ كيف يدعوهم أبو بكر أو عمر إلىٰ جهاد الكفّار وهم قد شهد عليهم الله ورسوله بالكفر والموت علىٰ الضلال ؟! فقال تعالىٰ في تلك الآية نفسها : ( فَإِن رَّجَعَكَ
اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ
الخَالِفِينَ * وَلا
تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) .
وهذا صريح في حكم الله تعالىٰ عليهم
بالكفر وقت نزول الآيات ، وأنّهم يموتون علىٰ الكفر والضلال ، وأكّد ذلك بقوله في الآية التالية مباشرة : ( وَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم
بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
) .
__________________
فهؤلاء إذن المقطوع بكفرهم وموتهم
علىٰ الكفر ، غير أُولئك الّذين ذكرتهم سورة الفتح ووعدتهم بالثواب إنْ هم استجابوا للداعي !
ثمّة التفاتة هامّة جدّا ، وهي : أنّه
في ذات الواقعة التي نزلت فيها الآية الأُولىٰ : (
قُل
لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا
حَسَنًا... )
أي في الحديبية ذاتها ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لوفد قريش : «
يا معشر قريش ، لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللهُ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف علىٰ الدين ، قد امتحن قلبه علىٰ الإيمان » قالوا : من هو يا رسول الله ؟ فقال أبو
بكر : من هو يا رسول الله ؟ وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
خاصف النَعل » وكان قد أعطىٰ عليّاً نعلاً يخصفها.
أخرجه الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة
بأسانيد صحيحة .
ونحو هذا تماماً قاله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لوفد ثقيف ،
قال : «
لَتُسلمُنَّ أو لأبعثنَّ عليكم رجلاً منّي ـ أو قال : مثل نفسي ـ ليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم »
قال عمر : فو الله ماتمنّيت الإمارة إلاّ يومئذٍ ، فجعلتُ أنصب صدري رجاء أن يقول : هو هذا. فالتفتَ إلىٰ عليٍّ فأخذ بيده وقال : « هو هذا ، هو هذا »
.
ونحوه ما أخبر به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه واقعٌ
بعده ، فقال : «
إنّ منكم من يقاتل
__________________
علىٰ تأويل القرآن كما قاتلتُ علىٰ
تنزيله » فاستشرف له القوم ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فقال أبو بكر : أنا هو ؟ قال : « لا ».
قال عمر : أنا هو؟ قال : « لا ، ولكن خاصف النعل » وكان عليٌّ يخصف
نعل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
وهذه نصوص اجتمعت صراحةً علىٰ نفي
وإثبات :
نفت صراحةً أن يكون الداعي أبو بكر أو
عمر..
وأثبتت صراحةً أنّ الداعي بعد الرسول هو
عليّ !
وبعد وجود هذه النصوص الموثّقة
المتضافرة فلا مسوِّغ للرجوع إلىٰ مداخلات المتكلّمين.
__________________
الاتجاه الثاني : النصوص الصحيحة الحاكمة
نصوص أيقن بها طائفة من الصحابة ،
علىٰ رأسهم عليّ ، يقيناً لا يسمح أن يتسرّب إلىٰ مدلولها شكّ.. يقينا دفع عليّاً عليهالسلام أن يردّ بدهشة
علىٰ من دعاه لتعجيل البيعة بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
، قائلاً : «
ومن يطلب هذا الأمر غيرنا »
؟!.
لكنّ تسارع الأحداث تلك الأثناء ، وإحكام
القبضة ، لم يتركا لشيء من تلك النصوص موقعاً يرتجىٰ ، أمّا حين تحقّقت بارقة أمل يوم اجتماع الأصحاب الستّة للشورىٰ ولم يُبَتّ في الأمر بعد ، فلم يتوانَ عليٌّ عليهالسلام عن التذكير بطائفة منها .
وبعد أن تمّت له البيعة كانت الأذهان
أكثر استعداداً للإصغاء ، وأوسع فسحةً للتأمّل.. فبالغ في التذكير ببعضها ، نصّاً أو دلالةً ، حتّىٰ امتلأت
بها خطبه الطوال والقصار ، وكان لايخلو تذكيره أحيانا من تقريع ، ظاهر.. أو خفيّ !
وبواحد من مواقفه نستهلّ هذه الطائفة من
النصوص :
١
ـ « من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه » :
خطب عليٌّ عليهالسلام
في الناس ، فقال : أنشدُ الله مَن سمع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
يقول يوم غدير خُمّ
: «
مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه »
لَما قام فشهد !
فقام اثنا عشر بدرياً ، فقالوا : نشهد
أنّا سمعنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول يوم غدير خُمّ : «
ألستُ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم »
؟ قلنا : بلىٰ ، يا رسول الله.
قال : « فمَن كنتُ مولاه
فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عادا » .
وحديث غدير خمّ لم يرد في مسند أحمد
أكثر منه طُرُقاً إلاّ حديثاً واحداً
!. أمّا في كتاب ( السُنّة ) لابن أبي عاصم ( ٢٨٧ ه ) وتاريخ ابن كثير ، فلا يضاهيه حديث
!!. ورواه غيرهم بأسانيد صحيحة ، كالترمذي وابن ماجة ، والنسائي ، وابن أبي شيبة ، والحاكم . ونَصَّ الذهبي علىٰ تواتره .
__________________
لكن بعد هذا جاء دور المتكلّمين ، فبذلوا
جهودا مضنيةً في تأويله وصرفه عن معناه ، بل تجريده من كلّ معنىً !!
فحين رأوا أنّ الإقرار بدلالته
علىٰ الولاية العامّة يفضي إلىٰ إدانة التاريخ وتخطئة كثير من الصحابة ، ذهبوا إلىٰ تأويله بمجرّد النصرة والمحبّة ، فيكون معنىٰ الحديث : يا معشر المؤمنين ، إنّكم تحبّونني أكثر من أنفسكم ، فمن يحبّني يحبّ عليّاً ، اللّهمّ أحبّ من أحبّه ، وعادِ من عاداه !.
وحين رأوا أنّ جماعة من الصحابة قد
عادَوه وحاربوه ، ومنهم : عائشة وطلحة والزبير ، وأنّ آخرين قد أسّسوا دينهم ودنياهم علىٰ بغضه ، ومنهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ومروان وعبد الله بن الزبير.. ذهبوا إلىٰ حقّ هؤلاء في الاجتهاد مقابل ذلك النصّ ، فهم معذورون وإن أخطأوا ، بل مأجورون أجراً واحداً لأجل اجتهادهم !!.
وهكذا أصبح الخروج علىٰ نصوص
الشريعة حتّىٰ في مثل تلك الطرق السافرة ، اجتهاداً يُثاب صاحبه ، وليس بينه وبين الآخر الذي تمسّك بالشريعة وقاتل دونها إلاّ فرق الأجر ! فالذي قاتل الشريعة له نصف أجر الذي قاتل دونها !!
لقد كان الأوْلىٰ بهم أن يتابعوا
سُنّة الرسول ، ويوقِّروا نصّه الشريف الثابت عنه ، بدلاً من إفراطهم في متابعة الأمر الواقع الذي ظهر فيه اختلاف كثير..
__________________
فالحقّ أنّ هذا نصٌّ صريح في ولاية
عليٍّ عليهالسلام
، لا يحتمل شيئاً من تلك التأويلات التي ما كانت لتظهر لولا الانحياز للأمر الواقع ومناصرته.
وممّا يزيد في ظهور هذا النصّ نصوص
أُخرىٰ تشهد له وتبيّنه ، كما نرىٰ في النصوص الآتية :
٢ ـ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ».
حديث صحيح .
٣ ـ ومثله قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عليّ : «
إنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي.. إنّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي »
يكرّرها .
٤ ـ ومثله قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليٍّ : «
أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي ».
أو : «
أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة »
.
وبعد اليقين بصحّة هذه الاحاديث ، لايمكن
أن تفسّر بحسب ظاهرها فتدين الواقع التاريخي !
فلمّا أرادوا تفسير الولاية هنا أيضاً بالنصرة
والمحبّة ، نظير ما في قوله تعالىٰ : (
وَالمُؤْمِنُونَ
وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
) ، صدمهم قوله : «
بعدي » الذي لا يمكن أن يتشابه معناه !
__________________
ولمّا كانت قدسية الرجال أعظم من قدسية
النصّ ، رغم ثبوت صحّته عندهم ، شهروا سيف التكذيب ، فقالوا : إسناده صحيح مع نكارة في متنه لشذوذ كلمة « بعدي » !
ولمّا أرادوا البرهان علىٰ هذه
النكارة والشذوذ فمن اليسير جدّاً أن يرموا بها « شيعيّاً » ورد في إسناد بعضها
!.
لكن من البديهي أنّ مثل هذا البرهان
الأخير يحتاج إلىٰ توثيق ، خصوصاً إزاء حديث يرِد بأسانيد صحيحة متعدّدة ، فكيف وثّقوه ؟!
ليتهم لم يوثّقوه ، ليتهم تركوه مجازفةً
كمجازفات الكثير من أصحاب الأذواق !!
قالوا في توثيقه : يؤيّده أنّ الإمام
أحمد روىٰ هذا الحديث من عدّة طرق ليست في واحدة منها هذه الزيادة
!
إنّها مقالةُ مَن لايخشى فضيحة التحقيق !!
فالنصوص الثلاثة التي ذكرناها لهذا
الحديث ، وفي جميعها كلمة « بعدي » جميعها في مسند أحمد
!
وأغرب من هذا أنّ المحقّق الذي ينقل
قولهم المتقدّم ويعتمده ، يخرّج بعضها علىٰ مسند أحمد نفسه
!!.
__________________
ومرّة أُخرىٰ ينهار ذلك البرهان
وتوثيقه أمام الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وفيه : « أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي »
، وليس في
إسناده واحد من أُولئك ( الشيعة ) الّذين اتُّهِموا به ! بل اتّفق علىٰ صحّته
الحاكم والذهبي والألباني
!
إنّ هذه الدلائل ليست فقط تثبت صحّة
قوله «
بعدي » ، إنّما تثبت أيضاً أنّ الرواية التي وردت في مسند أحمد أو غيره وليس فيها كلمة «
بعدي » إنّما قام ( بتهذيبها ) أنصار التاريخ الّذين نصروه حتّىٰ في أوج انحرافه عن
السُنّة..
كيف لا ؟! وهي إدانة صريحة لمساره
المنحرف الذي صار عقيدةً يتديّنون بها ، ويضلِّلون مَن خالفهم فيها !
٥ ـ الحديث الذي غاب عن ( السنن )
وأظهره أصحاب التاريخ والتفسير :
« إنّ هذا أخي ، ووصيّي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا
له وأطيعوا » .
فإذا كان الذي دهش قريشاً في جاهليّتها
هو أن يؤمر أبو طالب بأن __________________
يسمع لابنه ويطيع ، فقد دهشها بعد الإسلام أن يؤمر كلّ
الصحابة بذلك !
قال ابن كثير : ذكروا في إسناد هذا
الحديث عبد الغفّار بن القاسم ، وهو كذّاب ، شيعي ، اتّهمه عليّ بن المديني بوضع الحديث ، وضعّفه الباقون .
لكنّ أبو مريم ، عبد الغفّار بن القاسم
، قد حفظ له التاريخ غير ما ذكر ابن كثير !
حفظ لنا خلاصة سيرته ، وصلته بالحديث ، ومنزلته
فيه ، ثمّ حفظ علّة تركهم حديثه :
قال ابن حجر العسقلاني : ( كان ـ أبو
مريم ـ ذا اعتناء بالعلم وبالرجال.. وقال شعبة : لم أرَ أحفظ منه.. وقال ابن عديّ : سمعتُ ابن عقدة يثني علىٰ أبي مريم ويُطريه ، ويجاوز الحدّ في مدحه ، حتّىٰ قال : لو ظُهر
علىٰ أبي مريم مااجتمع الناس إلىٰ شعبة )
!!.
إذن لأمرٍ ما لم يُظهَر علىٰ أبي
مريم ! قال البخاري : عبد الغفّار بن القاسم ليس بالقويّ عندهم.. حدّث بحديث بُرَيدة « عليٌّ مولى مَن كنتُ مولاه »
!.
__________________
لكنّ حديث بريدة هذا
قد أخرجه ابن كثير نفسه من طريق آخر وصفه بأنّه إسناد جيّد قويّ ، رجاله كلّهم ثقات
!.
ذلك هو أبو مريم !
٦ ـ خلاصة وصيّة النبيّ لأُمّته في حفظ
رسالته : «
ألا أيُّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم الثَقَلَين : أوّلهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.. وأهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي » .
ـ « إنّي تاركٌ فيكم
ماإنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتىٰ يردا
علَيَّ الحوض.. فانظروا كيف تخلفوني فيهما »
.
ـ « إنّي تارك فيكم
خليفتين : كتاب الله ، وأهل بيتي... »
.
تلك خلاصة رسالة السماء... ومفتاح
المسار الصحيح الذي أراده النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لشريعته.
وهذا كلام لا يختلف في فهمه عامّيٌّ
وبليغ.. فمن أين يأتيه التأويل ؟!
إنّه لو قُدِّر أن تتحقّق الخلافة
لعليٍّ أوّلاً ، لَما ارتاب أحد في هذا النصّ __________________
الصريح الصحيح..
لكنّ اختلاف المسار الجديد عنه ، وتقديس الرجال ، هما وراء كلّ ما نراه من ارتياب وتجاهل لنصّ لا شيء أدلّ منه علىٰ تعيين أئمّة المسلمين ، خلفاء الرسول !!
إنّ أغرب ما جاء في ( تعطيل ) هذا النصّ
قولٌ متهافتٌ ابتدعه ابن تيميّة حين قال : ( إنّ الحديث لم يأمر إلاّ باتّباع الكتاب ، وهو لم يأمر باتّباع العترة ، ولكن قال : أُذكّركم الله في أهل بيتي ) !.
فقط وفقط ، ولا كلمة واحدة !!
ولهذا القول المتهافت مقلِّدون ، والمقلِّد
لا يقدح في ذهنه ما يقدح في أذهان البسطاء حتىٰ ليعيد علىٰ شيخه السؤال : أين الثقل الثاني إذن
؟! أين الخليفة الثاني إذن ، والنبيّ يقول « الثقلين.. خليفتين
» ؟! ومَن هذان اللذان لن يفترقا حتىٰ يردا الحوضَ معاً ؟!
« كتاب الله »
و «
عترتي أهل بيتي » إنّهما المحوران
اللذان سيمثّلان محلّ القُطب في مسار الإسلام الأصيل غدا بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وليس بعد هذا الحديث ، وحديث غدير خمّ ،
مايستدعي البحث عن نصوص أُخر لمن شاء أن يؤمن بالنصوص..
الخطاب الجامع..
مفترق الطرق :
في حديث صحيح ، جمع الخطاب وأوجز :
قال الصحابي زيد بن أرقم : لمّا دفع
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من حجّة الوداع ونزل __________________
غدير خمّ ، أمر
بدوحاتٍ فقُمِمْن
، ثمّ قال : «
كأنّي دُعيتُ فأجبتُ ، وإنّي تارك فيكم الثَقَلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما ! فإنّهما لن يفترقا حتىٰ يردا علَيَّ الحوض ».
ثمّ قال : « إنّ الله مولاي ، وأنا
وليّ كلّ مؤمن » ثمّ أخذ بيد عليّ رضياللهعنه ، فقال : «
مَن كنتُ وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ».
قال أبو الطفيل : قلتُ لزيد : سمعتَه من
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟!
قال : نعم ، وإنّه ما كان في الدوحات
أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه .
هذا الخطاب ، علىٰ نحو مائة ألف
من المسلمين شهدوا حجّة الوداع ، وعند مفترق طرقهم إلىٰ مدائنهم ، لم يعِشِ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعده إلاّ
نحو ثمانين يوماً
، ليكون هذا الخطاب ذاته بعد اليوم الثمانين مفترق الطرق بين المسلمين ، وحتىٰ اليوم !!
ثمانون يوماً لا تكفي لنسيانه !!
__________________
ودواعي الذكرىٰ التي أحاطت به لا
تسمح بتناسيه !!
لكن لم يحدّثنا التاريخ أنّ أحداً قد
ذكره في تلك الأيّام الحاسمة التي ينبغي ألاّ تعيد الأذهان إلىٰ شيء قبله ، فهو النصّ الذي يملأ ذلك الفراغ ، ويسكن له ذلك الهيجان ، وتنقطع دونه الأمانيّ ، أو فرص الاجتهاد..
« إنّي يوشك أن أُدعى فأُجيب..
وإنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا
بعدي : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي..
مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه.. ».
والعهدُ ، بعدُ ، قريبٌ ، جدُّ قريب..
فإذا وجدنا اليوم من لم يؤمن بالنصّ
علىٰ خليفة النبيّ ، فليس لأنّ النبيّ لم يَقُلْه ، بل لأنّ الناس يومئذٍ لم يذكروه !!
٧ ـ « أنت منّي بمنزلة
هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ».
حديث متواتر لا خلاف فيه ، لكنّ الكلام في تأويله ، وما أغنانا
عن التأويل الذي ما أبقى من النصّ إلاّ حروفه !!
غريب جدّا ما ذهب إليه المتأوَّلون من
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يَقُلْهُ إلاّ تطييباً لخاطر عليٍّ وترغيباً له في البقاء في المدينة لمّا أرجف به المنافقون وقالوا : خلّفك مع النساء والصبيان ! وليس فيه من تشابه المنزلتين إلاّ __________________
القرابة !.
غريب في نسبة هذه الاغراض إلىٰ حديث
نبويّ ظاهر ، إلىٰ حديث النبيّ الذي لا يقول إلاّ حقّاً ، ومع عليٍّ بالذات ، ربيب النبيّ وبطل الملاحم !!
وغريب في تناسي القرآن ، وكأنّ القرآن
لم يذكر شيئاً من منزلة هارون من موسى !!
وغريب في الغفلة عمّا يضفيه هذا التأويل
إلىٰ عليّ وسعد وابن عبّاس ، علىٰ الأقلّ ، من سذاجة في التفكير وقصور في الفهم !!
ألم يكن عليٌّ يعرف قرابته من رسول الله
قبل ذلك اليوم ؟!
أم كان سعد لم يتمنّ إلاّ هذه القرابة
وهو يقول : سمعتُ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول في عليٍّ ثلاث خصال لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم ، سمعته يقول : « إنّه منّي بمنزلة
هارون من موسىٰ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي... » ؟! فهل فهم منه القرابة ، لا غير ؟!
أم كان ابن عبّاس لا يريد إلاّ القرابة
حين يذكر لعليٍّ عشر خصال ليست لأحدٍ من الناس ، فيعدّ فيها هذا الحديث
؟! فهل كان النبيّ ليس له ابن عمّ إلاّ عليّ ؟!
__________________
لقد كان لابن عبّاس من قرابة النبيّ مثل
مالعليّ عليهالسلام
فكلاهما ابن عمّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
!! ويساويهما في هذه القرابة كلّ أولاد أبي طالب وأولاد العبّاس وأولاد أبي لهب !
ولا يخفىٰ أيضاً أنّ قرابة عليٍّ
للرسول ليست كقرابة هارون لموسىٰ ، فليست هي المعنيّة في النصّ قطعاً..
وغريب أن يخفىٰ علىٰ هؤلاء
ما هو ظاهر لمن هو دونهم : فقوله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » ظاهر في
عمومه واستيعابه جميع مصاديق تلك المنزلة ، ومن هنا استثنىٰ النبوّة ، فقال : «
إلاّ أنّه لانبيَّ بعدي » فلمّا استثنىٰ النبوّة فقد نصّ علىٰ ثبات المصاديق الأُخر ، وهي : الوزارة
والخلافة.
فلو لم يرد النصّ إلاّ في غزوة تبوك ، لَما
أفاد ذلك تخصيصه بتلك الغزوة مادام الحديث نصّاً في العموم.
ولقد ورد هذا النصّ نفسه في غير غزوة
تبوك أيضاً ، كما رواه ابن حبّان وغيره في خبر المؤاخاة في السنة الأولىٰ من الهجرة النبوية .
٨ ـ « يكون بعدي اثنا
عشر خليفة ، كلّهم من قريش ».
متواتر ، لانزاع فيه !.
__________________
أهل البيت أوّلاً :
يقول ابن تيميّة : إنّ بني هاشم أفضل
قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل بني آدم ، كما صحّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوله في الحديث الصحيح : «
إنّ الله اصطفىٰ بني إسماعيل ، واصطفىٰ كنانة من بني إسماعيل ، واصطفىٰ قريشاً من كنانة ، واصطفىٰ بني هاشم من قريش »..
ويمكن أن يضاف إلىٰ هذا كثير :
أ ـ « اللّهمّ هؤلاء أهل
بيتي ، فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً »
عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين ، ولا أحد سواهم ذلك حين نزل قوله تعالىٰ (
إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا ) فأدار عليهم
الكساء وقال فيهم قوله المتّفق عليه هذا
!.
ب ـ « نحن بنو عبد
المطّلب سادة أهل الجنّة : أنا ، وحمزة ، وعليّ ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهديّ »
.
ج ـ « الحسن والحسين
سيّدا شباب أهل الجنّة » .
__________________
د ـ « المهديّ من عترتي
، من وُلْد فاطمة » .
فلم يبق في الأمر أدنى غموض ، بعد تقديم
بني هاشم الصريح ، وتقديم أهل البيت خاصّة علىٰ سائر بني هاشم ، وصراحة النصوص المتقدّمة ، لا سيّما الغدير والولاية والثقلين ، وببساطة كبساطة هذا الدين الحنيف ، وبعيداً عن شطط التأويل بُعد هذا الدِين عن التعقيد والتنطُّع ، تبدو عندئذٍ كم هي ظاهرةٌ إمامة اثني عشر سيّدا من سادة أهل البيت عليهمالسلام..
وتحديداً : أوّلهم عليّ ، فالحسن ، فالحسين ، وآخرهم المهديّ عليهالسلام.
ومن لحظ الاضطراب الشديد والتهافت الذي
وقع فيه شرّاح الصحاح عند حديث الخلفاء الاثني عشر
، ازداد يقيناً في اختصاص سادة أهل البيت بهذا الحديث ، دون سواهم.
وقد اهتدىٰ إلىٰ هذا
المعنىٰ بعض من شرح الله صدره للإسلام من أهل الكتاب لمّا رأوا في أسفارهم الخبر عن اثني عشر إماماً يكونون بعد النبيّ العظيم من وُلْد إسماعيل
، فناقضهم ابن كثير ، نقلاً عن شيخه ابن تيميّة ، ليجعل هؤلاء العظماء هم الخلفاء الّذين يعدّون فيهم معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك وهشام ، أو الّذين لا يدرون من هُم .
__________________
وأهل
البيت أوّلاً :
لو لم يكن ثمّة نصّ في الإمامة ، وكان
للأُمّة أن تُرشّح لها أهلها ، وبعد ما تقدّم في تفضيل بني هاشم ، وأهل البيت خاصّة ، فهم الأوْلىٰ بالإمامة بلا منازع.
وأهل
البيت أوّلاً :
لو كانت الخلافة محصورة في قريش ، إمّا
لنصّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، أو لقول المهاجرين في السقيفة ، ( أنّ قريشاً أولياؤه وعشيرته ) ، ( وقومه أوْلىٰ به
) ، ( وهيهات أن يجتمع سيفان في غمد ) ، ( ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم ).
وأخيراً : ( فمَن ينازعنا سلطان محمّد
ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلاّ مُدلٍ بباطلٍ ، أو متجانف لإثمٍ ، أو متورّط في هَلَكة ) ؟!.
فإنّ هذا كلّه لا يرشّح أحداً قبل بني
هاشم ، فإذا كان قومه أوْلىٰ به فلا ينازعهم إلاّ ظالم ، فما من أحد أوْلىٰ به من بني هاشم ، ثمّ أهل البيت خاصّة !
فبنو هاشم ، دون سواهم من بطون قريش ، هم
المعنيّون بآية الإنذار في بدء الدعوة النبوية : (
وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) .
وبنو هاشم هم المعنيّون بالمحاصرة في
شعب أبي طالب ثلاث سنين ، وليس معهم إلاّ بني المطّلب ، أمّا بطون قريش الأُخر ، تَيم وعديّ __________________
وأُميّة ومخزوم
وزهرة وغيرها ، فهم الّذين تحالفوا علىٰ محاصرة عشيرة محمّد الأقربين ، بني هاشم وبني المطّلب !!
فهل خفي هذا علىٰ أحد ، لو خفيت
عليه النصوص ؟!
فالذي جادل في النصوص ودَفَعها بأنّها
لو صحّت ، أو لو أفادت الخلافة ، لَما خفيت علىٰ عظماء الصحابة وجمهورهم .. عليه أن يقف أمام هذه الحقيقة ، كيف خفيت عليهم ؟!
سلوك النبيّ في ابلاغ إمامة عليّ :
عمليّا كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يمارس إعداد
عليّ لخلافته ، ومنذ بدء الدعوة ، ويُظهر لصحبه وللناس أنّه ينصبه لذلك ، عملاً مشفوعاً بالقول أحياناً ، مصرحاً بين الحين والحين بأنّ ذلك من الله تعالىٰ وبأمره..
منذ البدء ، نشأ عليٌّ في بيت النبيّ
يتبعه اتّباع الظلّ ، حتىٰ بُعث صلىاللهعليهوآلهوسلم
فكان عليٌّ أوّل من آمن به مع زوجته خديجة ..
وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يخرج
إلىٰ البيت الحرام ليصلّي فيه ، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلّيان خلفه ، علىٰ مرأىً من الناس ، ولم يكن علىٰ الأرض من يصلّي تلك الصلاة غيرهم ..
__________________
وكان عليٌّ يصف أيّامه تلك ، فيقول : «
وقد علمتم موضعي من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حِجره وأنا ولد ، يضمّني إلىٰ صدره... وكان يمضغُ الشيء ثمّ يُلقمنيه ، وما وجد لي كذبةً في قول ، ولا خَطلةً في فِعل... ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل أثَرَ أُمّه ، يرفعُ لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنةٍ بحِراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة... »
.
ويوم أنذر عشيرته الأقربين ، رفع شأن
عليٍّ عليهم جميعاً ، وخصّه بمنزلة لا يشركه فيها غيره.
ويوم هجرته إلىٰ المدينة ، اختار
عليّاً يبيت في فراشه ، ثمّ يؤدّي ماكان عند النبيّ من أمانات ، ثمّ يهاجر بمن بقي من نساء بني هاشم.
ثمّ اختصّه بمصاهرته في خير بناته سيّدة
نساء العالمين
، بعد أن تقدّم لخطبتها أبو بكر ثمّ عمر فردّهما صلىاللهعليهوآلهوسلم
! وقال لها
: «
زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً »
.
وآخىٰ بين المهاجرين والأنصار ، ثمّ
اصطفىٰ عليّاً لنفسه فقال له : « أنت
__________________
أخي في الدنيا والآخرة »
، أو : «
أنت أخي وأنا أخوك » . فكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد ، وعليّ بن أبي طالب ، أخوَين .
وفي سائر حروبه كان لواؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم أو راية
المهاجرين بيد عليٍّ عليهالسلام
.
وفي خيبر بعث أبا بكرٍ براية ، فرجع ولم
يصنع شيئاً ، فبعث بها عمر ، فرجع ولم يصنع بها شيئاً ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لأُعطينَّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، لا يخزيه الله أبداً ، ولا يرجع حتّىٰ يفتح عليه » فدعا عليّاً ودفع إليه الراية ودعا له
، فكان الفتح علىٰ يديه .
وفي عبارة بعضهم : بعث أبا بكر فسار
بالناس فانهزم حتّىٰ رجع إليه ، وبعث عمر فانهزم بالناس حتىٰ النتهىٰ إليه .. وفي عبارة بعضهم : فعاد يُجبِّن أصحابه ويجبّنونه
!.
ويقول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأصحابه : «
إنّ منكم من يقاتل علىٰ تأويل القرآن كما قاتلتُ علىٰ تنزيله » فيستشرفون
له ، كلٌّ يقول : أنا هو ؟ وفيهم أبو بكر __________________
وعمر ، فيقول : «
لا ، لا ، لكنّه عليّ » .
ويبعث أبا بكر بسورة براءة أميرا
علىٰ الحجّ ، ثمّ يبعث خلفه عليّاً فيأخذها منه ، فيعود أبو بكر إلىٰ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيقول : أحَدَث فيَّ شيءٌّ ، يارسول الله ؟!
فيقول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لا ، ولكنّي أُمرتُ ألاّ يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي »
!.
وكان لبعض الأصحاب أبواب شارعة في
المسجد ، فقال لهم : « سدّوا هذه الأبواب ، إلاّ باب عليّ »
.
وكان الصحابة عنده في المسجد ، فدخل
عليٌّ ، فلمّا دخل خرجوا ، فلمّا خرجوا تلاوموا ! فرجعوا ، فقال لهم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
والله ما أنا أدخلته وأخرجتكم ، بل الله أدخله وأخرجكم »
.
ودعاه يوم الطائف يناجيه ، فقال بعضهم :
لقد طال نجواه مع ابن عمّه !!
__________________
فقال لهم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ما أنا انتجيته ، ولكنّ الله انتجاه »
.
في حجّة الوداع أشركه في هديه ، دون
غيره من أصحابه أو ذوي قرباه .
وفيها خطب خطبته الشهيرة في عليٍّ وأهل
البيت عليهمالسلام
بغدير خمّ ، وتقدّم نصّها آنفاً.
وخصّه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مدّة حياته
الشريفة بمنزلةٍ ليست لأحد ! خصّه بساعةٍ من السحر يأتيه فيها كلّ ليلة .
وإذ نزل قوله تعالىٰ : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
) كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يأتي باب عليٍّ صلاة الغداة كلّ يوم ، ويقول : « الصلاة ، رحمكم
الله ، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا »
.
وحين يُتوَفّىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يخصُّ
عليّاً بميراثه دون عمّه العباس ، فسُئل وُلْدُ العبّاس عن ذلك فقالوا : إنّ عليّاً كان أوّلنا به لحوقاً ، وأشدّنا
به لصوقاً .
وغير هذا كثير ، وقد عرفه الصحابة في
حياة الرسول..
__________________
الصحابة والمعرفة
بالتعيين :
سمع الصحابة وشهدوا نصوص النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وسلوكه في
نصب عليٍّ عليهالسلام
وتعيينه لخلافته مباشرةً ، فأدركوا ذلك ووعوه ، حتىٰ ظهر في أقوال بعضهم ، وظهر عند آخرين قولاً وعملاً.
فاشتهر عن بعضهم تمنّيه أن لو كانت له
واحدة من تلك الخصال التي خُصَّ بها عليٌّ عليهالسلام
، كما عُرف ذلك عن : عمر بن الخطّاب ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر .
واشتهر عن اخرين متابعتهم له حتىٰ
عُرفوا في ذلك العهد بشيعة عليّ ، منهم : أبو ذرّ ، وعمّار ، وسلمان ، والمقداد .
بل كان عامّة المهاجرين والأنصار لا
يشكّون في أنّ عليّاً عليهالسلام
هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
وأبو بكر سمع بنفسه قول ابنته عائشة
لرسول الله بصوت عال : « والله لقد علمتُ أنّ عليّاً أحبّ إليك من أبي »
! فأهوىٰ إليها ليلطمها ، وقال : يا ابنة فلانة ، أراكِ ترفعين صوتك علىٰ رسول الله .
__________________
قال معاوية بن أبي سفيان في رسالته
إلىٰ محمّد بن أبي بكر ، وهي الرسالة التي أشار إليها الطبري ثمّ قال : كرهتُ ذِكرها لأُمور لا تحتملها العامّة
! ، قال فيها معاوية مخاطبا محمّد بن أبي بكر : « قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نرىٰ حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرَّزاً علينا » .
وشهيرةٌ كلمة عمر بن الخطّاب يوم غدير
خمّ : «
هنيئاً لك يابن أبي طالب ، أصبحتَ مولى كلّ مؤمن ومؤمنة »
.
علما أنّ هذه الكلمة «
مولىٰ » و «
وليّ » لم تُعرف لأحد من الصحابة إلاّ لعليٍّ عليهالسلام
في جملة من الأحاديث النبويّة الشريفة كما تقدّم آنفاً.
بل في القرآن أيضاً : ( إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
) .
قال الآلوسي : غالب الأخباريّين
علىٰ أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب ، وعليه
شِبهُ إجماعٍ لدىٰ المفسِّرين
، وطائفة من أصحاب __________________
الحديث .
وهذا كلّه كان يعرفه الصحابة من
المهاجرين والأنصار خاصّة لقربهم من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن قول محمّد بن أبي بكر في رسالته
إلىٰ معاوية ، يصف عليّاً عليهالسلام
: ( وهو وارث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووصيّه ، وأبو وُلْده ، أوّل الناس له اتّباعاً ، وأقربهم به عهداً ، يخبره بسرّه ، ويُطلعه علىٰ أمره ) .
وعبد الله بن عبّاس ، حبر الأُمّة ، يصفه
أيضاً لمعاوية ، فيسميّه ( سيّد الأوصياء ) .
والحسن السبط عليهالسلام خطب خطبته الأُولىٰ
بعد وفاة أبيه فذكر : « عليّاً خاتم الأوصياء » .
وخزيمة بن ثابت ، ذو الشهادتين ، يصفه
لعائشة ، فيقول :
وصيّ رسول الله من
دون أهلِه
|
|
|
وأنتِ علىٰ
ما كان مِن ذاكَ شاهِدَهْ
|
|
|
|
وهكذا ثبت لقب (
الوصي ) لعليٍّ عليهالسلام
عن عدد من الصحابة غير من ذكرنا ، منهم : أبو ذر الغفاري ، وحذيفة بن اليمان ، وعمرو بن الحمق __________________
الخزاعي ، وحُجر بن
عَدي ـ حجر الخير ـ وأبو الهيثم بن التيّهان وغيرهم .
فكما عرفوه «
وليّاً » عرفوه « وصيّاً »
أيضاً ، وذو الشهادتين حين أدلىٰ ، في حديثه المتقدّم ، بشهادتيه علىٰ أنّ عليّاً وصيّ النبيّ ، لم يقف عند هذا
الحدّ ، بل ألزم عائشة أيضاً الشهادة علىٰ ذلك.
إذن لم يكن لقب « الوصيّ » محدَثاً كما
صوّره بعض الدارسين الّذين أغفلوا شهادة التاريخ ثمّ أسقطوا نزعاتهم الشخصية علىٰ المفاهيم ،
وعلىٰ التاريخ كلّه ، فصوّروا « الوصيّ » وكأنّه من صنع اليهود ، ومنهم انتقل إلىٰ
المسلمين
، عن طريق عبد الله بن سبأ المزعوم أو غيره
، أو هو من صنع الشيعة ابتدعه هشام بن الحكم ( ١٩١ ه ) ولم يكن معروفاً قبله لا من ابن سبأ ولا من غيره
! ، فالأشعار والنصوص المتقدّمة المحفوظة عن الصحابة سبقت ميلاد هشام بن الحكم بنحو ثمانين سنة !
كلاّ ، بل ذاك ممّا عرفه الصحابة أو
بعضهم لعليٍّ ، وحفظه تاريخهم ، لهم أو عليهم !
__________________
ربّما يقال إنّ في تلك المصادر نزعة
شيعية ، والشيعة ليس من حقّهم أن يساهموا في كتابة التاريخ ، بل ليس من حقّهم أن يكتبوا تاريخهم الخاصّ أيضاً !
لكن هل يقال هذا في ابن حجر العسقلاني ؟!
ففي شرحه لصحيح البخاري يُثبت ابن حجر
أنّ ( الشيعة ) كانوا يتداولون أحاديث الوصيّة ، فنهضت عائشة في مواجهة ذلك التيّار بحديثها الذي أثبته البخاري ، تقول فيه إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لمّا نزل به الموت ورأسه علىٰ فخذي غُشِيَ عليه ثمّ أفاق ، فقال : «
اللّهمّ الرفيق الأعلىٰ »
فكانت آخر كلمة تكلّم بها « اللّهمّ الرفيق الأعلىٰ ».
قال العسقلاني نقلاً عن الزهري في ما
يرويه عن جماعة من أهل العلم فيهم عروة بن الزبير : كأنّ عائشة أشارت إلىٰ ما أشاعته الرافضة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أوصىٰ إلىٰ عليٍّ بالخلافة وأن يوفي ديونه !.
لكن لا العسقلاني ولا الزهري ولا جماعة
أهل العلم يشاءون أن يتقدّموا في التحقيق خطوة واحدة إلىٰ الأمام ، لأنّ الخطوة اللاحقة سوف تنفض أيديهم ممّا وضعه فيها حديث عائشة !
فالسيّدة أُمّ سَلَمة أقسمت علىٰ كذب
الحديث المرويّ عن عائشة ، حين أقسمت أنّ آخر الناس عهداً بالنبيّ هو عليّ بن أبي طالب ! قالت : ( والذي أحلف به ، إنْ كان عليٌّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عُدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
غداةً بعد غداة يقول : « جاء عليّ » ؟ مراراً ، فجاء __________________
بعد ، فخرجنا من
البيت فقعدنا عند الباب وكنتُ من أدناهم إلىٰ الباب ، فأكبّ عليه عليٌّ ، فجعل يُسارّه ويناجيه ، ثمّ قُبض صلىاللهعليهوآلهوسلم
من يومه ذاك وكان أقرب الناس به عهداً ) .
فالصحابة كانوا يعرفون ذلك وإنْ أنكرته
عائشة ، فدخل حديثها صحيح البخاري دون حديث أُمّ سلمة الذي كان رجاله من رجال الصحيح !
والحوارات التي أدارها عمر بن الخطّاب
مع ابن عبّاس هي الاُخرىٰ حوارات كاشفة عن هذا المعنىٰ :
ففي أحدها : يكشف عمر عن معرفته بذلك
فيقول : ( لقد كان النبيّ يَربَع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك ، إشفاقاً وحيطةً علىٰ الإسلام ! وربِّ هذه البَنيّة لا تجتمع عليه قريش
أبداً ).
أمّا ابن عبّاس فيؤكّد أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد نصّ
علىٰ عليٍّ ، وأنّه سمع ذلك من عليٍّ والعبّاس .
وفي أُخرىٰ : يؤكّد عمر إرادة
قريش ، فيقول : كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فتجخفوا جخفاً
، فنظرتْ قريش لنفسها فاختارت !!
__________________
لكنّ ابن عبّاس يحمل علىٰ هذه
الحجّة حملاً عنيفاً ، متسلّحاً بآي القرآن هذه المرّة ، فيقول : ( أمّا قولك : كرهت قريش ! فإنّ الله تعالىٰ قال
لقوم : ( ذَٰلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
) .
وأمّا قولك : إنّا كنّا نجخف ! فلو
جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من أخلاق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي قال له الله تعالىٰ : ( وَإِنَّكَ
لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
) وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) .
وأمّا قولك : فإنّ قريشاً اختارت! فإنّ
الله تعالىٰ يقول : (
وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ
) .
وقد علمتَ يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار
من خَلقه لذلك مَن اختار ! فلو نظرتْ قريش من حيث نظر الله لها لَوُفِّقَت وأصابت ) !!
ولهذا الحوار مصادره المهمّة أيضاً .
وهذه هي نظريّة النصّ في إطارها التامّ
: ( وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ) ، وإنّ الله اختار مِن خلقه لهذا الأمر
مَن اختار..
والحوار الطويل الذي أداره عثمان أيّام
خلافته مع ابن عبّاس ، يكشف __________________
عن وضوح تامّ لهذه
القضيّة ، إذ يختم عثمان حديثه بقوله : ( ولقد علمتُ أنّ الأمر لكم ، ولكنّ قومكم دفعوكم عنه ، وآختزلوه دونكم ) !
فأكّد ابن عبّاس هذا المعنىٰ في
جوابه ، وذكر العلّة فيه كما يراها ، ويرىٰ أنّها لم تكن خفيّةً أيضاً علىٰ عثمان ، فيقول : ( أمّا صَرفُ
قومِنا عنّا الأمرَ فعن حسدٍ قد والله عرفتَه... ) .
هذا كلّه وكثير غيره عرفه الصحابة ، وحفظه
التاريخ ، لهم أو عليهم !
فحقَّ إذن لقائل أن يقول : إنّ غالبية
المسلمين حين توفّي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانوا مع الاتّجاه الذي يمثّله عليٌّ بن أبي طالب وأصحابه ، لأنّ النبيّ كان زعيم هذا الاتّجاه .
لقد كان عامّة المهاجرين والأنصار لا
يشكّون في أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
النصّ في حديث عليّ
:
واضح جدّا في قراءة تلك الحقبة من
التاريخ أنّ عليّاً عليهالسلام
هو أكثر مَن تبنّىٰ إظهار النصوص والإشارات الدالّة علىٰ اختياره من الله لخلافة
الرسول ، أو النصّ عليه بالاسم.
فكلماته دالّة علىٰ ثبوت الخلافة
له بعد الرسول بلا فصل ، وأنّ انتقال __________________
الخلافة إلىٰ غيره
كان بغير حقّ ، بل استئثار وغلَبَة ، بل كلماته نصوص صريحة في هذه المعاني كما سنرىٰ هنا.
في حقّه خاصّة :
عليّ عليهالسلام
هو الذي أعاد إلىٰ الأذهان أحاديث نبويّةً تبرز حقّه في الخلافة بلا منازع ، لم يكن مأذونا بها أيّام الخلفاء ، إذ منعوا من الحديث إلاّ ما كان في فريضة ، يريدون بها الأحكام وفروع العبادات :
١ ـ فقد جمع الناس أيّام خلافته فخطبهم
خطبته المنقولة بالتواتر ، يناشد فيها أصحاب رسول الله مَن سمع منهم رسولَ الله بغدير خمّ يخطب فيقول : «
مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه »
إلاّ قام فشهد .
٢ ـ وعليٌّ هو الذي أعاد نشر حديث آخر
يقدّمه علىٰ أبي بكر وعمر خاصّة ، إذ أخبر النبيّ أنّ مِن أصحابه مَن يقاتل بعده علىٰ تأويل القرآن كما قاتل هو صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ تنزيله ، فتمنّىٰ أبو بكر أن يكون هو ذلك الرجل ، فلم يصدّق النبيّ أُمنيّته ، بل قال له « لا » ! فتمنّى ذلك عمر لنفسه فلم يكن أحسن حظّاً من أبي بكر ، ثمّ قطع النبيّ الأمانيّ كلّها حين أخبرهم أنّه عليٌّ ، لا
غير !.
هذه الأحاديث وغيرها وإنْ رُويت عن غيره
إلاّ أنّ روايتها عنه امتازت بكونها خُطَبا علىٰ جمهور الناس ، لا حديثاً لواحد أو لبضعة نفر ، وهذا أبلغ في التأكيد علىٰ حقّه الثابت له ، وأيقن بأنّ كثيراً من الصحابة كانوا يعرفونه ولا يجهلونه !
__________________
٣ ـ وعليٌّ جدّد التذكير أيضاً بما يبرز
حقّه فوق أبي بكر خاصّة ، حين ذكّر الناس بقصة أخذه بسورة براءة من أبي بكر ! روىٰ النسائي بإسناد صحيح عن عليٍّ عليهالسلام
: أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعث ببراءة إلىٰ أهل مكّة مع أبي بكر ، ثمّ أتبعه بعليٍّ فقال له : « خذ الكتاب فامض به
إلىٰ أهل مكّة » قال : فلحقته فأخذتُ الكتاب منه ، فانصرف أبو بكر وهو كئيب ، فقال : يا رسول الله ، أَنَزَلَ فيَّ شيء ؟! قال : « لا ، إنّي أُمرت
أن أُبلّغه أنا أو رجل من أهل بيتي » .
وفي كلّ واحد من هذه الاحاديث ردٌّ
علىٰ مَن يقول إنّ عليّاً لم يذكر شيئا يدلّ علىٰ أحقّيّته في الخلافة ! هذا ولمّا ندخل بعد رحاب ( نهج البلاغة ).
٤ ـ خطبته الشقشقيّة التي حظيت دائماً
بمزيد من التوثيق
، وهي من أكثر كلماته المشهورة وضوحاً ودلالة وتفصيلاً :
__________________
« أما والله لقد تقمّصها فلان ، وإنّه لَيعلم
أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقىٰ إليَّ الطير..
فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويت عنها كَشحاً ، وطفقتُ
أرتئي بين : أن أصولَ بيدٍ جذّاء ، أو أصبر علىٰ طخيةٍ عمياء !... فرأيتُ أنّ الصبر
علىٰ هاتا أحجىٰ ، فصبرتُ وفي العين قذىً ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نَهْبا !
حتّىٰ مضىٰ الأوّل لسبيله ، فأدلىٰ
بها إلىٰ فلان بعده..
فيا عجباً ! بينا هو يستقيلها
في
حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته !!
لشدَّ ما تشطّرا ضَرعيها !..
فصبرتُ علىٰ طول المدّة ، وشدّة المحنة..
حتّىٰ إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زَعَم أنّي أحدهم ! فيالله وللشورىٰ ! متىٰ اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم حتّىٰ صرتُ أُقرن إلىٰ هذه النظائر ؟!.. »
.
إذن أبو بكر أيضاً كان يعلم أنّ محلّ
عليٍّ من الخلافة محلَّ القطب من الرحىٰ !
وقد يبدو هذا في منتهىٰ الغرابة
لمن أَلِفَ التصوّر القدسي لتعاقب الخلافة ، ذاك التصوّر الذي صنعه التاريخ وفق المنهج الذي قرأناه في البحوث المتقدّمة ، ومن هنا استنكروه ، كما استنكروا سائر كلامه في الخلافة ، وقبله استنكروا جملة من الحديث النبوي الشريف الذي يصدم __________________
تلك القداسة !
لكنّ الحقيقة ، كلّ الحقيقة ، أنّك لو
تلمّست لذلك التصوّر القدسي شاهداً من الواقع مصدّقاً له لعدت بلا شيء.
لم يألف التاريخ الإصغاء لعليّ !!
التاريخ الذي أثبت ، بما لا يدع مجالاً
لشبهة ، أنّ عليّاً لم يبايع لأبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر ، صمّ آذانه عن سماع أيّ حجّةٍ لعليٍّ في هذا التأخّر !
تناقضٌ لم يستوقف أحدا من قارئي التأريخ
!
وكيف يستوقفهم علىٰ عيوب نفسه ، وهو
وحده الذي صاغ تصوّراتهم وثقافتهم ؟!
٥ ـ من كلام له بعد الشورىٰ ، وقد
عزموا علىٰ البيعة لعثمان :
« لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري ، ووالله لأُسلِّمنَّ
ما سلمت أُمور المسلمين ولم يكن فيها جَورٌ إلاّ علَيَّ خاصّة ؛ التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه »
.
٦ ـ « وقد قال قائل : إنّك
علىٰ هذا الأمر يابنَ أبي طالب لحريص.
فقلتُ : بل أنتم والله لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ
وأقرب ، وإنّما طلبتُ حقّا لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه !
فلمّا قرّعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبَّ
كأنّه بُهِتَ لا يدري
__________________
مايجيبني به »
!!.
والقائل إمّا سعد بن أبي وقّاص يوم
الشورىٰ علىٰ قول أهل السُنّة ، أو أبو عبيدة بعد يوم السقيفة علىٰ قول الشيعة ، وأيّاً كان فهذا الكلام مشهور يرويه الناس كافّة كما يقول المعتزلي السُنّي ابن أبي الحديد .
٧ ـ « اللّهمّ إنّي
أستعديك علىٰ قريش ومَن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا علىٰ منازعتي أمراً هو لي ، ثمّ قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تتركه »
!.
٨ ـ « أمّا بعد.. فإنّه
لمّا قبض الله نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قلنا : نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرىٰ لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا... ».
هذه هي مقدّمة خطبته في المدينة
المنوّرة في أوّل إمارته ولمّا يمض علىٰ إمارته أكثر من شهر
!.
في أهل البيت :
مثل ما ظهر هناك من وضوح وتركيز في
استعراض حقّه خاصّة ، يظهر هنا في شأن أهل البيت في جملة من كلماته :
__________________
١ ـ « لا يُقاسُ بآل
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
من هذه الأُمّة أحد.. هم أساس الدِين ، وعماد اليقين.. ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة.. » .
فبعد ذِكر حقّ الولاية ، هذا واحد من
مواضع يذكر فيها الوصيّة تصريحاً أو تلميحاً
، ثمّ هو الموضع الأكثر صراحةٍ في نسبة الوصيّة إلىٰ نفسه وأهل البيت ، مع هذا فهو الموضع الذي أهمله الدكتور محمّد عماره وهو يستقصي هذه المفردة في كلام عليٍّ ، أو غفل عنه ، لأجل أن يقول : ( إنّنا لا نجد في خطب عليٍّ وكلامه ومراسلاته ـ التي ضمّها نهج البلاغة ـ وصفه بهذا اللفظ ) !
هذا كلّه لأجل أن يدعم مقالةً حلّق فيها
بدءا حين نسب كلمة ( وصيّ ) في الحديث النبوي « أنت أخي ووصيّي » إلىٰ صنع الشيعة الّذين وضعوها بدلاً من كلمة « وزيري »
! مع أنّ الرواية السُنّية للحديث لم تعرف غير كلمة « وصيّي »
!.
٢ ـ « إنّ الأئمّة من
قريش ، غُرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم »
.
__________________
وقد وقفنا قبلُ علىٰ طائفة من
النصوص الصحيحة التي اصطفت بني هاشم من قريش وقدّمتهم عليهم ، وطائفة من الوقائع وأحداث السيرة التي قدّمت بني هاشم علىٰ سواهم ، فلا تحتجّ قريش بحجّة إلاّ وكان بنو هاشم أوْلى بها.
٣ ـ « أين تذهبون ؟!
وأنّىٰ تؤفكون ؟! والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يُتاه بكم ؟!
وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزمّة
الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ؟!
فأنزِلوهم بأحسن منازل القرآن ، ورِدُوهم ورود
الهيم العطاش.
أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّه يموت من مات
منّا وليس بميّت ، ويبلىٰ من بلي منّا وليس ببالٍ »
.
استنكار لاذع ، وأسف علىٰ هؤلاء
الناس الّذين تركوا عترة نبيّهم ، رغم وضوح الدلائل علىٰ لزوم اتّباعهم !
٤ ـ « إنّا سنخُ أصلاب
أصحاب السفينة ، وكما نجا في هاتيك من نجا ، ينجو في هذه مَن ينجو ، ويلٌ رهينٌ لمن تخلّف عنهم.. وإنّي فيكم كالكهف لأهل الكهف ، وإنّي فيكم باب حطّة ، مَن دخل منه نجا ومن تخلّف عنه هلك ، حجّةٌ من ذي الحجّة في حجّة الوداع : ( إنّي تركت بين أظهركم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل
__________________
بيتي ) »
.
٥ ـ « انظروا أهل بيت
نبيّكم ، فالزموا سَمْتَهم ، واتّبعوا أثَرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىٰ .. فإنْ لَبَدوا فالبدوا ، وإنْ نهضوا فانهضوا.. ولا تسبقونهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا »
.
٦ ـ « .. ألم أعمل فيكم
بالثَقَل الأكبر ، وأتركَ فيكم الثَقَل الأصغر »
؟!.
الثَقل الأكبر : القرآن الكريم ، والثَقل
الأصغر : الحسن والحسين عليهماالسلام.
٧ ـ « المهديّ منّا أهل
البيت ، يصلحه الله في ليلة »
، مسند أحمد ، عن عليٍّ عليهالسلام
.
٨ ـ « المهديّ منّا ، من
وُلْد فاطمة » ، السيوطي عن عليٍّ
عليهالسلام
.
وهكذا تقسّمت كلمات عليٍّ هذه بين حديث
نبويّ بحرفه أو بمضمونه ، وبين وصف أو تقييم لحدثٍ تاريخيّ حاسم ، وليس في هذا كلّه علىٰ الإطلاق ما يشذّ عن وقائع التاريخ في صغيرة ولا كبيرة.
__________________
خلاصة اليقين بحق علي :
وإنّ تلك الكثرة من الأدلة الرصينة لا
تدع للناظر اليها بعين الانصاف مجالاً للريب في حقّ علي في الخلافة...
لقد أيقن جميع المنصفين بحقّه في
الخلافة يقيناً من موقعه الممتاز عند الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن حياته الخالصة في الإسلام ، وكذلك كان هو.. فلقد كان في حياة الرسول يقول : « إنّ الله يقول : (
أَفَإِن
مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ )
واللهِ لا ننقلب علىٰ أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، واللهِ لئن مات أو قُتل لأُقاتِلنَّ علىٰ ما قاتل عليه حتّىٰ أموت ، والله إنّي
لأخوه ووليّه وابن عمّه ووارث علمه ، فمن أحقّ به منّي »
؟!.
لكنّه ( أراده حقّاً يطلبه الناس ، ولا
يسبقهم إلىٰ طلبه ) .
__________________
الخاتمة
هذه هي خلاصة قصّة الإمامة في الإسلام :
ـ هي شرط لازم لقيام النظام ؛ نظام
الدين أو نظام الدنيا ، وشرط لازم لحفظه أيضاً..
ـ وهي قضيّة شرعية ، تولّىٰ الله
تعالىٰ بذاته أمرها ، فنصب لعباده أئمّة يهدون إلىٰ سبيله :
(
إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
).. .
(
إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ
).. .
(
وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
).. .
وأمر عباده بطاعتهم :
(
وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ
).. .
__________________
(
أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ
).. .
ـ واختار جلّ جلاله لهذه الأُمّة بعد
نبيّه أئمّةً يهدون بهديه ..
أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا..
وجعل الصلاة عليهم واجبةً مع الصلاة
علىٰ سيّد رسله وخاتم أنبيائه ، بل جعلها جزءاً من شعيرة الصلاة ، فرضا كانت أو نفلاً ، فلا تقبل الصلاة لمن ترك الصلاة عليهم عامداً..
وجعل الحق معهم ، يدور حيثُ داروا..
وجعلهم مع القرآن ، لا يفارقهم ولا
يفارقونه..
وجعل الهداية منوطة باتّباعهم..
فهم الأئمّة ، سواء أجمع الناس
علىٰ طاعتهم ، أو أجمعوا علىٰ خلافهم ، فالإجماع لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً.. فهذه قمّة إفِرِستْ أعلىٰ
القمم ، فهل صارت أعلىٰ القمم بالإجماع ، أم لأن واقعها كذلك ؟ وهل سيغيّر من حقيقة علوّها إجماع أهل الأرض علىٰ أنّ هضبة الجولان هي أعلىٰ القمم ؟
إذا كان ذلك يغيّر من الواقع شيئاً ، فماذا
يقال في أنبياء الله الذين أجمعت أقوامهم علىٰ تكذيبهم وقتلهم أو إقصائهم ؟!
أمّا « الشورىٰ » في الإمامة :
فقد ثبتت صحّة ما صرّح به القرطبي وابن __________________
كثير من أنّها
اُطروحة ابتكرها عمر بن الخطاب قبل وفاته ، وأمر بها ، ولم تكن معروفة قبل ذلك..
كما أثبت البحث التاريخي أنّ عمر إنّما
أمر بها ليقطع الطريق علىٰ الصحابة الذين عزموا علىٰ المبايعة لعليّ عليهالسلام
بعد وفاة عمر ، فلم يكتف عمر بتقديم اُطروحة الشورىٰ حتّىٰ دعّمها بالتحريض علىٰ قتل من
بايع لرجل علىٰ الطريقة التي تمّت فيها البيعة لأبي بكر ! بل قتل مَن تتمّ له البيعة كذلك !!
( وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا
)
المحتويات
مُقدِّمة المركز ................................................................ ٥
تمهيد ....................................................................... ٩
الشورىٰ .................................................................. ١٣
الشورىٰ في الكتاب والسُنّة ................................................ ١٥
النصّ الأول ........................................................... ١٥
النصّ الثاني ........................................................... ١٦
موضوع الشورىٰ وأهدافها
........................................... ١٧
البُعد الأول للشورىٰ
................................................. ١٩
البُعد الثاني ......................................................... ٢٦
النص الثالث .......................................................... ٢٧
شورىٰ الحاكم
أيضاً ................................................. ٢٩
الشورىٰ في
التاريخ والفقه السياسي ......................................... ٣١
أول ظهور لمبدأ الشورىٰ
................................................ ٣١
الشورىٰ في إطارها
النظري ................................................. ٣٥
الشورىٰ أم
السيف ..................................................... ٣٩
مصير شروط الإمامة ................................................... ٤١
التبرير ............................................................. ٤٣
صورتان : الصورة الأُولىٰ : مذهب عظماء السلف ....................... ٤٦
الصورة الثانية :
الخارج المأجور ....................................... ٤٨
النصّ ..................................................................... ٥١
ضرورة النصّ بين
الخليفة والنبيّ ............................................ ٥٣
إقرار بقدر من النص ................................................... ٥٦
وقفة مع هذا النص .................................................. ٥٨
ضرورة التخصيص في النص
.......................................... ٦٠
نوعان من التخصيص ................................................ ٦٢
تخصيص السلب .................................................... ٦٣
تخصيص الايجاب .................................................... ٦٣
نتيجة البحث ............................................................ ٦٤
الرجوع إلىٰ النصوص المباشرة في تعيين
الخليفة ................................ ٦٧
الاتجاه الأوّل : النصوص
الدالّة علىٰ خلافة أبي بكر ............................ ٦٩
أوّلاً : نصوص من السُنّة
................................................ ٦٩
النصّ الأوّل ........................................................ ٦٩
الاثارة الأُولىٰ .................................................... ٦٩
الاثارة الثانية .................................................... ٧١
الاثارة الثالثة ..................................................... ٧١
الاثارة الرابعة .................................................... ٧١
الاثارة الخامسة ................................................... ٧٢
الاثارة السادسة .................................................. ٧٤
نصوص اُخر ....................................................... ٧٥
ثانياً : نصوص من
القرآن الكريم ......................................... ٨٣
الاتجاه الثاني :
النصوص الصحيحة الحاكمة .................................. ٩١
الخطاب الجامع.. مفترق
الطرق .......................................... ٩٩
أهل البيت أوّلاً .................................................... ١٠٤
سلوك النبيّ في ابلاغ
إمامة عليّ ........................................... ١٠٧
الصحابة والمعرفة
بالتعيين .............................................. ١١٢
النصّ في حديث عليّ ................................................. ١١٩
في حقّه خاصّة ................................................. ١٢٠
في أهل البيت .................................................. ١٢٤
الخاتمة ................................................................... ١٢٩
|